موقع الدولة السعودية في المنظومة الطائفية

Last Updated: 2024/06/10By

موقع الدولة السعودية في المنظومة الطائفية

د. علي المؤمن

 

السعودية كيان طائفي مصطنع

كيانان مصطنعان زرعهما الاستعمار البريطاني في قلب العالم الإسلامي؛ ليكونا قاعدتيه المتقدمين اللتين تدافعان عن مصالحه بشكل خاص ومصالح الغرب بشكل عام، وخنجرين في خاصرة المسلمين:

الأول: زرعه في الجزيرة العربية، وحمل اسم المملكة “السعودية”، وهو ذو مضمون ديني طائفي، وشكل ملكي وراثي، وايديولوجية مركبة متعارضة: ثيوقراطية ـــ علمانية، عنوانها العقيدة “الوهابية”، وهي عقيدة تكفيرية إرهابية متشبهة بايديولوجية الدولة الأموية، وحدودها الطموحة كل العالم الإسلامي.

الثاني: زرعه في بلاد الشام، وتحديداً في فلسطين، وحمل اسم دولة “إسرائيل”، وهو ذو مضمون ديني عنصري، وشكل جمهوري ديمقراطي، وايديولوجية مركبة متعارضة: دينية ـــ عنصرية ـــ علمانية، عنوانها العقيدة الصهيونية التي تستند الى خرافة الحق التاريخي لليهود في فلسطين، وحدودها الأسطورية من العراق وحتى مصر.

وبرغم اختلاف المسميات الدينية والقومية، إلّا أن إسرائيل والسعودية، اتخذتا من  الصهوينية والوهابية ايديولوجيتين إرهابيتين متشابهتين في الوسائل والأهداف؛ لتبسطا سيطرتهما على أراضي الغير، وفق مخططات وزارة المستعمرات البريطانية ووعود وزارة الخارجية البريطانية؛ إذ أفرزت الايديولوجيتان الوهابية والصهيونية وسائل وأساليب وأهداف متطابقة، كالإرهاب المنظم وقتل الأبرياء وتشريد الآمنين واغتصاب أراضي الغير بالقوة وتكفير العقائد الأُخر واستحلال دماء وأموال أتباعها، الى جانب الضخ الدعائي والإعلامي، وشراء الذمم والتحايل، والاتكال على حماية الغرب في التنصل عن المسؤولية والمحاسبة. أما على مستوى الأهداف؛ فإن الكيانين ظلا منذ تأسيسهما، محورين لضرب أمن المسلمين واستقرارهم ووحدتهم في مواجهة التحديات الخارجية والداخلية، فضلاً عن تحقيق أهداف الغرب ومخططاته الخاصة في المنطقة الإسلامية، على مدى العقود الماضية؛ الأمر الذي أزاح عن كاهل بريطانيا أولاً، ثم الولايات المتحدة الأمريكية، عبأ الحضور العسكري المباشر في المنطقة الإسلامية، أو عبأ التآمر الميداني الأمني ضد المسلمين.

وفي نظرة الى توقيت تأسيس بريطانيا للكيان السعودي الوهابي في العام 1924، ثم الكيان الإسرائيلي الصهيوني في العام 1948، أي بعده بربع قرن تقريباً؛ سنجد أن التوقيتين لهما علاقة مباشرة بالوضع السياسي الاستعماري الذي كانت تمر به الإمبراطورية البريطانية العجوز بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، والإنهاك العسكري والاقتصادي الذي ظلت تعاني منه؛ الأمر الذي جعلها تفكر ببناء قواعد لها في أكثر من بقعة من بقاع العالم؛ لتستعيض بها عن حضورها الميداني المباشر، وكان بعض هذه القواعد يحمل أسماء دول، كالسعودية وإسرائيل، وبعضها يحمل أسماء أنظمة سياسية وحكومات وأحزاب في الدول الأخرى، لكنها جميعاً كانت تحقق لبريطانيا الأهداف العسكرية والأمنية والسياسية والفكرية والثقافية نفسها. بيد أن صعود الإمبراطورية الأمريكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية والأفول التدريجي للإمبراطورية الأمريكية؛ أدخل أغلب هذه القواعد في دائرة النفوذ الأمريكي.

ولكلا الكيانين السعودي والإسرائيلي نصوصهما وقواعدها الدينية والإنثروبولوجية والاجتماعية الراسخة، ويستحيل عليهما التخلي عنها، ولو تخلتا عنها لانتفت علة وجودهما. وبالتالي؛ فالعقيدة الصهيونية والعقيدة الوهابية هما وجهان لعملة واحدة في منهجهما ومخرجات حركتهما وممارساتهما؛ وإن انتمت الصهيونية الى التفسيرات التلمودية اليهودية، وانتمت الوهابية الى التفسيرات التيمية الأُموية الإسلامية.

وكما أن الصهيونية الإسرائيلية هي فكرة عالمية لها أذرعها و(لوبياتها) وجماعات الضغط والوسائل التي تمتلكها في مختلف دول العالم؛ فإن الوهابية السعودية لها الوضع نفسه. وبالرجوع الى وصية الإمام الخميني؛ سنجد إنه يصف عداء العقيدة الوهابية السعودية للإسلام والمسلمين ولمذهب أهل البيت؛ بوصفٍ لا يختلف عن عداء العقيدة الصهيونية الإسرائيلية، ثم يوصي المسلمين بالتعامل مع العقيدتين بالصيغة نفسها.

ووصولاً الى الواقع التخريبي لهذه القواعد اليوم، وتحديداً الكيانين السعودي والإسرائيلي، سنجد أنهما يقفان وراء أغلب الدمار والفوضى والتخريب في منطقة الشرق الأوسط، حتى أن العراقيين والمصريين واللبنانيين واليمنيين والسوريين والإيرانيين والأتراك والبحرانيين وغيرهم؛ حين يتلمسون واقع التخريب في بلدانهم؛ من تفجيرات وفوضى أمنية، وقصف مدفعي وجوي، ومخططات مخابراتية وسياسية معادية، وقصف إعلامي تحريضي، وتخريب اقتصادي؛ فإن وعيهم السياسي الفطري يقودهم بشكل طبيعي الى التأكيد على أنها: ((أصابع إسرائيلية وسعودية وأمريكية))، أو بمعنى أدق ((تخريب وهابي صهيوني))، ويترافق هذا التأكيد مع تحليلات وتفسيرات تربط التاريخ بالحاضر بالمستقبل، وتربط الجغرافيا المحلية بالإقليمية بالدولية .هذه العفوية الواعية؛ لا تعبر عن أحكام نمطية مسبقة أو سذاجة سياسية، لكنها حكمة شعوب خبرت الحياة وعاشت الأزمات السياسية بكل جزئياتها. فإسرائيل والسعودية تتصدران محور التآمر على المنطقة العربية والإسلامية، وهو المحور الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.

وهذا المحور هو محور مهاجم ومنظم وواسع وحكومي، وغني مالياً وإعلامياً، ومؤثر في المنظمات والأحلاف الدولية والإقليمية؛ كالأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والاتحاد الأُوروبي وحلف الناتو وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، ويستخدم كل أساليب العنف والقتل والإرهاب والترويع؛ على المستويات العسكرية والسياسية والإعلامية. وهو وريث المحور الغربي التقليدي خلال فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي المنحل. ومن أهم الأدوات الدينية الفاعلة لهذا المحور: المنظومة الدينية السياسية التكفيرية الوهابية، التي تشكل البنية الايديولوجية للدولة السعودية، والتي أفرزت عشرات التنظيمات الطائفية الإرهابية، كالقاعدة والنصرة وداعش وطالبان وجيش الإسلام وبوكو حرام وغيرها من التنظيمات المسلحة التكفيرية.

وعلى الرغم من كل ما يمتلكه هذا المحور من إمكانات هائلة، إلّا انه محور انفعالي ومتشنج، بسبب خسائره المتوالية منذ العام 1979 وحتى الآن، بعد دخول الواقع الإسلامي الى مرحلة صعود جديدة، أسسها الإمام الخميني. ولعل من مؤشرات هذا الانفعال والغضب ما كان يصدر عن الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز من تصرفات طائفية غاضبة، بعد العام 2003، وخاصة التي صدرت في أربع مناسبات تاريخية، كما أكد شهود عيان سياسيون ودبلوماسيون عراقيون وعرب، وهي:

1- عام 2006؛ عندما أقسم الملك عبد الله على تدمير حزب الله اللبناني، في أعقاب إعلان انتصاره على الكيان الإسرائيلي في حرب تموز، وتحول أمين عام الحزب السيد حسن نصر الله الى قائد عربي وإسلامي تاريخي، ثم تزعم الحزب مطالب المعارضة اللبنانية بأن يكون لها دور في تقرير مصير البلاد، وما أعقب ذلك من مظاهرات مليونية أدهشت العالم وأرعبت إسرائيل والسعودية.

2- عام 2007؛ عندما اقسم الملك عبد الله بن عبد العزيز على إسقاط حكومة نوري المالكي؛ خلال لقاء مجموعة من الشخصيات الطائفية العراقية، التي استنجدت به وهي تذرف الدموع؛ لإنقاذ عاصمة الرشيد وأبي حنيفة وابن حنبل من حكم الصفويين، والسبب؛ إن نوري المالكي كان يعمل على حماية مواطنيه العراقيين من التمييز الطائفي والعنصري الموروث، ومن الحرب الشاملة التي يشنها بقايا النظام السابق وجماعات القاعدة الوهابيين، ومن النفوذ الصهيوني؛ بعد أن رفض واستنكر أي تطبيع مع إسرائيل؛ رغم الضغوطات الأمريكية وضغوطات بعض البلدان العربية، وهو بالتالي يحول دون عودة العراق الى الوضع الذي كان عليه قبل 2003، ودون تمكين السعودية وإسرائيل من تنفيذ مشاريعهما في العراق.

3- في عام 2009؛ حين أقسم الملك عبد الله على زعزعة الوضع في إيران خلال الأحداث الداخلية التي أعقبت الانتخابات الرئاسية، وسخّر كل إمكاناته المالية والإعلامية والاستخباراتية لضرب إيران، مستعينا بحلفائه الأمريكان والإسرائيليين، فضلا عن مجاميع القاعدة في بلوشستان وغيرها.

4- في عام 2011؛ حين أقسم عبد الله بن عبد العزيز على الإطاحة بنظام بشار الأسد في سوريا، وإقامة نظام طائفي موال للحكم السعودي.

وفي ثلاث مناسبات أخر؛ أعرب الملك عبد الله بن عبد العزيز عن شديد سخطه، وقرر التدخل فيها بقوة:

1- في عام 2007؛ حين فازت حركة الوفاق البحرينية بأكثرية المقاعد النيابية في البحرين. وبما أن هذه الحركة معارضة للتمييز الطائفي والمشاريع الإسرائيلية والأمريكية والسعودية، وتمثل الأكثرية السكانية الشيعية؛ كان القرار بالتدخل لتطبيق مشروع تغيير التركيبة الديمغرافية في البلد.

2- عام 2009؛ حين تحرّكت حركة الشباب المؤمن بقيادة الحوثيين في اليمن. وهنا كان قرار السعودية بالتدخل بكل أنواعه؛ بما في ذلك التدخل العسكري؛ الجوي والبري والبحري، فضلا عن الجهد الاستخباري والحصار الاقتصادي والهجوم الإعلامي الواسع والمركز.

3- عام 2013؛ حين أصبح الحراك الطائفي في محافظة الأنبار على وشك الانهيار؛ فقرر عبد الله بن عبد العزيز تشكيل محور إقليمي (سياسي واستخباراتي ومالي وإعلامي) خاص بالوضع العراقي، يضم السعودية وإسرائيل وتركيا وقطر، الى جانب تشكيل محور طائفي عراقي محلي يضم التنظيمات المسلحة التكفيرية، ولاسيما داعش، وتنظيمات مسلحة طائفية أخرى، وبقايا تنظيمات حزب البعث، وبعض أبناء العشائر، وبعض الجماعات السياسية المتواجدة في الحكم؛ للقيام بتحرك نوعي في المناطق الغربية ذات الغالبية السنية في العراق، ويكون منطلقه مدينة الموصل؛ عاصمة شمال العراق.

وفي هذه الحالات الطائفية السبع المذكورة؛ كانت المملكة السعودية تلتقي في أهدافها ووسائلها بالكيان الإسرائيلي، وحاضنتهما واشنطن، في إطار تحالف إستراتيجي شديد العمق. ورغم تنوع أدوات وأساليب كل طرف في هذا المثلث، إلّا أنها تقف على الأرض نفسها، وبالتالي تتبادل الأدوار، وتنسقها في تنفيذ مشاريعها. وكانت قطر وتركيا تلعبان أدواراً مكلمة في البعدين اللوجستي والمالي والاستخباراتي.

وتصاعدت حدة الهجمة الطائفية السعودية ـــ الإقليمية ضد العراق في بدايات عام 2014، ولاسيما بعد نجاح الحكومة والقوات المسلحة العراقية في إفشال التحرك الطائفي السياسي والمسلح في الرمادي والفلوجة، وفض الاعتصامات الطائفية في بعض مدن الأنبار وصلاح الدين وكركوك ونينوى وديالى. وظهرت نتيجة التصعيد في حزيران 2014؛ عندما نجحت الجماعات الوهابية التكفيرية وغيرها من الجماعات المسلحة، ولاسيما تنظيم داعش وبقايا تنظيمات حزب البعث، من احتلال الموصل وبعض مناطق محافظات الأنبار وصلاح الدين وديالى.

حاجة النظام السعودي إلى المؤسسة الوهابية

تحولت النظام السعودي الى محور مركزي طائفي ثاني الى جانب الدولة العثمانية، بوصفها المحور الأساس الأول، منذ تحالف محمد بن عبد الوهاب والأمير سعود، وهو يمثل الأُموية المعاصرة في جانبها الثيوقراطي، وقد بدأ حراكه الطائفي التكفيري المسلح ضد المسلمين السنة والشيعة في العام نفسه، ثم ضد الشيعة في العراق منذ العام 1800، ثم تفرد النظام السعودي الوهابي بمحورية المنظومة الطائفية منذ سقوط الدولة العثمانية وحتى حكم البعث. وبعد قيام حكم البعث أصبحا المحورين الطائفيين الأبرز. وبعد سقوط نظام البعث، برز الحكم التركي محوراً ثانياً. ولذلك؛ فإن الاستراتيجيا الطائفية السعودية بعد العام 2003، بات المعوق الداخلي أمام استقرار الواقع الإسلامي وأمن المسلمين وتقاربهم وتعايشهم ووحدتهم، ولا تقل أهمية تأثيره عن المعوق الخارجي المتمثل في المثلث الأمريكي ــ البريطاني ــ الإسرائيلي.

ويختلف المحور السعودي الوهابي عن المحورين العثماني والبعثي، في تلبسه الكامل بعقيدة ابن تيمية وفقهه، واستناده الى المؤسسة الدينية في اكتساب شرعيته، أي أن طائفيتها دينية سياسية تكفيرية ثابتة، لا علاقة لها بتغيير الملك والحكومة، بينما كانت الدولة العثمانية تستند الى العقيدة الأشعرية والفقه الحنفي، أي أنّ طائفيتها كانت دينية سياسية أيضاً، لكنها لم تكن تكفيرية، بل تستخدم التكفير وفق الحاجة، كما كان سلوكها الطائفي مختلفاً من سلطان لآخر ورئيس وزراء وآخر. أما النظام البعثي العراقي؛ فكان يعادي الدين عموماً، ولا علاقة لطائفيته بالمذهبية، بل كانت طائفيته سياسية ثابتة، وتمثل استمراراً مبالغاً به لطائفية الدولة العراقية.

وإذا كانت الطائفية الدينية السياسية التكفيرية للكيان السعودي الوهابي تستهدف، في تكفيرها وإقصائها، كل التيارات العقدية والفقهية الأخرى للمسلمين، بما فيها السنّية الأشعرية والمعتزلية والحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية؛ فإن استهدافها للشيعة والتشيع هو استهداف مركب، لأن تكفير الوهابيين للسنّة أو اتهامهم بالانحراف والارتداد، يعود الى بعض المسائل العقدية والفقهية التي يختلف فيها ابن تيمية وغيره من متكلمي وفقهاء السلفية، عن الأشعرية والمعتزلة وفقهاء المذاهب السنية، كاختلاف رواة ومتكلمي وفقهاء العقيدة الأموية مع متكلمي وفقهاء السنة آنذاك (مدرسة الخلافة)،  أما تكفير الوهابية للشيعة فهو عميق، ويعود الى طعن الوهابية في أصل إسلام الشيعة، وكونهم كفار بالأساس، وحلفاء اليهود، وليسوا مسلمين أصحاب عقيدة منحرفة. ويمتد اتهام العقيدة التيمية الوهابية بالانحراف لأهل البيت أنفسهم، بمن فيهم الإمام علي، ويمكن الوقوف على ذلك بسهولة في آراء ابن تيمية من خلال كتابه “منهاج السنة”، الذي يعد الدستور العقدي للدولة السعودية. وإذا كان العقيدة التيمية تتهم الإمام علي وتبغضه(1)؛ فكيف بأتباعه وشيعته!.

ويتعبّد الكيان الوهابي السعودي بعقيدة أحمد بن تيمية، سواء عن إيمان حقيقي بآرائه أو إرضاءً للمؤسسة الوهابية الدينية؛ فقد بنى محمد بن عبد الوهاب مذهبه الوهابي على العقيدة التكفيرية الإرهابية لابن تيمية بالكامل، وكان تحالفه مع الأمير سعود (مؤسس ما يسمى بالدولة السعودية الثانية) يقوم على اشتراط أن تكون العقيدة التيمية الوهابية هي العقيدة الرسمية للكيان السعودي، وأن يقوم هذا الكيان على سلطتين متكافئتين متخادمتين: السلطة السياسية، وهي من حصة آل سعود، أي ذرية الأمير سعود الذكور، والسلطة الدينية، وهي حصة آل الشيخ، أي ذرية الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولا يمكن لأية سلطة أن تحكم لوحدها أو تجمع بين السلطتين.

ولذلك؛ فإن إمكانية تخلي إحدى السلطتين عن الأخرى، أو إمكانية تخلص آل سعود من المؤسسة الدينية الوهابية التكفيرية؛ هو ضرب من الخيال، لأن المؤسسة الدينية الوهابية هي مرآة الحكم السعودي، وركيزته الأولى والأخيرة. صحيح أن الحكم السعودي يحاول التخفيف الظاهري من تدخل المؤسسة الدينية الوهابية في شؤون الدولة وفي ممارسة مطاوعتها لما يسمونه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لكنه سيبقى محافظاً على وجود هذه المؤسسة وحضورها وفاعليتها بقوة؛ لأن القضاء على المؤسسة الوهابية سينهي شرعية حكم آل سعود، ويقضي على دعم مئات الآلاف من مشايخ الوهابية في داخل السعودية وفي كل أنحاء العالم؛ على اعتبار أن الفقه السياسي الوهابي هو الذي يمنح آل سعود شرعية حكم البلاد، وأن مشايخ الوهابية هم الذين يفتون بتكفير وقطع رأس كل من يعارض الحكم السعودي، وهم الذين يقنعون الجمهور الوهابي في داخل السعودية وخارجها بأن الملك السعودي هو خادم الحرمين وحامي الإسلام وسيف رسول الله وخليفته، وهم الذين يفتون للملايين من أتباع المذهب الوهابي بوجوب القبول بممارسات الحكم السعودي، وإطاعته شرعاً وحرمة الخروج عليه، حتى لو ارتكب هذا الحكم كل أنواع الموبقات والرذائل والجرائم، ومارس أبشع أنواع الاستبداد والقمع بحق الناس واستعبدهم، ونهب كل ثروات البلاد، وتحالف مع الشيطان.

أما سماح الحكم السعودي للسفور وفتح صالات القمار وغناء النساء والرقص وحانات الخمور وبلاجات السباحة المختلطة وبيوت الدعارة وغيرها، بعد العام 2021، وكذلك التطبيع مع إسرائيل والتحالف الأمني والسياسي والإعلامي معها؛ إنما هي تعديلات شكلية؛ لإرضاء أمريكا والغرب، وتلميع صورة التخلف الديني، والاستبداد الاجتماعي والدكتاتورية السياسية، وإلّا فإن غياب المؤسسة الدينية الوهابية التكفيرية وضعفها؛ سيفقد الحكم السعودي الركيزة التي تسوغ كل هذه الأفعال وتمنحه الشرعية الدينية، كما ذكرنا.

وليس هناك أدنى شك؛ أن المؤسسة الدينية الوهابية لاتزال وستبقى هي الحاكمة على المسارات الدينية للدولة السعودية، وستبقى مدارسها وجامعاتها ومناهجها ودروسها التعبوية قائمة بكل قوة، كما ستبقى عقيدة تكفير الشيعة، وتكفير من لا يقول بعدالة معاوية ويزيد، وتكفير من لا يتبع عقيدة ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، وفي المقدمة العداء لآل البيت وأتباعهم؛ سيبقى كله كما هو، ولم ولن يتغير أي شيء في هذا الجانب إطلاقاً.

وبالإمكان التأكد من هذه الحقائق بكل سهولة، وذلك بمجرد إلقاء نظرة على المناهج الدراسية الرسمية، ولا سيما التاريخ والتربية الإسلامية والتفسير والحديث والعقيدة، والاطلاع على مدونات فتاوى هيئة كبار العلماء (مؤسسة الإفتاء الوهابي الرسمية)، وعلى أسماء الشوارع والمدارس، وعلى الإعلام الديني، وخطب مشايخ الوهابية، والتبليغ الديني السعودي في أفريقيا وشبه القارة الهندية وشرق آسيا، وعلى واقع شيعة المملكة، وعلى مراقد أئمة آل البيت في البقيع؛ إذ أن الانفتاح السعودي الجديد؛ أحلّ إعمار صالات القمار والخمور والغناء والرقص وبيوت الدعارة والبلاجات المختلطة؛ لكنه يحرم إعمار مراقد آل بيت النبوة.

تذرع النظام السعودي بالدور الإيراني

حين بدأ النظام السعودي تنفيذ مشروعه الطائفي في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي،  وهاجم قوافل الحجاج وحواضر المسلمين الشيعة في المنطقة الشرقية وجنوب الجزيرة واليمن والعراق؛ لم تكن الجمهورية الإسلامية في ايران قد تأسست بعد، بل أن النظام السعودي ظل يمارس دوره الطائفي الإرهابي لقرنين من الزمن قبل أن تؤسس إيران لجبهة الممانعة الإسلامية في العام 1979، وبالتالي؛ فذريعة السعودية بأنها تقوم بهذا الدور والممارسات رداً على الدور الإيراني؛ إنما هي ذريعة تفندها حقائق التاريخ الحديث الذي وثّق للدور الوهابي السعودي الطائفي منذ العام 1795 في الجزيرة العربية والعراق.

والاستهداف الطائفي الوهابي السعودي للواقع الإسلامي عموماً، وللشيعة خصوصاً، هو استهداف قديم ومستمر ولا علاقة له بإيران؛ فالوهابية تعد شيعة العراق عدوها الأول، والعقبة الكؤود أمام هيمنتها الايديولوجية والعقائدية على منطقة المشرق العربي، ولا تحتاج السعودية لذريعة النفوذ الإيراني لتضرب الشيعة، وهجماتها على كربلاء والنجف وذبح شيعة العراق طوال القرن التاسع عشر لم يكن بذريعة صد النفوذ الإيراني، وتمويل السعودية ودعمها الجماعات الطائفية والجماعات الإرهابية التكفيرية التي تقتل المسلمين عموماً وشيعة السعودية نفسها والعراق ولبنان وسوريا واليمن وايران والبحرين خصوصاً، منذ عشرات السنين، ولاسيما بعد العام 2003، لا يتم بهدف ضرب النفوذ الإيراني، وفتاوى تكفير المسلمين عموماً والشيعة خصوصاً، التي تصدر من مفتي السعودية وهيئة كبار العلماء، وتتعالى في المدارس والمساجد لا تستهدف ايران فقط، لأنها لم تبدأ بعد ثورة ايران في العام 1979 أو بعد سقوط دولة البعث في العام 2003، بل تتراكم منذ أكثر من قرنين ونصف من الزمان.

فالمسلمون، والشيعة منهم خاصة؛ حين يواجهون المشروع الوهابي السعودي الطائفي؛ فإنهم يدافعون عن أنفسهم قبل كل شيء، ولا علاقة لذلك بوهم كبير اسمه “الانخراط في الصراع السعودي الايراني”. نعم؛ هناك صراع سعودي إيراني على خلفيات سياسية وايديولوجية وطائفية، بالنظر لخضوع الحكم السعودي لثوابت العقيدة الوهابية التكفيرية الإرهابية، وحضورها الفاعل في المشروع الأمريكي الصهيوني، ولكن استهداف الوهابية السعودية للشيعة العرب في العراق ولبنان والبحرين وسوريا واليمن، ومساعيها لاجتثاثهم؛ ليس ابن اليوم، ولا علاقة له بإيران ولا بالصراع معها؛ بل هو استهداف وجودي قديم متجدد.

لقد قسّمت التحالفات الاستراتيحية العلنية بين المملكة السعودية والكيان الإسرائيلي برعاية الولايات المتحدة الأمريكية وقيادتها؛ قسّمت منطقة الشرق الأوسط رسمياً الى معسكرين متصارعين، محددين شكلاً وموضوعاً وأطرافاً، هما: المعسكر المعادي للمسلمين، والذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وتنخرط فيه السعودية وإسرائيل وأنظمة إقليمية طائفية أخرى، ومعسكر الممانعة الإسلامية، والذي تتصدره إيران وتنخرط فيه قوى الممانعة الإسلامية في العراق ولبنان وسوريا واليمن وفلسطين. وقد قرر المعسكر الأمريكي الإسرائيلي السعودي منذ العام 2013، تكريس مخططاته لضرب الواقع الإسلامي وحلفائه في الصميم، وتدمير مكتسباته وحضوره الإقليمي، بينما قرر معسكر الممانعة الإسلامية الدفاع عن نفسه، بما تمليه ضرورات حفظ النفس والعرض والأرض، والإبقاء على كيانيته الاجتماعية الدينية السياسية.

ولم يترك التحالف الأمريكي الإسرائيلي السعودي لأي شيعي، فرداً أو جماعة أو كياناً؛ البقاء على الحياد، لأن كل الشيعة باتوا مستهدفين من هذا التحالف، أي أن الشيعة لم يختاروا هذا التخندق، ولم يختاروا أعداءهم، ولم يختاروا ساحة الصراع، بل أن التحالف المعادي هو الذي حشر الشيعة في دائرة التخندق والتضامن هذه، وبالتالي لم يعد لخيار الحياد وجود في الواقع؛ فأما الانخراط في المعسكر الأمريكي السعودي الإسرائيلي، أو الانخراط في معسكر الدفاع عن النفس. وليس في تخندق الشيعة هذاـ أي بعد طائفي أو مشروع طائفي، بل هو دفاع عن النفس والمصير فقط، وأما الدوافع الطائفية والمشروع الطائفي والاستهداف الطائفي؛ فهو ما أعلنت عنه السعودية صراحة، لأنها صاحبة المشروع الطائفي في العالم الإسلامي، منذ تأسيس المذهب الوهابي في نجد، وبالتالي؛ بات فهم الأفراد والجماعات الشيعية لمعنى الحياد حيال المشروع الطائفي السعودي الوهابي، يصب في دائرة الدمار الذاتي.

وفضلاً عن الجماعات الإرهابية التكفيرية؛ فإن التحالف الأمريكي السعودي الإسرائيلي، أعطى الجماعات الطائفية في العراق وسوريا والخليج ومصر والبحرين والأردن ولبنان واليمن، دفعة نفسية قوية للحديث صراحة عن اجتثاث ما أسموه بالقوى الموالية لإيران، ويقصدون التيارات الشيعية في هذه البلدان الرئيسة، وباتت تلك الجماعات الطائفية في حالة استنفار قصوى للتحرك علانية باتجاه تنفيذ المشروع الأمريكي السعودي الطائفي في العراق.

مسؤولية السعودية عن الفصائل الوهابية المسلحة

أفرزت العقيدة الوهابية السعودية التكفيرية منذ ثمانينات القرن العشرين، مجموعة جديدة من الجماعات المسلحة، وخاصة تلك التي تأسست في أفغانستان، بالتزامن مع الغزو السوفيتي، وكانت هذه الجماعات (الجهادية) تستلهم عقيدتها من أفكار أحمد بن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، ومن فتاوى المفتين وعلماء الدين الوهابيين السعوديين، ويتم تمويلها وتعبئتها دينياً وتنظيمياً من المخابرات السعودية، في حين يتم التخطيط لها وتسليحها وتوجيهها من المخابرات الأمريكية، أما التدريب والدعم اللوجستي فتقوم بهما الاستخبارات الباكستانية، أي أن هذه الجماعات هي بالأساس صناعة سعودية أمريكية باكستانية. وضمت هذه الجماعات مقاتلين من أفغانستان والبلدان العربية وبعض البلدان الإسلامية، وكانت الشريحة الأكثر نفوذاً سياسياً ومالياً وتنظيمياً ودينياً داخل هذه الجماعات هم المقاتلون العرب، والذين عرفوا فيما بعد بــ “الأفغان العرب”.

وتبلور حضور الأفغان العرب في أفغانستان فيما بعد بــ “منظمة قاعدة الجهاد”، والتي تعرف اختصاراً بــ “القاعدة”. وما لبثت هذه المنظمة أن انتشرت في أكثر البلدان العربية وكثير من البلدان الإسلامية، وتلخصت فيها أهداف وسلوكيات جيش الإخوان الوهابي الذي كان يقوده الملك عبد العزيز آل سعود، والذي استطاع به إخضاع أغلب أراضي الجزيرة العربية بالقوة والإرهاب. وفضلاً عن تنظيم القاعدة؛ فقد أفرزت الحركة السلفية التكفيرية في مصر أيضاً مجموعة من المنظمات، أبرزها “منظمة الهجرة والتكفير”، والتي ذابت في منظمة القاعدة. كما ظهرت جماعات وهابية مماثلة في أفغانستان، أبرزها “طالبان”، وكذلك في الجمهوريات والمقاطعات المسلمة جنوب روسيا، وفي بلدان شرق آسيا والمغرب العربي وأفريقيا، وجميعها تحمل الفكر الوهابي التكفيري، ومعبأة بفتاوى علماء الدين الوهابيين السعوديين، ومدعومة من المؤسسة الدينية السعودية أو المخابرات السعودية. ولم يخف كبار المسؤولين الأمريكان دور المخابرات الأمريكية والمؤسسة الدينية السعودية والمخابرات السعودية في تأسيس أغلب هذه المنظمات ودعمها وتوجيهها، وإقحامها في تنفيذ المشاريع التخريبية للولايات المتحدة الأمريكية والسعودية(2).

ومن أبرز تلك المنظمات والجماعات الوهابية التكفيرية المسلحة: تنظيم “القاعدة” في أفغانستان وكثير من البدان، تنظيم “داعش” في العراق وبلاد الشام وشمال أفريقيا، جماعة أنصار الإسلام في العراق، جبهة النصرة ومجلس شورى المجاهدين وحركة الغرباء وحركة أحرار الشام وقوات صلاح الدين الأيوبي وقوات نور الدين زنكي في سوريا، تنظيم “بوكو حرام” في نيجيريا، تنظيم أنصار الشريعة، تنظيم “طالبان” في أفعانستان وباكستان، جماعة أنصار السنة، جماعة النور في مصر، حركة الشباب في الصومال، الجبهة السلفية في الجزائر، تنظيم التوحيد والجهاد في الصومال، جيش الإسلام في سوريا، جبهة بلوشستان، تنظيم فتح الإسلام، جيش عدن، ، منظمة التكفير والهجرة في مصر، كتيبة المرابطون وحركة أنصار الدين في مالي، جماعات حقاني وجيش طيبة وجيش الصحابة جيش محمد في باكستان، جماعة أجناد مصر، إمارة القوقاز الإسلامية في الشيشان وأنغوشيا وداغستان، الحركة الإسلامية في أوزبكستان، جيش الفرقان وجيش العدل وحزب الحرية وأنصار السنة في ايران.

وتتحمل الدولة السعودية، بكل تاريخها وفكرها الديني السياسي وقوانينها ومؤسستها الدينية وممارساتها ومساحات نفوذها وتأثيرها؛ مسؤولة هذه الجماعات وممارساتها الإرهابية التي تتم باسم الإسلام، ففضلاً عن أن عقيدة التكفير والقتل الوهابية لهذه الجماعات هي ذاتها العقيدة التي أقام عليها محمد بن سعود الدولة السعودية الأولى، ثم عبد العزيز آل سعود الدولة السعودية الثانية؛ فإن مسؤولية الدولة السعودية الحالية، تجد أدلتها الحسية حاضرة في كل مؤسسة دينية رسمية، وفي كل مسجد ومدرسة وجامعة، وفي كل وسيلة إعلامية ومؤسسة حكومية في المملكة السعودية، وهو ما لا تتنكر له المؤسسة الدينية السعودية الحاكمة ومشايخها الرسميين وأئمة مساجدها وخطبائها ومناهجها التعليمية الدينية والمدنية، بل تجاهر هذه المؤسسة بتكفير المسلمين من غير أتباع المذهب الوهابي، وتستحل دماءهم وأعراضهم وأموالهم؛ ولاسيما المسلمين الشيعة. وبالتكامل مع جهود المؤسسة الدينية السعودية، تقوم أجهزة الدولة الأمنية والسياسية، وخاصة المخابرات السعودية، بتمويل هذه الجماعات والتخطيط لها وتوجيهها.

وحين تنقلب بعض هذه الجماعات على الدولة السعودية؛ فإنها تتعرض لإعادة التدوير والتنظيم والتصفية؛ لتظهر باسم جديد وقيادة جديدة، وهو ما اعترف به القادة السعوديون(3) والأمريكان(4) والقطريون(5). والمفارقة؛ أن بعض مشايخ الوهابية الرسميين عندما يستنكر جرائم التنظيمات الوهابية المسلحة التي انقلبت على الدولة السعودية؛ فإنهم يستدركون بقولهم: ((بصرف النظر عن بشاعة هذه الجرائم وأبعادها الإرهابية والسياسية؛ فإن الشيعة في الحقيقة هم كفار محاربين تنطبق عليهم الحدود))(6). وبالتالي؛ لا يوجد ما يدعو للجدل حول مسؤولية الدولة السعودية المباشرة وغير المباشرة عن جرائم الإرهاب التكفيري الطائفي. أي أن السعودية في إنتاجها للفكر التكفيري وفي رعايتها للإرهاب؛ إنما تعبر عن كينونتها وبنيتها وعلّة وجودها منذ تأسيس الدولة الوهابية السعودية الأولى في نهايات القرن الثامن عشر الميلادي، ولو تخلت عن فكرها التكفيري الإرهابي؛ لأصبحت دولة أخرى.

هذه الحقيقة المدخلية تقود الى نتيجة مهمة، تتمثل في عدم جدوى محاربة الجماعات التكفيرية، عسكرياً وإعلامياً وثقافياً ومخابراتياً، وعدم جدوى دراسة أفكار وممارسات قادتها؛ فهؤلاء مظاهر وتجليات لفكر وممارسات العقيدة الوهابية السعودية التي دوّنها محمد بن عبد الوهاب بناءً على عقيدة ابن تيمية وابن مفلح وابن قيم. وإذا تم القضاء على القاعدة والنصرة وداعش، وتم قتل الزرقاوي وأسامة بن لادن وايمن الظواهري وأبي بكر البغدادي والشامي والشيشاني والجولاني والمئات غيرهم؛ فستظهر عشرات الحركات الإرهابية التكفيرية ومئات القيادات الدموية غيرهم؛ لطالما بقيت المصانع الفكرية والعقيدية والفقهية ومؤسسات الرعاية السياسية والمالية والمخابراتية القائمة في الرياض وجدة والمدينة ومكة والطائف والقصيم؛ تعمل في المملكة الوهابية السعودية بكل طاقتها.

حرص آل سعود على التشيع العربي

من المقولات الطائفية المهمة التي اعتمدها النظام السعودي بعد العام 1979، مقولة “التشيع العربي والتشيع الفارسي”، رغم أن المنظومة الوهابية السعودية لا تفرق في استهدافها الطائفي بين شيعي عربي وشيعي إيراني وشيعي هندي؛ فكلهم رافضة كفار وفق عقيدتها التيمية الوهابية، إلّا أنها تهدف من وراء هذه المقولة ضرب الاستقرار المجتمعي الديني الشيعي، وبث الفرقة والشقاق بين الشيعة، وخاصة بين الشيعة العرب والشيعة الإيرانيين، بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، من أجل عزل الشيعة العرب عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ولكي تعطي لمقولتها الطائفية هذه مصداقية، ولو باهتة؛ فقد جنّدت عدداً من العلمانيين والمعميين الشيعة العرب من لبنان والعراق والبحرين؛ ليكونوا واجهة مخططها ورأس حربته.

وكان لخطابها هذا أثراً سيئاً خلال الحرب العراقية الإيرانية، والتي دفع فيها النظام البعثي الطائفي مئات الآلاف من شيعة العراق للموت من أجل بقائه. إلّا أن ذروة تكريس النظام السعودي لهذا الخطاب وتحويله الى مشروع سياسي وإعلامي كبير، حصل بعد سقوط النظام البعثي في العراق في العام 2003، وانتصارات المقاومة في لبنان بعد العام 2006؛ فقد خصصت وزارة الخارجية والمخابرات السعودية موازنات مالية كبيرة، قدّرها بعض المراقبين بــثلاثة مليارات دولار في العام 2013، صرفت لمجموعات وشخصيات دينية وسياسية واجتماعية وعشائرية وإعلامية، عراقية ولبنانية، سنية وشيعية، من أجل تنفيذ مشروع خلق صراعات سياسية ومجتمعية مسلحة داخل المجتمعين الشيعيين العراقي واللبناني. وبرز نتائج المشروع بقوة بعد العام 2018، خلال التظاهرات في العراق ولبنان. وإذا كان المشروع السعودي هذا قد فشل فشلاً ذريعاً في لبنان والبحرين؛ فإنه حقق نجاحات نسبية في العراق خلال الأعوام 2019 و2022، وذلك نظراً لحجم الغزو الطائفي(7) غير المسبوق تاريخياً، الذي ظل شیعة العراق یتعرضون له خلال (35) عاماً من حكم البعث في العراق، ثم بعد سقوطه في العام 2003، وهو شبیه ـــ الی حد کبیر ـــ بالغزو الطائفي الذي ظلت إیران تتعرض له بعد العام 1979، ولا تزال.

وكنموذج إعلامي لتوجهات هذا الخطاب العنصري الطائفي وأهدافه، يمكن الإشارة الى المقال الذي نشره أحد أمراء آل سعود في جريدة الجزيرة (السعودية)(8)، والذي كرر فيه مقولات التشيع العربي والتشيع الفارسي، والتشيع الصفوي والتشيع العلوي، وشنّع على رموز التشيع وفقهائه منذ المفيد وحتى الآن، واتهمهم بكل أنواع التهم التي اعتاد عليها الخطاب الوهابي، وفي مقدمها كفر الشيعة وانحرافهم وضلالهم. وذرف الأمير السعودي، في مقاله، الدموع على التشيع العربي، واستنجد بالمؤسسة الدينية الوهابية لتخليصه من براثن التشيع الفارسي. ولم يحصر صاحب المقال التشيع الفارسي بسلوك الدولة الإيرانية؛ بل عدّه نتاجاً للمحدثين والفقهاء الشيعة الأوائل، ولذلك؛ هو لا يستهدف بمقولاته هذه سلوك الدولة الإيرانية أو الفرس، بل يستهدف الواقع الشيعي العربي، وعناصر نهوضه، وخاصة في العراق ولبنان واليمن، وذلك في إطار المشروع الطائفي المذكور للنظام السعودي، أي تقطيع أطراف الواقع الشيعي من داخله، لا سيما أن الأمير الكاتب، هو ضابط كبير في المخابرات السعودية برتبة لواء.

السعودية والإرهاب الطائفي في العراق

منذ العام 1800، كان الوهابيون السعوديون يستخدمون السيوف والرماح في ذبح العراقيين، خلال هجماتهم وغاراتهم على كربلاء والنجف والحلة والسماوة، حتى قال بعض رموزهم بأن ((كربلاء والنجف تابعة لحكم آل سعود، وهي مضارب خيلنا))(9)، لأنهم سبق أن احتلوا كربلاء في العام 1802، وقتلوا ربع أهلها، ونهبوها ودمروا مراقدها، كما وصلوا الى النجف، رغم فشلهم في اقتحامها، بفضل مقاومة أهلها من خلف السور.

وبمرور الأعوام؛ تغيرت استراتيجيا المنظومة الوهابية السعودية في تدمير العراق، وباتوا بعد العام 2003 يستخدمون كل أنواع الأسلحة لتمزيق العراقيين، بدءاَ بالانتحاريين السعوديين السبعة آلاف(10) الذين فجروا أنفسهم في الأسواق والمساجد والحسينيات والشوارع، وحتى التخريب السياسي والاجتماعي والدعائي، إضافة الى سلاح شراء ذمم بعض السياسيين وشيوخ العشائر والإعلاميين والناشطين الشيعة والسنة، وهو السلاح الأشد فتكاَ ودماراَ. فعندما فشلت السعودية في مرحلة الإرهاب والعنف والتفجيرات والانتحاريين؛ فإنها توجهت الى اختراق العملية السياسية، وعندما واجهها جدار فولادي من الوعي السياسي وسلاح المقاومة؛ فإنها عمدت الى شراء الذمم، لذلك؛ باتت السعودية حاضرة في مجتمع الوسط والجنوب العراقي، عبر القصف الإعلامي والتخريب السياسي والاختراق الاجتماعي وشراء الشخصيات والأفراد بالمال، لتعويض فشلها في مرحلة الإرهاب والتفجيرات. ورغم أن السعودية ستفشل في هذا المسعى، بفضل التحصين الوطني والاجتماعي الديني، بل وتحويل التهديد الى فرص للرد بالمثل، إلّا أنها حققت وستحقق نجاحات نسبية، والتي كان وسيكون من مظاهرها الفتن والتمزق والتخريب بأياد محلية.

وفضلاً عن السبعة آلاف انتحاري سعودي؛ فقد دخل العراق بين عامي ۲۰۰۳ و۲۰۱۵ ما يقرب من (۲۳۰۰) انتحارياً عربياً وهابياً، وقتلوا في عملياتهم الانتحارية الارهابية أكثر من مائة ألف مواطن عراقي مدني أعزل من أبناء بغداد ومدن الوسط والجنوب الشيعية. وقد وقعت أغلبية هذه العمليات في الأسواق والمساجد ومجالس العزاء والفاتحة والمراقد والشوارع المكتظة بالمارة أو المزدحمة بالسيارات، وليس بينها مواقع وأهداف عسكرية أجنبية أو عراقية ولا مؤسسات أمنية واستخبارية. ووفق الإحصائيات العراقية الرسمية؛ فإن العرب المنتحرون في العراق، ينتمون الى الجماعات الوهابية التكفيرية بمختلف مسمياتها، خاصة “القاعدة” و”داعش”، وبينهم (1300) فلسطينياً، و(270) يمنياً و(210) سورياً (45) تونسياً، و(95) مصرياً و(40) ليبياً، إضافة الى (40) انتحارياً من الجزائر وموريتانيا والبحرين وقطر ولبنان.

وقد قتل هؤلاء الانتحاريون التكفيريون في الفترة من 2003 وحتى 2022، ما يقرب من (200) ألف عراقي مدني، وما يقرب من (700) ألف جريح، وتدمير ما يقرب من (18) ألف بناية ووحدة سكنية وتجارية ومؤسسة اقتصادية وخدماتية، بواسطة (13) ألف سيارة مفخخة وعملية اغتيال.

وهنا يفرض السؤال نفسه: لماذا يصر المنتحرون الوهابيون على تنفيذ أهدافهم ضد المدنيين العراقيين؟! ولماذا لا يتوجهون لتنفيذ هدفهم السامي في بلدان المسلمين المحتلة، وخاصة فلسطين المغتصبة، والتي يذبح الصهاينة أهلها يومياً؟! وماذا لو قام الفلسطينيون الـ (1300) المنتحرون في العراق؛ بعمليات استشهادية في فلسطين ضد المؤسسات العسكرية الصهيونية؟!

وحيال هذا التدمير المنظم المتواصل للعراق من المنظومة الوهابية السعودية؛ تقدم خبراء قانونيون وقضائيون وماليون عراقيون الى الحكومة العراقية بطلب رفع دعاوى قانونية دولية ضد الحكومة السعودية، من أجل التوقف عن أعمالها العدائية وتدخلاتها الطائفية السافرة في الشأن العراقي من جهة، ودفع تعويضات مالية مجزية للعراق ولضحايا العمليات العدوانية من جهة أخرى، كما فعلت الحكومة الأمريكية عندما أصدرت قانون (جاستا)، وفرضت على الحكومة السعودية دفع (140) مليار دولار تعويضات عن تفجيرات 11 أيلول 2001 في أمريكا، رغم أن الحكومة السعودية لم تكن على علم بهذه التفجيرات ولم تدعمها، ولكن لمجرد وجود شك بعلاقة المخابرات السعودية بالشبكة التي قامت بالتفجيرات، وأن جنسيات الانتحاريين كانت سعودية، وأنهم تسربوا من أراضي السعودية. في حين أثبتت الوثائق والاعترافات بأن المخابرات السعودية تقف وراء 60 بالماتة من التفجيرات والاغتيالات وأعمال التخريب في العراق. ويرى هؤلاء أن بإمكان الحكومة العراقية مطالبة السعودية بأكثر من ترليون دولار تعويضات، أي ما يعادل ميزانية العراق لسبع سنوات.

معارك السعودية للاستحواذ على المنطقة

استمراراً لمساعيها المحمومة منذ ستينات القرن الماضي؛ دخلت المملكة السعودية في شراكة استراتيجية إقليمية جديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية في العام 2017، خاصة بمنظقة الشرق الأوسط، وبهدف إعادة ترتيبها سياسياً وأمنياً، وأعطيت لهذه الشراكة تسمية (خطة)، أي أنها شراكة تنفيذية، وقد حمل الملف المسرب لها عنوان ((الملخص التنفيذي لخطة الشراكة الاستراتيجية بين حكومتي المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية))، وكانت بنوده الإقليمية الأساسية تقضي بما يلي:

  • إسقاط النظام الإيراني خلال ثلاث سنوات من إطلاق الخطة، أي خلال العام 2020، عبر خنقه اقتصادياً، وتشويهه دعائياً، ومحاصرته سياسياً ودبلوماسياً، وضرب منشآته وبناه التحتية عسكرياً بذريعة البرنامج النووي من قبل قوات أمريكية وإسرائيلية وسعودية، وزعزعته من الداخل من خلال المظاهرات المنظمة المطلبية في ظاهرها، والعمليات المسلحة للمجاميع المتغلغلة عبر باكستان وإقليم كردستان العراق وبندر لنكه، وتأليب القوميات الإيرانية بهدف الانفصال بذريعة الحقوق القومية.
  • إسقاط حزب الله في لبنان، عبر ضرب قواعده عسكرياً من قبل إسرائيل، ومنع اشتراكه في الحكومة، ومحاصرته سياسياً ودولياً، وقطع مصادر تمويله، وفصله عن حاضنته الشيعية اللبنانية، وتدمير صورته عربياً وإسلامياً.
  • اجتثاث حركة أنصار الله في اليمن، وإسقاط حكومة الشراكة بقيادة الحوثيين، عبر إلحاق الدمار الشامل بالعاصمة والمناطق الخاضعة لسيطرة حكومة الشراكة، وإنهاء سبل العيش فيها، من طعام وماء وكهرباء ووقود وعلاج.
  • إسقاط سيطرة الشيعة على حكم العراق، عبر تفكيك الحركات الإسلامية الشيعية العراقية المشاركة في الحكم وإنهاكها وضربها ببعضها وتمزيقها من الداخل، ولا سيما حزب الدعوة والمجلس الأعلى والتيار الصدري ومنظمة بدر وتيار الحكيم وفصائل المقاومة، وتحريك الشارع الشيعي ضدها، وتشويهها دعائياً، وتكريس تهمة عمالتها وفسادها وفشلها في لا شعور المواطن العراقي. ويتم في الفترة الانتقالية احتواء بعضها وبعض الوجوه الشيعية الليبرالية، وصولاً الى إسقاطها جميعاً عبر المجيء بتحالف يضم بعثيين وإسلاميين سنة وعلمانيين شيعة.
  • إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، عبر عمل عسكري طاحن، أو عبر دستور جديد يمنعه وتياره من الترشح لرئاسة جديدة، لصالح نظام يضم قوميين وسلفيين وبعثيين طائفيين سوريين.
  • ضرب الحراك الشيعي البحراني المتمثل في حركة الوفاق والتجمع العلمائي وحلفائهما، ضربة قاضية ونهائية، عبر تعميق سياسات الترهيب القصوى، والاعتقالات والإعدامات الجماعية، وإسقاط الجنسية، والإبعاد خارج البلاد، والفصل من الخدمة، والتشويه الإعلامي، والترويج لأطراف شيعية بديلة، وتغيير التركيبة السكانية المذهبية بسرعة فائقة، وصولاً الى تحويل عدد السنة الى 60 بالمائة من السكان، مقابل 40 بالمائة شيعة بحلول العام 2025.
  • دمج الكيان الإسرائيلي بالمنطقة العربية دمجاً واقعياً وميدانياً، عبر الشراكة السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية مع الدول العربية، بدءاً بالخليجية منها، وتشجيع تركيا على دعم هذه العملية، عبر تقديم حوافز اقتصادية ومالية لها.

هذه الخطة التنفيذية التي تم إقرارها في العام 2017؛ حددت فترة 3 ــ 8 سنوات لبلوغ أهدافها السبعة المذكورة، أي بين العامين 2018 و2025. وتم وضع إمكانات جميع أجهزة الدولة السعودية المعنية تحت تصرف هذه الخطة، فضلاً عن بعض الأجهزة الأمريكية. ولكن؛ عند النظر الى واقع المنطقة، ونحن في العام 2023؛ نجد أن أغلب أهداف الخطة لم تتحقق، وخرج فيها الجانبين الأمريكي والسعودي بهزائم كبيرة، بدءاً بالعراق وإيران وسوريا وانتهاء بلبنان واليمن. وربما نجحتا نسبياً في ثلاثة أهداف، هدف ضرب حراك الشعب البحراني، وإقامة علاقات دبلوماسية بين الكيان الإسرائيلي من جهة ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين من جهة أخرى، إضافة الى إقامة حلف أمني بين الكيان الإسرائيلي والمملكة السعودية، وكذلك إدخال العراق، وخاصة مدنه الشيعية، في فوضى كبيرة خلال الأعوام 2018 ـــ 2020.

ولا شك أن السببين الأساسين في الهزائم المتوالية، التي ظل يتكبدها النظام السعودي، في كل معاركه التي أشعلتها ضد الآخرين، في المجالات العسكرية والسياسية والإعلامية والمالية؛ يعود أولها الى حساباته الواهمة وغير المنطقية القائمة على منطلقات طائفية وعنصرية، وروح انتقامية توسعية، ومزاعم خرافية تتمثل في ولايته على العرب والمسلمين. أما السبب الآخر فيتلخص في انقياد النظام السعودي الى الأجندة الخارجية الأمريكية التي تجعله يتصرف إقليمياً لحساب المصلحة الأمريكية، وعلى حساب المصالح الوطنية للمملكة.

إخفاقات السعودية المتراكمة في مخططاتها الطائفية

لقد خسرت الدولة السعودية ما تبقى من سمعتها في تقاربها العلني وتحالفها مع إسرائيل، وخسرت مئات المليارات من أموالها لحساب أمريكا في عملية ابتزاز مهينة، وصل رقم بعض فواتيرها الى (450) مليار دولار، وخسرت الآلاف من جنودها وإمكاناتها العسكرية والمخابراتية في معركتها مع مستضعفي اليمن، رغم أنها دمّرت معظم البنية التحية لليمن وذبحت آلاف الأطفال والنساء، ومزقت الشعب اليمني، إلّا أن خسائرها باتت أقرب الى الفضائح العسكرية والسياسية التاريخية. وحين عملت على نقل معاركها الى الداخل الإيراني، وحرّكت عملائها التكفيريين واستنزفت أموالها، وقامت بعمليات مسلحة في الأهواز وزاهدان وطهران وسنندج؛ فإن المعركة ارتدت عليها في الداخل السعودي بطريقة مرعبة. كما تحول تحالفها مع إسرائيل ضد حزب الله في لبنان الى هزيمة ماحقة لكليهما، كما أصبح النظام السعودي في المعركة مع سوريا؛ الخاسر الأكبر، بعد أن انتهت المعركة باستقرار سوريا، وفي العراق أيضاً؛ فرغم أن النظام السعودي أشعل فيه الفتنة الطائفية، وقتل عملاؤه ما يقرب من (500) ألف عراقي، وأمعن في تخريب العراق؛ لكنه لم يحقق هدفه في إعادة العراق الى ماضيه الطائفي.

إلّا أن هذه الهزائم والخسائر الكبيرة المتوالية التي ظلت تتحملها الدولة السعودية؛ لن تجعلها تغير من ثوابتها الطائفية وأطماعها، ولن تكف عن مشاريعها وخططها، ولن تغلق معامل تفريخ الجماعات الطائفية التكفيرية. وحيال كل ذلك؛ فإن الجدوى الوحيدة النهائية الكفيلة بتجفيف منابع الإرهاب التكفيري؛ إقليمياً وعالمياً؛ تكمن في تفكيك أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها الدولة السعودية، والمتمثلة في السلطة الدينية الوهابية الطائفية الرسمية، وأدواتها وتمظهراتها في داخل السعودية، وجميع أذرعها في بلدان العالم، من هيئات ومؤسسات وجامعات ومساجد ضرار ومدارس ومناهج وكتب ومنشورات ووسائل إعلام ومشايخ ودعاة ومطاوعة، وكذا المناهج الدراسية المدنية من الابتدائية وحتى الدراسات العليا، وإعادة هيكلة المؤسسات التعليمية المدنية، وإتلاف جميع مصادر العقيدة الوهابية ومراجعها وشروحاتها، بدءاً  بكتب ابن تيمية وابن القيم، وانتهاء بكتب محمد بن عبد الوهاب ومشايخ الوهابية من القرن الثامن عشر.

وكذلك إصدار قرارات أممية وإقليمية ومحلية، بمنع الترويج للفكر الوهابي التكفيري، في أية دولة أخرى ومحفل محلي وإقليمي ودولي، واعتبار ذلك جرماً جنائياً يعاقب عليه القانون الدولي والقوانين المحلية؛ بالمنهجية نفسها التي تم تطبيقها على النازية والفاشية. الى جانب إصدار قرارات أممية ومحلية بمحاكمة كل من تورط بفتاوى وممارسات من أمراء ومسؤولي ومشايخ المملكة الوهابية السعودية؛ أدت الى القتل والتدمير وأية خسائر أخرى؛ بحق مواطني المملكة أو مواطني الدول الأخرى، وخاصة العراق والبحرين وسوريا ولبنان وليبيا وأفغانستان وباكستان والشيشان وإندونيسيا ونيجيريا ومالي والصومال.

ولكي نكون واقعيين؛ فإن القيام بهكذا إجراءات، يحتاج الى شبه إجماع دولي وإقليمي وإسلامي، تتبعه إرادة على التنفيذ، ولا سيما في ظل وجود الدعم الأمريكي الاستراتيجي المطلق للنظام السعودي، بوصفه الخندق المتقدم للاستعمار الغربي في قلب العالم الإسلامي، الى جانب الخندق الثاني، إسرائيل، ولو زال الدعم الغربي لهذين الكيانين لتغير سلوكهما الداخلي والخارجي قطعاً، وصولاً الى انهيارهما.

ولذلك؛ يمكن أيضاً التعامل مع إجراءات أخرى، تمثل الحد الأدنى في الضغط على المملكة السعودية، وإحباط بعض مخططاتها، مثل قطع العلاقات الدبلوماسية والسياسية والثقافية والاقتصادية والإعلامية مع المملكة السعودية وأذرعها وامتداداتها، والتعامل بالمثل معها في المجالات الدينية والثقافية والسياسية والإعلامية والاقتصادية والأمنية وغيرها، ومحاربة أية فكرة ومنهج وسلوك ذي علاقة بالعقيدة الوهابية، واعتبار الترويج له جرماً يعاقب عليه القانون، وإتلاف جميع الكتب والمنشورات والمجلات ذات العلاقة، والتحرك الجاد والمستمر على المنظمات الدولية والإسلامية والإقليمية؛ لإصدار قرارات تمنع انتشار الفكر التكفيري الإرهابي الوهابي، وفي مقدّمها مطالبة المملكة السعودية باتخاذ كل الإجراءات العملية الملموسة لمنع الترويج للفكر الوهابي التكفيري، ومنع الفتاوى الجديدة وإلغاء الفتاوى القديمة، وصولاً الى مطالبتها بتفكيك سطوة السلطة الدينية الرسمية وأذرعها وأدواتها.

وهناك من يرى بأن إخفاقات النظام السعودي، دفعته الى تغيير نهجه الطائفي والتخفيف من ضغوطات المؤسسة الدينية، وأن هناك تغييراً نسبياً بعد العام 2021، وتكرس في العام 2023، على مستوى الحريات وممارسة السلطة والانفتاح على الخارج والاعتدال الديني، وأن السعودية اليوم غير السعودية قبل عقد أو عقدين من الزمن. وبصرف النظر عن نوايا القائلين بهذا الرأي ودوافعهم، ومستوى موضوعيتهم؛ فإن الوقائع تثبت عكس ذلك، وتؤكد تمسك النظام السعودي بنهجه الثابت حيال الموضوع الطائفي وحرية التدين والتمذهب والحقوق العامة والسياسية.

فعلى المستوى الطائفي، لاتزال المناهج الدراسية كما هي، تبجِّل (خليفة رسول الله) يزيد و(التابعين) من قتلة آل البيت، وتعد الحسين (خارجاً) على إمام زمانه، كما تفرض على الشيعة تعلّم عقائد الوهابيين وفقههم وتاريخهم، وأغلبها ذم للشيعة ورموزهم، ويضطر الطالب أن يمتحن في القضايا التي تذمه وتكفره، وبالعقائد والتاريخ والأمور الدينية التي تتعارض مع وجوده وما يؤمن به، ولذلك؛ يضطر الشيعة الى تعليم أبنائهم الحقائق في بيوتهم. كما لاتزال الاعتقالات بحق الشيعة، والإعدامات بالسيف، وأسماء الشوارع والمدارس باسم معاوية ويزيد وعبد الرحمن بن ملجم وابن زياد والحجاج، كما هي، ولاتزال قبور أئمة البقيع والزهراء وآل البيت مسواة مع الأرض، ولايزال الشيعة ــ عملياً ــ مواطنون من الدرجة الثالثة، ولايزالون محرومون من حقوقهم وحرياتهم السياسية والدينية، وممنوعون من أن يكونوا في مناصب عليا مدنية أو عسكرية أو قضائية، وحتى في المناصب البسيطة لا تتجاوز نسبتهم ١ بالمائة من عدد المناصب، رغم أن نسبتهم تبلغ ٢٠ بالمائة من عدد سكان الدولة، ولايزال الشيعي في الأدبيات الدينية الرسمية للدولة وفتاواها رافضياً كافراً لا يجوز أكل ذبيحته، وغير ذلك من الوقائع الكثيرة جداً.

ولم يتغيّر برنامج ضرب الشيعة في الشرق الأوسط الذي وضعه بندر بن سلطان في العام ٢٠١٣ عندما كان رئيساً للمخابرات السعودية، ولا دعم المخابرات السعودية للانتحاريين والمرتزقة في العراق وسوريا ولبنان واليمن وإيران، ولايزال الجيش السعودي يحتل اليمن والبحرين، وهو الذي دخل لضرب الشيعة. ولم تعوّض السعودية العراقيين عن الخسائر التي نجمت عن الجرائم التي قامت بها أجهزتها الرسمية ومواطنوها بعد العام ٢٠٠٣، وبينها دعم الجماعات الإرهابية المسلحة والتفجيرات والعمليات الانتحارية التي قام أكثر من خمسة آلاف انتحاري سعودي، والتي يقدِّرها الخبراء القانونيون بأكثر من ترليون دولار (ألف مليار دولار)، لأن التغيير يكون بتسديد ديون الماضي وليس مجرد التوبة، إن كانت هناك توبة.

ولاتزال المؤسسة الوهابية الدينية الحاكمة كما هي، بهيكليتها ومدارسها وجامعاتها وكتبها وفتاوى التكفير والإرهاب التي لا تخفيها، وبمساجدهم في كل العالم التي تنشر الفكر الوهابي، الى جانب افتقاد الدولة للدستور، والبرلمان المنتخب، والقضاء المستقل، وحرية الرأي، والصحافة الحرة، والمعارضة، والأحزاب، ولا تزال الحكومة ضمن سلطة أُسرة آل سعود. أما التغيير الواقعي؛ فيقتصر على حرية إقامة حفلات الغناء والرقص المختلطة، وغض النظر عن بيع وتوزيع الخمور وأوكار الدعارة وحرية السفور فقط، وفتح صالات سينما، والسماح للمرأة بقيادة السيارة، وإلغاء فتوى تكفير من يقول بكروية الأرض، والسماح للأجانب المسيحيين واليهود بدخول مكة والمدينة، وحرية العلاقات بين المرأة والرجل. أما انفتاحهم الخارجي الواقعي؛ فهو الانفتاح على الكيان الصهيوني والعلاقات الأمنية والسياسية والاقتصادية مع الصهاينة.

وإذا كان هناك من يرى بأن التغيير يتمثل في إعادة العلاقات مع إيران خلال العام 2023؛ فهذا ليس تغييراً، لأن العلاقات السعودية الإيرانية كانت قائمة منذ العام 1979، وظلت عرضة للتحولات والتقلبات، وسبق أن انقطعت وعادت مرتين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات

(3) أنظر: تصريحات وزير الداخلية السعودي الأسبق نايف آل سعود في ….

(4) أنظر: تصريحات وزيرة الخارجية السابقة “هيلاري كلينتون”، والرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”

(5) أنظر: تصريحات رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق

(7) أنظر تعريفاً لمفهوم “الغزو الطائفي” في کتاب “الغرو الطائفي في مواجهة المشروع الحضاري الإسلامي”.

(10) أنظر: تصريح رئيس وزراء العراق الأسبق حيدر العبادي حول تفجير خمسة آلاف انتحاري سعودي أنفسهم في عام واحد، ودخولهم من الأراضي السعودية، وتصريح وزير الداخلية السعودية الأسبق الأمير نايف آل سعود.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment