مقدمة كتاب جدليات الدعوة

Last Updated: 2024/06/18By

مقدمة كتاب “جدليات الدعوة: حزب الدعوة الإسلامية وجدليات الاجتماع الديني والسياسي”

تأليف: علي المؤمن

حين برز اسم حزب الدعوة الإسلامية بعد العام 2003 كأحد أبرز الأحزاب الحاكمة في العراق، كثر الحديث عنه في الأوساط البحثية والصحفية والإعلامية، بصورة غير مسبوقة؛ وصدرت في هذه الفترة عشرات الكتب والدراسات العربية والإيرانية والأمريكية والبريطانية والفرنسية التي درست تاريخه ومسيرته وسلوكه. ولكن وجود المصادر المتعارضة والمعلومات غير الصحيحة وغير الدقيقة الأخرى، جعل معظم ما كتب يثير إشكاليات وتساؤلات حول الحزب أكثر من كونه يقدم مقاربات حقيقية وإجابات.

وظلت غالبية الإشكاليات تدور حول تاريخ تأسيس الحزب، ومؤسسيه، وطبيعة انتشاره وعبوره لحدود العراق باعتباره حزباً عالمياً، وعلاقته بالموضوع المذهبي والطائفي، أو ما يعرف بالعبور على المذهبية، والتحولات في الفكر التنظيمي والسياسي للحزب، والانشقاقات التي أدت إلى تقسيم التنظيم والدعاة، وتنظيمات حزب الدعوة غير العراقية وأسباب انهيارها، وممارسة الكفاح المسلح في مرحلة المعارضة، وسلوك «الدعوة» والدعاة داخل العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، وتحول الدعاة إلى مسؤولين وحاكمين في الدولة العراقية.

وتزامن هذا مع إثارة الأحزاب والجماعات العراقية؛ سواء المنافسة داخل العملية السياسية في العراق الجديد، أو المعارِضة للعملية السياسية، أو الإعلام العربي المعارض لنظام العراق بعد العام 2003؛ معلومات دعائية عن حزب الدعوة، لعبت دوراً مهماً في رفع منسوب الإشكاليات والتساؤلات.

وساهمت مقولات ومذكرات بعض الدعاة الأوائل – ممن انشقوا عن الحزب أو خرجوا على نظريته، ودخلوا في حالات تعارض مع قيادات الحزب أو منهجه ـ؛ في تراكم الحالة الضبابية على مسيرة الحزب؛ لأنها مقولات – في التقويم الأكاديمي – تتسم بالإسقاطات الشخصية غالباً؛ فضلاً عن أن كثيراً من «الدعاة»، من خارج التنظيم وداخله، برزت لديهم أيضاً إشكاليات فكرية وسياسية، ترتبط بأداء حزب الدعوة بعد استلام السلطة، وعلاقة هذا الأداء بالفكر الإيماني والتربوي والعقائدي والتنظيمي والسياسي للحزب؛ وهي إشكاليات يرون في صلبها تعارضاً بين هذا الأداء والسلوك من جهة، ونظرية حزب الدعوة وفلسفة وجوده من جهة أخرى(1).

ومن هنا؛ وجدت أن الأمانة العلمية والمسؤولية التاريخية تدفعاني للكتابة حول هذه الإشكاليات والجدليات، ومحاولة تقديم مقاربات موضوعية حولها؛ زعماَ مني بأنني بقيت ألاحق جدليات الدعوة لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً دون انقطاع، وأدرسها وأتعمق فيها. وأزعم أيضاً أنني استطعت تفكيك ومقاربة معظمها. وكانت باكورة نتاجاتي مقالات نشرتها في العام 1983، ثم دراسات نشرتها في أواسط الثمانينات ونهاياتها، ثم ثلاثة مؤلفات كبيرة؛ أولها «سنوات الجمر» الذي صدر في العام 1993، واستغرق العمل فيه أكثر من سبع سنوات، ويعالج الفترة من 1957 وحتى 1986 (ثلاثون عاماً). وبالرغم من أن عدد صفحات «سنوات الجمر» في طبعته الثالثة جاوز الـ (700) صفحة؛ إلا أن المادة التي تجمعت عندي خلال الإعداد للكتاب؛ تشتمل على ملفات ووثائق ومقابلات ومعلومات وتحليلات؛ جاوزت خمسة آلاف صفحة. والكتاب الثاني «سنوات الرماد»، ويعالج الفترة من 1987 وحتى 2002 (ستة عشر عاماً)، والثالث «سنوات الحصاد»، ويعالج الفترة من 2003 وحتى 2006 (أربع سنوات). أي أن المجلدات الثلاثة تدرس نصف قرن من تاريخ الحركة الإسلامية العراقية(2)؛ إضافة إلى تسع دراسات متسلسلة تحت عنوان: «حزب الدعوة الإسلامية من الشروق إلى السطوع»(3)، وأربع دراسات بعنوان: «متلازمات حزب الدعوة الإسلامية»(4)، ودراستين عن الإمام السيد محمد باقر الصدر(5)، ورواية بعنوان: «عروس الفرات» وعشرات المقالات التي نشرتها في الصحف العراقية والعربية؛ سواء باسمي الحقيقي أو بأسماء مستعارة، إضافة إلى كتابين أقوم بالإعداد لهما حالياً؛ الأول تحت عنوان: «الحركية الشيعية العالمية»؛ وهو يكشف لأول مرة أسرار وحقائق تنظيمات حزب الدعوة غير العراقية، ولاسيما في لبنان وإيران والبحرين والكويت وأفغانستان. والثاني تحت عنوان «رزية 2014 العراقية» حول ملابسات ما بعد الانتخابات النيابية في العام 2014، التي أدت إلى سحب نوري المالكي ترشيحه لرئاسة الحكومة، وما أعقبه من تصدع في حزب الدعوة خلال العامين 2015 و2016. مع الإشارة إلى أن مناهج هذه الكتب والدراسات متنوعة، وتكمل بعضها الآخر؛ فمنهج «سنوات الجمر» هو وصفي تحليلي يميل إلى التدوين التاريخي؛ أما الكتابين اللاحقين به «سنوات الرماد» و«سنوات الحصاد» فمنهجهما شمولي، اعتمدت فيه تركيباً من المنهج الوصفي التحليلي والمنهج المعياري والمنهج المقارن. ولعل هذا المنهج ونوعية المعلومات وطبيعة المادة والتحليل والتقويم، هي بالمجمل لا تزال تحول دون نشري هذين الكتابين؛ بالرغم من أنني انتهيت من إعداد الأول في العام 2005، والثاني في العام 2009، ولا أزال أتابع أية مادة ومعلومة وتحليل له علاقة بالمرحلتين. ولكني سأرجئ نشرهما إلى وقت يسمح فيه الواقع ويتحمل ما ينشر. وقد ذكرت جزءاً من أسباب عدم نشرهما في مقدمة الطبعة الثالثة من كتاب «سنوات الجمر». في حين أن منهج كتاب «جدليات الدعوة» يعتمد مناهج علم الاجتماع في فروعه الديني والسياسي والثقافي، أي الدراسة الوصفية التحليلية المعيارية للظواهر التي رافقت مسيرة حزب الدعوة الإسلامية.

وفضلاً عن مؤلفاتي ودراساتي الخاصة حول حزب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية العراقية والحركات الإسلامية في كثير من البلدان العربية والإسلامية؛ فإن مراجعات كثير من الباحثين؛ عراقيين وغير عراقيين؛ ممن يريدون الكتابة عن حزب الدعوة الإسلامية والحركات الإسلامية العراقية، وكذلك مرحلة ما بعد العام 2003 في العراق، والحركات الإسلامية غير العراقية؛ كانت دافعاً آخر للمتابعة الدقيقة إلى مستوى اكتشاف المعلومات والمعطيات التفصيلية التي قد لا تنفع أحداً، سوى باحثين حفريين وصحفيين فضوليين وكوادر إسلاميين معدودين. وقد قدر لي بعد إقامتي في لبنان، أن أكون مصدراً معلوماتياً وتحليلياً لعدد من أطاريح الدكتوراه والماجستير حول الحركات الإسلامية وحزب الدعوة وبعض مؤسسيه وقادته؛ عراقيين وغير عراقيين، وعن مرحلة العراق الجديد؛ من بينها أطروحة دكتوراه للمستشرق الألماني «فلوريان» عن حزب الدعوة، ناقشها في العام 2012. وكذلك أطروحة دكتوراه للياباني «داي ماو» نشرت في العام 2010. ولا يزال هناك إشراف علمي ومنهجي على طلبة وباحثين من العراق وإيران ولبنان والبحرين يكتبون عن حزب الدعوة الإسلامية (بلغ عددهم تسعة طلبة وباحثين خلال العام 2015) يدرسون في الجامعات العراقية والإيرانية واللبنانية والبريطانية.

وهذا يدل على أهمية مسيرة حزب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية الشيعية على كل المستويات؛ الدينية والفكرية والسياسية والاجتماعية؛ ليس على الصعيد العراقي والشيعي وحسب، بل على صعيد تحولات المنطقة الإسلامية برمتها؛ وأنها تستحق المزيد من البحوث والدراسات والمؤلفات المعمقة؛ وهو ما يترشح باستمرار من نتاجات الباحثين والأكاديميين العرب والشرقيين والغربيين.

وأنقل هنا نموذجاً يعكس أهمية موضوع حزب الدعوة خصوصاً والحركة الإسلامية الشيعية بعد العام 2003 عموماً. فقد نشر الباحث والمؤرخ الدكتور رسول جعفريان تقريراً عن ندوة شارك فيها في جامعة طوكيو في اليابان في العام 2007، ذكر فيه آراء حول الموضوع العراقي للبروفسورة اليابانية المستعربة «آساكي» الأُستاذة في جامعة طوكيو، التي تقول: إنها درست الواقع العراقي بعمق، وركّزت في دراساتها على حزب الدعوة لأهميته، وإن مصادرها الأساسية كانت كتابات الباحث علي المؤمن، ولاسيما كتاب «سنوات الجمر». كما أشار جعفريان إلى اهتمام الباحثين الأكاديميين اليابانيين المتخصصين في الشؤون الإسلامية وقضايا الشرق الأوسط بالحركات الإسلامية الشيعية، وفهمهم الموضوعي القريب للواقع لها(6).

وحين ندرس الإشكاليات والجدليات ونفككها ونقوّمها وننقدها، ثم نعالجها، فإننا نلتصق بالموضوع وليس بالخلفيات والانتماءات، أو بسلوك قيادات الجماعة وأفرادها، أو الأحداث اليومية التفصيلية؛ لأن القيادات والأفراد عرضة للتغيير، وأن شكل الأحداث التفصيلية ومضامينها تتغير باستمرار أيضاً؛ بينما تبقى المسيرة بكلياتها الفكرية والاستراتيجية والتطبيقية قائمة.

هناك إشكالية مهمة تواجه الباحث عند الكتابة عن حزب الدعوة الإسلامية وغيره من الجماعات التي عاشت السرية في مراحل تأسيسها وانتشارها وجهادها؛ إذ عاشت «الدعوة» منذ تأسيسها في العام 1957 وحتى العام 1979 مرحلة مغلقة وشديدة السرية؛ فكان علينا اعتماد الشهود في كثير من المفاصل التي ندونها؛ وحينها نواجه بإشكالية أكبر، تتمثل في تعدد زوايا نظر الشهود على الأحداث، وتعدد قراءاتهم. وهنا ينبغي الأخذ بنظر الاعتبار أن كل شاهد على تلك المرحلة ينظر للأمور من زاويته؛ الأمر الذي يجعل كثيراً من الأمور ملتبسة، حتى على قدامى الدعاة؛ فكل شاهد على تاريخ حزب الدعوة وأحداثه ومراحله ينظر من خلال مشاهداته الحسية ومن طبيعة دوره وارتباطاته ومسؤولياته التنظيمية؛ وكثيراً ما تكون هذه المشاهدات مبتورة، بالنظر لطبيعة سرية التنظيم وفعالياته والتغييرات الدائمة في أساليب العمل وفي المسؤوليات، ومحدودية العلاقات بين الدعاة وعدم انكشافهم على بعضهم مهما بلغت مستوياتهم التنظيمية، وانقطاع خيوط بعض التنظيمات، ثم التئامها بطريقة لا مركزية ودون علم القيادة. فمثلاً في بدايات اشتغالي – في أوائل ثمانينات القرن الماضي – على تاريخ «الدعوة» ومسيرتها؛ كنت أصطدم بالمعلومات المتعارضة – أحياناً – التي ينقلها لي كوادر وقياديون في حزب الدعوة. ولكن بمرور السنين تعودت التعارض، ولعلي اكتشفت شيفرته؛ ما يجعلني أعد كل ما ينقله «الدعاة» الشهود من كوادر وقياديين صحيحاً؛ ولكن كل من موقعه وزاوية نظره ودوره ومشاهداته ومسؤولياته؛ وهو ما ينسحب أيضاً حتى على ملابسات التأسيس والسنوات الأولى من عمر «الدعوة». وكان مظهر هذا الواقع السري الحديدي هو عدم وجود أرشيف لحزب الدعوة يعتمد عليه في تدوين تاريخه ومسيرته وأسماء قيادييه ولجانه، يوما بيوم أو شهراً بشهر أو حتى سنة بسنة. ومن هنا ضاعت كثير من الحقائق؛ وبقي الخيار الوحيد يتمثل في الاعتماد على ذاكرة الشهود؛ وهي ذاكرة تتعرض للتصدع حيناً، فتولِّد النسيان والخلط؛ أو ترتكز على زاوية النظر الشخصية حيناً آخر؛ أو تلوذ بالصمت حيناً ثالثاً؛ لأسباب ترتبط بالظروف والمصالح العامة والخاصة(7).

وقد جرت في إيران في ثمانينات القرن الماضي محاولة قادها اثنان من مؤسسي حزب الدعوة الإسلامية، وهما: السيد حسن شبر ومحمد صالح الأديب، لتدوين تاريخ «الدعوة». وترشحت عن هذه المحاولة بعض المقالات والمذكرات والكتب غير الرسمية(8)؛ ولكن المشروع الرسمي لم ير النور في النهاية.

في هذا الكتاب «جدليات الدعوة» وكتبنا اللاحقة(9) عن حزب الدعوة الإسلامية خصوصاً والحركة الإسلامية العراقية عموماً؛ سنقارب مجموعة من الإشكاليات والجدليات الأساسية؛ التي ترتبط غالبيتها بموضوعات الاجتماع الديني والسياسي؛ أهمها:

1 – الخلفيات التاريخية والحاجة الواقعية لإيجاد حراك تأسيسي في الوسط الشيعي العراقي وغير العراقي، وهو ما نتج عنه انبثاق فكرة حزب الدعوة الإسلامية، ومراحل تأسيسه، ومؤسسيه، ودعاته الأوائل، ولاسيما الفترة الممتدة حتى العام 1965، وخروج بعضهم من التنظيم، وخروج آخرين على النظرية، ومساحات الانتشار الجغرافي للحزب في سنواته الأولى، سواء داخل العراق أو خارجه، أو في أوساط الحوزات العلمية والجامعات.

2 – التحولات في الفكر الفقهي والعقدي والسياسي والتنظيمي لحزب الدعوة وسلوكه الحركي، وعلاقة ذلك بالحواضن الاجتماعية، كالعوائل والمدن والمجتمعات الحضرية والريفية؛ وأيضاً علاقته بفكر القيادات التي تسلمت زمام الحزب وسلوكياتهم وانتماءاتهم الاجتماعية وتخصصاتهم الدراسية. وقد توزعت هذه التحولات على سبع مراحل، كان هناك قيادي أو اثنان الأكثر تأثيراً فيها، وهي:

أ – مرحلة السيد محمد باقر الصدر النجفية (1957 – 1961)؛ التي مثّلت مرحلة التأصيل الفقهي والعقيدي لنظرية حزب الدعوة.

ب – مرحلة السيد مرتضى العسكري البغدادية (1961 – 1963)؛ التي مثّلت مرحلة الشد والجذب بين مبدأ قيادة علماء الدين وقيادة المثقفين.

ت – مرحلة الثنائي عبد الصاحب دخيل ومحمد هادي السبيتي البغدادية (1964 – 1971)؛ وشهدت تحولاً في طرح «الدعوة» من قيادة في الأمة إلى قيادة للأمة.

ث – مرحلة محمد هادي السبيتي المهجرية (1972 – 1979)؛ التي مثّلت الانفتاح المذهبي والتبلور الفكري والبناء التنظيمي الحديدي.

ج – مرحلة الشيخ محمد مهدي الآصفي الإيرانية (1980 – 1992)؛ التي شهدت تبني الحزب مبدأ ولاية الفقيه العامة ومبايعة مصداقها.

ح – مرحلة الدكتور إبراهيم الجعفري الأوربية ثم العراقية (1993 – 2007)؛ التي تميزّت بالتوقف الفكري والانفتاح السياسي.

خ – مرحلة نوري المالكي العراقية (2007 – …)؛ التي تركزت على غلبة فكر الحكم وممارسته على الفكر الدعوي.

3 – انشقاقات حزب الدعوة، وعلاقة ذلك بمجموعة من العوامل؛ أهمها: طبيعة القيادة الجماعية ونوعية الهيكلية التنظيمية، وتأثير الفكر التربوي للدعوة على الدعاة، وأساليب صقل شخصياتهم كـ (قادة للأمة) كما يؤكد فكر «الدعوة»، وخلق حالة المسؤولية لديهم تجاه «الدعوة». إضافة إلى العامل الخارجي المهم، الذي برز بعد قيام الجمهورية الإسلامية في إيران.

4 – الأداء الحكومي والسياسي والتنظيمي والثقافي لحزب الدعوة الإسلامية وسلوك أعضائه بعد سقوط نظام صدام حسين في العام 2003، ومدى انسجام ذلك مع فلسفة حزب الدعوة ونظريته الايديولوجية وفكره العقدي والسياسي تحديداً. وهذه الإشكالية يطرحها «الدعاة» غالباً، سواء المنتظمون (الدعاة الذين لهم علاقة تنظيمية بالحزب) أو المنقطعون (الدعاة الذين تركوا الحزب تنظيمياً، ولكنهم ملتزمون به منهجياً). وهي أهم إشكالية في تاريخ الحزب منذ تأسيسه وحتى الآن.

5 – إمكانيات التجديد في نظرية حزب الدعوة الإسلامية، والمواءمة الموضوعية بين «الحزب السياسي» و«الدعوة الدينية» في مرحلة الحكم؛ أي: حزب الدعوة كحزب سياسي، والدعوة الإسلامية كمنظومة عقائدية تبليغية؛ وذلك بسبب بروز إشكالية تقول: إن «الحزب» بعد العام 2003 نما على حساب «الدعوة»؛ مما أدى إلى ارتفاع منسوب «الحزب» وانخفاض منسوب «الدعوة».

6 – إمكانيات استعادة حزب الدعوة الإسلامية منظومته العالمية، وإعادة بناء تنظيماته وأقاليمه ومناطقه غير العراقية داخل البلدان الأُخرى، كما في مرحلة ما قبل العام 1984؛ سواء بأسماء أخرى أو بالاسم نفسه؛ مستفيداً من وجوده في السلطة ومن إمكانياته الجديدة الفاعلة؛ ليشكل ذلك دعماً متبادلاً لكل وجودات الحزب؛ وصولاً إلى دخولها العمل السياسي العلني وحصولها على التراخيص الرسمية.

7 – علاقات حزب الدعوة الإسلامية – في جانبها النظري والتطبيقي – بالمنظومة الدينية الشيعية، وتحديداً المرجعية النجفية وحوزتها التاريخية من جهة، ومبدأ ولاية الفقيه ومصداقه من جهة أخرى؛ لأن هذه العلاقات من أساسيات موقف «الدعوة» الفكري، وما يترتب عليها من جدليات كثيرة؛ والتي بدأ بعضها مع نشوء الحزب، ثم تحولت إلى قضية القضايا بعد انتقال قيادة «الدعوة» ومعظم كوادرها وعملها المركزي إلى إيران بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية. أي أن مبدأ العلاقة وتطبيقاته بين حزب الدعوة والمنظومة الدينية الشيعية، سيبقى بالغ التأثير في قوة حزب الدعوة وضعفه.

إن هذا الكتاب يكمل مؤلفاتي ودراساتي وأعمالي السابقة عن الحركة الإسلامية العراقية(10)، مع اختلاف في المنهج – كما ذكرت سلفاً ـ؛ لأن هذا الكتاب لا يؤرخ إلى مراحل ويحللها؛ بل يطرح الإشكاليات والجدليات التي رافقت حزب الدعوة ويفككها ويقاربها موضوعياً، منذ انبثاق فكرته في العام 1956، وحتى حكومة حيدر العبادي، وتحديداً أواسط العام 2016.

وحزب الدعوة؛ كغيره من الجماعات الايديولوجية الشمولية؛ هي ظاهرة اجتماعية مركبة، وليس كالجماعات السياسية الصرفة التي تخضع لمناهج علم الاجتماع السياسي. فحزب الدعوة هو حزب ديني سياسي ثقافي؛ أي ظاهرة اجتماعية دينية سياسية ثقافية. وبذلك تحتاج دراسته إلى منهج مركب؛ يجمع بين مناهج الاجتماع السياسي والديني والثقافي. وهو المنهج الذي استخدمته في هذا الكتاب.

وتتوزع موضوعات الكتاب على ستة فصول ومجموعة من الملاحق. يحمل الفصل الأول عنوان: «بدايات الدعوة وجدلية الاجتماع الديني الشيعي»، وتم تكريسه لبحث الخلفيات التاريخية والفكرية والسياسية والاجتماعية لتأسيس حزب الدعوة، ومسارات التأسيس ومشاكله وملابساته النظرية والاجتماعية، وشخصيات المؤسسين والدعاة الأوائل وانتماءاتهم الوطنية والاجتماعية، وتأثير ذلك في تحديد نظرية حزب الدعوة ومساراته العملية.

واستعرض الفصل الثاني الذي حمل عنوان: «نظرية حزب الدعوة الإسلامية وجدليات التطبيق»؛ المفاصل الأساس في نظرية حزب الدعوة وفكره وثقافته، وكشف عن ملابسات الفصام بين بعض المفاصل النظرية وسلوك الحزب والدعاة، ودرس المرتكز الأساس في نظرية حزب الدعوة؛ أي المرتكز الديني العقيدي الايديولوجي، وما لحق به من إشكاليات بعد العام 2003، ومشاركة الحزب في حكم دولة غير إسلامية وفي إطار مبدأ وضعي (الديمقراطية) وفي ظل احتلال أجنبي.

وفي الفصل الثالث: «جدلية الوطنية والعالمية في نظرية الدعوة»؛ قاربنا المرتكز العالمي في نظرية حزب الدعوة، الذي يستند إلى عالمية الإسلام في البعد النظري، وعالمية النجف الأشرف في البعد الواقعي؛ لانتماء «الدعوة» إلى مدرسة النجف الأشرف في مجالي الاجتماع الديني والاجتماع السياسي. إضافة إلى ما آل إليه التنظيم العالمي للحزب بعد العام 1982.

وفي الفصل الرابع: «جدلية علاقة حزب الدعوة الإسلامية بالمرجعية الدينية وولاية الفقيه»؛ درسنا العلاقة الجدلية بين نظرية حزب الدعوة وواقعه التطبيقي وبين مبدأي المرجعية الدينية وولاية الفقيه ومصاديقهما النجفية والإيرانية؛ كونها جدلية وليست إشكالية؛ وإن كانت جدلية ملتبسة.

وفي الفصل الخامس: «جدلية الانشقاقات في حزب الدعوة الإسلامية»؛ تم التركيز على ظاهرة الانشقاقات في حزب الدعوة وأسبابها. واستعرض الفصل أهم الانشقاقات في مسيرة حزب الدعوة؛ مع التركيز على هاجس انشقاق السلطة في آب/اغسطس من العام 2014؛ والذي لو كان قد حدث لدمّر معه العراق والشيعة وحزب الدعوة.

وحمل الفصل السادس عنوان: «العراق المأزوم وموقع حزب الدعوة الإسلامية في جدلية الحل»، ويتعرض إلى حقائق أزمات العراق المتأصلة في تاريخه السحيق وديمغرافيته وجغرافياه، وفي موضوعات علم النفس الاجتماعي، والاجتماع الثقافي والسياسي. وهي الأزمات التي ساهم في كشفها صراع حزب الدعوة مع واقع الدولة العراقية منذ العام 1958، ثم تفجرت بشدة بعد سقوط نظام صدام في العام 2003، على شكل براكين ذات قوة تدميرية هائلة: طائفية وعنصرية وإرهابية وسياسية وخدماتية واقتصادية وثقافية وإدارية وجغرافية. وهي أزمات لا علاقة لها بنظام صدام أو التغيير الذي حصل في العام 2003 وحسب، بل هي أزمات متجذرة في التاريخ والواقع العراقيين؛ ولم يكن نظام صدام سوى مظهر فاقع ومولد لهذه المظاهر، وفي الوقت نفسه قوةٍ كاتمةٍ وخانقةٍ لها. ويبحث الفصل أيضاً في إمكانيات حل هذه الأزمات بالطرق العلمية والواقعية.

وجاءت الملاحق بعد نهاية الفصول؛ لتكمل المادة البحثية للكتاب؛ إذ احتوت على بعض الوثائق والكتابات ذات الصلة بموضوعات الكتاب، والتي تكمل مقارباته وتزيدها وضوحاً.

ختاما؛ً خالص الشكر لكل الأحبة الذين ساهموا في دعم فكرة الكتاب، ومراجعته، ودفع الباحث لتحويل مواده إلى هذا الكتاب الذي أضعه بين أيدي القراء الكرام.

ومن الله التوفيق

علي المؤمن

بيروت في 15 آب/اغسطس 2016

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إحالات المقدمة

(1) يمكن في هذا المجال مراجعة ما كتبه القيادي السابق في حزب الدعوة الإسلامية الشيخ علي الكوراني؛ ولاسيما كتيباته «تجربتي إلى طالب علم» و«مسائل في البناء الفكري» و«حزب الدعوة نسخة من الإخوان المسلمين»، والتي لا يقتصر فيها الشيخ الكوراني على مهاجمة نظرية حزب الدعوة، بل يتعداه إلى مهاجمة منهج السيد محمد باقر الصدر الفكري، واتهامه بالتسنن والتأثر بالفكر الحركي السني. وسبق أن أشرنا إلى أن هذا التحول المفاجئ في فكر الشيخ الكوراني طرأ مباشرة بعد العام 1981؛ بعد عزله عن قيادة «الدعوة» خلال الانتخابات القيادية التي جرت خلال مؤتمر الشهيد الصدر العام الذي عقده حزب الدعوة في العاصمة الإيرانية طهران.

راجع أيضاً ما أملاه أحد مؤسسي حزب الدعوة السيد طالب الرفاعي في كتابه «أمالي الرفاعي» الذي أعده رشيد الخيون، وفيه روايات عن تأسيس الحزب ومسيرته تتعارض في زاوية النظر مع الرواية التي يجمع عليها باقي المؤسسين، والتي سمعتها سماعاً مباشراً ودوّنتها في بعض كتبي ودراساتي. كما أنها تتعارض مع ما أثبته الحزب رسمياً في أدبياته التاريخية.

انظر كذلك إلى ما كتبه أمين عام «حركة الدعوة الإسلامية» عز الدين سليم فيما يتعلق بمسيرة حزب الدعوة بعد العام 1981؛ وتحديداً بعد الانشقاق الذي انتهى إلى تأسيس «حركة الدعوة الإسلامية» في العام 1983.

(2) علي المؤمن، سنوات الجمر، ط3، المركز الإسلامي المعاصر، بيروت، 2004.

(3) نشرت في جريدة المواطن البغدادية خلال العام 2011، ونقلها كثير من مواقع الإنترنت والصحف الإلكترونية.

(4) نشرت في جريدتي المواطن والصباح (البغداديتين) بدءاً من آب/أغسطس من العام 2014، ونقلتها كثير من مواقع الإنترنت والصحف الإلكترونية.

(5) نشرت صحيفة الجهاد دراسة «الجهاد السياسي للإمام الشهيد محمد باقر الصدر»،1990، ونشرت مجلة التوحيد دراسة «تكامل المشروع الحضاري للإمام محمد باقر الصدر»، العدد 98، للعام 1998، ودورية النجف، العدد الأول للعام 2015. كما نشرت دراسة «تكامل المشروع الحضاري للإمام محمد باقر الصدر» ضمن مطبوعات المؤتمر العالمي للإمام الشهيد محمد باقر الصدر.

(6) تقرير زيارة الشيخ رسول جعفريان إلى اليابان منشور كدراسة في مجلة حكومت إسلامي، 2005.

(7) راجع ما ورد في الإحالة رقم (1).

(8) في مقدمها موسوعة السيد حسن شبر عن «حزب الدعوة الإسلامية» في أربعة مجلدات، طبعة دار العارف في بيروت، 2012.

(9) كتابنا اللاحق يحمل عنوان «الحركية الشيعية العالمية: حزب الدعوة الإسلامية في لبنان والكويت والبحرين أنموذجاً»، ويركز على موضوع العالمية في فكر حزب الدعوة الإسلامية وتنظيماته المنتشرة جغرافياً عبر الحدود الدولية للبلدان التي يتواجد فيها أتباع مذهب أهل البيت. ويتضمن أسراراً وحقائق تنشر لأول مرة عن التنظيم العالمي لحزب الدعوة. وسيليه كتابنا الآخر تحت عنوان: «رزية 2014 العراقية: الإطاحة بنهج نوري المالكي».

(10) أهمها: كتاب «سنوات الجمر» (مطبوع)، كتاب «سنوات الرماد» (مخطوط)، كتاب «سنوات الحصاد» (مخطوط)، كتاب «صدمة التاريخ» (مطبوع)، سلسلة دراسات «حزب الدعوة الإسلامية من الشروق إلى السطوع» (مطبوعة في تسع حلقات)، سلسلة دراسات «متلازمات حزب الدعوة الإسلامية» (مطبوعة في أربع حلقات)، رواية «عروس الفرات» (مطبوعة)، كتاب «جدليات الدعوة» (بين يدي القارئ)، ودراسات عن الملف السياسي في سيرة السيد محمد باقر الصدر، وعشرات المقالات؛ فضلاً عن كتب ودراسات صدرت بأسماء مستعارة أو بدون اسم في الثمانينات وبعد العام 2003.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment