مواقف الفقهاء والجماعات الإسلامية من ظاهرة الدستور

Last Updated: 2024/06/10By

مواقف الفقهاء والجماعات الإسلامية من ظاهرة الدستور

د. علي المؤمن

نشوء الجدل حول الدستور

ظل الواقع الإسلامي منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي حافلاً بالصراعات والحراكات الفكرية والسياسية والمجتمعية بين النخب المحلية؛ تميزت بالانفعال غالباً، والفعل أحياناً. ويمكن فهم مظاهر هذه الحراكات من خلال المواقف المتعارضة بين الفقهاء والمفكرين والجماعات الإسلامية والسياسية من ظاهرة الدسترة والدستور. وقد بدأت مواقف الفقهاء والمفكرين والجماعات الدينية بالظهور؛ كرد فعل على الاستبداد السياسي المحلي من جهة، وعلى أصوات بعض المتأثرين بالغرب ممن درس في أُوروبا وعاد منبهراً بالتطور المدني والنظم الحاكمة التي قادت إلى هذا التطور.

وكانت البعثات التركية والإيرانية والمصرية إلى إنجلترا وفرنسا تضم طليعة هؤلاء الدارسين المتأثرين. فالحكومة الإيرانية ـ مثلاً ـ أرسلت بعثتين دراسيتين إلى لندن في العامين 1811 و1815، وحين عاد المبتعثون كانوا يحملون أفكار الثورة الفرنسية والفكر القانوني البريطاني، وما يمكن التعبير عنه بمبادئ القانون الدستوري الحديث الداعية إلى التأسيس لنظام سياسي للدولة مقيد بالقانون، ويفصل بين السلطات، ويمنح الشعب حريته وحقوقه، وينتخب ممثلين عنه ليشكلوا سلطة تشريع ورقابة. وكان من أبرز هؤلاء ميرزا صالح الشيرازي، الذي أتم دراسته في إنجلترا، وعاد إلى إيران في العام 1819 ليبشر بمبادئ الحكم المقيد والديمقراطية والحقوق والحريات والبرلمان.

كما أصدر سفير إيران في لندن ميرزا ملكم خان (1831 ـ 1908) جريدة «قانون»، وألّف كتاب «دفتر تنظيمات» في العام 1885 الذي يعدّ أهم كتاب في الفكر السياسي الإيراني الحديث؛ إذ دعا فيه ملكم خان إلى تأسيس حكومة دستورية على غرار أُوروبا، وكان يأمل أن يكون قاعدة لأول دستور إيراني، وكان ينتقد الحكم الاستبدادي القاجاري بشدة في كتاباته. كما أصدر عدد من المثقفين الإيرانيين كتباً ومقالات وصحفاً نقدية تحررية شبيهة تدعو إلى حكم الشعب وحكم القانون؛ أهمها كتابات عبد الرحيم طالبوف (1834 ـ 1911)([1]).

وكان الحراك الدستوري في تركيا العثمانية ومصر الخديوية لا يختلف في معظم دوافعه ومشاهده عنه في إيران القاجارية. فقد كان هو الآخر عبارة عن دعوات لتحديث الدولة والحكم والفكر السياسي ونبذ الحكم المطلق والاستبداد والتخلف. وبما أنّ هذه الدعوات تصدر ـ غالباً ـ من المثقفين العلمانيين المتغربين، بل كان بعضهم لا يخفي انتماءه للمحافل الماسونية أو للفكر الماركسي؛ وكانت تواجه بردود فعل سلبية قاسية من النخب الدينية المحلية أو من السلطة. وقد كان هذا الثلاثي: السلطة السياسية، النخب الدينية، والنخب الثقافية المتغربة؛ في صراع دائم وتهم متبادلة؛ فقد كانت النخب الدينية المجددة (علماء الدين والمفكرون الإسلاميون) تتهم السلطة السياسية بالاستبداد، وتدعوها إلى تحكيم الشريعة الإسلامية، وتتهم النخب المثقفة المتحررة بالتغرب والعمالة الفكرية والسياسية. بينما توجه النخب الثقافية المتغربة تهمتي التخلف ودعم الاستبداد للنخب الدينية، وتهمة الاستبداد للسلطة السياسية، وتدعو لإقامة حكم قانوني علماني.

أمّا السلطة السياسية فتتهم الطرفين بأنّهما يهدفان إلى تقويض استقرار البلاد وأمنها. إلّا أنّ قوة التيار العلماني التغريبي في تركيا كان أقوى بكثير منه في الدولة الإيرانية؛ بسبب الدعم المباشر له من الدول الأُوروبية الرامية إلى التخلص من دولة متمددة في أُوروبا بشعاراتها الإسلامية، ولكنها تمارس كل أساليب الاحتلال. ولذلك لم يكن الصراع في حقيقته بين العثمانيين والأُوروبيين صراعاً دينياً عقدياً، بل كان صراعاً بين قوى استعمارية على النفوذ والتمدد. ولذلك كان دعم الأُوروبيين للحراك العلماني التركي قوياً جداً ومباشراً؛ لتمزيق الدولة العثمانية من الداخل([2]). ولم تكن النخب الدينية في البلدان الإسلامية ـ من جهتها ـ متفقة على رأي فكري أو فقهي أو سياسي موحد بشأن الدستور والحكم القانوني بصيغته الحديثة. فقد كان هناك اتجاهان إسلاميان رئيسان:

الأول: يدعم فكرة الدستور، وتقييد الحكم المطلق، وإقامة نظام ينسجم وأحكام الشريعة الإسلامية. ويرى هذا الاتجاه ضرورة وجود قانون مدوّن ثابت يحكم حركة الدولة والسلطة، ويمنعها من إطلاق يدها في التصرف بشؤون البلاد والأُمّة، ويحرمها حقوقها على مختلف الصعد. كما يرى أنّ الدستور ليس فقط ينسجم مع الشريعة الإسلامية، بل ينسجم مع مبادئ حقوق الأُمّة والشورى وسلطة القانون وتحديث الدولة. وأنّ الخشية من عزل أحكام الشريعة الإسلامية عن حركة الدولة وقوانينها؛ يمكن ضمانه من خلال الدستور نفسه؛ وهو ما لا يمكن ضمانه من السلطان أو الملك في حال عدم وجود دستور، وبالتالي يمكن للدستور أن يشكل ضمانة حقيقية (مدوّنة ثابتة) لعدم عزل الدين وأحكامه عن واقع الدولة. وهذا ما أثبته الدستور العثماني لعام 1876، والدستور الإيراني لعام 1907.

والاتجاه الثاني: يرفض فكرة الدستور وإنشائه وتطبيقه، ويدعو إلى حكم تطبق فيه أحكام الشريعة تطبيقاً مباشراً. هذا الاتجاه يرى أنّ حكم الدولة الإسلامية بالدستور والصياغات القانونية الوضعية بدعة؛ لأنّ القرآن الكريم هو الدستور، والسنة الشريفة هي الشارح، والشريعة الإسلامية هي قانون الدولة، واجتهاد الفقهاء يكمل عملية التشريع. وفضلاً عن الوجه الأُصولي المبدئي الكامن في هذه الرؤية، وهو فعل اجتهادي؛ فإنّ الوجه الآخر لهذه الرؤية هو ردود فعل على حجم التأثير الثقافي العلماني التغريبي في دعوات الدسترة والقوننة التي صدرت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقدين الأولين من القرن العشرين الميلاديين؛ ولا سيّما خلال تحركات (جماعة تركيا الفتاة) منذ العقد التاسع من القرن التاسع عشر الميلادي، و(ثورة المشروطة) في إيران خلال العقد الأول من القرن العشرين الميلادي. ويبدو أنّ هذا الاتجاه ـ بسبب الضغوط الفكرية والسياسية والنفسية التي كان يمارسها التيار العلماني التغريبي، ودعواته لعزل التقاليد المحافظة والتعاليم الدينية عن حركة السلطة والدولة والتشريع ـ قد صادر كل حسنات الدستور، وحوّله إلى شر مطلق وبدعة كفرية.

وكان هذا الاتجاه يخشى بشدة من عواقب الأخذ بمبادئ وأفكار وقواعد نشأت في بيئة أجنبية متمثلة بالدول الأُوروبية، ولا تمثل مجرد تقنيات مشتركة أو أفكاراً إنسانية عامة، بل نتاجاً فكرياً وفلسفياً ينسجم مع مناخات مختلفة. فضلاً عن الخشية من التغييرات الكبيرة في الاجتماع السياسي، والتي سترافق التحول من النظام السياسي العُرفي القديم إلى النظام الجديد الدستوري، ولا سيّما على صعيد العلاقة بين الدولة والمجتمع، ودور الفئات الاجتماعية في النظام الجديد؛ ولا سيّما علماء الدين، وهو تمدد لسلطة الدولة في صورتها الجديدة؛ يتجاوز اختصاص علماء الدين في جانب التشريع والفتيا، والتحكيم بين الناس، وإدارة المنظومة الدينية الاجتماعية والولاية على الحقوق الشرعية.

مواقف الإسلاميين من الدستور

نستعرض هنا الآراء الخاصة لعدد من أهم المفكرين والفقهاء الإسلاميين والجماعات الإسلامية؛ خلال مئة عام (1880 ـ 1980) من ظاهرة التقنين الدستوري للفقه:

1 ـ السيد جمال الدين الأفغاني:

عالم الدين والمصلح الإيراني السيد جمال الدين الحسيني الأسد آبادي؛ الشهير بالأفغاني (1838ـ1897)؛ يُعدّ أبرز مؤسسي حركة الإصلاح الإسلامي في القرن التاسع عشر الميلادي؛ فقد دعى مبكراً إلى تأسيس دولة إسلامية وفق النظم الحديثة؛ لها دستورٌ مدوّن ومجلسٌ للشورى منتخب من الشعب. وقد بادر السيد جمال الدين إلى تدوين مُسوَّدة لهذا الدستور؛ جعل فيه إيران دولة دستورية([3]) ذات حكم برلماني، ويخضع فيها الشاه وحكمه للدستور. وقدّم الدستور للشاه ناصر الدين القاجاري؛ للنظر فيه؛ إلّا أنّ الشاه رفضه؛ لأنّه يقيد حكمه. وتوجه السيد جمال الدين الأفغاني بعدها إلى مصر وتركيا؛ فعرض الدستور الذي دوّنه ومجمل أفكاره الإصلاحية على خديوي مصر توفيق، والسلطان العثماني عبد الحميد؛ إلّا أنّهما رفضاه أيضاً. ولكنه لم ييأس، بل ظل يكتب الرسائل التحريضية لعلماء الدين والمفكرين الإسلاميين في إيران وتركيا والعراق ومصر وسورية؛ يحثهم على رفض الاستبداد، والدعوة لنظم قانونية برلمانية، وإعطاء الأُمّة حقوقها، وإخضاع السلطات السياسية للدساتير، كما كان يكتب المقالات النهضوية في الصحف العربية والفارسية؛ ولا سيّما «ضياء الخافقين» و«العروة الوثقى». ولذلك كان تأثير السيد جمال الدين على الحراك الدستوري في تركيا وثورة المشروطة في إيران كبيراً؛ حتى إنّه كان يسمى في إيران بجمال القانوني؛ بالنظر لتنظيره وتحريكه لقضية الدستور([4]).

2 ـ الشيخ عبد الرحمن الكواكبي:

عالم الدين والمفكر الإسلامي السوري الشيخ عبد الرحمن الكواكبي (1854ـ 1902)؛ دعا في خطبه وكتاباته والصحف التي أصدرها في حلب والقاهرة إلى حكومة القانون ورفض الاستبداد العثماني وأخذ الشعوب حقوقها. وأهم كتاباته «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» الصادر في العام 1902. وكان لآرائه تأثيرٌ أساس على الشعوب العربية الخاضعة للاحتلال العثماني، وبلغ تأثيرها العاصمة العثمانية. وقد عرّف الكواكبي الاستبداد بأنّه ((صفة للحكومة المطلقة العنان، فعلاً أو حكماً تشاء، بلا خشية حساب ولا عقاب محققين)). وكان ينظِّر للحكومة العادلة التي تنطلق من العقيدة الإسلامية للقضاء على الاستبداد([5]).

3 ـ الشيخ فضل الله النوري:

الفقيه الإيراني الشيخ فضل الله النوري (1843 ـ 1909) هو أهم نموذج لعلماء الدين المعارضين لفكرة الدستور. وقد كان في بداية الحراك المناهض للاستبداد في إيران، ومن قادته ومحركيه والمحرضين ضد استبداد حكم الشاه، ولكنه انقلب على هذا الحراك بعد أن تلمس ـ كما يعتقد ـ انحراف ثورة المشروطة عن أهدافها، وأنّها تتجه للعمل بدستور غربي يتعارض مع الدين وشريعته. وأصبح يدعو إلى حكومة (المشروعة)؛ أي الحكومة التي تتقيد بأحكام الشريعة الإسلامية حصراً؛ دون أية ضوابط وضعية؛ كالدستور. وذلك في مقابل الحكومة المشروطة؛ أي حكومة الدستور، وكذلك في مقابل الحكومة المستبدة؛ أي الحكومة الملكية المطلقة.

وبذلك وقف الشيخ النوري في مواجهة قوتين كبيرتين: سلطة الشاه، وتيار المشروطة المهيمن على الشارع. ويمكن التعرف على أفكار الشيخ النوري في موضوع الدستور من مصدرين رئيسين: كتابه «تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل»، ومقالة له تحت عنوان «رسالة في حرمة المشروطة»([6]) أصدرها في العام 1906. في هذه الرسالة يوجز الشيخ النوري آراءه المعارضة بقوة للدستور والنظام الانتخابي فيقول: ((إنّ الاستناد إلى فكرة أكثرية الأصوات هو خطأ. فما معنى وضع القانون؟ إنّ قانوننا؛ نحن المسلمين، هو الإسلام وليس سواه…

إنّ أسباب حرمة النظام الدستوري وتناقضه مع الأحكام الإسلامية والنهج النبوي؛ كثيرة، وفي مقدمتها جميعاً أنّ هذا النظام والدستور يستند إلى مبدأ أكثرية الأصوات؛ حتى وإن تمّ ذلك في الأُمور المباحة أصلاً؛ فهو محرم شرعاً ويعتبر بدعة في الدين؛ لأنّه يقتضي الالتزام به على أساس أنّه قانون.

ومن مواد [الدستور] تقسيم سلطة الدولة إلى ثلاثة أقسام: هي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، وهذه بدعة وضلالة مطلقة؛ إذ لا يجوز لأحد في الإسلام أن يضع قانوناً ويوجد حكماً؛ كائناً من كان؛ فليس في الإسلام نقص حتى يكمله أحد! أمّا في ما يجدّ من أُمور؛ فعلى الناس أن يرجعوا فيها إلى الفقهاء الذين هم نواب الإمام (ع)، وهم بدورهم يستنبطون الأحكام من الكتاب والسنة، ولا يقنّنون.

إنّ مجلس الشورى الوطني، وهذه الحرية والمساواة بين الأفراد، والدستور الحالي، كلُّ ذلك ليس سوى ثوب مفصّل على مقاس أُوروبا؛ حيث أغلبية أهلها ملحدون وخارجون عن القانون الإلهي والكتاب السماوي))([7]).

وكان المرجع الديني في النجف الأشرف السيد كاظم اليزدي يرفض المشروطة أيضاً ويؤيد المشروعة؛ بما ينسجم وآراء الشيخ النوري، وهو يعبر عن هاجس تغوّل العلمانيين في جسد الدولة الإيرانية، وحدوث انفلات في العملية التشريعية. إلّا أنّ القوة السياسية والشعبية الهائلة التي كانت تتمتع بها أفكار المشروطة وحركة التقنين والدسترة؛ أدت إلى هزيمة كل من يعاديها هزيمة معنوية؛ فكانت الدعاية السياسية للمشروطة تصف الشيخ النوري والسيد اليزدي بمناصرة الاستبداد والعمالة لشاه إيران محمد علي القاجاري.

وبما أنّ رأس مال فقهاء الشيعة هو استقلالهم الفتوائي والسياسي والإداري والمالي الكامل عن الدولة والسلطة، واتكاؤهم على قوّتهم الشعبية؛ فإنّ تهمة العمالة للدولة والسلطة كفيلة بإسقاط أي منهم. والحقيقة أنّ اتهام النوري واليزدي بالارتباط بالشاه ودعم الاستبداد هو اتهام مزعوم؛ لأنّهما كانا يدعوان إلى المشروعة (حكم الشريعة) وليس إلى الاستبداد، وإلى تطهير حركة المشروطة من العلمانيين والملحدين، وإلى ضبط موضوع التقنين. وهو ما كان عليه عدد كبير من فقهاء النجف وإيران.

إلّا أنّ شدة الصراع بين دعاة المشروطة ومعارضيهم كان يسوِّغ كل ألوان التسقيط الشخصي بين الطرفين. ولم يكن هذا التسقيط المعنوي أقل ضراوة من التصفية الجسدية؛ إذ انتهى أمر الفقيه الشيخ فضل الله النوري إلى منصة الإعدام بعد أن أصدرت عليه محكمة ثورية حكم الإعدام شنقاً في ساحة طهران الرئيسة؛ وسط مهرجان فرح جماهيري أقامه أنصار المشروطة (حكم الدستور).

4 ـ الشيخ محمد كاظم الخراساني:

كانت جبهة المشروعة الضعيفة تواجَه بجبهة المشروطة القوية التي كان يرعاها مرجع النجف الأعلى الشيخ محمد كاظم الخراساني المشهور بـ (الآخوند الخراساني) (1839 ـ 1911)، ومعه عدد كبير من فقهاء النجف وإيران؛ أبرزهم الشيخ عبد الله المازندراني في النجف، والفقيه السيد عبد الله البهبهاني الغريفي القائد الأعلى للمشروطة في إيران، وإلى جانبه الفقيه السيد محمد الطباطبائي، وكذلك الشيخ الميرزا محمد حسين النائيني؛ الذي يعدّ منظر فكر المشروطة. وبالتالي كان الآخوند الخراساني الأب الراعي الحقيقي لحراك المشروطة والدسترة، والمشرعن له ولقادته ومنظريه؛ الإسلاميين منهم تحديداً.

والنموذج لمواقفه وأفكاره الداعمة للدستور وللنظام الانتخابي، ولوجود مجلس الشورى كسلطة تقنين، رسالته الجوابية إلى فقهاء المشروطة وقادتها في إيران؛ في أعقاب تصاعد حراك أنصار المستبدة وأنصار المشروعة؛ ولا سيّما بعد محاصرة أنصار الشيخ فضل الله النوري لمجلس الشورى الإيراني (البرلمان المنتخب شعبياً) في العام 1907، ومحاولتهم إسقاطه. فقد قال الآخوند في رسالته: ((إنّ قوانين مجلس الشورى المذكورة على الشكل الذي ذكرتموه هي قوانين مقدسة ومحترمة، وهي فرض على جميع المسلمين أن يقبلوا هذه القوانين وينفذوها. وعليه نكرر قولنا: إنّ العمل على مقاومة مجلس الشورى بمنزلة العمل على مقاومة أحكام الدين الحنيف؛ فواجب المسلمين أن يقفوا دون أي حركة ضد المجلس))([8]).

وكان الشاه محمد علي القاجاري يدعم حراك المستبدة ضد المشروطة والدستور ومجلس الشورى بقوة؛ مما دفع الآخوند الخراساني إلى كتابة رسالة شديدة اللهجة إلى الشاه يحذره فيها من إسقاط الدستور ومجلس النواب. وقد جاء في الرسالة: ((يا منكر الدين، ويا أيها الضال الذي لا نستطيع مخاطبتك بلقب شاه. كان المرحوم أبوك مظفر الدين أقرّ الدستور ليرفع الظلم والتصرفات غير القانونية عن الشعب الذي كان في ظلام دامس قروناً عديدة، ونحن نقول بكل صراحة: ليس في المشروطة أي شيء يخالف الدين الإسلامي، بل إنّها تتفق مع أحكام الدين وأوامر الأنبياء بخصوص العدالة ورفع الظلم عن الناس.

إنك أنت والمجتهدين المرتزقة الذين يدّعون أنّ المشروطة تخالف الشرع الشريف؛ تتجاهلون حقيقة الدين التي تقضي بأن تكون العدالة شرطاً حتى في الأُمور الجزئية. ونحن بحسب اطلاعنا على البلاد التي تطبق فيها الدساتير؛ نعلم أنّها تدار وفق قوانين عادلة؛ فاترك سند الشيطان وانشر بياناً آخر تعلن فيه الحرية للناس، وإذا حصل تأخر منك عن طلبنا؛ فإنّنا سوف نحضر جميعاً إلى إيران ونعلن الجهاد ضدك))([9]).

ولم يكتف مرجع النجف برعاية الحركة الدستورية في إيران وحمايتها بشدة، بل كان يشجع الحراك الدستوري في الدولة العثمانية ويدعمه ويحميه أيضاً. ويظهر ذلك بوضوح في تواصله مع السلطان العثماني ورئيس الحكومة ومشايخ تركيا لهذا الغرض؛ فهو يعد الدولتين الإيرانية والعثمانية ركني العالم الإسلامي؛ فإذا طبقتا العدل؛ كان لذلك أثره الأكيد على كل العالم الإسلامي. فعلى أثر التلكؤ الذي أحس به الشيخ الخراساني في العمل بالدستور الذي أعلنت عنه الدولة العثمانية في العام 1908، وضغوطات فقهاء الدولة العثمانية لتعطيل الدستور؛ بحجة مخالفته لشرع الإسلام؛ بعث مرجع النجف برسالة إلى السلطان العثماني محمد رشاد في العام 1909؛ ذيّلها بأنّها نيابة عن علماء المذهب الجعفري، وهو أمر له إيحاءات ودلالات كبيرة. وقد قال مرجع النجف في رسالته: ((هل يمكن تطبيق الأحكام الشرعية بغير المشروطة (الحكم الدستوري)؟ وهل يمكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا بقطع دابر الاستبداد؟ ومتى تَعارض الدستور مع الأحكام الشرعية؟ وفي أي مادة تَعارض مع الصوم والصلاة والحج والزكاة؟ ومتى أوجب الدستور غير ما هو مشروع، وبدّل أُصول الدين والفروع؟ فنأمل من سلطان الإسلام ـ دامت إفاضاته وبركاته ـ عدم الإصغاء لكل هؤلاء؛ فإنّهم إمّا أعداء، وإمّا جهلاء))([10]).

وفي الرسائل التاريخية الثلاث أعلاه؛ يقارب الآخوند الخراساني موضوع الدستور عقدياً وفقهياً من وجهة نظر المدرسة الشيعية، وهو أهم تأصيل شرعي صدر ـ حتى ذلك الوقت ـ في تاريخ الفقه الإسلامي لموضوع الدستور والنظام الانتخابي والحكم المقيد وحقوق الشعب وحرياته وأهمية التقنين، وقدسية القوانين التي يصدرها نواب الشعب. فضلاً عن المعرفة التفصيلية لمرجع النجف بحركة التقنين في أُوروبا ودساتيرها وأنظمتها السياسية، وهو ما يدل على أنّ حوزة النجف كانت متقدمة على عصرها تقدماً نوعياً في مجال التأصيل للدستور ولتقنين الفقه السياسي الإسلامي؛ حتى إنّ الآخوند الخراساني عدّ الدستور والتقنين وحرية الشعب معايير لتطبيق الشريعة وتحقيق العدالة، وهي سابقة لم يقل بها قبله فقيه شيعي أو سني.

5 ـ الشيخ محمد حسين النائيني:

الشيخ محمد حسين الغروي النائيني المعروف بـ (الميرزا النائيني) (1860ـ 1936) هو أهم من أصّل فقهياً وفكرياً للحكم الدستوري. ويُعدّ بحثه «تنبيه الأُمّة وتنزيه الملّة»([11])، أهم بحث صدر خلال ثورة المشروطة الإيرانية؛ فهو أول بحث شامل في الفكر السياسي الشيعي ينشر مستقلاً؛ بهدف التأصيل لنظام سياسي، وليس لمجرد التنظير الفقهي، كما أنّ كاتبه كان من أبرز فقهاء النجف الأشرف؛ ثم أحد أكبر مرجعين فيه فيما بعد.

وكان الشيخ النائيني قد كتب بحثه بدفع من أُستاذه الشيخ محمد كاظم الآخوند الخراساني؛ الذي كتب مقدمة للبحث؛ أيد فيها كل ما جاء فيه؛ وذلك بعد تعرض ثورة الدستور في إيران إلى هزة كبيرة في العام 1909؛ نتيجة تعطيل الدستور من الشاه القاجاري وتعطيل مجلس الشورى. وبذلك كان البحث يعبر أيضاً عن فكر راعي المشروطة وآرائه الفقهية، وكذا عن آراء فقهاء المشروطة في إيران والعراق.

وقد أكّد الشيخ النائيني في بحثه ضرورة وجود دستورٍ يقيد صلاحية الحاكم (الشاه وحكومته) لمصلحة الشعب، وضرورة التقنين عبر سلطة مستقلة عن الحكومة ينتخبها الشعب، وعدّ الأكثرية الشعبية مصدراً لمشروعية النظام، وإن كان الشاه يترأس هذا النظام؛ شرط أن يكون مقيداً بالدستور والقوانين وليس مطلق الصلاحيات. وهو يعدّ هذه الآراء منسجمة مع الشريعة الإسلامية (الحكم العادل في عصر الغيبة)، ويمهد لآرائه بالقول: ((إنّ الإنسان بطبعه مستبد ومحكوم بالشهوات، ويحتمل في كل آن أن يتجاوز الحدود الشرعية؛ فلا بدّ أن نقيّده بقوانين خارجية تقوم مقام الملكات النفسية، وأنّ الطريق للتخلّص من الديكتاتورية والاستبداد ينحصر في مجلسٍ للشورى))([12]).

ويصف النائيني الدستور بأنّه ((أعلى القوانين، وأحكامه لازمة الإجراء على كل فرد في جهاز الدولة؛ بمن فيهم الحاكم)). ويقصد به الشاه أو الملك أو السلطان، بل يذهب إلى أنّ الدستور بمثابة الرسالة العملية؛ أي بمثابة كتاب الفتاوى والأحكام الشرعية الذي يكتبه المرجع الديني، ويقلده فيه سائر الناس؛ حيث أحكامه ملزِمة؛ وهكذا الدستور فإنّ على الحاكم الالتزام بمواد الدستور وعدم تجاوزها([13]). ويرد على الفقهاء المعارضين للدستور الذين قالوا بأنّ الدستور بدعة محرمة: ((إنّ الدستور غير مندرج بذاته تحت عنوان التشريع. كما لا يدعي أحد أنّ بنوده بذاتها من عند الله، وبالتالي فإنّه ليس تشريعاً مقابلاً للتشريع الإلهي، وليس في مواجهة النبوة؛ فلا يندرج تحت عنوان البدعة المحرمة))([14]).

ولكي يفند حجة العلمانيين والمتغربين الذي اخترقوا ثورة المشروطة بقوة، ويعملون على علمنة الدستور والقوانين؛ يقول النائيني: ((إنّ هذا الدين معروف بالعدل والشورى؛ فلماذا نقلد الدستور الأجنبي ونجلب نسخاً جاهزة من الدستور من باريس وإنجلترا؟)). ويصف العلمانيين بأنهم ((يستخدمون كلمات مغرية مثل العدالة والشورى والحرية، ويريدون خداع المسلمين وجذبهم إلى الإلحاد))([15]). ويؤكد بأنّ مبادئ العدالة والشورى وحقوق الشعب وحريته هي من أساسيات الإسلام، وقد أخذها الغرب منّا، وها هي تعود إلينا.

والحقيقة أنّ الشيخ النائيني لم يهدف من وراء البحث طرح نظرية متكاملة في فقه الدولة الإسلامية، أو يقول بأنّ مضامين البحث تمثل الموقف العقدي والفقهي النهائي لمدرسة الإمامة، بل إنّه تعامل مع الممكن ومع الواقع؛ فقد عدّ هذا النوع من النظام السياسي (الدستوري) أكثر أنظمة الحكم عقلانية، وأكثرها ملاءمة للواقع وللظروف الموضوعية؛ فالحكومة الدستورية هي خيار الأُمّة في مقابل الاستبداد والنظام الشمولي؛ من باب دفع الأفسد بالفاسد؛ على اعتبار أنّ النظام الملكي الدستوري هو أهون الشرين، وليس باعتباره الخيار الشرعي المثالي للأُمّة. فقد عدّ الفقيه الإيراني المعاصر الشيخ حسين علي المنتظري (1922 ـ 2009) ((الأُطروحة التي يؤيدها النائيني (الملكية الدستورية) باطلة ومخالفة للعقل والفطرة؛ إذ لا مجال لهذا الحق (المُلك الوراثي)، وهذه الوراثة المستمرة من دون نصب من قبل الله تعالى أو انتخاب من قبل الأُمّة، ومن دون أن يتحمل (الملك) مسؤولية عامة ماسة بمصالح المجتمع؛ سوى المصارف المجحفة الزائدة تبعاً للتقاليد والعادات))([16]).

6 ـ الشيخ حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين:

لم يترك الشيخ حسن البنا (1906 ـ 1949) مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر نصوصاً فقهية تأصيلية في موضوع الدستور، بل كانت المعالجات الثقافية والسياسية تغلب على آرائه في هذا المجال؛ لأنّها ظلت تدور في إطار متطلبات الواقع المصري ودستوره؛ في الفترة التي أعقبت تأسيس الجماعة في العام 1928. ولذلك لم يكن هاجسه التنظير لدستور دولة إسلامية، بل التعامل مع واقع الدولة المصرية بصيغتها الوطنية، والعمل على أسلمتها من خلال دستور لا تتعارض مواده مع مقاصد الشريعة، وينص على إسلامية قوانين الدولة.

وهذا المنهج يشبه منهج الفقيهين الشيعيين الآخوند الخراساني والشيخ النائيني في التعامل مع واقع الدولة القائمة، ويتعارض مع منهج الفقهاء الشيعة: الشيخ فضل الله النوري والإمام الخميني والسيد محمد باقر الصدر، وكذا المفكرين السنيين الشيخ أبو الأعلى المودودي والشيخ تقي الدين النبهاني؛ فهؤلاء الخمسة نماذج للمنهج الداعي لدستور إسلامي محض لدولة إسلامية محضة؛ بصرف النظر عن التمايز في التفاصيل. وقد عدّ حسن البنا الحكم الدستورى منسجماً مع تعاليم الإسلام؛ ولكنه طالب الدولة المصرية بأن تكون قوانينها متفقة والمادة التي تنص على أنّ دين الدولة هو الإسلام في دستور العام 1923([17]).

وفي هذا المجال يقول في رسالته إلى المؤتمر الخامس لجماعة الإخوان المسلمين في العام 1939: ((إنّ الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستوري التي تتلخص في المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها، وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأُمّة، وعلى مسئولية الحكام أمام الشعب ومحاسبتهم على ما يعملون من أعمال، وبيان حدود كل سلطة من السلطات؛ هذه الأُصول كلها يتجلى للباحث أنّها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم، ولهذا يعتقد الإخوان المسلمون أنّ نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظاماً آخر.

ومع أنّ النظام النيابي والدستور المصري في قواعدهما الأساسية لا يتنافيان مع ما وضعه الإسلام في نظام الحكم، فإنّنا نصرّح بأنّ هناك قصوراً في عبارات الدستور وسوءاً في التطبيق، وتقصيراً في حماية القواعد الأساسية التي جاء بها الإسلام وقام عليها الدستور))([18]).

ويشدد على إسلامية القوانين في رسالة له تحت عنوان «المنهاج واضح» بقوله: ((لكل أُمّة من دول الإسلام دستوراً عاماً؛ فيجب أن تستمد مواد دستورها العام من أحكام القرآن الكريم، وأنّ الدولة التي تقول في أول مادة من مواد دستورها: إنّ دينها الرسمي الإسلام؛ يجب أن تضع بقية المواد على أساس هذه القاعدة، وكل مادة لا يسيغها الإسلام ولا تجيزها أحكامه؛ يجب أن تحذف حتى لا يظهر التناقض في القانون الأساسي للدولة))([19]).

ولم يرفض الشيخ حسن البنا النظام النيابي الذي يوصل ممثلي الشعب إلى السلطة التشريعية، ووصف هؤلاء النواب بـ ((أهل الحل والعقد))؛ فيقول: ((لقد رتّب النظام النيابي الحديث طريق الوصول إلى أهل الحل والعقد بما وضع الفقهاء الدستوريون من نظام الانتخابات وطرائقه المختلفة، والإسلام لا يأبى هذا التنظيم؛ ما دام يؤدي إلى اختيار أهل الحل والعقد))([20]).

وعليه، فإنّ جماعة الإخوان المسلمين تعتقد بأنّ نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم إلى الإسلام، وتدع إلى دستور دولة المواطنة التي تستند إلى الانتماء السياسي للمواطن؛ بصرف النظر عن اللون والجنس والدين. وهو ما نصّ عليه الدستور المقترح الذي طرحته جماعة الإخوان في العام 1952؛ خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت انقلاب الضباط الأحرار في العام نفسه، وسبق إلغاء النظام الملكي وإعلان الجمهورية في العام 1953، ووصفت الدستور المقترح بأنّه دستور قومي (وطني) خاص بالدولة المصرية بمرجعية إسلامية. أي أنّ المرجعية الإسلامية هي الضابط لمواد الدستور، وتعاليم الإسلام هي مواد فوق دستورية أو مواد حاكمة للدستور، ونصّت مواده على الاجتهاد التشريعي فيما لا يخالف الإسلام؛ فلا يصدر قانون يخالف الشريعة الإسلامية.

وقد بات هذا الدستور المقترح يعبر عن موقف الجماعة النظري من الدستور، ومثّلت مواده خلاصة المبادئ التي تحدد رؤية الإخوان السياسية والدستورية. وقد حرص الإخوان عبره على إيصال رسالة إلى الدولة المصرية والقوى السياسية الأُخر بأنّهم يدعون إلى دستور مدني ودولة مدنية وليس دولة دينية([21]).

وتقول الجماعة بأنّها جمعت في تدوين الدستور المقترح بين المصادر الإسلامية المتمثلة بأحكام القرآن الكريم وسنة الرسول الأكرم، وخبرات الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، وبين مصادر النظم الدستورية المعاصرة؛ كالنظام الرئاسي المعمول به في الولايات المتحدة الأمريكية والدساتير الأُوروبية والدستور التركي للعام 1924. ولذلك فإنّ كثيراً من مواده تمثل نقلة فكرية من الدولة الإسلامية إلى الدولة المدنية التعددية التي تقوم على المواطنة والولاء السياسي؛ بغض النظر عن الانتماءات العقائدية. وهو تحرر من التقسيمات المنهجية التي درج عليها التراث الفقهي الذي يقسم رعايا الدولة الإسلامية إلى أهل الملة (المسلمون) وأهل الذمة (أهل الكتاب من غير المسلمين) ([22]).

ولعلّ من أهم من كتب من مفكري جماعة الإخوان المسلمين في موضوع الدستور هو الدكتور حسن الترابي، والذي يعدّ الدستور ميثاقاً وعهداً وعقداً بين الأُمّة، وهو الاجتهاد الإسلامي الذي تجمع عليه الأُمّة من أجل تنظيم حياتها؛ في مقابل تعدد الاجتهادات؛ إذ يقول: ((الدستور هو إجماع الأُمّة والشعب في مقابل تعدد الاجتهادات، باعتبار أنّ هناك من يجعل الشريعة دستوراً، وهو خطأ في المفهوم؛ لأنّ الشريعة ليست الدستور السياسي، بل الدستور العام، وإذا تم صياغة دستور شرعي (الأحكام الشرعية السياسية السلطانية)؛ فذلك يعني أنّ الفقه السياسي الإسلامي وتنظيم أحكامه بصياغات حديثة تراعي الزمان والمكان؛ سيكون هو الدستور بعينه. من هنا فالاعتراض ووضع البديل غير وارد. الإسلام أمر بكتابة العهود والعقود والمواثيق، والدستور هو عقد بين الأُمّة))([23]).

ويؤكد على انسجام فكرة الدستور مع مقصد الشريعة الإسلامية وأحكامها: ((المسلمون لو فقهوا دينهم، ينبغي أن يكونوا أحرص الأُمّة على كتابة (إذا تبايعتم فتكاتبوا) دستور السلطان فيهم، لا اتّباعاً وحسب لسنة صحيفة المدينة خاصة عند الانتقال، بل لأنّ القرآن المتلو باللسان استكتبت عليه طائفة من سلفهم الأُمّي؛ لأنّه هو الذي يسميه الله كتاباً بنصه المخطوط… بل أوصاهم القرآن في تعاهدهم على الدَّين أن يكتبوه مهما تعسر ذلك أو قَلَّ قدره، وكانوا أُمّة أُمّية. لكنهم لم يلتزموا ذلك كسُنة في ديون المال، ولم يقيسوا عليه الالتزام بكتابة العهود الأعم والأخطر والأثبت كالدساتير، أو يتخذوه قديماً سُنة منبسطة في حياتهم، كما أصبحت اليوم عادة العالمين))([24]).

7 ـ الشيخ تقي الدين النبهاني وحزب التحرير:

القاضي الفلسطيني الشيخ تقي الدين النبهاني (1908ـ 1977) يُعدّ أول مفكر إسلامي سني معاصر يكتب دستوراً إسلامياً لدولة إسلامية، وهو دستور على مستوى النظرية لم يكتب لدولة بذاتها؛ لها اسم وموقع جغرافي وحدود إدارية، بل هو مادة أولية لدستور دولة إسلامية يمكن أن تقام في زمان ما ومكان ما. وقد أصدره في العام 1953 تحت عنوان «مشروع دستورٍ لدولة الخلافة»؛ أي بالتزامن مع مرحلة تأسيسه حزب التحرير؛ ليكون القاعدة النظرية التي يستند إليها مشروع الحزب. ويتكون الدستور من (182) مادة مستوعبة تقريباً لكل مجالات عمل الدولة في صيغتها الإسلامية التراثية.

ولم يمثل دستور النبهاني تأصيلاً للقانون الدستوري الإسلامي بمعناه الحديث، بل هو استعادة لموروث الفقه السياسي الإسلامي السني بعمومياته وكلياته الفكرية السياسية؛ فضلاً عن استعادة النظم السلطانية السنية؛ أي الخلافة بمعناها التراثي في التفاصيل. وقد كرر مقولات الشيخين الماوردي والفرّا في كتابيهما «الأحكام السلطانية»، والشيخ ابن تيمية في كتاب «السياسة الشرعية». وبالرغم من أنّ هذا الموروث ليس موروثاً عقدياً وفقهياً تأصيلياً، بل هو مما يمكن أن يوصف بالفكر السياسي العملاني؛ الذي كتبه باحثون متخصصون ليكون غطاءً لشرعنة الدول السلطانية، وخطة عملٍ في الإدارة الحكومية السلطانية.

وبالرغم من تأكيد النبهاني على المفاهيم الإسلامية من القرآن والسنة؛ ولا سيّما في موضوعات شروط الخليفة، والبيعة والشورى والمحاسبة والرقابة ودور الأُمّة؛ إلّا أنّ محصلة دستوره تصب في وعاء دولة الخلافة السلطانية نفسها؛ والتي يجمع فيها الخليفة ـ السلطان جميع سلطات الدولة في يده. ولم يأخذ النبهاني بنظر الاعتبار التحولات الهائلة في عالم السياسة والقانون والجغرافية السياسية، والتي تتراكم بمرور الزمن، وكان من أهم إفرازاتها أحكام القانون الدولي التي لا تعترف بأيّة دولة لا تنطبق عليها المعايير السائدة عالمياً، وهي معايير لا تتفق مع القواعد التي بنى عليها النبهاني دستور دولته. ولم يتنكر الشيخ النبهاني لهذه الإشكالية، بل قرر أنّ هذا الطرح التنظيمي النظري العام ينبغي أن يسبق تأسيس الدولة الإسلامية، والتي ستجد لديها مشروعاً نظرياً جاهزاً للتطبيق. وهو ما يتعارض مع فكرة المنظر الإخواني سيد قطب ـ كما ذكرنا سابقاً ـ ؛ إذ يعدّ الحديث في موضوعات الدستور الإسلامي والتقنين الفقهي والتجديد الفكري حديثاً ترفياً لا قيمة له قبل تأسيس المجتمع الإسلامي؛ فتأسيس هذا المجتمع يسبق أيّ حديث في تلك الموضوعات.

وإذا ما استثنينا النظرة الواقعية العملانية لجماعة الإخوان المسلمين في موضوع الدستور؛ كما بيَّنها الشيخ حسن البنا ودستور الجماعة المقترح في العام 1953؛ فإنّ الغالبية الساحقة للتصورات الفكرية السياسية والدستورية التي كان يطرحها المفكرون والفقهاء الإسلاميون والجماعات الإسلامية في تلك الفترة؛ لم تكن تختلف في تنظيراتها عما توصل إليه الشيخ تقي الدين النبهاني.

وبعد وفاة النبهاني كانت هناك محاولات نظرية تكميلية طرحها حزب التحرير في موضوع الدستور؛ أهمها ما ورد في كتاب «نظام الحكم في الإسلام» للشيخ عبد القديم زلوم؛ خليفة النبهاني في رئاسة حزب التحرير. والكتاب هو شرح لكتاب النبهاني الذي يحمل العنوان نفسه. وكذلك كتاب «مقدمة الدستور أو الأسباب الموجبة له» الصادر في العام 1963، ودراسة «نقض مشروع الدستور الإيراني» الصادرة في العام 1979؛ إذ وصف حزب التحرير دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأنّه ليس دستوراً لدولة إسلامية خالصة عالمية، بل هو دستور لدولة وطنية محددة بعلم ولغة وجنسية، وهو تشبّه بالدساتير العلمانية المتداولة في كل دول العالم([25]).

8 ـ الشيخ أبو الأعلى المودودي والجماعة الإسلامية في باكستان:

أسس المفكر الإسلامي الهندي الشيخ أبو الأعلى المودودي (1903 ـ 1979) الجماعة الإسلامية في لاهور في العام 1941، قبل تأسيس باكستان، وتم انتخابه أميراً للجماعة، وكان يدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في الولايات الهندية ذات الأكثرية المسلمة. وفي العام 1948؛ أي بعد تأسيس دولة باكستان بنحو خمسة أشهر، طالب الحكومة الباكستانية بإنشاء دستور إسلامي وتطبيق الشريعة الإسلامية. وبسبب إلحاحه على تلبية مطاليبه وتحريكه الشارع الباكستاني؛ فقد بادرت الحكومة إلى اعتقال المودودي وعدد من قادة الجماعة الإسلامية؛ في الوقت الذي كانت بصدد وضع مشروع لدستور باكستان، وكان مشروعاً بعيداً عن الصيغة الإسلامية التي كان يدعو إليها المودودي؛ الأمر الذي دفعه لنقد المشروع بقسوة؛ واصفاً المشروع بأنّه يمهد للدكتاتورية والابتعاد عن الإسلام.

وفي المقابل شكّل المودودي في العام 1951 لجنة خبراء من (31) عضواً من أعضاء الجماعة الإسلامية لتدوين مُسوَّدة دستور إسلامي للبلاد. وكان للمودودي مساهمة أساسية في صياغة مضامين هذا الدستور. إلّا أنّ الحكومة لم تعر اهتماماً لمشروع الجماعة الإسلامية؛ مما دفع الجماعة إلى الاعتراض بشدة؛ فقامت الحكومة باعتقال المودودي للمرة الثالثة، وأصدرت بحقه حكم الإعدام. وما لبثت أن عفت عنه في العام 1955 نتيجة الضغوط الشعبية والدولية. ولو قُدِّر للمودودي أن يُعدم بسبب رفضه الدستور الوضعي وإصراره على الدستور الإسلامي الذي يمهد لدولة الخلافة؛ لكان الضحية الثانية للتوجه الإسلامي المعاصر القائل بالمشروعة (حكم الشريعة) والرافض للمشروطة (حكم الدستور) بعد الفقيه الإيراني الشيخ فضل الله النوري.

لقد أسس الشيخ المودودي فكره الدستوري الإسلامي على عدد من القواعد النظرية التي أصّلها وبلورها، وفي مقدمتها مصدر شرعية الدولة الإسلامية ودستورها وقوانينها، وهي قاعدة (الحاكمية الإلهية) { ﮈ  ﮉ   ﮊ   ﮋ}([26])، والتي تكرِّس فكر الدولة وعقديتها، وكونها دولة العقيدة وليست الدولة الوطنية أو القومية. وعلى أساس تلك القاعدة؛ يكون دور جماعة المسلمين تحويل أحكام الشريعة بنصها إلى دستور وقوانين، ولا يحق لها التشريع ووضع القوانين؛ وإن كانت هناك أكثرية عددية موكّلة من قبل الأُمّة لتشريع القوانين.

وإذا كان المودودي لا يجد إشكالاً شرعياً في تشكيل مجلس شورى للمسلمين على أساس انتخاب أعضائه من الأُمّة، ولكنه يرفض أن يكون للأغلبية اعتبار في التصويت على القوانين، بل إنّ الرأي الأصوب هو الذي يختاره ولي الأمر (الخليفة = الحاكم)؛ وإن صدر عن الأقلية. أي أنّ العمل بمبدأ الأكثرية يعني تطبيق مبادئ الديمقراطية (الشيطانية كما يصفها)، وهو ما يراه المودودي متعارضاً مع نظرية الحاكمية الإلهية. وعليه، يقتصر التقنين على أهل الاختصاص؛ أي الفقهاء، وليس لنواب الشعب أيّ حق في وضع التشريعات؛ بصفتهم الانتخابية. ويعتقد المودودي أنّ نظرية الإسلام في السياسة هي ما أُطلق عليه اصطلاح (الثيوقراطية الإسلامية)، وهي ليست (الثيوقراطية الأُوروبية) التي تعطي للحاكم صفة الأُلوهية أو نيابة الإله؛ ليفعل ما يشاء، بل هي (الثيوقراطية) التي تسير على هدي القرآن الكريم والسنة النبوية([27]).

والحقيقة أنّ ما ذهب إليه الشيخ المودودي في وصف النظام السياسي الإسلامي بـ(الثيوقراطي) يخلو من الدقة، بل هو خطأ منهجي؛ وهو ما وقع فيه الفقيه الإيراني الشيخ حسين علي المنتظري أيضاً([28])؛ لأنّ النظرية الثيوقراطية ليست نظرية دينية، بل هي نظرية وضعية أرضية للحكم السلطاني الاستبدادي المطلق؛ أسس لها الملوك وكهنتهم؛ لتسويغ حكمهم المطلق؛ بصفتهم آلهة أو أبناء للآلهة أو نواب لها على الأرض. صحيح أنّ مصطلح الثيوقراطية وضعه علماء السياسة والقانون في أُوروبا لوصف الأنظمة السياسية الدينية؛ ولكنه ليس نظاماً أُوروبياً، بل نشأ في الشرق، وتحديداً في العراق السومري وإيران الأخمينية واليابان والصين. ونستطيع تفهم الدوافع المنهجية للمودودي في هذا المجال؛ فهو يستحضر دائماً نظام الخلافة في الفقه السلطاني السني في نظرته للنظام السياسي الإسلامي، وهنا قد يكون مصيباً إلى حد ما في وصفه؛ فنظم الخلافة؛ ولا سيّما في أشكالها الأُموية والعباسية والعثمانية؛ هي نماذج للنظم الثيوقراطية الوضعية المتمظهرة بالمسوح الدينية، ولكنها ليست نظماً إسلامية؛ لا في مضامينها النظرية ولا في أدائها([29]).

إنّ المودودي في استحضاره الموروث الإسلامي السلطاني؛ أي دستور الخلافة الإسلامية؛ يتطابق في منهجه ومخرجاته مع الصيغة التي طرحها الشيخ تقي الدين النبهاني بعده بسنتين. وبالمقارنة بين دراسة الشيخ أبي الأعلى المودودي الموسومة «تدوين الدستور الإسلامي» في العام 1951 ودراسة الشيخ تقي الدين النبهاني «دستور دولة الخلافة» في العام 1953؛ نلاحظ مدى التشابه بين الأُطروحتين؛ رغم اعتقادي بأنّ أحدهما لم يطلع على أُطروحة الآخر؛ لأنّهما نشراها في وقت متزامن، ولأنّ المودودي نشر أُطروحته باللغة الأُوردية، والنبهاني بالعربية. ولكن سبب التشابه يعود إلى وحدة المنهج؛ إذ استند كلاهما إلى الموروث الفكري السياسي السلطاني في أُطروحته. وبالتالي فهما صيغتان نظريتان طوبائيتان لا تصمدان أمام الواقع الزماني والمكاني الذي لا يستطيع المسلمون الانفكاك منه مطلقاً؛ إلّا إذا عاشوا في جزيرة نائية معزولة تماماً عن إلزامات القانون الدولي والنظم الدولية السياسية والقانونية. وأُطروحتهما تتماثل في طوبائيتها مع أُطروحة الشيخ فضل الله النوري إذا ما نظرنا إليها بمنظار الواقع الحالي.

9 ـ مشيخة الأزهر:

في العام 1977 أوصى المؤتمر الثامن لمجمع البحوث الإسلامية في القاهرة بأن يقوم الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية بوضع دستور إسلامي ((ليكون تحت طلب أية دولة تريد أن تأخذ بالشريعة الإسلامية منهاجاً لحياتها)). وأن المجمع يرى ((أن تؤخذ في الاعتبار عند وضع هذا الدستور أن يعتمد على المبادئ المتفق عليها بين المذاهب الإسلامية كلما أمكن ذلك)). وفي أعقابه؛ قام شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود بتأليف لجنة عليا ولجان فرعية لهذا الغرض؛ تضم نخبة من علماء الدين والباحثين والقانونيين الدستوريين. وأكملت اللجنة عملها في العام 1978 بتدوين صيغة عامة لدستور إسلامي عصري يتألف من (94) مادة في تسعة أبواب([30]).

واعتمد الدستور المقترح قواعد القانون الدستوري الحديث، ومتطلبات الدولة الوطنية، وصيغة النظام الانتخابي، مع التأكيد على الموروث الاصطلاحي الإسلامي. وهو بذلك يعدّ دستوراً مدنياً يحاول أسلمة المضامين الحديثة، وبناء هيكلية عصرية لدولة مسلمة، وليس دستوراً لدولة إسلامية عقدية. وبالتالي فهو يختلف عن أُطروحتي النبهاني والمودودي، ويقترب من أُطروحة جماعة الإخوان المسلمين.

10 ـ السيد محمد باقر الصدر وحزب الدعوة الإسلامية:

يعدّ الفقيه والمفكر الشيعي العراقي السيد محمد باقر الصدر (1935 ـ 1980) أول فقيه شيعي يقنن أحكام الفقه السياسي الإسلامي، ويحولها إلى أُسس دستور دولة إسلامية خارج المحددات القانونية الوطنية؛ في عصر غيبة الإمام المهدي (وفق عقيدة مدرسة الإمامة). وتتسع هذه الأُسس لمشروع تحرك إسلامي يهدف إلى تأسيس دولة إسلامية أيضاً.

وقد وضع السيد الصدر هذه الأُسس لتكون النظرية الفقهية الفكرية السياسية لحزب الدعوة الإسلامية الذي كان الصدر أبرز مؤسسيه العشرة في العام 1957؛ فهي ـ إذاً ـ أُسس حزب الدعوة الإسلامية التي قام عليها([31])، وتتألف من (31) أساساً؛ نشر منها حزب الدعوة تسعة أُسس فقط.

ويصف الفقيه الشيعي السعودي الدكتور عبد الهادي الفضلي هذه الأُسس بأنّها ((مجموعة من القواعد والمفاهيم الإسلامية المقننة والموثقة… كُتبت بلغة هي إلى لغة القانون أقرب، وبأُسلوب تعبيري هو بالأُسلوب القانوني العلمي ألصق… قُرنت بما يثبت شرعيتها من أدلة فقهية تفصيلية مشروعة… تأتي أهمية هذه الأُسس من ناحية فقهية، وكذلك من ناحية قانونية من أنّها أول مجموعة أُصول للدستور الإسلامي، إذ لم يعهد ـ قبلها ـ أن وضعت أُصول للدستور الإسلامي؛ ذلك أنّ الدول الإسلامية المتعاقبة على مديات التاريخ الإسلامي لم يدوّن فيها دستور إسلامي، فضلاً عن وضع أُسس له وتدوينها، فلم نعثر في الوثائق السياسية التي وصلت إلينا منذ عهد دولة الخلفاء الراشدين في المدينة المنورة حتى نهاية الخلافة العثمانية باستانبول على أعمال فكرية متكاملة تمثل الأُصول للدستور الإسلامي))([32]).

ويذهب الدكتور الفضلي إلى أنّ هذه الأُسس هي قواعد وأُصول دستور حزب الدعوة للدولة الإسلامية التي يهدف إلى إقامتها؛ فالدعوة ((كان أهم هدف لها ـ آنذاك ـ هو إقامة الحكم الإسلامي في العراق، والحكم لا بدّ له من دستور، وأنظمة تنبثق عن الدستور. ومن الطبيعي أنّ الدستور الإسلامي يتطلب وضع أُصول تعتمد في وضعه، ويستند إليها المقننون له حال وضعه، فكان لا بدّ من البدء بها أولاً ثم يأتي دور وضع الدستور. فالدعوة ـ في ضوء ما أشرت إليه ـ كانت بحاجة إلى الدستور، وكان هذا يقتضي أن يسبق بوضع الأُسس له))([33]).

وقد وضع السيد محمد باقر الصدر هذه الأُصول لتكون قمة هرم المنظومة التي نظّر وأصّل لها؛ فهي تسبق نشأة الدستور نفسه، والدستور يسبق منظومات القوانين التفصيلية للدولة. وعلى رغم أهمية هذه الأُصول والقواعد؛ بصفتها التأسيسية التي تشكل منعطفاً في مسيرة الفقه السياسي الإسلامي الشيعي، وقِدمها الذي يعود إلى العام 1959؛ إلّا أنّها لم تحظ بالأهمية التي حظيت بها المحاولات التي سبقتها أو أعقبتها لمفكرين وفقهاء شيعة وسنة. والسبب يعود إلى أنّ هذه الأُسس ظلت حبيسة النشرات الداخلية لحزب الدعوة؛ الذي عاش سرية في فكره الخاص وتنظيماته حتى العام 1979([34]). ولم تخرج هذه الأُسس إلى العلن إلّا في العام 1974، وبشكل محدود في كتاب «مقالات إسلامية» الذي طبعه حزب الدعوة في لبنان، وهو كتاب يحتوي على عدد من النشرات الفكرية الداخلية لحزب الدعوة، وقد كتبت بأقلام عدد من مفكري الحزب ومنظّريه. وبالتالي، لم تحمل تلك الأُصول والقواعد اسم السيد محمد باقر الصدر. ولكنها نشرت باسمه في العام 1981 في الجزء الأول من مجموعة «ثقافة حزب الدعوة الإسلامية».

وقد استند السيد محمد باقر الصدر في الأُسس النظرية الدستورية المذكورة إلى مبدأ الشورى في قيادة حزب الدعوة للعمل الإسلامي ومشروع الدولة الإسلامية؛ بناء على ما كان يعتقده من دلالة آية { ﮞ ﮟ  ﮠ}([35]) على الشورى في الحكم وفي إدارة الدولة الإسلامية. ولكنه عدل عن رأيه الفقهي المبني على الشورى فيما بعد، وتوصل في العام 1979 إلى رأيه الفقهي النهائي الذي بيّنه في أُطروحة دستورية تجديدية رائدة؛ جمع فيها بين مبدأ الشورى في الحكم وولاية الفقيه، والتي تتلخص في كون الأُمّة تمثل خط خلافة الله على الأرض، وأنّ الفقيه (الولي في عصر الغيبة) يمثل خط الشهادة على الأُمّة، وحين تنتخب الأُمّة الفقيه لولايتها ورئاسة الدولة؛ ينتج عنه لقاء بين خط الخلافة وخط الشهادة، وبه تتجسد شرعية الدولة الإسلامية ومشروعية سلطتها. وقد حملت أُطروحته هذه عنوان: «لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية». وفصّلها في دراسة أُخرى حملت عنوان: «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء».

وقد قدّم السيد محمد باقر الصدر هذه الأُطروحة إلى الإمام الخميني في خضم النقاش الذي كان حامياً في إيران وكثير من البلدان الإسلامية حول مُسوَّدة دستور الجمهورية الإسلامية. فجاءت أُطروحة السيد الصدر داعماً أساسياً لنظرية الإمام الخميني بشأن الدستور الإسلامي وقبلياته وأُصوله؛ إذ أصّل الصدر في أُطروحته لأهمية الدستور وموقعه في النظام القانوني للدولة الإسلامية، ودور الولي الفقيه الذي تختاره الأُمّة في قيادة الدولة ونظامها السياسي، وموقع الشريعة الإسلامية في عملية وضع المنظومات القانونية للدولة.

وفي المقدمة النظرية التأسيسية للدستور؛ ربط السيد الصدر بين إرادة الشعب الإيراني في اختيار الإسلام وتحكيم شريعته، وبين نوعية الدستور الذي ينبغي أن تنشئه هذه الإرادة. أي أنّ الدستور الإسلامي ينبغي أن يمثل خيار الشعب عن وعي وقناعة وانتماء، ولا يفرض عليه فرضاً من أية سلطة. وهو ما تحقق بالفعل خلال مرحلتين: الأُولى التي صوّت فيها الشعب الإيراني على خيار (الجمهورية الإسلامية) في الاستفتاء العام، والثانية حين صوّت على الدستور نفسه بعد أن أقرّه مجلس الخبراء، واشترك الشعب لأكثر من ستة أشهر في مناقشة مواده. ولذلك يقول السيد الصدر: ((يؤمن الشعب الإيراني العظيم إيماناً مطلقاً بالإسلام بوصفه الشريعة التي يجب أن تقام على أساسها الحياة، وبالمرجعية المجاهدة بوصفها الزعامة الرشيدة التي قادت هذا الشعب. وعلى أساس هذا الإيمان يقرر الأُمور التالية:

1 ـ إنّ الله سبحانه وتعالى هو مصدر السلطات جميعاً. وما دام الله تعالى هو مصدر السلطات وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعي المحدد عن الله تعالى، فمن الطبيعي أن تحدد الطريقة التي تمارس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الإسلامية.

2 ـ إنّ الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، بمعنى أنّها هي المصدر الذي يستمد منه الدستور وتشرّع على ضوئه القوانين في الجمهورية الإسلامية، وذلك على النحو التالي:

أ ـ إنّ أحكام الشريعة الثابتة بوضوح فقهي مطلق تعتبر بقدر صلتها بالحياة الاجتماعية جزءاً ثابتاً في الدستور؛ سواء نص عليه صريحاً في وثيقة الدستور أو لا.

ب ـ إنّ أيّ موقف للشريعة يحتوي على أكثر من اجتهاد، يعتبر نطاق البدائل المتعددة من الاجتهاد المشروع دستورياً، ويظل اختيار البديل المعين من هذه البدائل موكولاً إلى السلطة التشريعية التي تمارسها الأُمّة على ضوء المصلحة العامة.

ت ـ في حالات عدم وجود موقف حاسم للشريعة من تحريم أو إيجاب، يكون للسلطة التشريعية التي تمثل الأُمّة أن تسن من القوانين ما تراه صالحاً، على أن لا يتعارض مع الدستور.

3 ـ إنّ السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية قد أسندت ممارساتها إلى الأُمّة، فالأُمّة هي صاحبة الحق في ممارسة هاتين السلطتين بالطريقة التي يعينها الدستور.

4 ـ إنّ المرجعية الرشيدة هي المعبر الشرعي عن الإسلام، والمرجع هو النائب العام عن الإمام من الناحية الشرعية، وعلى هذا الأساس يتولى ما يلي:

أ ـ إنّ المرجع هو المثل الأعلى للدولة والقائد الأعلى للجيش.

ب ـ المرجع هو الذي يرشح أو يمضي ترشيح الفرد أو الأفراد الذين يتقدمون للفوز بمنصب رئاسة السلطة التنفيذية. ويعتبر الترشيح من المرجع تأكيداً على انسجام تولي المرشح للرئاسة مع الدستور، وتوكيلاً له على تقدير فوزه في الانتخاب، لإسباغ مزيد من القدسية والشرعية عليه كحاكم.

ت ـ على المرجعية تعيين الموقف الدستوري للشريعة الإسلامية.

ث ـ عليها البت في دستورية القوانين التي يعينها مجلس أهل الحل والعقد لملء منطقة الفراغ.

وفي حالة تعدد المرجعيات المتكافئة من ناحية هذه الشروط، يعود إلى الأُمّة أمر التعيين من خلال استفتاء شعبي عام))([36]).

وقد وردت معظم أفكار السيد الصدر في الدستور الإسلامي الإيراني؛ بعد أن اعتمدها مجلس خبراء الدستور باعتبارها أحد مصادره الأساسية في بناء الهيكل العام لدستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ إذ يقول الباحث الأمريكي “هراير دكمجيان” بأنّ آية الله الصدر يعد ((أحد الآباء الفكريين لدستور الجمهورية الإسلامية، وأنّ آراءه الفكرية والسياسية عملت بشدة على تقوية موقع آية الله الخميني فيما يتعلق بمنصبه كفقيه للحكومة الإسلامية))([37]).

ويدافع الدكتور عبد الهادي الفضلي، وهو أحد مفكري حزب الدعوة خلال ستينات القرن الميلادي الماضي، عن خيار الدستور الإسلامي، ويؤكد ضرورة التأسيس لعلم أُصول الدستور الإسلامي، ويقصد به القانون الدستوري الإسلامي؛ إذ يقول: ((وحيث لم يكن هناك لدى المسلمين التفكير في تدوين دستور إسلامي للدولة الإسلامية القائمة خلال المدة الممتدة من القرن الأول الإسلامي وحتى عصرنا هذا للأسباب التي أشرت إليها، لم يكن لدينا ما يماثل أُصول القانون. أمّا الآن وقد وضع أكثر من دستور إسلامي لأكثر من دولة إسلامية هي الجمهورية الإسلامية في إيران، والمملكة العربية السعودية والجمهورية السودانية؛ أصبحت الحاجة ماسة لوضع علم لأُصول الدستور الإسلامي تكون هذه الأُسس الإسلامية مركزه ومحوره الذي تدور حوله وتنطلق منه؛ ليأخذ هذا العلم مكانه ومكانته في مجالات وحقول الدراسات القانونية))([38]).

وتتطابق نظرية حزب الدعوة في موضوع الدستور مع رأي مؤسسه السيد محمد باقر الصدر؛ حتى بعد العدول عن رأيه في مبدأ الشورى؛ إذ تبنى الحزب نظرية الصدر التي لخّصها في دراسته عن «دستور الجمهورية الإسلامية» ودراسة «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء». ويذهب حزب الدعوة في إحدى نشراته الفكرية الصادرة في العام 1980 إلى أنّ ما يقصده بالدستور الإسلامي ((يشمل ما يلي:

أولاً: التصورات والقوانين العامة التي تشخص الإطار العام للقوانين الحاكمة في الدولة الإسلامية، والتي لها قابلية الثبات؛ أمّا إلى الأبد؛ على أساس أنّها من الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية، أو إلى أمد معتد به؛ على ضوء الظروف المنظورة، على أساس أنّها وإن كانت من منطقة الفراغ التي تملأ وفق الظروف؛ ولكن لوحظت في ملئها ظروف طويلة.

ثانياً: المقررات الهامة الثابتة؛ حتى لو أنّها لم تكن تعين الإطار العام؛ كلون العلم وأمثال ذلك.

كما نصطلح بالقانون على كل ما يوضع من قوانين لا تمتلك الصفة الدستورية الآنفة. وكل مادة من مواد الدستور أو القانون لا يمكن الاستغناء في تحديدها عن آراء الفقهاء؛ يجب أن توضع من قبل الفقيه))([39]).

11 ـ الإمام الخميني والجمهورية الإسلامية الإيرانية:

شكّل ظهور الآراء الفقهية للمرجع الديني الإمام روح الله الخميني (1902 ـ 1989)، في عقد الستينات؛ البداية الحقيقية للنهضة المنهجية في الفقه السياسي لمدرسة الإمامة؛ فكانت المرة الأُولى التي يؤسس فيها أحد الفقهاء لأُطروحة فقهية متكاملة في (الحكومة الإسلامية)، ويدعو الفقهاء ـ صراحة ـ إلى تطبيقها. وقد رأى الإمام الخميني أنّ تأسيس الفقهاء للحكومة الإسلامية وقيادتهم لها ليس خياراً إلى جانب الخيارات الأُخر، بل هو واجب؛ ليتمكن الإسلام ـ من خلالها ـ من أداء رسالته([40]).

ويولي الإمام الخميني الجانب القانوني أهمية أساسية في ضرورات وجود الدولة الإسلامية، ويرى أنّ تطبيق القوانين الإسلامية هي علة وجود الدولة؛ إذ يلخص أدلة وجوب تشكيل الحكومة الإسلامية بما يلي:

1 ـ ضرورة المؤسسات التنفيذية التي من شأنها إخراج التشريعات الإسلامية إلى حيز التطبيق. والحكومة الإسلامية هي التي تنفذ قوانين الشريعة الإسلامية؛ لهذا قرر الإسلام إيجاد سلطة التنفيذ إلى جانب سلطة التشريع؛ فجعل للأمر ولياً للتنفيذ.

2 ـ ضرورة استمرار تنفيذ الأحكام؛ إذ لا تختص أحكام الإسلام بزمان الرسول(ص)، بل إنّها خالدة، ولا بدّ من الاستمرار في العمل بها؛ فلا يجوز تعطيل الحدود والقضاء، وإهمال جباية الأموال الشرعية، وترك الدفاع عن الأُمّة الإسلامية وأراضيها.

3 ـ حقيقة قوانين الإسلام؛ فهذه القوانين شُرعت لتكوين دولة؛ إذ فيها إدارة وفيها اقتصاد وفيها ثقافة، وكل ما من شأنه إيجاد نظام اجتماعي متكامل يسد احتياجات الإنسان. والحكومة هي الكفيلة بإقامة ذلك([41]).

ويؤكد الإمام الخميني خيار الدولة الإسلامية الدستورية، وأن الحكومة الإسلامية ليست مطلقة ولا مستبدة، بل هي مقيدة ودستورية؛ فيقول: ((الحكومة الإسلامية لا تشبه الأشكال الحكومية المعروفة؛ فهي ليست حكومة مطلقة يستبد فيها رئيس الدولة برأيه؛ عابثاً بأموال الناس ورقابهم… فحكومة الإسلام ليست مطلقة، وإنّما هي دستورية، ولكن ليس بالمعنى الدستوري المتعارف الذي يتمثل في النظام البرلماني أو المجالس الشعبية؛ وإنّما هي دستورية بمعنى أنّ القائمين بالأمر يتقيدون بمجموعة الشروط والقواعد المبينة في القرآن والسنة، والتي تتمثل في وجوب مراعاة النظام وتطبيق أحكام الإسلام وقوانينه… ويكمن الفرق بين الحكومة الإسلامية والحكومات الدستورية؛ الملكية منها والجمهورية؛ في أنّ ممثلي الشعب أو ممثلي الملك؛ هم الذين يقننون ويشرعون؛ في حين تنحصر سلطة التشريع بالله عزّ وجلّ في الحكومة الإسلامية، وليس لأحد أياً كان أن يشرّع، وليس لأحد أن يحكم إلّا بما أنزل الله… في حين أنّ الحكومات الدستورية، الملكية أو الجمهورية، إذا شرّعت الأكثرية فيها شيئاً، فإنّ الحكومة بعد ذلك تعمل على أن تحمل الناس على الطاعة والامتثال بالقوة إذا لزم الأمر))([42]).

وتتضح من ثنايا أُطروحة الإمام الخميني طبيعة التحول الأساس الذي خلقه في مسيرة الفقه السياسي الإسلامي الشيعي. ويعتقد كثير من الباحثين السنة أنّ أُطروحة الإمام الخميني فتحت باب التقريب بين الشيعة والسنة، وتحديداً في مجال تأسيس ولاية الحكم ـ في عصر الغيبة ـ على مبدأ البيعة، وعدم حصرها في شكل واحد، وهو الشكل المبني على النص، والخاص بأئمة أهل البيت؛ إذ أدى هذا الحصر إلى تعطيل مساعي إقامة الحكم الإسلامي. كما فتحت الأُطروحة الباب أمام علماء الإسلام الشيعة ليؤسسوا الحكومة الإسلامية على أساس الشورى([43]). ولسنا هنا بصدد مناقشة وجهة النظر هذه، ولكن مما لا شك فيه أنّ الحقائق التي أفرزها واقع التطبيق قد أكّدت إمكانية التقاء النظريتين الفقهيتين المؤصلتين السنية والشيعية في إطار مبدأ (ولاية الفقيه)، وإن اختلفتا في بعض المنطلقات والتفاصيل، ولكن النتائج لدى النظريتين تبقى متقاربة إلى حد كبير([44]).

وتتوضح مواقف الإمام الخميني من موضوع الدستور بشكل كامل خلال فترة اندلاع الثورة الإسلامية في إيران؛ إذ طرح فكرة تدوين دستور مقترح للدولة الإسلامية في إيران بعد الإطاحة بالنظام الشاهنشاهي. وهو بذلك يؤكد مرة أُخرى خيار الحكم الدستوري. ولكنه كان يدعو إلى عدم تكرار أخطاء ثورة المشروطة، وأن يكون الدستور إسلامياً خالصاً؛ مع الأخذ بالاعتبار متطلبات الواقع الإيراني المحلي؛ إذ إنّ واقعية الدستور تعني استجابته لمتطلبات الجغرافيا التي يراد له التطبيق فيها.

وقد وصف الإمام الخميني الدستور في يوم التصويت عليه في أواخر العام 1979 بأنّه: ((أساس الدولة)) و((على رأس القوانين))، وأن ((جميع أفراد الشعب يجب أن يخضعوا له)). وكان خلال فترة تدوين الدستور ومناقشته يرفض بشدة أية تصرفات وأعمال تعرقل مسيرة تدوين الدستور([45])، ويعتقد أنّ موضوع الدستور هي القضية الأساسية بعد نجاح الثورة، وأن مصير الشعب وحقوقه وحريته، وثمرة الثورة، تتمثل في إنشاء دستور الجمهورية الإسلامية([46]).

كما أكد في رسالته إلى مجلس خبراء الدستور على أن يكون ((الدستور وجميع القوانين في هذه الجمهورية على أساس الإسلام مئة بالمئة، وإذا كانت هناك حتى مادة واحدة تتعارض مع أحكام الإسلام؛ فإنّ ذلك يعد مخالفاً للجمهورية الإسلامية وأصوات الشعب الساحقة))([47]). وطالب مجلس الخبراء بأن يكون للدستور الخصائص التالية:

1 ـ حفظ وحماية حقوق ومصالح جميع شرائح الشعب؛ بعيداً عن أي تمييز.

2 ـ استشراف حاجات الأجيال القادمة ومصالحها؛ وفقاً لما تأمر به الشريعة الإسلامية.

3 ـ وضوح وشفافية مفاهيم القانون؛ بالشكل الذي يحول دون التفسير والتأويل الخاطئ.

4 ـ أن يكون نموذجاً ومرشداً للحركات الإسلامية الأُخر([48]).

وكان الإمام الخميني ينظر إلى الدستور بصفته عقداً شرعياً وقانونياً بين أفراد الشعب من جهة، وبين الشعب والمؤسسات الدستورية التي تنبثق عن سلطته من جهة أُخرى. وقد طبّق هذا المبدأ بثلاثة طرق مترابطة زمنياً وموضوعياً، وغير مسبوقة عالمياً:

1 ـ اِستفتاء الشعب استفتاءً عاماً مباشراً على النظام السياسي في البلاد؛ لكي يتم تدوين الدستور وفق خيار الشعب. وقد صوّت الشعب بالأغلبية الساحقة على نظام الجمهورية الإسلامية.

2 ـ اِنتخاب الشعب لأعضاء مجلس خبراء الدستور، وأن لايضم المجلس أي عضو بالتعيين وغير منتخب انتخاباً عاماً من الشعب. وهذا المجلس هو الذي ناقش الدستور وأقره.

3 ـ اِستفتاء الشعب استفتاءً عاماً مباشراً على الدستور.

وهناك مساحات تعارض واشتراك في الموقف من ظاهرة الدستور وتقنين أحكام الفقه السياسي الإسلامي بين الإمام الخميني وغيره من مراجع الدين السابقين والفقهاء والمفكرين الإسلاميين؛ إذ يتعارض موقف الإمام الخميني مع (مشروطة) الآخوند الخراساني والسيد البهبهاني والميرزا النائيني من جهة قبولها بنص الدستور على النظام الملكي الوراثي. ولكنه يشترك معها في خيار الدستور المدوّن والحكم الدستوري المقيد. كما يتعارض الموقف الفقهي للإمام الخميني مع (مشروعة) الشيخ النوري والسيد اليزدي من جهة رفضها للدستور، وقبولها بالحكم الملكي المقيد بالشريعة دون الدستور، ودعوتها للاكتفاء بأحكام الشريعة كدستور وقانون، ولكنه يتفق معها من جهة تأكيدها على أن تكون قوانين الدولة إسلامية خالصة. كما تتعارض نظرية الإمام الخميني مع نظرية السيد الصدر الأُولى (الشورى) ونظرية الشيخ النبهاني في كونهما نظريتين بعيدتين عن إلزامات الواقع، ولكنها تشترك مع النظريتين في التأسيس لدولة إسلامية خالصة مترشحة عن الموروث الفقهي الإسلامي. وربما كان هناك تشابه أكبر مع نظرية المودودي الدستورية أكثر من النظريات والمواقف الأُخر.

أمّا قياساً بنظرية السيد الصدر الثانية (الجمع بين الشورى وولاية الفقيه) ومنهجه في دراسة «لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية» ودراسة «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء» فهناك تطابق كامل مع نظرية الإمام الخميني.

 

 

([1]) هاشمي، د. محمد، «حقوق أساسي جمهوري إسلامي إيران» (القانون الدستوري في الجمهورية الإسلامية الإيرانية)، ط6، نشر ميزان، طهران، 2003، ج1، ص31.

([2]) اُنظر: صابان، سهيل (مصدر سابق)، ص107 ـ 124.

([3]) مدرس جهاردهي، مرتضى، «سيد جمال الدين وأنديشه هاى او» (سيد جمال الدين وأفكاره)، ط4، دار برستو، طهران، 1975، ص97.

([4]) خسروشاهي، السيد هادي، «العروة الوثقى والثورة التحررية الكبرى»، المركز الإسلامي، روما، 1985، ص26.

([5]) اُنظر: الكواكبي، الشيخ عبد الرحمن، «طبائع الاستبداد»، دار الجمل، كولونيا، 2006، ص142.

([6]) ملكزاده، مهدي، «تاريخ انقلاب مشروطيّت إيران» (تاريخ ثورة المشروطة في إيران)، دار ابن سينا للنشر، طهران (د.ت)، ج4، ص209.

([7]) نوري، الشيخ فضل الله، «رساله در حرمت مشروطيت» (رسالة في حرمة المشروطة)، نقلاً عن مهدي ملكزاده (مصدر سابق)، ج1 ص104 ـ 106.

([8]) محمد علي، عبد الرحيم، «المصلح المجاهد الشيخ محمد كاظم الخراساني»، مطبعة النعمان، النجف الأشرف، 1972، ص48.

([9]) المصدر السابق، ص48.

([10]) المصدر السابق، ص51.

([11]) صدر بحث «تنبيه الأُمّة وتنزيه الملة» باللغة الفارسية في العام 1909 في النجف الأشرف وطهران. وقد ترجم إلى اللغة العربية ونُشر لأول مرة في مجلة العرفان اللبنانية في العام 1937. وقد اعتمدنا النسخة الأصلية الفارسية؛ لمزيد الدقة، وهي التي حققها: جواد ورعي. دار نشر دفتر تبليغات إسلامي، قم، 2004.

([12]) المصدر السابق، ص19.

([13]) المصدر السابق، ص19.

([14]) المصدر السابق، ص37.

([15]) المصدر السابق، ص22.

([16]) الشيخ حسين علي منتظري، «دراسات في ولاية الفقية وفقه الدولة الإسلامية»، ط2، المركز العالمي للدراسات الإسلامية، قم، 1409ه، ج1، ص7.

([17]) العنتبلي، أشرف عيد، «رؤية الإخوان للمرجعية الإسلامية للدولة الدستورية والقانونية»،

https://ikhwanwayonl.wordpress.com/2012/02/21ine.

([18]) البنا، حسن، «رسائل الإمام حسن البنا»، دار الفتح، القاهرة، 2012، ص74.

([19]) المصدر السابق، ص256.

([20]) المصدر السابق، ص178.

([21]) اُنظر: العنتبلي، أشرف عيد (مصدر سابق).

([22]) المصدر السابق.

([23]) الترابي، د. حسن، «السياسة والحكم» (مصدر سابق)، ص97.

([24]) المصدر السابق، ص100.

([25]) اُنظر: النبهاني، الشيخ محمد تقي، «مشروع دستور لدولة الخلافة». وحزب التحرير، «مقدمة الدستور أو الأسباب الموجبة له»، و«نقض دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية» (مصدر سابق).

([26]) الأنعام، الآية 57. ويوسف، الآية 40، 67.

([27]) اُنظر: المودودي، أبو الأعلى، «تدوين الدستور الإسلامي»، ص178، من كتاب «نظرية الإسلام وهديه». وللتعرف على آراء المودودي في الفقه السياسي، اُنظر: دراساته المجموعة في كتاب «نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون»، ترجمة: عاصم محمد الحداد، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1969.

([28]) اُنظر: الشيخ حسين علي المنتظري (مصدر سابق)، ج1 ص167.

([29]) قاربنا إشكالية التشابه بين النظم الثيوقراطية والنظام السياسي الإسلامي بمزيد التفصيل في رسالة الماجستير. اُنظر: المؤمن، علي، «النظام السياسي الإسلامي الحديث» (مصدر سابق)، ص56 ـ 78.

([30]) اُنظر: «مشروع الدستور الإسلامي الذي وضعه الأزهر عام 1977م»، مجلة الدعوة، القاهرة، العدد 41 ، أكتوبر 1979، ص22ـ 41. وهذا المشروع قريب في منهجه من أُطروحات فقهاء المشروطة الإيرانية، ومن أُطروحة دستور جماعة الإخوان المسلمين في العام 1952.

([31]) المؤمن، علي، «جدليات الدعوة: حزب الدعوة الإسلامية وجدليات الاجتماع الديني والسياسي»، مركز دراسات المشرق العربي، بيروت، 2017، ص87.

([32]) الفضلي، د. عبد الهادي، «هكذا قرأتهم» (مصدر سابق)، ج2 ص216.

([33]) المصدر السابق، ص218.

([34]) المؤمن، علي، «سنوات الجمر: مسيرة الحركة الإسلامية في العراق»، ط3، المركز الإسلامي المعاصر، بيروت، 2004، ص289.

([35]) سورة الشورى، الآية 38.

([36]) الصدر، السيد محمد باقر، «لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية»، من كتاب «الإسلام يقود الحياة» (مصدر سابق)، ص11.

([37]) اُنظر: المؤمن، علي، «سنوات الجمر: مسيرة الحركة الإسلامية في العراق» (مصدر سابق)، ص276. ودكمجيان، هراير، «الأُصوليات الإسلامية في العالم العربي»، ترجمة: عبد الله الواحد سعيد، دار الوفاء، المنصورة، 1989، ص146 ـ 148.

([38]) الفضلي، الشيخ عبد الهادي، «هكذا قرأتهم» (مصدر سابق)، ص224.

([39])«صوت الدعوة» (النشرة الفكرية الداخلية لحزب الدعوة الإسلامية)، العدد 32، شوال 1400 (آب 1980).

([40]) المؤمن، علي، «الفقه والسياسة» (مصدر سابق)، ص67.

([41]) الخميني، الإمام روح الله، «الحكومة الإسلامية» (مصدر سابق)، ص25 ـ 26.

([42]) المصدر السابق، ص26 ـ 27.

([43]) اُنظر: الشاوي، د. توفيق محمد، «فقه الحكومة الإسلامية بين السنة والشيعة»، منشورات العصر الحديث (د.م)، 1995، ص19، و306.

([44]) المؤمن، علي، «الفقه والسياسة» (مصدر سابق)، ص68.

([45]) محسن خليلي، «بايستگي پديداري قانون أساسي جمهوري إسلامي إيران در ديدگاه إمام خميني» (ضرورة دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية من منظار الإمام الخميني)، مجلة حضور، قم، إيران، العدد 27، ربيع 2000.

([46]) خطابه في 15/6/1979، «صحيفة نور» (مصدر سابق)، ج4، ص432.

([47]) رسالته إلى مجلس الخبراء في 27/9/1979، «صحيفة نور» (مصدر سابق)، ج5، ص570.

([48]) المصدر السابق.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment