مقدمة كتاب القرن العشرون مائة عام من العنف

Last Updated: 2024/06/18By

مقدمة كتاب “القرن العشرون: مائة عام من العنف”

تأليف: علي المؤمن

ودّعت البشرية القرن العشرين الميلادي، وهي لا تزال تعيش آثاره ومساراته. ورغم استشعارها أهمية هذا القرن وما يمثله من منعطف رئيس في تاريخها الطويل، فإن البشرية ستزداد وعياً بهذه الأهمية بمرور الزمن، أي بعد أن تصحو من الصدمات التي تسببها هذا القرن، وهي صدمات كبيرة في حجمها ومركّزه في نوعيتها.

من هنا فإن دراسة القرن العشرين بأحداثه السياسية المصيرية، وقفزاته العلمية الكبرى، وحروبه المتفردة في خسائرها ومساحاتها، وايديولوجياته وأفكاره المتميزة بعمقها وسرعة انتشارها، تحظى بعناية بالغة بالنسبة للمؤرخين وفلاسفة التاريخ وعلماء اجتماع الحضارات والباحثين المستقبليين.

لا شك أن القرن العشرين مثّل أهم مرحلة تحوّل مرت بها البشرية في تاريخها، فما شهده هذا القرن من أحداث ومواقف على الصعد: الفكرية، السياسية، الاستراتيجية، الاقتصادية التكنولوجية، العلمية وغيرها، يفوق في حجمه ونوعه كل ما شهده التاريخ الإنساني حتى الآن. فقد كان ورشةً لصناعة كل جديد، فهو قرن حاكمية الأفكار والعقائد والقوانيين، وقرن الحروب، وقرن التحول في الجغرافية السياسية، وقرن الاختراعات والاكتشافات، وقرن الثورات الشعبية والانقلابات العسكرية، وقرن التكتلات العالمية. وهو في النهاية قرن العباقرة الذين غيروا وجه التاريخ بقيادتهم السياسية والعسكرية، وباكتشافاتهم واختراعاتهم وإبداعاتهم وبأفكارهم. وعلى هذا الأساس فإن القرن العشرين سيظل مبدأ التحول الشامل في حياة الإنسان، وستبقى جذور التحولات التي ستشهدها القرون القادمة ضاربة في القرن العشرين.

أما فيما يرتبط بموضع أحداث القرن العشرين الذي تدور حوله هذه الدراسة، فقد تم التركيز على الأحداث السياسية، أو الأحداث ذات المضمون السياسي، أياً كانت أبعادها وخلفياتها. ومرد التركيز على الحدث السياسي – كما هو الحال في معظم الدراسات التاريخية – استمرار المعادلة التي ظلت تحكم الواقع الإنساني عبر القرون، وهي معادلة القدرة والسلطة؛ فقد حاولت السياسة توظيف كل شيء لخدمتها: الفكر، المال، السلاح، العلم، التكنولوجيا، بل وحتى الفن والرياضة. ورغم أن السياسة فشلت في بعض محاولاتها، إلاّ أنها غالباً ما كانت تنجح وتحقق مآرب سدنتها الذين يرفعون شعار «كل شيء في خدمة السياسة».

صحيح أن العباقرة على مختلف تخصصاتهم: المخترعون والمكتشفون والمفكرون والقادة السياسيون، يساهمون بأجمعهم في رسم صورة العالم وكتابة التاريخ، إلا أن القرار السياسي أو عمل القائد السياسي يبقى الأهم والأكثر تأثيراً في صنع الأحداث؛ فالقرار السياسي هو الذي يساهم بشكل أساس في خلق البيئة المناسبة أو غير المناسبة للمخترع والمكتشف والمبدع، وبالتالي فالقرار السياسي هو الذي يحدد بشكل أساس حركة المجتمع في كل الاتجاهات. وبالطبع عندما نقول بأن تاريخ الأمم والشعوب هو في معظمه تاريخ التحرك السياسي، فإننا لا نقصد أنه تاريخ الزعماء والملوك وحسب، بل نقصد به تاريخ التحرك السياسي برمته، والذي يستوعب أنظمة الحكم وحركة الشعوب أيضاً. ولا يعني هذا كذلك أن تاريخ الأمم والشعوب هو تاريخ الحكم أو التاريخ السياسي وحسب، بل هو أيضاً تاريخ الحضارة والمدنية والعلم والفكر، ولكن الذي نريد قوله هو أن التاريخ السياسي هو القاعدة التي تحرك مجمل الأحداث؛ وهو ما نراه حاضراً لدى مقولات الأنبياء والأوصياء وعلماء اجتماع الحضارات وفلاسفة التاريخ، إذ يعّدون الجانب السياسي البعد الأساس في حركة التاريخ، ويخصصون للقرار السياسي – حتى لو لم يسمّوه – المساحة الرئيسة في تحرك المجتمع باتجاه التقدم والنهوض والبناء أو باتجاه التراجع والانحطاط والموت.

والحقيقية أن دراسة حركة الأحداث السياسية في مرحلة مصيرية من مسيرة الإنسان، ودراسة حركة القادة التاريخيين وأدوارهم، ليست دراسة في التاريخ أو الماضي وحسب، بل هي دراسة في الواقع واستشراف للمستقبل؛ لأن التاريخ هو المنظومة التي تربط الماضي بالحاضر والمستقبل، أي أنه ممتد بين الأزمنة الثلاثة. كما أن الماضي هو جزء من التاريخ وفلسفته، وهو منطلق بناء فلسفة التاريخ. وعليه فإن دراسة حركة الماضي كمعادلات سننية تدفع بحركة الحاضر والمستقبل إلى مزيد من العمق في التفكير والتأمل في الحاضر، واستشراف صور المستقبل ومضامينه.

والدراسة التي نضعها بين أيدي القراء الكرام ليست مجرد دراسة تاريخية، بل إن مهمتها الأساس تتمثل في الكشف عن صور الحاضر والمستقبل؛ لأن الماضي هو تاريخ الحاضر، والحاضر هو تاريخ المستقبل. وبالتالي فأحداث هذه الدراسة وما أفرزه صناع القرن العشرين من أعمال، هو التاريخ الذي نعيشه، وهو الماضي الذي يرسم صورة المستقبل.

علي المؤمن

بيروت – شباط / فبراير 2012

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment