قواعد التشريع الإسلامي

Last Updated: 2024/06/10By

قواعد التشريع الإسلامي

د. علي المؤمن

تعرّف القاعدة بأنّها ((قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها))([1])، وبتعريف أشمل أنّها ((قضية كلية من حيث اشتمالها بالقوة على أحكام جزئيات موضوعها))([2]). وبذلك فالقاعدة هي الأساس؛ لأنّ جزئياتها تبنى عليها، وهي الأصل؛ لأنّ جزئياتها تتفرع عنها، وهي المعيار الذي يقاس به صدق الجزئيات من حيث انطباق المفهوم عليه أو عدم انطباقه. والغاية من تطبيق القاعدة على جزئياتها، معرفة أحكام تلك الجزئيات. ومن مرادفات مصطلح القاعدة أيضاً: الضابط والمبدأ([3]). وينطبق المصطلح على مختلف أنواع القواعد، كالقواعد الشرعية والقواعد اللغوية والقواعد السلوكية والقواعد القانونية وغيرها.

أمّا القاعدة الشرعية في الاصطلاح الإسلامي؛ فهي الضابطة الكلية المستمدة من أُصول الشريعة([4])التي تستفاد من القرآن والسنة والمصادر الأُخر المعتبرة شرعاً، ومنها العقل، والتي تنظم سلوك الأفراد وعلاقاتهم في المجتمع([5]).

والقاعدة الشرعية ليست الحكم الشرعي ولا مصدراً له، بل هي كاشفة عن الحكم الشرعي([6])، على اعتبار أنّ الحكم الشرعي يمثل ((المحدد الشرعي لصفة الواقعة الجزئية))([7])؛ فتكون القاعدة هي الأصل الكلي ويكون الحكم المصداق الجزئي.

ويذهب بعض الباحثين من خلال تعريف القاعدة الشرعية إلى أنّها إحدى صيغ الحكم الشرعي، فهي مرادفة له؛ فقال بأنّها: ((كلمة من الله في صورة خطاب لتنظيم الأفعال الإنسانية والأقوال وحتى الأفكار والنيات))([8]). ويؤيد هذا التعريف القاضي اللبناني الدكتور سمير عاليه في وصفه الحكم الشرعي بقوله: ((وأمّا الحكم الشرعي فهو خطاب الشارع المفيد فائدة شرعية أو القاعدة التي نص عليها الشرع الإسلامي في مسألة من المسائل))([9]).

ويميز الفقيه الإسلامي السعودي الدكتور عبد الهادي الفضلي بين التعريف القانوني للحكم الشرعي وبين التعريف الفقهي له؛ فيذهب إلى أنّ كلمة (قاعدة) في التعريفات القانونية للحكم الشرعي تعني الحكم؛ فيكون الحكم الشرعي هو خطاب الشارع في الاصطلاح الفقهي، ويكون الحكم الشرعي هو القاعدة الشرعية في الاصطلاح القانوني([10]).

ويقابل مصطلح القاعدة الشرعية في الفقه؛ القاعدة القانونية أو المبادئ القانونية في القانون الوضعي. وعبّر علماء القانون عن المبدأ القانوني بأنّه ما يصلح لتطبيقات لا حدّ لها، بينما القاعدة القانونية الفردية هي ما وضع لعدد معين من الأعمال أو الوقائع؛ فيكون المبدأ بذلك أعم من القاعدة الفردية، ويقوم بدور هام عند تفسير القاعدة الغامضة. ويعد المبدأ من عناصر المرونة في التشريع([11]). ووفقاً لذلك؛ يمكن مقابلة القاعدة القانونية بالقاعدة الفقهية، والمبدأ القانوني بالقاعدة الأُصولية. وعموماً فإنّ القواعد؛ سواء كانت شرعية أم قانونية؛ هي أُصول أو أُسس للتشريع، إسلامياً في الشريعة، ووضعياً في القانون الأرضي. وقد اهتمت الشريعة الإسلامية اهتماماً بالغاً بتقعيد مبادئها؛ لتسهيل عملية الكشف عن الحكم الشرعي والاستدلال عليه.

وفضلاً عن دور القاعدة الشرعية في الكشف عن الحكم الشرعي؛ فإنّ لها أهمية في حركة التنظير الفقهي([12])، أي وضع النظريات الفقهية في موضوع معين، كنظرية العقد، ونظرية الربا، ونظرية الملكية، ونظرية الحق، ونظرية الضرورة وغيرها، وهي تعبير عما يسميه الباحث الإسلامي العراقي الدكتور عبد الكريم زيدان بالنظام القانوني في الفقه الإسلامي([13]). وتقوم النظرية على مجموعة من القواعد والأحكام، فتكون بذلك قاعدة القواعد، بل إنّ بعض الباحثين جمع بين دلالة القاعدة ودلالة النظرية؛ فوصف النظريات بأنّها كبرى القواعد الفقهية، ومثّل على ذلك بنظرية الضرر، فذهب بأنّها تقوم على جملة من القواعد، أبرزها: (لا ضرر ولا ضرار)، (الضرر لا يُزال بمثله)، (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف) وغيرها([14]).

ويوجز الفقيه الإسلامي التونسي الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة أهم مساحات الاشتراك والافتراق بين القاعدة والنظرية، استناداً إلى آراء جملة من أهم الباحثين في الفقه الإسلامي، فيقول بأنّ النظرية الفقهية والقاعدة الفقهية يشتركان في اشتمال كل منهما على مسائل من أبواب متفرقة ويختلفان في ثلاثة وجوه، وهي أنّ النظرية أوسع نطاقاً من القاعدة، فتندرج القاعدة تحت النظرية الكبرى، فقاعدة (الأصل في العقود رضا المتعاقدين)؛ تمثل ضابطاً خاصاً في نظرية العقد. والقاعدة تتضمن حكماً ينتقل إلى الفروع المندرجة تحتها؛ في حين لا تحمل النظرية حكماً فقهياً. كما أنّ القاعدة لا تشتمل ـ غالباً ـ على شروط وأركان، بخلاف النظرية؛ فإنّها لا تكون نظرية بدون ذلك([15]). ونخلص إلى القول في موضوع النظرية بأنّ هناك نظريات فقهية موضوعية، ترتبط بمجال من مجالات المعرفة، كالسياسة والاقتصاد والإعلام والحقوق وغيرها، وهناك نظريات فقهية قواعدية ترتبط بموضوع محدد، ويمثل كل منها نظاماً حقوقياً وفقاً لتوصيف القانون الوضعي. ومن مجموعة من الأحكام الاستدلالية والقواعد تتكون النظريات الفقهية القواعدية، ومن مجموعة من الأخيرة تتألف النظريات الفقهية الموضوعية.

ويقسّم الباحث الإسلامي المصري الدكتور جمال الدين عطية القواعد الشرعية من حيث التجريد والشمول إلى أربعة أنواع، هي: القواعد الكلية الأصلية، القواعد المشتركة بين أبواب فقهية من أقسام مختلفة، القواعد المشتركة بين أبواب الفقه من قسم واحد، القواعد الخاصة بباب من أبواب الفقه([16]). وهو تقسيم يقتصر على نوع واحد فقط من القواعد الشرعية هي القواعد الفقهية. ولكن الدكتور عطية يعود ويقسّم القواعد على أساس نوعية القواعد وموضوعيتها إلى قواعد أُصولية، كلامية، لغوية وفقهية([17]). وهذا التقسيم يستبعد القواعد الأخلاقية، ويدخل القواعد اللغوية ضمن القواعد الشرعية.

أمّا القاضي اللبناني الدكتور سمير عاليه فإنّه يقسّم القواعد الشرعية إلى ثلاث فئات ـ كما يسمّيها ـ هي: قواعد العقيدة الدينية، وتتناول ما يتصل بذات الله تعالى وصفاته، والإيمان به وبرسله واليوم الآخر، ومحل دراستها علم الكلام؛ والقواعد الأخلاقية، وتتناول تهذيب النفس وإصلاحها وضرورة تمسك المسلم بالمثل العليا والفضائل، ومحل دراستها علم الأخلاق؛ والقواعد العملية، وتتناول العبادات والمعاملات، والتي سميت فيما بعد بالفقه، ومحل دراستها علم الفقه. ويعبَّر عن هذه القواعد بالأحكام([18]). ويرد على هذا التقسيم أنّه لم يتطرق إلى القواعد الأُصولية، وقصر قواعد التشريع على القواعد الفقهية، كما أنّه عدّ الأحكام هي القواعد ذاتها. وقد أشرنا إلى الفرق بينهما فيما سبق.

وهناك تقسيم آخر يتبناه الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة في إطار مشروع كبير قام به؛ بهدف حصر القواعد الشرعية من مختلف المذاهب الإسلامية، ويتمثل في تقسيمها إلى: القواعد الكلية، القواعد الأُصولية، الضوابط الفقهية، المقاصد الشرعية([19]). وهو تقسيم جديد من حيث إفراده مقاصد الشريعة قسماً خاصاً، إلّا أنّه لم يشر إلى القواعد الكلامية أو الأخلاقية، وساوى أيضاً بين الأحكام والقواعد. والأهم في مشروع الشيخ ابن الخوجة هو حصره لمجموع القواعد؛ فيقول بأنّها ((بلغت 14000 قاعدة، صارت بعد استبعاد المكررات وما يلحق بها من تطورات وتفريعات 6844 قاعدة ومسألة مفصلة كالتالي:

ـ 4610 جملة القواعد الكلية.

ـ 426 جملة القواعد الأُصولية.

ـ 1781 جملة الضوابط الفقهية.

ـ 27 جملة المقاصد الشرعية))([20]).

ولعلّ التقسيم الذي نرى أنّه الأكثر انسجاماً مع نوعية القواعد الشرعية وموضوعها؛ هو تقسيمها إلى:

1 ـ القواعد العقيدية، ومحل دراستها علم الكلام.

2 ـ القواعد الأخلاقية، ومحل دراستها علم الأخلاق.

3 ـ القواعد الأُصولية، ومحل دراستها علم أُصول الفقه.

4 ـ القواعد الفقهية، ومحل دراستها علم الفقه.

وما يعنينا هنا هو القواعد الأُصولية والقواعد الفقهية؛ لعلاقتهما المباشرة بعملية التشريع، وهي ما يقابل القواعد القانونية في القانون الوضعي. مع الأخذ بنظر الاعتبار أهمية القواعد الأخلاقية والقواعد العقيدية في الدلالة على روح الشريعة ومقاصدها العامة الكامنة في كل قاعدة فقهية وأُصولية، وهي دلالة يمكن الاهتداء بها في الاستدلال على القاعدة نفسها وفي كشف الأحكام من خلالها، ولا سيّما في الموضوعات التي لم يرد فيها نص، وهي ما نعبِّر عنه بمساحة التفويض التشريعي، وهو المجال الذي يتحرك فيه الاجتهاد بهدف وضع التشريعات (الأحكام الشرعية) اللازمة. وقد اهتم الفقيه الشيخ عبد الوهاب بن علي السبكي (ت 771 ه) بالقواعد الكلامية التي ينبني عليها فروع فقهية، مثل: الاعتبار في الأعمال بالخواتيم، العلة تسبق المعلول، والحسن والقبح شرعي لا عقلي([21]). وفي مجمل القواعد التي يذكرها السبكي هناك تداخل واضح بين القواعد الكلامية والمسائل الفلسفية والقواعد الأُصولية([22]).

ونعرض هنا للقواعد الأُصولية والفقهية؛ للوقوف على طبيعة عملها في التشريع؛ باعتبارها القواعد التشريعية التي يستند إليها الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية:

1 ـ القواعد الفقهية:

القواعد الفقهية هي الأساس الذي تستند إليه مجموعة الأحكام الفقهية؛ إذ يجمع هذه الأحكام قاسم مشترك أو أساس فقهي واحد مردّه القاعدة الفقهية. وتسمى القاعدة هنا بالضابطة أو القضية الكلية، والحكم الفقهي بالمصداق أو الجزئية الفقهية. وتنقسم القواعد الفقهية موضوعياً ـ وفقاً للمجال الذي تطبق فيه ـ إلى قواعد عبادية وسياسية واقتصادية واجتماعية وجهادية وثقافية وغيرها، كما تقسّم على أساس أبواب الفقه المتعارفة إلى قواعد عبادات وعقود وإيقاعات وأحكام عامة. كما تقسّم فنياً إلى قواعد عامة، مثل: قاعدة نفي الضرر، وقاعدة نفي السبيل، وقاعدة نفي العسر والحرج وغيرها، وقواعد خاصة، مثل: قاعدة الإتلاف، وقاعدة الحيازة وغيرهما([23]).

وذكر الفقيه الإمامي المقداد السيوري (ت826 ه) أنّ الفقهاء استنبطوا من الأدلة الشرعية خمس قواعد ردوا إليها كثيراً من الأحكام الفقهية([24])، وهي([25]):

أ ـ البناء على الأصل، ويعبر عنها باليقين لا يُرفع بالشك أو لا يُزال بالشك.

ب ـ العمل بحسب النية، استناداً إلى قوله تعالى: {ﮘ  ﮙ  ﮚ  ﮛ  ﮜ  ﮝ ﮞ ﮟ}([26])، وقول رسول الله(ص): «إنّما الأعمال بالنيات، وإنّما لكل امرئ ما نوى»([27]).

ج ـ المشقة سبب التيسير، استناداً إلى قوله تبارك وتعالى: { ﯗ ﯘ  ﯙ  ﯚ }([28]) ، وقول رسول الله(ص): «بعثت بالحنيفية السمحة»([29]).

د ـ تحكيم العرف والعادة عند انتفاء الدليل الشرعي، ويعبّر عنها بالعادة المحكّمة.

هـ ـ نفي الضرر، أو الضرر يزال، استناداً إلى قول رسول الله(ص): «لا ضرر ولا ضرار»([30]).

في حين حصر الفقيه الشافعي المروزي (ت 462 ه) القواعد الفقهية في أربع فقط، هي: (اليقين لا يزال بالشك)، (المشقة تجلب التيسير)، (الضرر يزال) و(العادة محكّمة). وجاء ابن السبكي من بعده ليضيف قاعدة (الأُمور بمقاصدها) ([31]). وهي القواعد ذاتها التي يذكرها المقداد السيوري. والتي يمكن تسميتها بالقواعد الكلية الأصلية. في حين هناك مئات القواعد الفقهية الفرعية([32])، التي تقسم بدورها إلى عدة أقسام كما مر من تقسيم الدكتور جمال الدين عطية([33]).

2 ـ القواعد الأُصولية:

يُعدّ علم أُصول الفقه علماً خاصاً بالقواعد الشرعية العقلية أو القواعد العقلية المشرعنة (المقبولة شرعاً أو المستندة إلى دليل شرعي)؛ فهو علم قواعد استنباط الأحكام الشرعية. ومصطلح الأُصول هنا يرادف مصطلح القواعد، حتى إنّ الفقيه الإسلامي المصري الشيخ محمد أبو زهرة يعرّف أُصول الفقه بأنّه ((العلم بالقواعد التي ترسم المناهج لاستنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية))([34]). فعلم الأُصول ـ إذاً ـ لصيق بقواعد التشريع أكثر من أي علم آخر من علوم الشريعة، وهو ما يمكن الوقوف عليه من هدف البحث في أُصول الفقه، والمتمثل في ((استخلاص القواعد الأُصولية من مصادرها النقلية أو العقلية بغية الاستفادة منها في مجال الاجتهاد الفقهي))([35])، إضافة إلى بيان دلالة القاعدة وكيفية تطبيقها. وقد تطور موضوع علم الأُصول من أدلة الفقه إلى القواعد التشريعية؛ إلى العناصر المشتركة للاستنباط.

وأدلة الفقه هي كل ما يصلح لأن يكون مستنداً للفتوى، سواء كان دليلاً أو أمارة أو أصلاً([36]). أمّا القواعد الأُصولية فهي ـ كما مر ـ القضايا الكلية التي تقع كبرى في قياس الاستنباط الفقهي. والعناصر المشتركة هي أعم من القواعد؛ فكل عنصر مشترك له دخل مباشر في عملية الاستنباط الفقهي([37])، وتمثل هذه العناصر القواعد الكلية الأصلية أو القواعد العامة، وهو ما انتهى إليه علم الأُصول؛ فأصبح علماً بالعناصر المشتركة أو القواعد العامة التي تدخل في عملية استنباط أحكام شرعية عديدة في أبواب مختلفة([38])، سواء كان استنباطاً قائماً على أدلة محرزة للحكم، كالاستنباط المستمد من نص دال على الحكم الشرعي، أو استنباطاً قائماً على أساس الأُصول العملية([39]).

ومصدر أُصول الفقه ـ بعد القرآن الكريم والسنة الشريفة ـ هي سيرة العقلاء، التي ترجع إليها كل المدركات العقلية التي يذكرها الأُصوليون في أبواب الأُصول. وما ورد من آيات وروايات في قواعد الأُصول هي إقرار لسيرة العقلاء([40]). أي أنّ سيرة العقلاء أو بناء العقلاء هو مصدر القواعد الأُصولية، والذي يمكن الاستناد إليه في إثبات حجية القاعدة ومشروعية العمل بها والاعتماد عليها في عملية الاستنباط. ويشترط بناء العقلاء أن يتوافر على أربعة عناصر: العقلانية؛ أي بصدوره عن عقل ووعي، والشمولية؛ أي بصدوره عن جميع العقلاء، والإلزام؛ أي أنّه ملزم للجميع، بحيث يتحملوا مسؤولياته وتبعاته، والشرعية؛ أي موافقة الشرع الإسلامي عليه وإقراره له([41]).

وتنقسم الأُصول العملية إلى أُصول عملية غير محرزة، وأُصول عملية محرزة أو تنزيلية؛ فالأُولى ومثالها: قاعدة أصالة الحِل، التي يلحظ فيها كون الحكم المجهول مردداً بين الحرمة والإباحة، ولم يلحظ فيها وجود كشف معين عن الحلية. أمّا الثانية فمثالها: قاعدة الفراغ، وفيها أنّ التعبد بصحة العمل المفروغ عنه يرتبط بكاشف معين عن الصحة، ولكن هذا الكاشف ليس هو الملاك، بل هناك دخل للكون المشكوك مرتبطاً بعمل تم الفراغ منه([42]).

كما تنقسم الأُصول العملية بلحاظ صدورها إلى أُصول عملية شرعية وأُصول عملية عقلية؛ فالشرعية مردّها إلى أحكام ظاهرية شرعية. أمّا الأُصول العملية العقلية، فهي وظائف عملية عقلية، ترجع إلى مدركات العقل العملي فيما يرتبط بحق الطاعة([43]).

وقد حصر الفقيه الإمامي المجدد الشيخ مرتضى الأنصاري (ت1281ه) الأُصول العملية العقلية في أربعة أُصول أو قواعد عامة([44])، وهي: (أصل الاستصحاب)، ويعني حكم الشارع على المكلف بالالتزام عملياً بكل شيء كان على يقين منه ثم شك في بقائه عليه([45])، أي العودة إلى حالة القطع عند الشك، ودليله قول الإمام علي: «لا ينقض اليقين بالشك»([46]).

و(أصل البراءة)، ويعني أنّ كل موضوع شك المكلف في حكمه (وجوباً أو تحريماً) أو لم يعلم بتحقق موضوع الحكم؛ فإنّه لا يكون ملزماً بالاحتياط تجاهه والتقيد به([47])، ودليله الحديث النبوي: «رفع عن اُمتي ما لا يعلمون»([48]).

و(أصل الاحتياط)، ويعني وجوب الاحتياط في موارد الشك حيال التكليف المحتمل؛ فيقوم المكلّف بالتكليف احتياطاً، إلّا إذا عرف برضى الشارع بترك الاحتياط([49]).

و(أصل التخيير)، الذي يعني أنّ التكليف حين يدور بين الحرمة والوجوب، أو الحرمة بين أمرين متضادين، أو الوجوب بين أمرين متضادين، وذلك عند الشك بينهما وعدم احتمال حكم آخر وعدم حالة سابقة لواحد منها؛ فإنّ المكلّف يتخير بينهما؛ لاستحالة الإتيان بهما معاً.

وبعد استعراض مفهوم القواعد الفقهية والأُصولية، نرى ضرورياً الوقوف على طبيعة الفروق بينهما، والتي يمكن تلخيصها في أربعة فروق:

أ ـ القاعدة الأُصولية تنتج حكماً كلياً أو وظيفة كلية، بينما ينحصر إنتاج القاعدة الفقهية في الأحكام والوظائف الجزئية المتصلة اتصالاً مباشراً بعمل المكلّف.

ب ـ القاعدة الأُصولية لا يتوقف استنتاجها والتعرف عليها على قاعدة فقهية، بينما القاعدة الفقهية وليدة قياس تكون كبراه قاعدة أُصولية.

ج ـ القاعدة الأُصولية لا تتصل بعمل المكلّف اتصالاً مباشراً ولا يهمه معرفتها؛ لأنّ إعمالها ليس من وظائفه، وإنّما هي وظيفة الفقيه، بينما تتصل القاعدة الفقهية اتصالاً مباشراً بالمكلّف، وهي التي تحدد له وظيفته، فهو ملزم بالتعرف عليها لأخذ حكمها من الفقيه([50]).

د ـ إنّ القواعد الأُصولية هي القواعد العامة (العناصر المشتركة) التي تدخل في عملية استنباط أحكام شرعية عديدة في أبواب مختلفة، بينما تمثل القواعد الفقهية قواعد خاصة (عناصر خاصة) تدخل في عملية استنباط حكم شرعي في مسألة واحدة، ومن هنا فهي تتغير من مسألة إلى أُخرى([51]).

 

([1]) الجرجاني، «التعريفات»، نقلاً بالواسطة عن: الفضلي، د. عبد الهادي، «الوسيط في قواعد فهم النصوص»، ص103.

([2]) أبو البقاء، «الكليات»، نقلاً بالواسطة عن: الفضلي، د. عبد الهادي، «الوسيط» (مصدر سابق)، ص103.

([3]) اُنظر للمزيد: الفضلي، د. عبد الهادي، «الوسيط» (مصدر سابق)، ص104 ـ 105.

([4]) اُنظر: زاهد، د. عبد الأمير (مصدر سابق)، ص20.

([5]) اُنظر: زيدان، د. عبد الكريم، «نظام القضاء في الشريعة الإسلامية»، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1984، ص5 ـ 6.

([6]) يعرِّف السيد محمد باقر الصدر الحكم الشرعي بأنّه «التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان وتوجيهه»، «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ج2 ص13.

([7]) اُنظر: زاهد، د. عبد الأمير (مصدر سابق)، ص20 ـ 23.

([8]) عبد الوهاب، د. صلاح الدين، «الأُصول العامة للقانون»، ص119.

([9]) عاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص16.

([10]) الفضلي، د. عبد الهادي، «دروس في أُصول فقه الإمامية» (مصدر سابق)، ج1 ص390.

([11]) حجازي، د. عبد الحي، «المدخل لدراسة العلوم القانونية»، ص493 ـ 497، نقلاً بالواسطة عن: عطية، د. جمال الدين، «التنظير الفقهي»، مطبعة المدينة المنورة، المدينة، 1987، ص213.

([12]) عطية، د. جمال الدين، «التنظير الفقهي» (مصدر سابق)، ص211.

([13]) زيدان، د. عبد الكريم، «المدخل الفقهي» (مصدر سابق)، ص88.

([14]) إمام، د. محمد كمال الدين، «نظرية الفقه في الإسلام»، 318 ـ 353، نقلاً بالواسطة عن: ابن الخوجة، د. محمد، «الفقه الإسلامي» من كتاب «الاجتهاد والتجديد» (مصدر سابق)، ص51 ـ 52.

([15]) المصدر السابق، ص53 ـ 54.

([16]) عطية، د. جمال الدين، «التنظير الفقهي» (مصدر سابق)، ص77.

([17]) المصدر السابق.

([18]) عاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص49.

([19]) ابن الخوجة، د. محمد الحبيب (مصدر سابق)، ص74 ـ 75.

([20]) المصدر السابق، ص75.

([21]) القاعدة الأخيرة التي يذكرها ابن السبكي (الحسن والقبح)؛ يختلف فيها الشيعة والمعتزلة مع الأشعرية (المدرسة الكلامية التي تنتمي إليها معظم المذاهب السنية)؛ إذ يعتبر الشيعة والمعتزلة أنّ الحسن والقبح عقليان وليسا شرعيين. أمّا تأثير هذه القاعدة الكلامية على الفروع الفقهية فهو أمر لا خلاف فيه بين مجمل المذاهب الإسلامية.

([22]) للمزيد من بيان أثر بعض هذه الآراء والقواعد الكلامية على الفروع الفقهية اُنظر: عطية، د.جمال الدين، «التنظير الفقهي» (مصدر سابق)، ص107.

([23]) الزرقا، د. مصطفى أحمد، «المدخل الفقهي العام»، دار القلم، دمشق، 1989، ج2، ص942.

([24]) السيوري، الشيخ المقداد، «نضد القواعد الفقهية» (مصدر سابق)، ص13.

([25]) اُنظر: الشهرستاني، د. محمد علي (مصدر سابق)، ص136 ـ 137.

([26]) سورة البينة، الآية5.

([27]) أخرجه البخاري، محمد بن إسماعيل في صحيحه، باب بدء الوحي، تحقيق: رائد صبري، دار الحضارة، بيروت، ط3، 2015.

([28]) سورة البقرة، الآية 185.

([29]) السيوطي، عبد الرحمن، «الجامع الصغير»، ج1، ص486، ح3150.

([30]) الكليني، الشيخ محمد بن يعقوب، «الكافي»، دار التعارف، بيروت، ط4، 1410ه، ج5، ص292.

([31]) عطية، د. جمال الدين، «التنظير الفقهي» (مصدر سابق)، ص78.

([32]) من المصادر التي اهتمت بموضوع القواعد الفقهية، اُنظر: الشيخ محمد بن مكي العاملي، «القواعد والفوائد». الشيخ المقداد السيوري، «نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية». الشيخ ابن رجب الحنبلي، «القواعد الفقهية». الشيخ أبو زيد الدبوسي، «تأسيس النظر». الشيخ عبد العزيز عبد السلام السلمي الشافعي، «قواعد الأحكام في مصالح الأنام». محمد بن محمد المقري المالكي، «القواعد». الشيخ محمد بن عمر الشافعي والشيخ عبد الوهاب بن علي السبكي والشيخ عبد الرحمن السيوطي والشيخ زين الدين بن إبراهيم الحنفي، لكل منهم مؤلفاً في القواعد الفقهية يحمل عنوان: «الأشباه والنظائر»، الشيخ محمود حمزة، «الفوائد البهية». الشيخ أحمد الزرقا، «شرح القواعد الفقهية». الشيخ ناصر مكارم الشيرازي والسيد حسن الموسوي البجنوردي والشيخ الفاضل اللنكراني والشيخ محمد صالح المنجد والشيخ محمد باقر الإيرواني والسيد محمد الشيرازي، لكل منهم مؤلفاً يحمل عنوان: «القواعد الفقهية». الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة، «النظرية الشرعية».

([33]) اُنظر: عطية، د. جمال الدين، «التنظير الفقهي» (مصدر سابق)، ص78 ـ 95.

([34]) اُنظر: أبو زهرة، الشيخ محمد، «أُصول الفقه»، دار الفكر العربي، بيروت، 2009، ص8.

([35]) الفضلي، د. عبد الهادي، «دروس في أُصول فقه الإمامية» (مصدر سابق)، ج1 ص375.

([36]) الدليل يقصد به ما يدل على الحكم الشرعي، سواء كان دليلاً قطعياً يدل دلالة مباشرة على الحكم الشرعي، أو دليلاً ناقصاً تثبت حجيته بدليل قطعي، فيقال: «الأصل في الظن هو عدم الحجية إلّا ما خرج بدليل قطعي». وينقسم الدليل إلى دليل شرعي أو دليل حكم، وهو كل ما يصدر من الشارع، ويختص بالقرآن والسنة، ودليل عقلي أو دليل وظيفة، وهو ما يسمى بالأصل، الذي يدركه العقل، ويمكن أن يُستنبط حكم عقلي، كقضية (مقدمة الواجب واجبة)، أو (أصالة البراءة). والأصل لا يحرز الواقع، وإنّما يحدد الوظيفة العملية تجاه الواقع، أو اتجاه الحكم الشرعي المجهول، ولذا يسمى بالأصل العملي؛ للتفرقة بينه وبين الأصل بمعناه العام الذي هو مطلق الدليل ومطلق القاعدة. والأصل العملي يقابل الدليل والأمارة. أمّا الأمارة فهي الدليل الظني الذي له درجة كشف عن الحكم الشرعي؛ فتكون الحجية هنا للأمارة، في تحديد موقف المكلّف.

اُنظر: الصدر، السيد محمد باقر، «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ج1، ص263 ـ 264، ج2، ص361 و269، ج3، ص23 ـ 24. والفضلي، د. عبد الهادي، «دروس في أُصول فقه الإمامية» (مصدر سابق)، ج2، ص387.

([37]) الفضلي، د. عبد الهادي، «دروس في أُصول فقه الإمامية» (مصدر سابق)، ج1، ص100.

([38]) الصدر، السيد محمد باقر، «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ج1، ص242.

([39]) المصدر السابق، ج1، ص264.

([40]) تعرَّف سيرة العقلاء أو (بناء العقلاء) بأنّها صدور العقلاء عن سلوك معين تجاه واقعة ما، صدوراً تلقائياً، شريطة أن يتساووا في صدورهم عن هذا السلوك، على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم وتفاوت ثقافاتهم ومعارفهم وتعدّد نحلهم وأديانهم. اُنظر: الفضلي، د. عبد الهادي، «دروس في أُصول فقه الإمامية» (مصدر سابق)، ج1، ص117 ـ 119.

([41]) اُنظر: الفضلي، د. عبد الهادي، «الوسيط في فهم النصوص الشرعية» (مصدر سابق)، ص106 ـ 108.

([42]) للمزيد اُنظر: الصدر، السيد محمد باقر، «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ج2، ص361 ـ 362.

([43]) للمزيد اُنظر: المصدر السابق، ج3، ص308 ـ 310.

([44]) اُنظر: الأنصاري، الشيخ مرتضى، «فرائد الأُصول» (مصدر سابق).

([45]) الصدر، السيد محمد باقر، «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ج2، ص333.

([46]) رواه زرارة بن أعين، عن الإمام الصادق، ونقله الشيخ المفيد في كتاب «الإرشاد»، الباب 33، ص126.

([47]) الصدر، السيد محمد باقر، «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ج1، ص263، وج2، ص325 ـ 326.

([48]) رواه ابن ماجه في سننه، ج2، ص 214. والشيخ الكليني في «الكافي»، ج2، ص 411. والبهيقي في «السنن الكبرى»، ج7، ص 47. والشيخ محمد رضا المظفر في «أُصول الفقه»، ج2، ص236. والشيخ مرتضى الأنصاري في «فرائد الأُصول»، ج1، ص 203.

([49]) يختلف السيد محمد باقر الصدر مع كثير من علماء الأُصول في اتباع (قاعدة البراءة) على أساس مسلك (قبح العقاب بلا بيان)، وهو المسلك الذي يؤدي إلى عدم الاحتياط حيال التكاليف المشكوكة، ولو احتمل أهميتها بدرجة كبيرة، وبالتالي نفي المسؤولية عن المكلف في هذا المجال. في حين يتبنى الشهيد الصدر (قاعدة الاحتياط) على أساس مسلك (حق الطاعة)، وهو المسلك الذي يقول بأنّ حق الطاعة لله لا يختص بالتكاليف المقطوعة، بل يشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالاً. ويعدّ (قاعدة الاحتياط) أو (أصالة اشتغال ذمة المكلف) هي القاعدة العملية الأولية، ما لم يثبت شرعاً للمكلف إمكانية ترك الاحتياط، وهنا يتم الاستناد إلى (قاعدة البراءة الشرعية) التي يعدّها قاعدة عملية ثانوية. اُنظر: «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ج2، ص325 ـ 326 وج3، ص321 ـ 324.

([50]) الحكيم، السيد محمد تقي، «الأُصول العامة للفقه المقارن» (مصدر سابق)، ص43. ويكتفي السيد الحكيم بذكر الفروق الثلاثة (أ، ب، ج)، فيما يثبت السيد محمد باقر الصدر الفرق الرابع (د).

([51]) الصدر، السيد محمد باقر، «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ج1، ص242.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment