عبود مزهر الراضي والتنشأة الاجتماعية الدينية

Last Updated: 2024/06/09By

الداعية القائد عبود مزهر الراضي والتنشئة الاجتماعية الدينية

د. علي المؤمن

ثلاثة عوامل أساسية ساهمت متعاضدة في بناء الشخصية الاجتماعية الدينية للداعية القائد عبود مزهر الراضي: أسرته ومحلته ومدينته، وهي عوامل تدرسها مداخل علمية متعددة، أهمها علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع الديني والثقافي والسياسي والتربوي. وتزداد أهمية دراسة التنشئة الاجتماعية الدينية للداعية الراضي، بالنظر لخصوصية المناخات الاجتماعية الثلاثة المتميزة المذكورة، فالمناخ الديني التقليدي لأسرته، جعلته متشبعاً منذ سنوات طفولته بالخطاب والسلوك الدينيين، بينما ساهمت المحلة (طرف العمارة) التي ولد وترعرع فيها، وما تحتويه من إرث وتمظهر دينيين، في تعزيز تنشئته الاجتماعية الدينية. أما العامل الثالث، أي مدينة النجف الأشرف، وما تمثله من حاضرة دينية علمية واجتماع ديني وثقافي وسياسي عالمي متفرد، فقد لعب دوراً محورياً في هذه التنشئة.

وبالتالي؛ فإن الاندماج والتماهي بهذه المناخات والتفاعل معها؛ تخلق تلقائياً شخصية اجتماعية دينية ثقافية، مؤهلة للفعل الإسلامي العام المؤثر، ومن الطبيعي أن تجد نفسها منخرطة في عمل جماعي تغييري أو مندفعة للبحث عنه.

أسرة مزهر الراضي

كان الحاج مزهر الراضي الجبوري من وجهاء طرف العمارة في النجف الأشرف، وكان دكانه الذي يمارس فيه حرفة الخياطة، محلاً لالتقاء شرائح مختلفة من أبناء الطرف، ولذلك؛ ليس مستغرباً أن تربطه علاقات صداقة متينة بعلماء دين كبار وخطباء مشهورين وأدباء بارزين، فالحرفي النجفي لايقل ثقافة أو وعياً دينياً عن شرائح المجتمع المتعلمة الأخرى، بحكم المطالعة والحضور الدائم في (برانيات) المراجع ومجالس العلماء والخطباء والشعراء. هذه العلاقات وما تفرزه من مشاهد اجتماعية دينية ثقافية، بقيت مألوفة لعبود في طفولته ويفاعته وشبابه، وهو يشاهد علاقات والده الحاج مزهر بالنخبة الاجتماعية الدينية والثقافية، وهو يستمع الى حواراتهم وجدلهم في قضايا الدين والمجتمع والسياسة.

عبود؛ الإبن البكر للحاج مزهر، نشأ في هذا البيت المتدين المثقف البسيط، وظل منذ طفولته يتفاعل مع حركة والده في دكان الخياطة، ويساعده في العمل، ليتحمل جزءاً من مسؤولية الكد على العائلة؛ الأمر الذي خلق عنده شعوراً مبكراً بالمسؤولية الاجتماعية ونكران الذات، وتطورت هذه المسؤولية بعد تخرجه من اعدادية النجف في العام 1961 وتعيينه كاتباً في إحدى المدارس الثانوية، ثم بعد تخرجه من الكلية وتعيينه مدرساً للغة العربية والتربية الدينية؛ ليستمر في رعاية العائلة مادياً. وبات في الفترة من 1961 وحتى 1964 يجمع بين الوظيفة والدراسة في كلية الفقه، والعمل في صفوف حزب الدعوة الإسلامية الذي انتظم فيه وهو في السنة الأولى من دراسته الجامعية.

طرف العمارة

(العمارة) إحدى محلات مدينة النجف داخل السور، والتي تسمى بالأطراف الأربعة، وهي: العمارة والحويش والمشراق والبراق. ويضم طرف العمارة عدداً كبيراً من بيوتات مراجع الدين والفقهاء والخطباء والأسر العلمية والدينية، إلّا أن العمارة بقيت متأثرة بتقاليد البداوة، بحكم وقوعها على حافة بادية النجف الموصولة ببادية نجد والأردن والسماوة، ووجود عدد كبير من الأسر ذات الأصول البدوية النجدية فيها، وكذلك الزعامات النجفية التاريخية، وهو ما يميز العمارة حتى في طقوس المواكب والعزاء الحسيني، والتي يغلب عليها طابع القوة والفروسية والبذل، وأبرزها موكب (المشاعل)، تبعاً للمناخات الاجتماعية للطرف. لذلك؛ كان الاحتكاك بين تحالفي “الزكرت” و”الشمرت” هو الأكثر عنفاً في العمارة، كما ظلت العمارة مكاناً مفضلاً لتواجد الثوار والمنتفضين ضد الحكومات، منذ العهد العثماني وحتى العقد البعثي؛ لأن جغرافيا طرف العمارة وأزقته (العگود) الأكثر ضيقاً على مستوى النجف، والامتداد الواحد لأسطح البيوت، والسراديب والآبار العباسية المستطرقة، يسهل للثوار الحركة والاختباء والهروب باتجاه بحر النجف والرحبة والمقابر، وصولاً الى الصحراء والبادية.

وقد التفت نظام البعث الى هذا التميز الجغرافي لطرف العمارة، والذي كان يمثل ثغرة أمنية كبيرة ومعقدة، إذ شهدت العمارة أحداث حراك المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم في الأعوام 1968 – 1970، وكذلك حراك الإمام السيد محمد باقر الصدر بعد العام 1979، حيث بيته وبرانيه. فكان قرار النظام البعثي تدمير محلة العمارة بكاملها، وهو ماحصل؛ إذ بدأت مشاريع التهديم بعد العام 1982، وتهجير سكان المحلة، أي ما يقرب من ربع أسر السور.

في هذه المحلة المتميزة بمناخاتها الاجتماعية الدينية وعناصر القوة والجرأة والفروسية، نشأ عبود الراضي، فكان يقطع المسافة يومياً بين بيت والده وحتى مرقد الإمام علي، وهي لا تزيد عن (700) متر، أو الى مدرسته الإبتدائية (مدرسة الملك غازي) أو إعدادية النجف في منطقة الجديدة، ماراً ببيوت المراجع والعلماء والخطباء والشعراء وزعماء الطرف، والمساجد والحسينيات و(التكيات)، ويلتقي بوجوه مشاهير المدينة والطائفة عن قرب، ويلقي عليهم التحية، وربما يتوقف أحياناً للحديث مع بعضهم. وكان من بين هذه البيوت؛ بيوت الرجال الدعاة الذين كانوا بمثابة أساتذته، أمثال الشهداء السيد محمد باقر الصدر وعبد الصاحب دخيل والسيد مهدي الحكيم، وكثير من مؤسسي حزب الدعوة الإسلامية ورواده، وهم من أبناء طرف العمارة وسكانه القدامى. كما كان من بين حسينيات العمارة ومواكبها المهمة التي عاش عبود الراضي تفاصيل نشاطاتها؛ الحسينية الشوشترية التي كان الشهيد السيد محمد باقر الصدر يؤم الصلاة فيها ويلقي دروسه، وكذلك موكب علي بن الحسين الذي كان يمثل أحد محاور الوعي والثورة في العمارة، بفضل شبابه الدعاة الذين يتقدمهم الشهيد وهاب الطالقاني.

هذه المظاهر خلقت من عبود الراضي شخصية قوية مؤثرة، جرئية في الحق، الى جانب عاطفته الجياشة وحسه المرهف، وهي صفات ربما تبدو متعارضة في الظاهر، لكنها من أبرز السمات التقليدية للشخصية النجفية. ولذلك؛ كانت جرأة عبود الراضي متميزة؛ فكان أول داعية يجلب جهاز طابعة ورونيو الى بيته في تاريح الدعوة، وهي الطابعة التي اشتراها الدكتور الشيخ أحمد الوائلي خصيصاً للدعوة ومنشوراتها السرية، ويعمل عليها الحاج عبود الراضي؛ فكانت منشورات الدعوة تخرج من بيته منذ العام 1962، وهي جرأة في الحق ثمنها الاعتقال والسجن وخراب البيت.

وخلال مسيرته الدعوية؛ بقيت مشاركة عبود الراضي في النشاطات الدينية والحسينية في عاشوراء والأربعين ورمضان وغيرها، منذ طفولته، سواء في العمارة أو غيرها؛ بقيت جزءاً لاينفك من تكوينه الشخصي والاجتماعي والحزبي.

الاجتماع الديني النجفي

يتفرد الاجتماع الديني النجفي بخصوصيات حصرية لاتتوافر في غيره، على مستوى العراق والعالم؛ فهو اجتماع عالمي تعددي، أسسته شعوب وقوميات وقبائل وشرائح اجتماعية من عشرات البلدان العربية والاسلامية، وقد تماهت بخصوصياته وتفاعلت معه وانصهرت فيه. وهو كذلك اجتماع يتمظهر بالخطاب الديني والعاطفة الدينية الجياشة، والتي تفرز ـ غالباً ــ حراكاً ثورياً يتميز بالقوة والجرأة. لذلك؛ يصف النجفيون أنفسهم بأنهم (أولاد علي)، أي أبناء الإمام علي بن أبي طالب، وما تمثله شخصيته من غيرة دينية وفروسية ونبل وكرم وقوة وجرأة.  كما يتميز الاجتماع الديني النجفي بكونه مركزاً للنظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي، وحاضناً لقيادة النظام، والمتمثلة بالمرجعية الدينية الشيعية، ولصرحه العلمي المركزي المتمثل بالحوزة العلمية النجفية ذات الألف عام.

والاجتماع الديني النجفي اجتماع واحد متجانس، رغم انطوائه على ما يبدو أنها تعارضات مكوناتية مجتمعية، كونه يتشكل بشرياً من عناصر حضرية وبدوية وريفية، لكنها عناصر منصهرة اجتماعياً وثقافياً؛ فلا تستطيع فيه التمييز بين البدوي النجدي والريفي العراقي والحضري الإيراني، وهو ما يجعل المجتمع النجفي متميزاً تلقائياً بالثقافة المنفتحة على الشعوب، والذكاء الفطري والنزعة القيادية، تكرسها تأثيرات العامل الديني. وخلاصة ذلك؛ أن الاجتماع النجفي هو اجتماع ديني عابر للحدود، مؤدلج ومسيس، وتستبطن عناصره البشرية شعوراً بالمركزية والمحورية.

وقد لعبت خصاثص الاجتماع الديني النجفي دوراً أساسياً في نجاح عملية التأسيس الطويلة والمعقدة لحزب الدعوة الإسلامية في العام 1957، وانتشاره في العراق وجميع دول الحضور الشيعي، ولولا هذه الخصائص لما استطاع الحزب الاستمرار والانتشار إطلاقاً، بل لو لم يتأسس حزب الدعوة الإسلامية في النجف ولم يستحضر عناصر تشكيل الاجتماع الديني النجفي وقوته؛ لما استطاع أن يكون حزب الدعوة الإسلامية، بقياداته وفكره ومسيرته ومقبوليته الشيعية العالمية.

وقد نشأ عبود مزهر الراضي في ظل هذا الاجتماع، وتماهى به وتفاعل معه، وبات افرازاً طبيعياً له ولعناصر تشكيله وقوته. وكنت شاهداً في المهجر على استحضار الداعية القائد عبود الراضي (أبو ماجد) هذا الإرث النجفي، ومعه شخصيات ورثت هذا الثقل أيضاً، أمثال الشيخ مهدي العطار والحاج جواد البلاغي والدكتور محمد تقي مشكور والشيخ هادي الخزرجي وغيرهم. وكان ممن أعاد تأسيس موكب علي بن الحسين في المهجر، وكان يدفعنا ــ كشباب نعمل بتوجيهه ـــ في إطار هذا الموكب وفي هيئة شباب علي الأكبر وموكب جمهور النجف؛ الى مزيد الإخلاص والتفاني في خدمة ذكرى الإمام الحسين.

مدرسة الشيخ المظفر

يعد الشيخ محمد رضا المظفر الراعي الحقيقي لحراك الوعي والتجديد الإسلامي المؤسَّسي المعاصر في العراق، والمنطلق من النجف الأشرف، من خلال الأعمال التأسيسية التجديدية التي استحدثها، بدءاً بمؤسسة منتدى النشر وليس انتهاء بكلية الفقه، إذ تحولت مؤسسات الشيخ المظفر ومناهجها التعلمية ونشاطاتها الثفافية والفكرية والعلمية، الى أكاديميات فاعلة لتربية وتخريج مجاميع كبيرة من علماء الدين الدعاة المثقفين، الذين يجمعون بين الدراسة الحوزوية المسجدية والدراسة الأكاديمية، وهو عمل تأسيسي غير مسبوق في الواقع الشيعي برمته، وليس العراقي وحسب. وكانت كلية الفقه معقلاً أساسياً لحزب الدعوة الإسلامية، إذ وجد فيها الحزب مدرسة جاهزة لإعداد الدعاة المؤهلين لتحمل المسؤليات التنظيمية والفكرية والتبليغية. ولذلك؛ كانت ساحة مفتوحة للكسب والاستقطاب. وبحلول سبعينات القرن الماضي؛ كان المئات من خريجي الكلية أعضاء ومسؤولين في حزب الدعوة الإسلامية.

وكان أحد طلاب كلية الفقه الذين كسبهم الحزب مبكراً؛ عبود مزهر الراضي الجبوري؛ فباتت الكلية ساحة نشاطه الدعوي التنظيمي والثقافي الرئيسة، حتى تخرج منها في العام 1964- 1965، وأهله ذلك للالتحاق بمجال التدريس الثانوي لمادتي اللغة العربية والتربية الدينية، وهو المجال الذي فتح له أبواب العمل الدعوي على مصراعيها؛ بالنظر لطبيعة المواد التي يدرّسها، وحجم العنصر البشري الشبابي الذي يحتويه حقل التعليم، وهو عنصر متعلم ومؤهل ثقافياً غالباً، ويمكن أن يشكل مساحة واعدة لعمل الدعوة.

مدرسة “الدعوة الإسلامية”

التنشئة الأسرية والاجتماعية الدينية الواعية لعبود مزهر الراضي؛ أهلته تلقائياً للانضمام الى صفوف حزب الدعوة الإسلامية، وكانت شخصيته الإسلامية الفاعلة محط أنظار الدعاة، وخاصة الذين يسكنون طرف العمارة، والذين يعرفونه عن قرب ويعرفون أسرته، ولذلك؛ كان من القلائل الذين يفاتحهم ثلاثة دعاة في أوقات متقاربة من العام 1961، أحدهم القيادي المؤسس السيد محمد مهدي الحكيم، ولم يكن هؤلاء بحاجة الى فترة التزام وتأهيل ومخاطبة طويلة لعبود الراضي؛ لكي يفاتحوه، بل كان مؤهلاً من اللحظة الأولى. وهذا هو حال أغلب الدعاة النجفيين الرواد، الذين كانوا طلاب في الحوزة العلمية أو مدارس منتدى النشر وكلية الفقه، أو تربوا على أيدي علماء دين.

وكان ممن رافقه في الحلقات التنظيمية الدعوية الأولى: الدكتور صاحب الحكيم والسيد عبد الكريم القزويني والسيد موسى الخوئي وحمزة الرواف والسيد حامد مؤمن ومحسن الظالمي والشهيد الدكتور ناصر الموسوي وعبد الواحد الفحام وشفيق الجواهري والدكتور محمد تقي مشكور والسيد حامد المؤمن. كما كان لفترة معينة ضمن حلقات الشيخ محمد مهدي الآصفي.

وتغيرت حياة الداعية عبود الراضي بعد استيلاء حزب البعث على السلطة في العراق في العام 1968؛ فقد باتت حركته ونشاطاته تلفت أنظار جواسيس النظام، حتى كان قرار الاعتقال الأول في العام 1971 في إطار حملات الاعتقال الكبيرة للقيادات والكوادر الدعوية في النجف الأشرف وبغداد، وأبرزهم عبد الصاحب دخيل ومحمد صالح الظالمي والدكتور داوود العطار والسيد حسن شبر، وانتهت في العام 1972 بإعدام القائد التنظيمي للحزب الشهيد عبد الصاحب دخيل (أبو عصام). وكادت حملة الاعتقالات الكبيرة الثانية في العام 1974 أن تشمله؛ لولا اختفاءه خارج النجف، ثم مغادرة العراق الى دولة الكويت، والتي أقام فيها حتى العام 1979. ثم اضطر الى مغادرة الكويت والاستقرار في الجمهورية الإسلامية الإسلامية، بعد المضايقات التي ظل يتعرض لها من عناصر المخابرات العراقية العابثة في الكويت.

وقد ساهم في المهجر بإعادة بناء الحزب وتصحيح مساراته، وخاصة في الأعوام الحرجة الثلاثة (1979 ـــ 1981)، وهو ما جعله محل ثقة الدعاة؛ إذ انتخبوه لعضوية أول قيادة عامة منتخبة في تاريخ الحزب، خلال انعقاد مؤتمر الشهيد الصدر في العام 1981، ولعله من الدعاة العراقيين القلائل الذين كانوا يجمعون بين عضوية القيادة العامة وعضوية قيادة إقليم العراق.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment