ظهور الفرق العقدية والمذاهب الفقهية في العصرين الأُموي والعباسي

Last Updated: 2024/06/09By

ظهور الفرق العقدية والمذاهب الفقهية في العصرين الأُموي والعباسي

د. علي المؤمن

قبل الخوض في الجانب التاريخي والعقدي، نشير إلى الفرق الاصطلاحي بين «الفرقة» و«المذهب»؛ فالفِرقة (جمعها فرق) تختلف مع بعضها في المجالات العقدية أو أصول الدين، ويبحث في هذا الاختلاف «علم الكلام». والمذهب (جمعها مذاهب) تختلف مع بعضها في المجالات الفقهية، أي التشريعات وفروع الدين، ويبحث في هذا الاختلاف «علم الفقه». وترتبط الفرقة والمذهب المنتمين الى تيار إسلامي واحد بأصول واحدة وأواصر قوية، وتجمع بينها علوم إسلامية أخرى، غير الكلام والفقه، كعلوم القرآن والحديث والرجال، فمثلاً يمكن اعتبار «التشيع» عموماً فرقة كبرى، تضم العديد من الفرق والمذاهب الصغيرة، كما أن الإمامية الاثني عشرية هي فرقة ومذهب في الوقت نفسه، وهكذا بالنسبة للإباضية، أما المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية والظاهرية – مثلاً – فهي مذاهب، والأشاعرة والسلفية والمعتزلة فرق، وكلها تنضوي تحت راية مدرسة «التسنن».

ولم يكن ظهور الفِرق والمذاهب في الواقع الإسلامي فجائياً أو منطلقاً من فراغ، بل إن له من الخلفيات والأرضية المناسبة والعوامل ما تفاعل بقوة، حيث بات ظهورها أمراً طبيعياً ومتوقعاً. ويمكن حصر أهم العوامل والأسباب التي أدت إلى الإعلان عن قيام المذاهب بشكل رسمي بما يلي:

1- أرضية الخلاف الواسعة، والتي كانت مزيجاً من عاملين: عقدي ــ سياسي، كما مر.

2- ظهور مناطق فراغ في المجالين العقدي والفقهي، وحاجة المسلمين لمعرفة تكليفهم الشرعي؛ الأمر الذي حمل الفقهاء والمتكلمين على سد هذه المناطق، من خلال بلورة أفكار واتجاهات وأصول متباينة، حيال تفسير القرآن وتطبيقه، وإخضاع ذلك للاجتهادات، وكذا الحال بالنسبة للسُنّة النبوية، وبذلك يختلف الموقف من القضايا المطروحة، «فيؤدي ذلك إلى اعتبارها حقيقة إسلامية عند البعض، وبعيدة عن الإسلام عند البعض الآخر».

3- حاجة الخلفاء والسلاطين إلى أحكام عقدية وفقهية وتشريعات تسوغ سلوكياتهم في الحكم وفي التعامل التيارات الإسلامية التي تخالفهم فكرياً وسياسياً، وإلى غطاء ديني يدعم ممارساتهم.

4- الوضع السياسي العام، وحالة الانفتاح خلال الفترة الانتقالية التي فرضها سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسيّة، والاستقرار النسبي الذي شهدته البلاد الإسلامية، وخاصةً على مستوى الوضع الداخلي، وحركة الفتوحات.

5- شعور بعض التيارات العقدية ـــ السياسية، التي لها عمق زمني في الواقع الإسلامي، بضرورة إظهار كيانيتها العقدية المذهبية الاجتماعية المستقلة، انطلاقاً من اعتقادها بأنها تمثل الموقف الإسلامي الشرعي الأصيل، وبأحقية تصوراتها في المجالات العقدية والفقهية والسياسية، إضافة إلى الرد على حالة العداء العميق التي تتعرض له من الحكام الذين قبضوا على زمام السلطة والولايات.

وقد تركّز ظهور الفرق والمذاهب خلال العصرين الأموي والعباسي، مع الإشارة الى أن المذاهب الفقهية ظهرت في وقت متأخر عن الفرق العقدية أو الكلامية، لأن النصف الأول من القرن الهجري، وخاصة خلال خلافة الإمام علي ثم السلطة الأموية، كان يعتمد في الأحكام على النص القرآني وتفسيره، وعلى الرواية السننية من جهة، ويحتاج الى تكييفات عقدية للوقائع التي كان تحدث بين المسلمين، ولم يكن المسلمون، بحاجة الى الفتوى والاجتهاد من الفقهاء، وبالتالي؛ كانت الحاجة الى الفقهاء كلما ابتعد المسلمون عن عصر التشريع والنص. وكان المجتمع السني بحاجة الى الفقهاء مبكراً قبل المجتمع الشيعي، لأن الشيعة ظلوا يتمتعون بوجود الأئمة الذين يعدونهم امتداداً لرسول الله، ويحصلون منهم على ما يحتاجونه من روايات وتعاليم وتفسيرات وأحكام.

وهناك تقسيمات موروثة للفرق والمذاهب الإسلامية، تعود لمؤرخين وعلماء كلام وفقهاء سلف، وقد استند بعضهم الى قواعد موضوعية، بينما أسقط بعضهم تعصبه العقدي والفقهي عليها؛ فكان تقسيمه منحازاً؛ فمثلاً كان بعضهم يقسم الفرق والمذاهب الى: أهل السنة وأهل البدع، أو أهل السنة وأهل المذاهب وأهل البدع، أو على أساس الأحقية بالخلافة بعد الرسول، أو على أساس الموقف من قضية عقدية محددة، كما كان عليه في العصر العباسي دائماً، كالموقف من خلق القرآن، أو الموقف من التجسيد والتشبيه، أو الأخذ بالرأي مقابل الجمود على النص.

أما التقسيم الموضوعي لأبرز الفرق الكلامية والمذاهب الفقهية، وخاصة القائمة والحية منها؛ فهو على النحو التالي:

    1- الفِرق:

  • الشيعة:

هي أقدم الفرق في الإسلام، وتمثل مدرسة آل البيت، ويعود تأسيسها الى الإمام علي بن أبي طالب، وتعرف بــ”الإمامية”، لأنها تعتقد بأحقية الأئمة في الخلافة الدينية والدنيوية، ومذهبها الأساس هو “الإمامي الإثنا عشري”، بناءً على عدد الأئمة الإثني عشر. وقد ضمت ــ فيما بعد ــ عدداً من الفرق والمذاهب الفرعية.

  • الخوارج:

فرقة، تأسست إثر انشقاق عدد من المقاتلين عن معسكر الإمام علي في معركة صفين، وتحولت بالتدريج الى فرقة، ثم مجموعة من الفرق والمذاهب، وتلخصت فيما بعد بــ “الإباضية”، نسبة الى الفقيه عبد الله بن إباض (ت 86 هـ) وهي فرقة ومذهب.

  • المرجئة:

وهي فرقة عقدية ــ سياسية، ظهرت إثر اتفاق الناكثين والقاسطين والسواد الأعظم على خلافة معاوية، في أعقاب استشهاد الإمام علي، وينسبها المؤرخون الى بلاط معاوية ووعاظه. وسميت بهذا الاسم لأنها (رجت) أن يغفر الله لجميع المسلمين الذين تحاربوا في عهد الإمام علي، وإن حسابهم عند الله، لأنهم مؤمنون بإقرارهم الظاهر بالإيمان. وقد اندمجت المرجئة فيما بعد بالأشعرية والسلفية، وباتت عقيدتها هي العقيدة الرسمية لأهل السنة.

  • المعتزلة:

فرقة تعطي للعقل ومخرجاته أهمية بالغة، وتلتقي في كثير من آرائها العقدية العقلية بالتشيع، ومؤسسها واصل بن عطاء (ت 181هـ)، وسميت بهذا الاسم بناء على اعتزال واصل دروس حسن البصري، لاختلاف الرأي بينهما، أو لأنه اعتزل الخوارج والمرجئة، حسب رأي آخر.

  • الأشعرية:

فرقة منسوبة إلى مؤسسها أبي حسن الأشعري (ت 324 هـ)، الذي اختلف مع المعتزلة، وتحديداً مع أستاذه الجبائي في عدة مسائل، تتعلق بالتوحيد والعدل الإلهي وموقع العقل في المعرفة وغيرها، واتبعته مذاهب أهل السنة في أصولها، باستثناء بعض الحنابلة السلفية. وتعتبر الأشعرية عموماً من الفرق الصفاتية.

  • الجبرية:

فرقة ناقضت المعتزلة في مسألة تفويض الإنسان في أفعاله، إذ يقول الجبرية بأن الإنسان مجبر في أفعاله، بينما تقول المعتزلة بأنه مخير، بينما حسم الإمام الصادق (إمام الشيعة) المسألة بقوله: ((لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين أمرين)).

  • السلفية:

فرقة، تدخل في التصنيف التقليدي، ضمن المدرسة السنية، وقد بلورها أحمد بن حنبل (إمام الحنابلة والسلفيين)، وبلورها أحمد بن تيمية، وبات يمثلها عقدياً، رغم أن السلفيين يقولون بأنهم لا ينتمون جميعا الى بن حنبل وبن تيمية.

والاتجاهات الكلامية الخمسة الأخيرة هي فرق عقدية، أما الشيعة والخوارج فهما فرقتان تجمعان بين العقائد والفقه، أي بين الأصول والفروع.

2-المذاهب:

  • مذهب الإمامية، الذي بدأ عقيدة وفقهاً على يد علي بن أبي طالب (ت 40 ه)، ثم رسخ قواعده محمد بن علي الباقر (ت 114 ه)، وبلوره ونشره جعفر بن محمد الصادق (ت 148 هـ).
  • مذهب عبد الله بن أباض (ت 86 هـ).
  • مذهب الحسن البصري (ت 110 هـ).
  • مذهب أبي حنيفة النعمان (ت 150 هـ).
  • مذهب الأوزاعي (ت 157 هـ).
  • مذهب سفيان الثوري (ت 161 هـ).
  • مذهب الليث الإصفهاني (ت 175 هـ).
  • مذهب مالك بن أنس (ت 179 هـ).
  • مذهب محمد بن ادريس الشافعي (ت 198 هـ).
  • مذهب سفيان بن عيينة (ت 198 هـ).
  • مذهب أحمد بن حنبل (ت 241 هـ).
  • مذهب داود الظاهري (ت سنة 270 هـ).
  • مذهب محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ).

وقد اندثر أكثر هذه المذاهب بعد موت مؤسسه، أما من بقي منها؛ فقد تعرض لتقنين السلطة العباسية، وتحديداً بعد قرار الخليفة العباسي المستنصر (ت 636 ه) بحصر المذاهب في أربعة فقط، والمعاقبة على من يتعبد بغيرها. أما المذاهب التي استمرت فهي:

    أولاً: مذاهب أهل السنة:

وهي المذاهب الأربعة المنسوبة الى سنة الخلفاء، والتي قرر المستنصر العباسي الإبقاء عليها وإجبار المسلمين على التعبد بها:

  • المذهب الحنفي: نسبة الى الإمام أبي حنيفة النعمان (ت 150 ه).
  • المذهب المالكي: نسبة الى الإمام مالك بن أنس (ت 179 ه)،
  • المذهب الشافعي: نسبة الى الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 198 هـ)
  • المذهب الحنبلي: نسبة الى الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ).

وتنقسم هذه المذاهب، وفق قواعد التشريع فيها، إلى مدرستين فقهيتين رئيستين، هما أهل الحديث وأهل الرأي:

  • أهل الحديث: مركزها «المدينة المنورة» وتأثرت بالاتجاهات الفقهية لعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت والزبير بن العوام، وتبلورت فيما بعد بمذاهب الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام ابن حنبل، وتتلخص خصائص هذه المدرسة بما يلي:

أولا: الاجتهاد في تفسير النصوص، لغرض الوصول إلى الحكم الشرعي، دون اللجوء إلى الرأي.

ثانياً: استسهال قبول الحديث، وإن لم يكن متواتراً، لتجنب الاعتماد على الرأي الذي يخطئ ويصيب.

ثالثاً: كراهية الفتوى بالرأي، بشكل عام، والفتوى في المسائل الفرضية بشكل خاص.

  • مدرسة الرأي: تأسست في «الكوفة» على يد إبراهيم النخعي، وتأثرت بعبدالله بن مسعود وعلقمة بن قيس، ثم تمخضت عن ولادة مذهب الإمام أبي حنيفة، تلميذ النخعي. وخصائصها:

أولاً: الإكثار من المسائل الافتراضية في الفقه.

ثانياً: عدم التهيب في الفتوى وعدم كراهيتها.

ثالثاً: التهيب من رواية الحديث، والتحفظ في الرواية، خاصة بعد تفشي حركة الوضع.

وفضلاً عن المذاهب الأربعة المذكورة، هناك المذهب الظاهري، نسبة إلى داود الظاهري الأصبهاني، الذي كان شافعياً واختلف معه في مسائل، منها القياس. ويذكر بعض المصادر أن المذهب الظاهري اندثر هو الآخر، وتحديداً خلال القرن السابع الهجري، إلّا أن هناك من لايزال من المسلمين من يتبعه في بعض بلدان المغرب العربي.

    ثانياً: مذاهب الشيعة:

وتنتمي جميعها إلى الإمام علي بن أبي طالب، فيما تدخل من الناحيتين الفقهية والأصولية ضمن المدرسة التي كشف عنها الإمام محمد بن علي الباقر(ت 114 هـ)، ثم ولده الإمام جعفر بن محمد الصادق (ت 148 هـ)، الذي تبلورت على يده المدرسة الفقهية الشيعية، بفضل الظرف السياسي الانتقالي الذي عاش فيه، ما بين نهاية الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية، حتى عدّه المؤرخون مؤسساً للمدرسة العلمية الشيعية، في جانبها العقدي والفقهي، بعد أن سمح له الظرف السياسي بتدوين تعاليمها ونشرها وكانت مدرسة الإمام الصادق أوسع المدارس الفقهية، وأبرزها في عصره على الإطلاق، إذ ضمّت أكثر من أربعة آلاف عالم معظمهم من الفقهاء، وبينهم أئمة مذاهب، كمالك وأبي حنيفة وسفيان الثوري.

وقد تعرضت المدرسة الشيعية للتفرّع، وظهر في إطارها عدد من المذاهب:

  • المذهب الإمامي الإثنا عشري: وهو المذهب الأُم والأكبر، وقد بقي ممثلاً عقدياً وفقهياً للتشيع، بالنظر لانتمائه المباشر المستدام لأئمة أل البيت المنصوص عليهم، ولكون الأغلبية الساحقة من الشيعة ينتمون اليه.
  • المذهب الزيدي: نسبة إلى زيد بن علي السجاد (ت 121 ه)، والذي بدأ حراكاً ثورياً شيعياً ضد السلطة الأموية، ثم انتهى تياراً مذهبياً
  • المذهب الإسماعيلي: نسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق (ت 142 ه)، والذي رأى أتباعه إن الإمامة الشرعية بعد الإمام الصادق ينبغي أن تكون لابنه البكر إسماعيل الذي توفي في حياة أبيه

أما «الغلاة» فليسوا من الشيعة، ونسبتهم إلى الشيعة خطأ علمي وتأريخي، فقد لعنهم أئمة أهل البيت وتبرأوا منهم بفرقهم ومذاهبهم جميعاً، ومن أبرز رموزهم بزيغ بن موسى الحائك، وأبو الخطاب الأجدع، والمغيرة بن سعيد، وحمزة البربري.

    ثالثاً: مذهب الخوارج:

المذهب الذي عدّ فيما بعد ممثلاً لتيار الخوارج العقدي والفقهي هو المذهب الإباضي، نسبة إلى عبد الله بن إباض (ت 86 ه).

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment