مدخل الى دراسة الاجتماع الشيعي العراقي

Last Updated: 2024/06/10By

مدخل الى دراسة الاجتماع الشيعي العراقي

د. علي المؤمن

المجتمع الشيعي العراقي ـ تاريخياً ـ هو القاعدة الثانية للتشيع بعد الحجاز، والمادة الشعبية الأساسية للشيعة، والعراق هو جغرافياً أول قاعدة حكم إسلامي شيعي (دولة الإمام علي في الكوفة)، وسيكون عاصمة آخر حكم إسلامي شيعي (دولة الإمام المهدي في الكوفة أيضاً وفق الروايات)([1])، أي أنّ حكم آل البيت بدأ في الكوفة وسيتمركز في الكوفة مرة أُخرى. كما كان العراق مركز حكم الإمام الحسن بن علي، ووقعت فيه أهم فصول نهضة الإمام الحسين، كما عاش فيه الإمام الصادق وبلور المذهب الفقهي والعقدي لمدرسة آل البيت، كما عاش فيه الأئمة الكاظم والجواد والهادي والعسكري، وولد فيه الإمام المهدي، وفيه مراقد ستة من أئمة آل البيت (علي والحسين والكاظم والجواد والهادي والعسكري).

وفي العراق؛ ولد النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة على يد شيعة بغداد، وفي النجف تأسست عاصمة الشيعة الدينية العلمية([2])، أي أنّ العراق هو ماضي الشيعة وحاضرهم ومستقبلهم، وكأنّه القلب الذي تحيط به الأعضاء المجتمعية الشيعية الأُخر، من الشرق والغرب والشمال والجنوب، لتشكل معاً الجسد الواحد. ولعل شيعة العراق هم الأكثر تأثيراً في أحداث الشطر العربي من العالم الإسلامي في الوقت الحاضر.

ولم يتحمل شيعة العراق مهمة تأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة وحسب، بل ظلوا أحد أهم مصادر تمويل هذا النظام ومرجعيته ومؤسسته الدينية، وكان تجار بغداد الشيعة، منذ عصر التأسيس وحتى الحكم البعثي، يقومون بهذا الدور بانتظام، رغم خطورته على حياتهم وأموالهم في ظل الحكومات الطائفية المتخاصمة مع الشيعة. وقد تعرض تجار بغداد الشيعة ـ في سبيل ذلك ـ إلى كل ألوان الأذى والاعتقال والتشـريد خلال الحكم البعثي([3]).

ويتميز المجتمع الشيعي العراقي بالذكاء التراكمي الحاد، وبكونه مجتمعاً عشائرياً، وباحتفاظه بكثير من أخلاقيات البداوة([4])، ومن ذلك عاطفته الجياشة وميله للفروسية، ووضوحه وشفافية نزعاته، وسرعة ردة فعله وتأثره، وسرعة غضبه ورضاه، وقلة صبره، وقدرته القيادية مقابل ضعف قدرته الإدارية. كما ينزع إلى العمل الفردي وصعوبة الحراك الجماعي المنظم، أو الحفاظ عليه، وهو ما ينعكس على أدائه السياسي والمعيشي غالباً.

وبمرور السنين؛ بدا وكأنّ النظام الاجتماعي الشيعي العالمي مطبوع بطابع مجتمعي عراقي، بالنظر الى الكثافة الشيعية المجتمعية المتفردة في العراق، والى كونه تأسس في الكوفة وبغداد والنجف، وأن مؤسسيه في عصر الغيبة هم عراقيون بغداديون بالأصالة أو السكن، وأن الشيعة غير العراقيين، كالفرس والآذريين والهنود والترك والمغول والكرد وغيرهم، أخذوا اجتماعهم الديني من شيعة العراق، وظلت بوصلتهم الاجتماعية الدينية ــ غالباً ـــ تتجه نحو الكوفة وبغداد والنجف وكربلاء والحلة.

وأوضح هنا نقطتين أساسيتين تتعلقان بدلالات مفهوم الاجتماع الديني الشيعي ومفهوم الاجتماع العراقي، وهما المفهومان اللذان تداخلا خلال قرون طويلة من الزمن؛ ظلت فيها مركزية النظام الاجتماعي الديني الشيعي ثابتة في العراق:

الأولى: إنّ مفهوم الاجتماع الديني الشيعي يختص بالجانب الاجتماعي الديني، ونظامه وعقله ومنهجه المحرك، وسياقاته وسلوكه العام وعاداته وتقاليده، أي الظواهر الاجتماعية الدينية التي تشكل بمجموعها النظام الاجتماعي الديني الشيعي، كما فصّلنا في الفصل الأول من الكتاب.

الثانية: إنّ الاجتماع العراقي يتمثل في ظواهر البيئة الاجتماعية العراقية وسلوكياتها الأصلية المتكونة تاريخياً، وليس الاجتماع العراقي العربي الملحق، والممتزج بالاجتماع العراقي الأصلي؛ فسكان العراق الأصليون المؤسسون، هم: السومريون (سكان جنوب العراق) والبابليون (سكان الفرات الأوسط) والعيلاميون (أجداد الفيليين اللر في جنوب شرق العراق) والفرس (في شرق العراق) والكلدان (في الفرات الأوسط) وعرب المناذرة (الحيرة) وعرب التغالبة (الموصل) والآشوريون (شمال العراق)؛ فهذه القوميات كانت تشكل سكان العراق الأصلي، بخارطته الحالية، قبل الفتح الإسلامي للعراق، ثم استعرب أو استكرد أغلب سكان العراق الأصليين بمرور الزمن.

وبالتالي؛ فإن الاجتماع العراقي ليس عربياً بالأصل، ولم يتكون نتيجة هجرة العرب واستيطانهم فيه، بل هو اجتماع بين النهريني، سومري بابلي بالخصوص، وهو سابق على هجرة العرب الى العراق، بل أن العرب الذين استوطنوا العراق تطبّعوا بطباع أهله الأصليين، واستعرقوا، أي صاروا يفكرون كما يفكر العراقيون، ويسلكون سلوكهم، وبكلمة أخرى؛ أصبحوا جزءاً من عقله الجمعي، بينما تطبّع العرب الذين استوطنوا بلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا وإيران؛ بطباع أهلها أيضاً، وهي طباع مختلفة عن طباع العرب المستعرقين.

وهناك مقولة تاريخية منسوبة إلى “الإسكندر المقدوني”، تحدث بها إلى أستاذه “أرسطوطاليس”، بعد أشهر على احتلاله بابل قبل (2400) عاماً وإسقاطه الدولة البابلية، أي قبل استيطان العرب العراق بحوالي (1000) سنة. في هذه الرسالة يصف “الإسكندر” أهل العراق ويشكوهم إلى أستاذه بقوله: ((لقد أعياني أهل العراق، ما أجريت عليهم حيلة إلاّ وجدتهم قد سبقوني إلى التخلص منها؛ فلا أستطيع الإيقاع بهم، إلّا أن أقتلهم عن آخرهم)). فأجابه الحكيم “أرسطو”: ((لا خير لك من قتلهم. لو أفنيتهم جميعاً؛ فهل تقدر على الهواء الذي غذى طباعهم؟ فإن ماتوا ظهر في موضعهم من يشاكلهم)). وهو يريد القول بأن العراقيين (البابليين والسومريين) شعب حاد الذكاء، كثير النقد والجدل، قليل الطاعة. وهي الطباع الحالية ذاتها، والتي سبق أن تطبّع بها العرب المهاجرون الى العراق قبل (1400) عام. وهنا يعيد “أرسطو” السبب الى البيئة التي تغذي العراقيين، أي الهواء والماء والتراب، وهي عوامل اكتشف تأثيرها علماء الإنثروبولوجيا والاجتماع والنفس الاجتماعي بعد مئات السنين من مقاربة “أرسطو”.

ورغم أن العراقيين الأصليين استعربوا بعد الفتح الإسلامي تدريجياً، إلّا أن هذا الاستعراب ربما اقتصر ــ غالباً ــ على اللغة والنسب والمعرفة الدينية وبعض العادات والتقاليد، ولم يستعربوا نفسياً وسلوكياً، بل لقد حدث العكس؛ إذ أن العرب المستوطنين هم الذين استعرقوا وحملوا طباع العراقيين، وذلك لأن سكان العراق الأصليين من البابليين والسومريين وغيرهم؛ كانوا بالملايين، وتقدرهم بعض المصادر التاريخية بثلاثة ملايين نسمة آنذاك، وهي أعلى نسبة كثافة سكانية في العالم حينها، بينما كان عدد العرب الفاتحين والمستوطنين، لا يزيد عن (100) ألف شخص، في أكثر التقديرات. وفي النتيجة؛ فإن العرب منحوا العراقيين أنسابهم ولغتهم ودينهم، ومنح العراقيون العربَ طباعهم، وكثيراً من عاداتهم وتقاليدهم.

بيد أن المؤرخين والرواة العرب وغير العرب في العصرين الأموي والعباسي، تجاهلوا وجود هذه الملايين من البشر من أبناء بلاد الرافدين، وكان كل تركيزهم في الروايات والأخبار والتأريخ، ينصب حصراً على القبائل العربية النازحة من اليمن والحجاز والجزيرة بعد الفتح، ودورها وفاعلياتها السياسية والعسكرية والاجتماعية، وكأنّ أرض العراق كانت خالية من السكان، وأنّ البابليين والسومريين تبخّروا فجأة، ولم تكن لديهم قبائل ولا رموز ولا شخصيات. وهذا التجاهل التاريخي لسكان العراق الأصليين هو أحد مظاهر عداون آل أمية ورواتهم ومؤرخيهم على العراقيين، والتي ظهرت نتائجها في العصر العباسي، على يد الطبري وابن الأثير وابن خلدون وابن الوردي وغيرهم، وكذا أصحاب الطبقات والتراجم والسير، الذين ترجموا لشخصيات المهاجرين والفاتحين العرب من الجزيرة واليمن حصراً، أو بعض عرب الحيرة وتغلب، ولم يذكروا أية شخصية عراقية أصلية، سومرية أو بابلية أو أكدية أو عيلامية، خلال عصر الفتوحات أو العصرين الأموي والعباسي، أصبح قائداً عسكرياً أو سياسياً أو ثائراً أو فقيهاً أو محدثاً أو مؤرخاً.

ولا شك أن بعض سلوكيات الفاتحين، إضافة الى سلوك آل امية الإقصائي وتعاملهم العنصري مع العراقيين؛ قد انعكس على رؤية العراقيين للرموز السلطوية الحاكمة الوافدة، وانعكس أيضاً على رؤيتهم لمدرسة آل البيت، وأسباب انحيازهم إليها، لأن موقف مدرسة آل البيت كان رافضاً لأي سلوكيات إكراه وعنصرية، حتى تبيّن للعراقيين بمرور الزمان، ولاسيما خلال خلافة الإمام علي، بأن مدرسة آل البيت هي مدرسة الدفاع عن الإنسان وحقوقه ومظلوميته، بغض النظر عن دينه وقوميته. مقابل ما كان الأمويون يمارسونه من ألوان الطغيان والاستعلاء ضد العراقيين الأصليين، وهو ما عبّر عنه صراحة والي الأمويين في العراق الحجاج الثقفي بقوله: ((يا أهل العراق.. يا أهل الشقاق والنفاق))، وذلك لأنهم كانوا يعارضون الظالم وحكمه وعقيدته.

ولم يكن انحياز العراقيين الى آل البيت ومظلوميتهم، ومشاركتهم في جميع الثورات العلوية ضد الأمويين والعباسيين، اعتباطياً أو ناشئاً من فراغ، بل هو إحساس بالمظلومية المشتركة، وبنقاء مدرسة آل البيت، وبأنها تمثل أصالة الإسلام وحقوق الإنسان والدفاع عن المظلوم، ولذلك؛ فإن الثابت التاريخي، هو أن الأغلبية الساحقة من القوميات العراقية الأصلية المؤسسة (السومرية والبابلية والعيلامية والعربية وغيرها)؛ قد تشيّعت مبكراً وطوعاً، أي منذ بداية دخول الإسلام الى العراق؛ ما يعني أن العراقي اختار المتاعب لنفسه بنفسه، منذ لحظة تعرفه على الإسلام، وذلك حين فضّل مذهب المعارضة (التشيع) على مذهب السلطة، لأن العراقي حين يكون شيعياً؛ فإن ذلك يجعله تلقائياً في مواجهة الدولة والحاكم، ومعارضاً للسلطة ومذهبها، وسيتعرض بمحض إرادته الى القمع والتشريد والاعتقال والقتل.

وفي المقابل؛ اختارت الشعوب المهاجرة الى العراق، أن تكون سنية غالباً، وتنخرط في مجتمع الدولة، وتدافع عن مذهب السلطة، وتعيش الاستقرار السياسي والاجتماعي والرفاه المعيشي، حتى باتت صاحبة الوطن والدولة والسلطة في العراق، بينما باتت الأقوام العراقية الأصيلة المؤسسة، تعيش غربة الوطن، وتُتّهم في انتمائها للعراق وفي وطنيتها، رغم أنها تشكل الأغلبية السكانية الساحقة، بل ولا يتردد هذا المستوطن المستعرق أن يتّهم السومري والبابلي العراقي الأصيل بأنه غجري وهندي وأعجمي ومجوسي وصفوي وتبعي!!.

وكان الملفت للنظر؛ أن القبائل العربية السنية المهاجرة من مناطق العراق الأخرى أو البلدان الأخرى؛ تتشيع تلقائياً، بمجرد مرور سنوات على إقامتها في الفرات الأوسط والجنوب العراقي وشرق العراق، وهي مناطق السكان العراقيين الأصليين: البابليين والسومريين والفيليين الشيعة، ثم تنصهر هذه القبائل بمناخات مستوطناتها الجديدة، وتتفاعل مع الاجتماع العراقي وتنعجن بطينه، وتذوب فيه، رغم أن قسماً من هذه القبائل العربية، كان يعيش بيئة بدوية ومتعصبة سنياً، وخاصة قبائل نجد وبادية غرب العراق والأردن والشام، ولكنها كانت تتحول تحولاً كبيراً، من النواحي المذهبية والاجتماعية والسلوكية، وتختار العقيدة الدينية المعارضة للحاكم ومذهبه، دون أن يجبرها أو يحتك بها أحد، بل تعرِّض نفسها طوعاً لكل أنواع القمع.

لقد اختار العراقي التشيع وظل في مواجهة الدولة، منذ العصر الأموي الأول وحتى العصر الأموي الأخير (البعثي)، وظل مستعداً للموت، ومفارقة الأهل والوطن، والهروب الى إيران وجبال القوقاز والهند وأفريقيا؛ على أن يكون ضمن مذهب السلطة واجتماع الدولة، ويعيش عيشة طبيعة ومستقرة. وهذا يعني أن الطبيعة العراقية التاريخية المتمردة على الظلم وعلى الحاكم واجتماع السلطة؛ قد انسجمت تلقائياً مع طبيعة المسار الشيعي المعارِض والمقموع منذ وفاة الرسول، وبمعنى آخر؛ اختار العراقيون التشيع، لأنه ينسجم في عقيدته وتكوينه التاريخي المعارض، مع العقل العراقي ومناخات إنتاجه، ومع البيئة العراقية المعارضة بالفطرة. ثم انعكست الطبيعة العراقية على السلوك الشيعي العام؛ ليس في العراق وحسب، بل في كل بلدان الحضور الشيعي، وظل هناك تأثير وتأثر بين التشيع ومسارات نشوء الشيعة واجتماعهم الديني والسياسي والثقافي من جهة، والبيئة العراقية المتحضرة المركبة من السومريين والبابليين والعيلاميين والفرس والكلدان والآشوريين وعرب الحيرة ونينوى من جهة أخرى، وطبع كل منهما الآخر بطابعه، وكانت التأثيرات الاجتماعية العراقية ومناخاتها واضحة في السلوك الشيعي، كما ظل تأثير الاجتماع الشيعي في طبيعة المجتمع العراقي واضحاً أيضاً.

ولعل سر التماهي والتشابك والتفاعل بين الاجتماع الشيعي والاجتماع العراقي، لا يتعلق بالتشيع والشيعة وحسب، بل بطبيعة البيئة العراقية الأصلية، أي البيئة السومرية البابلية المتحضرة للفرات الأوسط والجنوب، وتكوينها التاريخي، منذ خمسة آلاف سنة؛ فهي بيئة تنسجم نفسياً وسلوكياً مع عقيدة التشيع واجتماعه الديني ومساره التاريخي المتميز بالرفض والمعارضة والمقموع، بينما انسجمت المناخات الوافدة الى العراق، أي غير العراقية، مع مسار السلطة وتطبّعت بطابعه، حتى إن الغالبية الساحقة من الثورات والحراكات الثورية الشيعية ضد السلطة الظالمة حدثت في العراق، منذ نهضة الإمام الحسين وثورات التوابين والمختار وزيد، وحتى انتفاضات النجف والصدر والشعبانية، أي أن العراق بقي طيلة (١٣5٠) عاماً، يشكل جغرافيا الصراع المستدام بين السلطة السنية (أموية وعباسية وأيوبية وسلجوقية وعثمانية وبريطانية وحجازية وبعثية.

وفي الوقت نفسه؛ ظلت بيئة الشام ومصر وشمال أفريقيا أيضاً؛ منسجمة مع السلطة في العهود الأموية والعباسية والأيوبية والسلجوقية والمملوكية، ولم تشهد ثورات وحراكات ضد السلطة؛ إلّا تلك التي قادها العلويون والشيعة الهاربون من العراق والحجاز، بل حتى الدول التي أسستها المعارضة في شمال العراق والشام ومصر، كانت دولاً شيعية، كالحمدانية والإدريسية والفاطمية، وكثير من قادتها كانوا عراقيين، ولكن حين سقطت هذه الدول؛ فإن القادة العسكريين العباسيين، كصلاح الدين الأيوبي، الذين تمكنوا من القضاء على الأغلبية الساحقة من الوجودات الاجتماعية الشيعية في هذه البلدان؛ قد فشلوا في العراق فشلاً ذريعاً، ولم يستطيعوا تفكيك المجتمع الشيعي العراقي؛ إذ ظل الشيعي العراقي عصياً على الاجتثاث، بفضل طبيعيته الذاتية المقاومة المعارضة الصعبة، بل بقي يتمدد اجتماعياً ومذهبياً، رغم استمرار محاولات الخصوم، وتنوع أشكال هذه المحاولات ومضامينها، كلما حلّت سلطة جديدة، حتى يبدو للباحث أن الحالة الواقعية المنسجمة مع قواعد الإنثروبولوجيا والسسيولوجيا وعلم النفس الاجتماعي، هي أن يكون العراقي شيعياً بالفطرة وبالتكوين.

وأعتقد أن شيعة البلدان الأخرى الذين تمسكوا بوجودهم الاجتماعي الديني وانتمائهم للتشيع؛ قد اقتبسوا من شيعة العراق واجتماعهم المقاوم الحاد؛ هذه السلوكية، العصيّة على الاستسلام للآخر المذهبي وسلطته وقمعه، بمن فيهم شيعة إيران، الذين يشكلون اليوم الأكثرية الشيعية السكانية في بلدهم؛ فالذي زرع بذور التشيع في ايران ونشره هم العراقيون، ابتداءً من قم والري وخراسان والديلم والأهواز، والذي أسس للاجتماع الشيعي في ايران هم العراقيون، والذي قاد الثورات الشيعية وأسس أولى الدول الشيعية في إيران، هم العراقيون؛ فقد كان القادة والمؤسسون فيها عراقيين غالباً، بينما كان الفرس والآذريين واللر مادة هذه الثورات والحراكات والدول، حتى نرى اليوم؛ إن الإيرانيين حين يتغنون بالثورة والمقاومة؛ فإنهم يضعون أسماء الرموز الشيعية العربية والعراقية في المقدمة، بدءاً بالإمام الحسين ومالك الأشتر والمقداد وعمار والعباس وحبيب والحر، وليس انتهاءً بالتوابين والمختار، وهو ما يؤكد أن الاجتماع الديني الشيعي، بصيغه المحلية والعالمية، هو نتاج تفاعل البيئة العراقية الأصلية واجتماعها وسلوكياتها، مع مسارات نشوء التشيع وحراكاته العقدية والسياسية.

ورغم أنّ المجتمع الشيعي العراقي ظل يشكل الغالبية السكانية العددية في العراق، منذ قرون طويلة، إلّا أنّ السلطة ظلت بيد حكام سنة طائفيين، منذ عبيد الله بن زياد، أول حاكم أُموي، وحتى صدام حسين، آخر حاكم أُموي، باستثناء فترات زمنية حكم فيها المختار الثقفي ثم الشيعة البويهيون والصفويون. وهذا الفصام المذهبي بين النظام الحاكم والمجتمع الشيعي العراقي، تسبب في علاقة فصام سياسي تراكمي بين شيعة العراق والدولة، جعل الشيعة (وهم الأكثرية السكانية) كتلة معارضة دائمة للدولة، وجعل النخب السنية (وهم الأقلية السكانية) كتلة حاكمة دائمة للدولة، وهي ظاهرة حصرية بالعراق، غير موجودة في أية دولة في العالم، حتى ظل الشيعي، يعيش هاجس المواطنة والانتماء للدولة العراقية، حتى في ظل ما سمي بالدولة العراقية الحديثة التي تأسست بعد العام 1921، بل تكرس هذا الهاجس في عهد السلطة البعثية بعد العام 1968.

ورغم انهيار الاجتماع السياسي العراقي التقليدي الموروث في العام 2003، فإنّ المجتمع الشيعي العراقي الذي بدأ ينفض عنه غبار الفصام مع مجتمع الدولة، ويعيش بالتدريج حالة الانتماء الطبيعي للدولة؛ ظل يتعرض لأبشع ألوان المهددات الإرهابية وضغوطات الإفشال من ناحية الجماعات العنصـرية الطائفية الداخلية ومن الأنظمة الخارجية المتماهية معها والداعمة لها بالمطلق؛ للحيلولة دون تبلور الاجتماع السياسي العراقي الجديد الذي يشكل الشيعة ركناً أساسياً فيه، ودون نجاح تجربة المشاركة الشيعية في قيادة الدولة والحكم. وقد ساهمت حداثة خبرة الجماعات السياسية الشيعية في الإدارة الحكومية، وخلافاتها البينية، وبعض مظاهر الفساد المالي والإداري الذي تورط فيه بعض عناصرها، في إعطاء الفرصة للخصوم الداخليين والخارجيين لاستغلال هذه المظاهر والمبالغة فيها، والتغطية على فساد الجماعات الكردية والسنية وفشلها، من أجل تحريك الشارع الشيعي ضد التجربة الجديدة.

والمفارقة هنا، هي أنّ مشاركة القوى السياسية والاجتماعية والدينية الشيعية في قيادة الدولة العراقية الجديدة؛ تسببت في تحمّل المجتمع الشيعي العراقي كل الأعباء المعنوية للدولة، وباتت النخبة الدينية والسياسية الشيعية مضطرة إلى تقديم المزيد من التنازلات السياسية والثقافية والمالية، من أجل مصالحها الفئوية ـ أحياناً ـ أو من أجل بقاء عجلة الدولة تدور وبقاء العراق موحداً ـ أحياناً أُخر.

ومن تلك التنازلات قبولها بظواهر المحاصصة التوازنية المكوناتية التي أفرزها النظام السياسي الجديد الذي تأسس بعد العام 2003، الأمر الذي سلب من المجتمع الشيعي، حقه الديمقراطي، بوصفه مجتمع الأكثرية السكانية، في أن يكون رئيس الدولة شيعياً، كما سلب حقه في أن تكون مناصب الشيعة في الدولة منسجمة مع نسبتهم السكانية، وأن تكون الحكومة منسجمة عقدياً وسياسياً وثقافياً مع مذهب الأكثرية، وأن تشهد مناطق الوسط والجنوب المحرومة نمواً بنيوياً اقتصادياً وخدماتياً مستداماً.

وهذا لا يعني أنّ مطالبة المجتمع الشيعي العراقي بحقوقه الطبيعية المذكورة، ينبغي أن تؤدي إلى تحول الدولة العراقية إلى دولة شيعية، بل يعني أن تراعي القانون والنظام الدولة حق الأكثرية السكانية المذهبية في كل المجالات، وألّا تُكسر ـ دائماً ـ جرّة اللحمة الوطنية والتوازن بين المكونات وتأليف القلوب، برأس المجتمع الشيعي العراقي دون غيره، وأن يبقى هو (أم الولد) التي تتحمل المغارم وحدها، بينما تتوزع المغانم على الآخرين. ولعلّ المفارقة الأُخرى، هي أن يوصم الشيعي الذي يتكلم بمنطق العدالة الواقعية والإنصاف العملي، بالطائفية وانعدام الوطنية، بينما يكون السني الذي يجهر بحقوق طائفته ـ بكل قوة ـ وطنياً، والكردي الذي لا ينظر إلّا إلى مصالحة القومية ابناً باراً للعراق. وهو ما ظل ينعكس سلباً على علاقة المجتمع الشيعي العراقي بالدولة الجديدة والنخبة الدينية والسياسية الشيعية. وبالتالي، بقي التغيير المأمول بعد العام 2003 مبتوراً وناقصاً، رغم أهمية التغيير وكونه يشكل صدمة تاريخية كبرى للدولة العراقية الموروثة.

لذلك؛ لم يكن التآمر ضد شيعة العراق تآمراً عادياً يوماً، بل هو تآمر وجودي اجتثاثي، منذ عهد الاحتلال الأُموي، ثم الحكم العباسي، ثم العثماني، وصولاً إلى الاحتلال البريطاني والحكم الملكي الحجازي، ثم الحكم الجمهوري والحكم البعثي، وأخيراً الاحتلال الأمريكي. كل هذه الاحتلالات والحكومات كان هدفها استئصال التشيع أو حرفه وتدجينه، وتطويع الشيعة أو اجتثاثهم؛ لأنّ الخصوم، خاصة الأنظمة الطائفية العربية ومؤسساتها الدينية، لا يزالون يعتقدون بأنّ تطويع المجتمع الشيعي العراقي أو اجتثاثه، هو المقدمة الأساسية لاستئصال التشيع بشكل عام؛ لأنّ المجتمع الشيعي العراقي هو قلب الجسد الشيعي العالمي، كما يصفونه.

وأسوق هنا مثالاً على طبيعة تفكير الخصوم حيال شيعة العراق، وهو مثال كنتُ طرفاً فيه. ففي العام 2008 دخلت في حوار مع شيخ وهابي سعودي في بيروت حول مشكلة الوهابيين مع الشيعة، وإمكانية الوفاق بين الشيعة والوهابيين على قاعدة التعايش وعلاقات مصالح الجغرافيا والأوطان، فكان يردد بكل صراحة ما مضمونه: «صحيح أنّ مشكلتنا هي مع الوجود الشيعي بشكل عام، لكن مشكلتنا الأساسية هي مع شيعة العراق تحديداً، منذ تأسيس الدولة السعودية الأُولى وحتى الآن، وصحيح أيضاً أنّ شيعة لبنان وإيران هما عائقان كبيران أمام تحقيق مشروعنا، وأن إيران هي مصدر الحماية، وأن شيعة لبنان هم صوت الشيعة العالي، لكننا نستطيع تفادي خطرهما إلى حد كبير، لكن شيعة العراق هم المارد الذي يرعبنا؛ فهم كثرة نوعية عنيدة مندفعة، ومثقفة مذهبياً، ولديهم عدد كبير من علماء الدين والخطباء والمؤلفين، ولديهم تنظيمات سياسية ومسلحة قوية، ولأنهم عرب؛ فلا تعيقهم اللغة والمعرفة باللهجات الثقافة العربية، من النفوذ في المجتمعات العربية السنية، وهذا ما لا يستطيع الشيعي اللبناني أو الإيراني أو الهندي القيام به. ولو سمحنا لمشايخ شيعة العراق ومثقفيهم بالسفر كما يشاؤون، وممارسة التبليغ المذهبي؛ لتحول 50 % من السنة العرب إلى شيعة خلال خمسين سنة فقط. وها هم الآن متغلغلون في مسارات الدبلوماسية العربية عبر سفارات العراق وجامعة الدول العربية ومؤسساتها. لذلك، من الطبيعي أن تقوم الدولة السعودية وغيرها من الدول السنية، وخاصة بعد العام 2003، بإلهاء شيعة العراق وإشغالهم بمزيد من الأزمات والمشاكل، وضربهم من الداخل، وإشعال الصراعات بين كتلهم الاجتماعية والسياسية، وخلق العداء بينهم وبين شيعة إيران وشيعة لبنان».

وأرى أنّ ما قاله هذا الشيخ السعودي الوهابي لا يحتاج إلى تفسير؛ فهو يشكل القاعدة الإيديولوجية لمخطط الاجتثاث الذي وضعه بندر بن سلطان رئيس المخابرات السعودية في العام 2013، والذي ينتهي ـ كما في الخلاصة التي كشفت عنها صحيفة الاندبندنت البريطانية ـ بتحويل شيعة العراق إلى مشردين، كاليهود في عصر النازية([5]). وهو ما تنبهت له الولايات المتحدة الأمريكية بعد العام 2011، وبدأت منذ ذلك الحين بدعم مخططات الأنظمة الطائفية العربية المعادية للمجتمع الشيعي العراقي.

 

([1]) أُنظر: السيد محمد الصدر، «تاريخ ما بعد الظهور».

([2]) راجع الفصل الثاني من هذا الکتاب.

([3]) أُنظر: علي المؤمن، «سنوات الجمر»، ص187 ـ 192.

([4]) لعل الدكتور علي الوردي في كتابه: «طبيعة المجتمع العراقي»، هو أحد أهم الباحثين الذين تحدثوا بإسهاب عن الطابع البدوي للشعب العراقي.

([5]) أُنظر تقرير الصحيفة: www. facebook. com/alialmomen644/posts/2453291418043796

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment