مستقبل الحوار الإسلامي ــ المسيحي

Last Updated: 2024/06/10By

مستقبل الحوار الإسلامي ــ المسيحي

دراسة مشتركة بقلم: الشيخ محمد علي التسخيري وعلي المؤمن

دوافع الحوار بين الأديان

إنّ آلية الحوار هي الكفيل برفع كثير من حالات الإبهام والتعارض التي تكتنف الواقع الدولي، كما أنّها الأداة الأكثر فاعلية في التقريب بين وجهات النظر، وإيجاد مساحات مشتركة بين المتحاورين، سواء كانوا يمثلون الأديان والمذاهب والحضارات والثقافات أو الدول والمؤسسات الأهلية بهدف التفكير بإخلاص ومسؤولية بمستقبل الإنسانية الذي يهمنا جميعاً. وقد لا نأتي بجديد حين نتحدث عن نظرية الحوار وتطبيقاتها كحل يطرحه الإسلام وتطرحه الأديان السماوية؛ إذ أُشبع هذا الموضوع بحثاً ودرساً. ولكن، يبقى أنّ مهمتنا في هذا المجال تتمثل في عرض واقعنا المتحرك على هذه النظرية؛ لنجد المخارج المناسبة للأزمة الخطيرة التي يعيشها العالم.

والحوار بين القيادات الروحية وعلماء الأديان والمذاهب، هو مظهر مهم لتحمّلهم المسؤولية الخطيرة الملقاة على عاتقهم في حل المعضلات التي تواجه البشرية، فضلاً عن المسؤولية الأساسية التي يتحمّلها الإنسان، والمتمثلة في أمانة الاستخلاف في الأرض، التي عرضها الله (تعالى) على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان، ولكنه في مراحل كثيرة من مسيرته، تنكّر لهذه المسؤولية وأدار ظهره لتعاليم الله وشريعته، وعاث في الأرض فساداً؛ فوصفه الباري بأنه ظلوم جهول. ولذلك؛ ظلت مسؤولية الأنبياء والأوصياء والعلماء، تتلخص في إعادة الإنسان إلى الطريق الذي خطته له يد القدرة.

ولا أعتقد أننا نختلف في تقييمنا للمرحلة التي يمر بها الإنسان اليوم؛ فهي مرحلة صعبة للغاية، وتنذر بمستقبل خطير؛ فيما لو استمرت التحدّيات التي تواجهنا جميعاً بحجمها وسرعتها ونوعيتها؛ الأمر الذي يستدعي تظافر جهود القادة الروحيين وعلماء الأديان؛ لهداية البشرية نحو حاضر ومستقبل يضمنان لها سعادة الدنيا والآخرة، والأمن والسلام والخير على الأرض. وتعدّ الحوارات بين ممثلي الأديان فرصة ثمينة للخروج بالقرارات والتوصيات التي من شأنها المساهمة في تفتيت التحدّيات التي تتعرض لها الإنسانية، وسنكون حينها عند حسن ظن مئات الملايين من أبناء الكوكب، الذين أتعبتهم قرارات أهل السياسة ومؤتمراتهم الدولية، ولم يعودوا يجدوا فيها ما يداوي جراحاتهم العميقة.

الإرهاب.. التحدي المشترك الأكبر

إنّ الشراكة الدينية والإنسانية تحتم على جميع عقلاء الأرض، على مختلف أديانهم واتجاهاتهم المذهبية والفكرية أن يقفوا على حقيقة الأخطار التي تتسببها التطورات في الوضع العالمي، وهي تطورات متسارعة ومترابطة، رغم اختلاف عناوينها ومداخلها، فالنظام العالمي اللا متوازن الذي تبشر به القوى الكبرى، وتسعى للإمساك به، يريد صهر كل المضامين السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والتكنولوجية في بوتقة واحدة، هي بوتقته التي أعدّها للهيمنة على العالم، وتكرس نتائجها حالات التمييز ودعاوى التفوق، وفي هذه النتائج تكمن نذر الكارثة، وما الحوادث التي تشهدها بعض بقاع العالم إلّا ممهدات رهيبة للكارثة القادمة. ولا نريد هنا أن نكون متشائمين أو مغالين في عرض الحقائق، ولكنه الواقع المرّ بكل تفاصيله. ولا ريب أنّ أعمال العنف والعنف المضاد التي لا يزال يعيش العالم وقائعها ورعبها؛ هي من نوع الأفعال وردود الأفعال التي تدخل في إطار صيرورة نظام الهيمنة العالمي الجديد، ولا يمكن لأيّ دين أو مذهب تسويغ هذه الأعمال أيّاً كان لونها ومضمونها، والذين يقومون بها أُناس يدفعهم لذلك الغرور والغطرسة والاستكبار أو التعصب والجهل وسوء الفهم.

ونحن في الوقت الذي ندين الإرهاب والعنف اللا مشروع، ابتداءً بإرهاب الكيان الصهيوني، ثم إرهاب الدول الكبرى وتعديها على الدول والشعوب الصغيرة والضعيفة، وانتهاءً بإرهاب الجماعات التي تنسب نفسها للأديان؛ فإنّنا نؤكد ضرورة إيجاد تعريف ديني موحد للإرهاب والعنف، تلتقي عنده الأديان الإلهية؛ ليكون مساحة مشتركة أُخرى تتحرك فيها هذه الأديان. وتبرز هنا أربع حقائق ينبغي التوقف عندها:

1 ـ إنّ رفض الأديان، وفي مقدمتها الإسلام والمسيحية، للعنف والإرهاب اللا مشروع؛ يعني أنّها تستسقي تعاليمها العامة من نبع واحد، هو النبع الإلهي الذي يدعو للسلام العادل والحب والخير.

2 ـ إنّ كل ألوان الإرهاب التي تهدف إلى تهديد الأمن الإنساني وترويع الأبرياء، هي الأُخرى تشرب من نبع واحد، بغضّ النظر عن الانتماءات الدينية المذهبية والسياسية لعناصرها.

3 ـ إنّ التعريفات الأُحادية والمنفردة للإرهاب، تساهم في توسيع رقعة الأرضية التي ينمو فيها الإرهاب، وتعمل على خلط الأوراق وقلب الحقائق؛ لأنّ الذين يقفون وراءها يحاولون فرضها بقوة السلاح والدعاية، ومن ثم لا يتورعون عن الإعلان بأنّ من لم يتبنّ تعريفاتهم فهو يساند الإرهاب، وإنّ من لا يقف معهم في تطبيقهم العملي لهذه التعريفات فهو متّهم بممارسة الإرهاب، أو بكلمة أُخرى: «من ليس معنا فهو مع الإرهاب». وهذه المعادلة هي مغالطة كبرى مرفوضة دينياً وإنسانياً. وبالتالي، فنحن ندعو لفهم ديني وإنساني لظاهرة الإرهاب وتعريف موضوعي ينسجم مع هذا الفهم.

4 ـ هناك فرق جذري بين المقاومة المشروعة للاستكبار والاحتلال والظلم، وبين الإرهاب اللا مشروع الذي يهدف إلى الانتقام من الأبرياء وترويع الآمنيين؛ فتلك المقاومة حق طبيعي لشرائع السماء وقوانين الأرض؛ لأنّها دفاع عن النفس والمقدّسات والأرض، بينما الإرهاب اللا مشروع هو وسيلة محرّمة لهدف محرّم.

إنّ الدعوة العالمية ضد الإرهاب والعنف هي شعار سامٍ وضروري لنشر السلام العادل في الأرض، ولكن؛ من أجل معرفة صدقية هذه الدعوة، وقدرتها على تحقيق هدف القضاء على الإرهاب؛ لا بدّ أن نتبين ـ أولاً ـ من هو الذي يرفع لواء هذه الدعوة؟ وهل يتمتع بالمؤهلات اللازمة لقيادة الهجوم المضاد للإرهاب؟

من الصادم حقاً؛ أن تكون الدولة التي ترفع هذا الشعار وتريد أن تقود العالم وفقه، هي الولايات المتحدة الأمريكية، وهي التي تكرّس نزعات الإرهاب عملياً، وتعمل على إيجاد صراعات وهمية بين الأديان والحضارات، وخلق عداء مركّب ضد العرب والمسلمين، وبالتالي؛ القيام بعملية مفاضلة بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، بل أطلق رئيسها صراحة مصطلح (RUSADE) أو الحملة الصليبية خلال عملية غزو أفغانستان، وهي ممارسة إرهابية عملية استهدفت حياة شعبٍ أعزل، لا ذنب له سوى أنّه يحمل وزر الفئة التي كانت تحكمه. وبالتالي؛ بدل أن تكون حملة مكافحة الإرهاب حملة إنسانية؛ فإنّها خلقت العديد من المشاكل الإنسانية، فضلاً عن أنّها أصبحت ساحة مفتوحة تصفّي أمريكا عليها حساباتها مع الحركات والأنظمة التي لا تتفق مع سياساتها. فبعد ضرب الشعب الأفغاني؛ توجهت نحو الصومال واليمن والعراق والسودان، وراحت تتوعد سوريا ولبنان، وتحاصر الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتصف حركات المقاومة في فلسطين ولبنان وغيرهما بالإرهاب، رغم أنّها تمارس دفاعاً عن النفس، تقرّه كل الشرائع السماوية والأرضية، ضد محتل غاصب استباح الدماء والأعراض والأرض والمقدّسات.

وفي الوقت نفسه؛ تدعم واشنطن كل أشكال القسوة والهمجية والوحشية التي يقوم بها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني المحتل، حيث يشاهد العالم ما تقوم به (إسرائيل)، امتداداً لسياستها العدوانية، ولا تسمح لهذا الشعب المظلوم بالدفاع عن نفسه، في مواجهة حرب شاملة تستخدم فيها القوات الإسرائيلية أغلب ما تملكه من آلة عسكرية إرهابية. فهل تمتلك مثل هذه الدولة، مهما بلغ حجم قوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية؛ صلاحية القيام بحملة دولية لمكافحة الإرهاب، وتدعو إلى العدالة والسلام؟!

وفي الوقت الذي نكرر ترحيبنا بالدعوة لمكافحة الإرهاب دولياً؛ فإنّنا نعيد إلى الأذهان أيضاً حقيقة أنّ الشعوب المسلمة كانت ولا تزال في مقدمة ضحايا الإرهاب. ولذلك؛ ينبغي أن تساهم دول العالم وشعوبها في التنظير لهذه الدعوة والتخطيط لها، وأن يكون للقادة الروحيين وعلماء الأديان دور أساس في هذا المجال، ثم تفوض منظمة الأُمم المتحدة بتنفيذ هذه الخطة، باستقلالية كاملة، وبمشاركة دولية واسعة، ودون ضغط سياسي أو مالي من أيّة قوى كبرى.

بيئة ظهور الإرهاب وعوامل اجتثاثها

هناك عناصر كثيرة تعمل على صناعة بيئة الإرهاب، أهمها:

1ـ التعصب للانتماء الديني والمذهبي والقومي، هذا التعصب الذي يجعل الإنسان ينظر إلى شرار قومه على أنّهم أفضل من خيار الأقوام الأُخر،كما هو مضمون حديث رسول الله، وينظر إلى كل ما يعتقده ويراه على أنّه مقدّسات ومطلقات غير قابلة للنقاش، وأنّ كل من لا يرى ذلك فهو عدو لا بدّ من تصفيته جسدياً أو معنوياً.

2ـ التطرف والجمود في فهم الأُصول والمعتقدات الدينية، وهو جمود لا يراعي حقائق العصر ومتطلبات الزمان والمكان. ففي الوقت الذي لا بدّ من الحفاظ على ثوابت الدين وأُصوله، فإنّ هناك متغيرات متحركة تدخل في دائرة فهم هذه الثوابت والاكتشاف الجديد فيها، ولا ينبغي الجمود على هذه المتغيرات؛ في مختلف الأديان والمذاهب؛ لأنّها ستؤدي إلى صدام بين الواقع وبين هذا اللون من الفهم الديني. وهو ما تجده في التيارات المتطرفة.

3 ـ الجهل والأُمّية والتخلف العلمي والثقافي، وهي أوبئة حضارية تؤدي إلى واقع قلق سياسياً واجتماعياً.

4ـ الفقر الروحي والأخلاقي؛ بسبب الابتعاد عن التعاليم والشرائع الدينية، والاتجاه نحو التيارات التي خلقتها الحضارة المادية المهيمنة بقدرتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية على العالم.

5ـ الفقر المادي الذي تعاني منه أكثر شعوب العالم، وما يتسببه ذلك من تعارض بين حاجات الإنسان وقدرته على تلبيتها، وعوز وبطالة ومشاكل اجتماعية.

6ـ يأس الشعوب من تحقيق طموحاتها في الانعتاق من الهيمنة الاستعمارية بمضامينها السياسية والاقتصادية والثقافية، وتحول هذا اليأس إلى كبت اجتماعي كبير، بسبب ضياع المآرب التي تفرغ من خلالها الشعوب غضبها، الأمر الذي يدفع بعض فئاتها إلى تبني رهانات غير موضوعية.

ومن أجل اجتثاث العناصر المقوّمة لبيئة الإرهاب؛ أضع هنا جملة من التصورات التي نعتقد بفاعليتها، آملاً أن تحظى باهتمام القادة الروحيين وعلماء الدين من جميع الأديان:

1ـ وضع برنامج للتوعية الدينية، وتنفيذه على نطاق واسع من خلال استثمار مختلف الوسائل والمنابر، يهدف إلى تفتيت ظاهرة التطرف الديني، والتعريف بحقائق الأديان التي لم تأت إلّا لنشر الأمن والطمأنينة والسلام العادل، والتآخي والمحبة بين الناس. وينبغي عدم السماح باستثمار هذا البرنامج سياسياً أو لأغراض سياسية من قبل أيّ جهة أو دولة.

2ـ وضع برنامج للقضاء على الأُمّية والجهل، وتقوية برامج التربية والتعليم، وخاصة التعليم الديني. ويتم العمل من خلاله على ضرب وسائل الدعاية والإعلام التي تشجع على الجهل والخرافة والعنف والجنس والمخدرات.

3 ـ وضع آلية عملية لتعاون الأديان في مجال ملء الفراغ الروحي في المجتمعات الإنسانية، واستثمار الوضع الدولي في الدعوة للأخلاق والمعنويات والتدين، ومواجهة الموجات المادية العاتية، ولا سيّما بعد انهيار المنظومة الشيوعية وسقوط دعاوى الرأسمالية، وإحساس قطاعات واسعة من البشرية بالحاجة للقيم الدينية والأخلاقية.

4ـ تحديد مفهوم واقعي للإرهاب، مقبول دينياً وإنسانياً؛ للتمييز بينه وبين حركات المقاومة المشروعة، وللحيلولة دون استغلال بعض الأطراف الإقليمية والدولية لبعض الأحداث السياسية والاجتماعية، للقيام بأعمال عدوان وقتل وتدمير.

5ـ وضع آلية تحول دون استمرار الدول الكبرى في دعم الأنظمة والكيانات الدكتاتورية والعنصرية والجماعات الإرهابية.

6ـ وضع برنامج سياسي واجتماعي يستوعب حالة اليأس لدى بعض الشعوب التي تتعرض للاضطهاد السياسي والاجتماعي، من خلال فسح المجال لهذه الشعوب لتعبر عن نفسها وتقرر مصيرها، واختيار شكل الحكم الذي يتناسب مع موروثها الديني والاجتماعي والثقافي.

7ـ معالجة بؤر التوتر التي تتسبب في زعزعة استقرار العالم أمنياً وسياسياً ونفسياً، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وحلها حلاً عادلاً، وتجنب سياسة الكيل بمكيالين التي تتبناها القوى الكبرى، ورفع الظلم الكبير الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني والشعوب المجاورة لفلسطين، بسبب ممارسات الكيان الصهيوني الإرهابية، وإعطاء الفرصة للشعب الفلسطيني ليقرر مصيره ويستعيد حقوقه المغتصبة.

8 ـ إيجاد آليات جديدة في منظمة الأُمم المتحدة تمنع هيمنة دولة كبرى أو أكثر على قراراتها، أو حتى مجرد التأثير عليها، وخاصة على صعيد مجلس الأمن الدولي؛ فاستغلال بعض الدول الكبرى لحقها في النقض (الفيتو) يتسبب دائماً في استمرار الأعمال الإرهابية في بعض بقاع العالم، ويستدعي ذلك المساواة بين الدول العضوة في الحقوق والواجبات.

9ـ القيام بحملة توعية دولية تساهم فيها المؤسسات الدينية والإنسانية والمنظمات الدولية ووسائل الإعلام الملتزمة، هدفها تكريس مفهوم الشراكة بين البشر، والتنبه إلى المخاطر التي تواجهه سكان الكوكب جميعاً؛ باعتبارهم متساوون في الحقوق والواجبات.

10ـ وضع برنامج لتقليل الفوارق الاقتصادية بين الشمال الجنوب، وخلق حالة من التكافل الدولي، من شأنها إذابة جليد سوء الفهم بين الشعوب الغنية والمتقدمة تكنولوجياً والشعوب الفقيرة والمستضعفة.

وأخيراً، فإنّ ما ننشده ونتمناه، كأتباع للديانات السماوية، هي رؤية للسلام العادل وقد تحقق على ربوع كرتنا الأرضية؛ السلام الحقيقي الذي يعطي لكل ذي حق حقه، وينصف الجميع، ويردع المعتدي، ويحقق التوازن والتعاون بين الناس على الأصعدة كافة. هذا السلام هو الذي بشّرت به التعاليم الدينية، ولن تستطيع البشرية تحقيق هذا المبدأ إلّا بالعودة إلى شريعة السماء {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ}([1]).

 

([1]) المائدة: 48.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment