نشأة دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية

Last Updated: 2024/06/11By

نشأة دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية

د. علي المؤمن

تختلف أساليب نشأة الدساتير باختلاف الظروف والأوضاع المحيطة بهذه النشأة؛ ذلك أنّ كل دستور يعتبر وليد الظروف الموضوعية التي أحاطت به؛ سواء بالنسبة لنشأته أو مضمونه. وتعود هذه الظروف الموضوعية إلى نظام الحكم الذي يتم وضع الدستور في ظله من ناحية، ومستوى التطورات الحضارية والسياسية التي وصل إليها شعب الدولة التي يوضع فيها الدستور من ناحية أُخرى([1]). ويصنف فقه القانون الدستوري أساليب نشأة الدساتير إلى نوعين رئيسين: أساليب غير ديمقراطية، وأُسلوب ديمقراطي. فالأساليب غير الديمقراطية تعبر عن غلبة إرادة الحاكم على إرادة الشعب المحكوم، أو على الأقل اشتراك الإرادتين في وضع الدستور. في حين يترجم النوع الثاني تفوق الإرادة الشعبية وسيادتها على إرادة الحاكم.

ومن أهم الأساليب غير الديمقراطية في نشأة الدستور؛ أُسلوب (المنحة) (Grant) وأُسلوب (العقد) (Contract)؛ ففي حالة المنحة؛ فإنّ الدستور يصدر من الحاكم أو جهاز الحكم دون مشاركة الشعب أو ممثليه؛ ليكون هبة ومنحة وعطية من الحاكم أو الملك إلى الدولة والشعب. وهنا تكون وثيقة الدستور عملاً قانونياً صادراً بالإرادة المنفردة للحاكم، وتكون غاياته ومراميه لمصلحة الحاكم غالباً. ويستطيع الحاكم ـ في هذه الحالة ـ إلغاء الدستور أو تعديله أو تجميده في أي وقت يشاء.

أمّا الدستور الصادر بأُسلوب العقد؛ فيمثل اتفاقاً قانونياً بين الحاكم والشعب، وتعبيراً عن إرادتيهما في قبول الوثيقة الدستورية واحترامها، ويتم عبر اجتماع ممثلي الشعب والحاكم أو ممثليه لمناقشة مسوّدة الدستور الذي يدوِّنه الحاكم؛ ثم يقرّانه معاً، ويصادق عليه الحاكم؛ لتشترك إرادة الحاكم مع إرادة الشعب في إنشائه. وبذلك لا يستطيع أي طرف منهما الانفراد بإلغاء الدستور أو سحبه أو تعديله. ويُعدّ أُسلوب العقد صيغة انتقالية بين الأساليب غير الديمقراطية والأساليب الديمقراطية([2]). وفي كلا حالتي المنحة والعقد؛ فإنّ مثل هذه الدساتير لا تمثل في حقيقتها منحة حقيقية أو عقداً طوعياً؛ بل إنّ الحاكم يوافق على منح الدستور للشعب أو التعاقد معه؛ اضطراراً وتحت ضغط هذه الشعوب التواقة لانتزاع حقوقها وحريتها أو جزء منها([3]).

أمّا الأُسلوب الديمقراطي لنشأة الدساتير؛ فهو يُعبّر عن تحقق إرادة الشعب على حساب إرادة الحاكم، وانفراد الشعب صاحب السيادة بوضع الدستور دون تدخل من جانب الحاكم. ويتفرع هذا الأُسلوب إلى أُسلوبين رئيسين: أُسلوب المجلس التأسيسي المنتخب من الشعب انتخاباً مباشراً، والذي يقوم بوضع الدستور وإقراره، ويسمى بـ (السلطة التأسيسية) (Constituent Authority). والأُسلوب الثاني هو أُسلوب انبثاق جمعية أو مجلس من أحد مؤسسات الدولة؛ لتقوم بتدوين الدستور؛ ثم يتم طرحه على الشعب للتصويت عليه عبر الاستفتاء العام([4]).

وقد بادرت قيادة الثورة الإسلامية في إيران بعد انتصارها في 11 شباط / فبراير من العام 1979؛ إلى ضمان الإجراءات التي تعطي للنظام السياسي الذي تطمح لتأسيسه، والدستور الذي يفرز هذا النظام؛ بُعدهما اللصيق بإرادة الشعب؛ لكي تكون هذه الإرادة هي الحاكم الحقيقي على مسار نشوء الدستور وتأسيس الدولة ونظامها واختيار مسؤوليها ومنحهم الشرعية القانونية. وبالتالي لم يأت نشوء دستور الجمهورية الإسلامية حدثاً منتزعاً من الصيرورة الطبيعية لنشوء الدولة الجديدة على يد الشعب الإيراني. ويمكن مقاربة مسار النشوء هذا من خلال المحطات التاريخية التالية:

1 ـ الطريق إلى الجمهورية الإسلامية:

اندلعت الثورة الشعبية في إيران بقيادة المرجع الديني الشيعي الإمام روح الله الموسوي الخميني (1902 ـ 1989) في مرحلتها الأخيرة؛ في أوائل العام 1978؛ وهي ترفع شعارات القضاء على الاستبداد والنظام الشاهنشاهي، ورفض التبعية للشرق والغرب، وتأسيس دولة مستقلة عصرية شعبية إسلامية عنوانها (الجمهورية الإسلامية).

وانتصرت الثورة في 11 شباط/ فبراير من العام 1979؛ لتبدأ رحلة التأسيس على جميع الصعد. ومعه سقط النظام الملكي ودستور العام 1907 المعروف بدستور المشروطة. ويذهب غالبية فقهاء القانون الدستوري إلى أنّ الدستور القائم يسقط من تلقاء نفسه (Automatic fall of the Constitution) بعد قيام الثورة، ودون حاجة إلى إصدار تشريع خاص ينص على هذا الإلغاء، ويرجع ذلك السقوط الفوري إلى تنافر نظام الحكم الجديد الذي تهدف الثورة إليه مع نظام الحكم الذي كان يقوم على الدستور القديم، وهو الطريق الثوري لإنهاء الدساتير([5]).

وقد خوّلت البيعة الشعبية الشاملة الإمام الخميني لتسيير أُمور البلاد مؤقتاً لحين استتباب الوضع وانبثاق دستور دائم ونظام سياسي جديد. وقد قام الإمام الخميني بإجراءين استباقيين أساسيين قبل انتصار الثورة؛ للحيلولة دون دخول البلاد في فراغ إداري وقانوني ودستوري:

الأول: تشكيل مجلس لقيادة الثورة (شوراي انقلاب) في 12 كانون الثاني/ يناير 1979حين كان في باريس؛ ليقوم بمهمة القيادة التنفيذية للثورة، ثم مهمة السلطة التشريعية بعد انتصارها.

الثاني: تشكيل حكومة مؤقتة في 1 شباط/ فبراير من العام 1979؛ لإدارة البلاد لحين تشكيل حكومة دائمة.

وقد تشكل مجلس الثورة من عشرين عضواً (تغيّر بعضهم بالوفاة أو بالانتقال إلى مناصب تنفيذية، واستعيض عنهم بشخصيات جديدة)؛ تسعة منهم علماء دين، وتسعة سياسيون واثنان عسكريان، وينتمون إلى التيار الإسلامي الأُصولي والتيار الإسلامي الليبرالي والتيار الوطني، وهم:

آية الله الشيخ مرتضى المطهري، آية الله الشيخ حسين علي المنتظري، آية الله السيد محمود الطالقاني، آية الله السيد علي الخامنئي، آية الله الشيخ أكبر الهاشمي الرفسنجاني، آية الله السيد محمد البهشتي، آية الله الشيخ مهدي مهدوي كني، آية الله السيد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي، الدكتور الشيخ محمد جواد باهنر، الدكتور حسن حبيبي،، المهندس مهدي بازرگان، الدكتور يد الله سحابي، الدكتور أحمد صدر حاج سيد جوادي، اللواء ولي الله قرني، العميد علي أصغر مسعودي، المهندس مصطفى كتيرائي، المهندس عزت الله سحابي، الدكتور صادق قطب زاده، الدكتور عباس شيباني، الدكتور أبو الحسن بني صدر، المهندس مير حسين الموسوي، أحمد جلالي والدكتور حبيب پيمان. وترأس المجلس الشيخ مرتضى المطهري لحين اغتياله؛ ثم السيد محمود الطالقاني حتى وفاته. أمّا الحكومة المؤقتة فترأسها المهندس مهدي بازرگان، وكان معظم أعضائها من التيار الإسلامي الليبرالي والتيار الوطني.

وأُوكلت لمجلس الثورة مهمة تقديم المشورة لقائد الثورة، والتخطيط لشؤون الثورة والدولة كافة، وإصدار التشريعات التي تحتاجها البلاد في الفترة الانتقالية، وتوفير مستلزمات تأسيس الحكومة المؤقتة وممارسة أعمالها، وتوفير متطلبات إنشاء الدستور الجديد الدائم. وبهذا الدور التشريعي والرقابي؛ فقد بات مجلس الثورة بحكم السلطة التشريعية المؤقتة. ومنذ تأسيسه وحتى انتهاء أعماله في 28 أيار/ مايو 1980؛ أصدر المجلس (900) لائحة وقانون([6])، وكان بعضها يتعلق بإلغاء المعاهدات مع الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول أُوروبا، والتي وصفها المجلس بالمعاهدات الاستعمارية التي كانت ترهن سياسة إيران وثرواتها للغرب.

وكانت الخطوة الأُولى باتجاه التأسيس الدائم؛ هو طرح جوهر الدولة ومضمون النظام السياسي الجديد للاستفتاء الشعبي العام؛ وهو ما جرى في يومي 30 و31 آذار/ مارس 1979، أي بعد 47 يوماً فقط على انتصار الثورة؛ فكانت النتيجة تصويت (2,98) بالمئة من المشاركين لنظام (الجمهورية الإسلامية)؛ وفق الأهداف والمضامين والصيغ التي كان يطرحها الإمام الخميني في خطبه وكتاباته؛ ولا سيما كتاب «الحكومة الإسلامية».

وقد اشترك في الاستفتاء ما يقرب من (95) بالمئة من المواطنين الذين يحق لهم المشاركة في الاستفتاء.

ومن هنا فإنّ تأسيس الجمهورية الإسلامية مثّل إرادة الشعب؛ فضلاً عن كونه تكليفاً شرعياً (دينياً) يقع على عاتق المتدينين. وقد أراد الإمام الخميني من هذا الاستفتاء تحصين النظام الإسلامي بحصانة قانونية يجمع عليها العالم، وكذلك الاحتجاج بإرادة الأُمّة على المعارضين؛ وهي الإرادة التي فرضت على الدولة الجديدة أن يكون دستورها وقوانينها ومساراتها إسلامية بالكامل([7]).

ويوضح الإمام الخميني هدفه المذكور من الاحتكام إلى الشعب في مقابل من كان يعارض إقامة الجمهورية الإسلامية، بقوله: ((الشعب هو الذي يحدد لنا ما نقوم به. افترضوا أنّ الذي يريده الشعب يعتبر كارثة بالنسبة لكم. فما العمل والشعب هو الذي يريد ذلك؟ تعالوا نحتكم إلى الشعب ونجري استفتاءً عاماً نقول فيه: أيها الناس إنّ السادة يقولون إنّ ولاية الفقيه كارثة، فهل تؤيدونها أم لا؟ وعندئذٍ سترون كم هم الموافقون وكم هم الرافضون!!))([8]).

وفي هذا الصدد يقول السيد محمد باقر الصدر: ((لم يكن الإمام الخميني في طرحه لشعار الجمهورية الإسلامية إلّا استمراراً لدعوة الأنبياء، وامتداداً لدور محمد وعلي (عليهما السلام) في إقامة حكم الله على الأرض، وتعبيراً صادقاً عن أعماق ضمير هذه الأُمّة التي لم تعرف لها مجداً إلّا بالإسلام، ولم تعش الذل والهوان والبؤس والحرمان والتبعية للكافر المستعمر؛ إلّا حين تركت الإسلام، وتخلت عن رسالتها العظيمة في الحياة. وليست الشريعة الإسلامية خياراً من خيارين؛ بل لا خيار سواها؛ لأنّها حكم الله تعالى وقضاؤه في الأرض وشريعته التي لا بديل عنها))([9]).

2 ـ الطريق إلى الدستور:

بدأ الطريق نحو دستور إيران الجديد بتكليف الإمام الخميني الفقيه القانوني الدكتور حسن حبيبي عضو مجلس الثورة الإيرانية بكتابة مسوّدة الدستور؛ في أواخر العام 1978؛ أي خلال فترة إقامة الإمام الخميني في باريس؛ بعد خروجه من النجف الأشرف. وانتهى الدكتور حبيبي من مهمته، وسلم المسوّدة إلى الإمام الخميني في 22 كانون الثاني/ يناير من العام 1979، أي قبل انتصار الثورة بـشهر ونصف.

وعكف مجلس الثورة على دراسة الدستور ومناقشته. وبناء على ملاحظات مجلس الثورة التي انسجمت مع مطاليب الاستفتاء الشعبي العام على نظام (الجمهورية الإسلامية)؛ تشكلت لجنتان لتعديله لمدة ثلاثة أشهر؛ إحداهما برئاسة الدكتور حسن حبيبي وعضوية خمسة من فقهاء القانون، والأُخرى برئاسة الدكتور يد الله سحابي الوزير في حكومة بازرگان المؤقتة، وعضوية عدد من السياسيين وأعضاء الحكومة.

وبعد انتهاء التعديلات؛ أُعيدت المسوّدة إلى مجلس الثورة، وبعد إعادة مناقشتها؛ أقرّها المجلس في 14 حزيران/ يونيو العام 1979. وأعلن مجلس الثورة أن المسوّدة باتت رسمية وجاهزة للمناقشة من المجلس التأسيسي الذي يضم ممثلي الشعب([10]).

ووجه الإمام الخميني أوامره إلى الحكومة المؤقتة بإجراء الانتخابات العامة ليختار الشعب الإيراني ممثليه في المجلس التأسيسي أو مجلس خبراء الدستور.

وانتخب الشعب أعضاء مجلس خبراء الدستور (مجلس خبرگان قانون اساسي) البالغ عددهم (73) عضواً في 3 آب/ أغسطس 1979، وهم من فقهاء الشريعة والقانون، وخبراء النظم السياسية والاقتصاد، وعلماء الاجتماع السياسي، والناشطين السياسيين.

وتم افتتاح المجلس في 19 آب / أغسطس 1979 بكلمة الإمام الخميني التي أكد فيها على أن يكون الدستور منسجماً مع أهداف الثورة وتطلعات الشعب الإيراني الذي ظل يطالب بـ (الجمهورية الإسلامية) وصوّت عليها بالاستفتاء الشعبي العام؛ ولذلك ((يجب أن تكون القوانين على أساس الإسلام مئة بالمئة، وإذا كانت هناك مادة واحدة تتعارض مع الإسلام؛ فإنّه يخالف إرادة الأغلبية الساحقة للشعب، وهو خارج صلاحية مجلس الخبراء، وإنّ تشخيص التعارض والتوافق مع أحكام الإسلام هو حصراً من صلاحية العلماء العظام الأعضاء في المجلس، ويجب الاستفادة من تخصصات النواب الآخرين في المجالات الحقوقية والإدارية والسياسية، وأن يبذل المجلس جهده ليكون الدستور ضامناً لحقوق وحريات ومصالح جميع شرائح الشعب؛ بعيداً عن التمييز البغيض، وأن يستشرف مصالح الأجيال القادمة وحقوقها)).

كما أكد الإمام الخميني على ((أن يكون الدستور صريحاً وواضحاً؛ للحيلولة دون التفسيرات الخاطئة والمغرضة؛ ليكون نموذجاً ومرشداً لجميع النهضات الإسلامية التي تعمل على التأسيس للحكومة الإسلامية)) ([11]).

وتم انتخاب الفقيه الشيخ حسين علي المنتظري رئيساً لمجلس خبراء الدستور، والفقيه السيد محمد البهشتي نائباً؛ إلّا أنّ الأخير كان يدير الجلسات العامة. كما توزع أعضاء المجلس على ثمان لجان:

1 ـ اللجنة الأُولى: تدوين المقدمة ودراسة المواد الأُولى إلى الثانية عشرة من مسوّدة الدستور.

2 ـ اللجنة الثانية: دراسة مواد: دين الدولة والتاريخ واللغة والخط والعلم، وحاكمية الشعب ومجالس الشورى.

3 ـ اللجنة الثالثة: حقوق الشعب والرقابة العامة.

4 ـ اللجنة الرابعة: السلطة التشريعية (سلطة التقنين).

5 ـ اللجنة الخامسة: السلطة التنفيذية.

6 ـ اللجنة السادسة: السلطة القضائية.

7 ـ اللجنة السابعة: الاقتصاد.

وخلال ممارسة مجلس الخبراء مهامه؛ وصله أكثر من أربعة آلاف مقترح؛ بما فيها مسوّدات دساتير كاملة. وكانت سكرتارية المجلس تستنسخ جميع المقترحات وتوصلها إلى الأعضاء؛ للاطلاع عليها والانتفاع منها. كما كانت اللجان تستعين ببعض كبار فقهاء القانون والأكاديميين من خارج المجلس. وكانت الجلسات الخاصة للجان تعقد يومياً، وبعد مناقشة وإقرار المواد الموكلة إليها؛ تعرضها على الجلسة العامة للمجلس والتي تعقد يومياً أيضاً؛ للمصادقة على المواد واحدة واحدة([12]).

وفي نهاية عمل اللجان الفرعية والجلسات العامة؛ تم عرض الدستور باعتباره وثيقة كاملة على التصويت في الجلسة العامة. وتمت المصادقة النهائية على وثيقة الدستور من مجلس الخبراء في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1979، والمؤلفة من اثني عشر فصلاً و(175) مادة، ووقّع جميع الأعضاء على نسخة رسمية خاصة، وتم تسليمها إلى الحكومة المؤقتة؛ لنشرها في الصحافة بشكل رسمي؛ ليطلع عليها الشعب.

وخلال خمسة عشر يوماً؛ هي الفترة الفاصلة بين نشر الوثيقة وتاريخ الاستفتاء العام؛ جرت مناقشتها من التيارات والتنظيمات والشخصيات السياسية والاجتماعية والعلمية، ومن عامة الناس أيضاً. وحين أُجري الاستفتاء الشعبي العام في 2 و3 كانون الأول/ ديسمبر 1979؛ صوّت الشعب على دستور الجمهورية الإسلامية بنسبة (5,99) بالمئة من المشاركين في الاستفتاء، وعددهم ما يقرب من ستة عشر مليون شخص؛ أي ما يقرب من (85) بالمئة ممن يحق لهم التصويت.

وبعد مصادقة الإمام الخميني على الدستور بصفته قائد الثورة الإسلامية والولي الفقيه صاحب البيعة؛ أصبح جاهزاً للتطبيق([13]). فكان أول دستور من نوعه؛ يجمع بين أصالة الاحتكام التام للشريعة الإسلامية، وعصرية الصياغات الفنية والسلطات والمؤسسات التي أنتجها. كما كان معبراً تعبيراً مباشراً عن إرادة الشعب الإيراني وخياره.

وأعقب ذلك مباشرة إجراء انتخابات مجلس الشورى الإسلامي (مجلس شوراى ملي)، الذي أنهى بانعقاده أعمال مجلس الثورة، كما جرت انتخابات رئاسة الجمهورية. وبعد تشكيل الرئيس حكومته؛ حلّت الحكومة المؤقتة نفسها. فكانت الفترة التي استغرقها عمل مجلس الثورة والتشريعات المؤقتة، والحكومة المؤقتة، والاستفتاء العام على النظام السياسي الجديد، وانتخاب المجلس التأسيسي من الشعب، والاستفتاء العام على الدستور الدائم؛ وصولاً إلى انتخاب رئيس الجمهورية انتخاباً شعبياً مباشراً، وتشكيل الحكومة الدائمة، وانتخاب أعضاء مجلس الشورى (البرلمان) انتخاباً شعبياً مباشراً وتشكيله، وإقرار النشيد الوطني والعلم وشعار الدولة؛ ما يقرب من سنة وخمسة أشهر فقط.

3 ـ تعديل الدستور:

يجمع دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية بين صفتي الثبات والمرونة، ولكنه ليس دستوراً جامداً بالمطلق؛ فهناك مواد جامدة لا تتغير فيه؛ كإسلامية النظام وقوانينه، وولاية الفقيه، والدين والمذهب الرسمي، والاستناد إلى إرادة الشعب في إدارة البلاد([14])، وهناك مواد قابلة للتغيير بأليات حددها الدستور؛ ولكنها ليست آليات سهلة، وقد أقرها الدستور المعدل في العام 1989.

فقد نصت المادة 177 على ((أنّ القائد بعد التشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام؛ يصدر أمراً إلى رئيس الجمهورية؛ يقترح فيه موضوعات التعديل أو الإضافة للدستور>. وحددت المادة أعضاء مجلس إعادة النظر في الدستور، وهم: <الأعضاء الاثنا عشر لمجلس صيانة الدستور، رؤساء السلطات الثلاث، الأعضاء الثابتون في مجمع تشخيص مصلحة النظام، خمسة أعضاء من مجلس خبراء القيادة، ثلاثة من مجلس الوزراء، عشرة من أعضاء مجلس الشورى الإسلامي، ثلاثة من الأكاديميين))([15]).

وقد ظلت بعض مجالات حركة الدولة محل جدل في الجمهورية الإسلامية طوال عشر سنوات (1980 ـ 1989)، ومنها: شروط الولي الفقيه وصلاحياته، والاثنينية في الصلاحيات التنفيذية بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وفاعلية مجلس القضاء الأعلى، ودسترة بعض مؤسسات الدولة الكبرى التي تأسست بأمر الإمام الخميني بصفته الولي الفقيه ـ رئيس الدولة؛ كمجمع تشخيص مصلحة النظام. أي أنّ جميع التعديلات ارتبطت بهيكلية الدولة ومعوقات فاعلية سلطاتها.

وأصدر الإمام الخميني أوامره بتعديل الدستور في 24 نيسان/ إبريل 1989؛ من خلال رسالة بعث بها إلى رئيس الجمهورية ـ حينها ـ السيد علي الخامنئي. وأشارت الرسالة إلى أهم الموضوعات الملحة التي ينبغي أن يعاد النظر فيها في الدستور؛ بعد تجربة عشر سنوات من العمل بدستور العام 1979. كما حملت الرسالة أسماء عشرين من فقهاء الشريعة والقانون وقادة الدولة؛ إضافة إلى تفويض مجلس الشورى الإسلامي لاختيار خمسة من أعضائه. وقد شكّلوا بمجموعهم (مجلس إعادة النظر بالدستور)([16])، وهو ما يعبر عنه في القانون الدستوري بـ (السلطة التأسيسية المشتقة) (Constituent derivative authority).

وعقد المجلس أُولى جلساته في 27 نيسان/ إبريل 1989، وانتخب الفقيه الشيخ علي المشكيني رئيساً للمجلس. واتخذ المجلس السياقات نفسها التي اتبعها مجلس خبراء الدستور في العام 1979؛ إذ تشكلت أربع لجان؛ أُنيط بكل منها موضوعات محددة، وبعد مناقشتها وإقرارها مبدئياً في اللجنة؛ تطرح قراراتها للنقاش في الجلسات العامة، والتي بلغت (41) جلسة.

وانتهى عمل المجلس في 11 تموز/ يوليو من العام 1989؛ بعد أن عدّل أو أضاف ما مجموعه (48) مادة([17]).

وخلال فترة انعقاد المجلس؛ وتحديداً في 3 حزيران/ يونيو 1989؛ توفي الإمام الخميني، وانتخب بعده بيومين آية الله الخامنئي قائداً جديداً للثورة وولياً فقيهاً للدولة. واستمر المجلس في أعماله لمدة شهرين ونصف الشهر.

وطرحت التعديلات الدستورية للاستفتاء الشعبي العام الذي جرى في 28 تموز/ يوليو 1989. وصوّت 97 بالمئة من المشاركين على التعديلات([18]).

وبعد أن صادق آية الله الخامنئي عليها؛ بصفته الولي الفقيه ورئيس الدولة؛ أصبحت التعديلات نافدة قانونياً.

وأهم التعديلات التي أُجريت على دستور العام 1979: إلغاء شرط المرجعية الدينية (بالفعل) من شروط الولي الفقيه، والاكتفاء بشرط الاجتهاد، وإعادة تنظيم صلاحياته، وإلغاء خيار مجلس القيادة في حال تعذّر إيجاد قائد واحد. كما تم إلغاء منصب رئيس الوزراء، وإعطاء جميع الصلاحيات التنفيذية لرئيس الجمهورية، وإلغاء مجلس القضاء الأعلى، وإعطاء صلاحياته لرئيس السلطة القضائية، وأصبح (مجمع تشخيص مصلحة النظام) مؤسسة دستورية، وتوسيع صلاحيات (مجلس صيانة الدستور)، وإلغاء (مجلس الدفاع الأعلى)، والاستعاضة عنه بـ (المجلس الأعلى للأمن الوطني)([19]).

 

([1]) أُنظر: د. الجمل، يحيى، «النظام الدستوري في جمهورية مصر العربية»، ص47.

([2]) عبد الله، د. عبد الغني بسيوني ، «القانون الدستوري والنظم السياسية»، ص448.

([3]) المصدر السابق، ص444.

([4]) المصدر السابق، ص450. وهناك دول تقوم بالإجراءين معاً، وهي الدول الأكثر شعبية والأكثر تعبيراً عن إرادة الشعب.

([5]) المصدر السابق، ص108. وقد بقيت إيران بدون دستور دائم لحوالي عشرة أشهر، وتعتمد على تشريعات مجلس قيادة الثورة وفتاوى الإمام الخميني وأحكامه الولائية؛ بصفته الولي الفقيه الحاكم.

([6]) مهاجري، مسيح، «انقلاب اسلامي: راه آينده ملت ها» (الثورة الإسلامية: طريق المستقبل للشعوب)، ص18.

([7]) المؤمن، علي، «النظام السياسي الإسلامي الحديث»، ص134.

([8]) من خطاب الإمام الخميني في 4/10/1979. «صحيفه نور»، ج9، ص255.

([9]) الصدر، السيد محمد باقر، «صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي»، من كتاب «الإسلام يقود الحياة»، ص24.

([10]) مهاجري، مسيح، (مصدر سابق)، ص117؛ وشيرازي، د. أصغر، «إيران: الدولة والسياسة»، ص56 ـ 59؛ ومدني، د. جلال الدين، «حقوق أساسي جمهوري إسلامي إيران» (القانون الدستوري للجمهورية الإسلامية الإيرانية)، ص16 ـ 20.

([11]) من كلمة الإمام الخميني في 19/ 8/1979، «صحيفة إمام» (صحيفة الإمام)، ج9، ص264 ـ 265.

([12]) مدني، د. جلال الدين، (مصدر سابق)، ص34؛ وعميد زنجاني، د. عباس علي، «فقه سياسي وحقوق أساسي» (الفقه السياسي والقانون الدستوري)، ج2، ص56 ـ 59.

([13]) مدني، د. جلال الدين، (مصدر سابق)، ص35؛ وعميد زنجاني، د. عباس علي، «فقه سياسي وحقوق أساسي» (الفقه السياسي والقانون الدستوري)، ج2، ص61.

([14]) دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، المادة 177.

([15]) المصدر السابق.

([16]) الخميني، الإمام روح الله، «صحيفه نور»، ج21، ص363.

([17]) «صورت مشروح مذاكرات شوراى بازنگرى قانون أساسي» (محاضر جلسات مجلس إعادة النظر في الدستور) في ثلاث مجلدات، إصدار مجلس الشورى الإسلامي، طهران، 1990.

([18]) أُنظر: مدني، د. جلال الدين، (مصدر سابق)، ص36.

([19]) المصدر السابق، ص38.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment