صورة جديدة للخارطة الدولية الحرب العالمية الأُولى

Last Updated: 2024/06/09By

شكل جديد للخارطة الدولية الحرب العالمية الأُولى

د. علي المؤمن

إفرازات الحرب العالمية الأولى وآئارها

النتائج التي أسفرت عنها الحرب الاستعمارية الأولى عديدة، يقف في مقدمها: انهيار أربع إمبراطوريات كبرى، وظهور دول لم تكن موجودة على الخارطة، والتغيير الكبير في حدود الجغرافية السياسية في أوربا، والتوزيع الجديد لخارطة المستعمرات؛ أظهر العالم بصورة مختلفة، فقد تغيرت الخارطة السياسية الدولية خلال ست سنوات (1914 – 1920) تغييراً شبه جذري. وقد سبق الحديث عما آل إليه وضع الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية العثمانية.

أما الإمبراطورية الألمانية الخاسرة في الحرب، فقد حملتها مؤتمرات الصلح، ولا سيما «مؤتمر فرساي» عام 1919 مسؤولية البدء بالحرب والعدوان على دول الجوار، الأمر الذي عرضها لأنواع العقوبات القاسية، فقد فصلت بروسيا الشرقية (الإلزاس واللورين) عن ألمانيا وسلمت لفرنسا، كما فصلت عنها أراضٍ أخرى، ووزعت مستعمراتها في إفريقيا (توغو والكاميرون وشرقي إفريقيا والكونغو واتحاد جنوب إفريقيا) على القوى المنتصرة التي تقاسمت أيضاً معظم أسطولها الحربي والتجاري، وحرمت من الاحتفاظ بقوات مسلحة، عدا (100) ألف لشؤون الأمن الداخلي، واحتل الحلفاء ساحل نهر الراين مدة 15 عاماً، إضافة إلى تحميلها غرامة مالية باهضة قدرت بـ(25) مليار مارك من الذهب، وتعويض أسر الضحايا المدنيين.

هذه العقوبات المذلة أثارت غضب الألمان وسخطهم، ولا سيما أنهم يعيشون عقدة التفوق العرقي على سائر الأعراق والشعوب، فوصفوا توقيعهم على معاهدة فرساي بـ«السلم المفروض». وقد ذكر بعض المفكرين الألمان في أعقاب التوقيع على الاتفاقية ما نصه: «وقعت ألمانيا هذا الصلح المحجف لكونها مقيدة عاجزة عن أن تتصرف تصرفاً مغايراً. غير أن هذا التوقيع المنزوع منها لا يقيدها، والألمان سيحطون القيود التي تثقلهم حالما يستطيعون إلى ذلك سبيلا».

وكان «مؤتمر فرساي» الذي عقد في باريس في منتصف عام 1919 قد حضرته (32) دولة، بينها (27) دولة شاركت في الحرب، إضافة إلى ممثلين عن شعوب المستعمرات، ومنعت الدول المغلوبة من حضوره. ولكن القرارات انفرد في وضعها زعماء بريطانيا وفرنسا وأمريكا. وقد أيد المؤتمر برنامج الصلح الذي أعلنه الرئيس الأمريكي «ويلسون» في الأشهر الأخيرة، ولا سيما البنود التي تؤكد احترام وضع القوميات عند رسم الحدود، وحق الشعوب في تقرير المصير وإنشاء هيئة دولية لفض النزاعات بين الدول سلمياً. والحقيقة أن البنود المتعلقة بحق الشعوب في تقرير المصير بقيت حبراً على ورق، بل إن مرحلة ما بعد الحرب الاستعمارية الأولى كرست الواقع الاستعماري الذي تقاسمته بريطانيا وفرنسا والقوى الأخرى التي تأتي في المرتبة الثانية، وبقيت الشعوب المستضعفة تعاني من الاحتلال والهيمنة، بل وأضيفت معادلة جديدة أكثر خطورة من البعدين السياسي والاقتصادي، وهي معادلة الهوية، إذ أصبحت الهوية الاجتماعية والثقافية للشعوب عرضة للاستلاب والتشوية، نتيجة الأساليب التي استحدثتها القوى العظمى في إخضاعها للشعوب المستعمرة.

ومن المواثيق المهمة التي تضمنتها معاهدة فرساي، ميثاق إنشاء منظمة دولية تأخذ على عاتقها تنظيم الوضع الدولي الذي أفرزته نتائج الحرب، وبالأحرى تقنين الخارطة السياسية الدولية الجديدة التي رسمتها مصالح الدول المنتصرة في الحرب، وفي مقدمتها: بريطانيا، فرنسا، الولايات المتحدة، إيطاليا، وهي الدول التي ألفت لجنة الميثاق وكانت نواة تشكيل المنطمة. وأطلقت اللجنة على المنظمة اسم عصبة الأمم (League of Nations). بيد أن الولايات المتحدة انسحبت من العصبة قبل الإعلان عنها عام 1920، بسبب سياسة أمريكا الجديدة بتقليص نشاطها السياسي الدولي، رغم أن تأسيس العصبة كان مقترحاً أمريكياً تضمنته بنود إعلان الرئيس الأمريكي ويلسون، كما انسحبت فيما بعد (16) دولة من أعضاء العصبة، لأسباب عديدة، وأكد الميثاق على أهداف العصبة في تأمين التعاون بين الأمم وتحقيق الأمن والاستقرار، مع ضرورة توافر الاستعداد لدى دول العصبة للسعي والتضحية لتحقيق هذا الهدف، كعدم اللجوء للحرب وتجنب الأحلاف السرية والقبول بالتحكيم في النزاعات وفقاً لأسس عادلة وشريفة، في مقدمتها احترام سيادة الدول. وفتحت العصبة باب الانضمام لها أمام كل دولة توافق على ميثاق العصبة وتتقيد بقرارتها. ورغم انضمام ألمانيا عام 1926 والاتحاد السوفيتي عام 1934 وبلوغ عدد الدول الأعضاء حوالي (50) عضواً، إلاّ أن بريطانيا وفرنسا بقيتا تتحكمان في شؤون العصبة، وتحققان أهدافهما من خلالها. ومن ذلك اختراع فكرة الانتداب وتحويلها إلى جزء من القانون الدولي، فقد نصت المادة (22) من الميثاق على أن تنتدب العصية دولة استعمارية كبرى على دولة صغيرة مستعمرة لتساعدها في إدارة شؤونها الداخلية؛ فكان الانتداب سيطرة استعمارية مشروعة، والمندوب السامي الأجنبي هو الحاكم القانوني المعترف به دولياً لإدارة البلد المستعمر. وخضعت معظم ولايات الإمبراطوريتين العثمانية والألمانية ومناطق أخرى لهذا القانون، فأصبحت توغو والكاميرون ولبنان وسوريا من حصة فرنسا، وأجزاء صغيرة من توغو والكاميرون مع إفريقيا الشرقية الألمانية من حصة بريطانيا، وسيطرت بلجيكا على رواندا وبوروندي، واليابان على جزر كارولينا ومارشال وباب في المحيط الهادي، واستراليا على الجزر المتبقية جنوب خط الاستواء في المحيط الهادي، ونيوزلنده على جزر ساموا الغربية والبرتغال على الكونغو، واتحاد جنوب إفريقيا على منطقة غرب إفريقيا.

وما لبث الضعف أن دبَّ في كيان العصبة، لأسباب عديدة أبرزها رفض أمريكا الاشتراك فيها كعضو مؤثر فيها باعتبارها إحدى القوى الدولية المهمة، ثم انسحاب (16) دولة منها شعرت أن العصبة لا تحقق طموحاتها، إضافة إلى عدم قدرة العصبة على إعطاء قرارتها صفة الإلزام؛ لافتقادها للقوة العسكرية وسيطرة مصالح الدول الكبرى عليها، الأمر الذي أدّى إلى قيام هذه الدول بخرق مواثيقها أكثر من مرة دون أن تتمكن العصبة من فعل شيء، بل كانت الدول المسيطرة على العصبة تقر – غالباً – الأمر الواقع الذي يفرضه ذلك الخرق، كما أن كثيراً من المعاهدات الدولية المهمة كانت تتم بين الدول العظمى بمعزل عن العصبة وقرارتها. ومن أبرز هذه المعاهدات «معاهدة لوكارنو» عام 1925 التي وقعتها بعض الدول الأوربية، وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا وألمانيا، بهدف إرضاء الأخيرة وامتصاص جزء من غضبها الذي أشعلته معاهدة فرساي، وفي النتيجة محاولة تهدئة التوتر الذي تعاني منه أوربا. وعلى أساسها انسحب الحلفاء من كولونيا (إحدى مناطق الراين) وانسحبت فرنسا من منطقة الروهر. كما منحت ألمانيا في العام التالي عضوية المجلس الأعلى لعصبة الأمم.

والحقيقة أن عوامل التوتر كانت تتضاعف بشكل يومي؛ فمن جهة كانت الدول الأوربية الصغيرة التي ولدت بعد الحرب تشعر بالخطر الدائم، إذ عانت من تأثير تجاذبات الدول الأوربية الكبرى وتناقضاتها، ولا سيما الاتحاد السوفيتي من جانب وبريطانيا وفرنسا من جانب آخر، الأمر الذي دفع بعض هذه الدول، كرومانيا وتشيكوسلوفاكيا وصربيا لتشكيل تحالف فيما بينها، وكذلك تحويل استونيا ولاتفيا وليتوانيا ومعها بولونيا إلى منطقة عازلة تحول بين تأثر أوروبا بالمد الشيوعي القادم من الاتحاد السوفيتي، وخاصة بعد قيام منظمة «الكومنترن» (الشيوعية الدولية) عام 1919 إضافة إلى محاولة ألمانيا إلحاق النمسا بها بعد أن تحولت إلى دولة صغيرة هي الأخرى. وعلى الصعيد الداخلي برز أيضاً نوع من التناقض الحاد داخل الأنظمة السياسية أدّى تعريض نظم الديمقراطية التقليدية إلى أخطار كبيرة كان يزيدها شدة النشاط الأيديولوجي الموجة من قبل الاتحاد السوفيتي الذي يحكمه نظام الحزب الواحد، وكذلك تحدي الدكتاتورية التي نجحت في إيطاليا ثم ألمانيا بعد بضع سنوات. ولا شك أنّ طبيعة تعامل بريطانيا وفرنسا مع إيطاليا بعد الحرب وعدم إعطائها الأهمية المطلوبة، سواء ما يتعلق بالدعم المالي أو منحها بعض المستعمرات وحق الانتداب أو مستوى المشاركة في القرار السياسي الأوربي، أدى إلى مشاكل داخلية كبيرة في إيطاليا، وانتهى الأمر إلى وصول الفاشية بقيادة «موسوليني» إلى السلطة في روما عام 1922.

ومارست الولايات المتحدة أساليب ملتوية لاستغلال أوربا التي أضعفتها الحرب اقتصادياً، ومنها أسلوب استرجاع أمريكا للأموال التي أقرضتها بريطانيا وفرنسا خلال الحرب، فقد تقرر أن تمنح أمريكا قروضاً كبيرة لألمانيا لكي تعطيها إلى بريطانيا وفرنسا كجزء من الغرامات المفروضة عليها، ثم تقوم الأخيرتان بإعادتها إلى أمريكا لتسديد ديونها؛ الأمر الذي جعل أوروبا مرتبطة مالياً بأمريكا، وهكذا تكون الأخيرة مسيطرة على تداول المال دولياً.

الأزمة الاقتصادية في الغرب

لعل أكبر أزمة واجهت الغرب في العقدين اللذين أعقبا الحرب العالمية الأولى، هي الأزمة الاقتصادية التي كادت تغطي على كل الأزمات السياسية والعسكرية الأخرى. والواقع أن هذه الأزمة ليست منفصلة عن الأزمات الأخرى، بل هي جزء من شبكة معقدة من الأزمات التي عانت منها أوربا، وحالت دون استقرارها، فحين انتهت الحرب وأرادت أوروبا استعادة أنفاسها الاقتصادية، وجدت نفسها عاجزة إلى حد كبير، إذ إنها مثقلة بديون متصاعدة تبلغ (18) مليار دولار للولايات المتحدة فقط، وبنيتها الاقتصادية التحتية منهارة، إذ تقلصت رساميلها وتعطلت مؤسساتها وارتفعت معدلات التضخم والبطالة ارتفاعاً حاداً، فضلاً عن استحقاقات المستعمرات. وحين حل عام 1921 تسبب الانخفاض المفاجىء في الأسعار إلى سلسة متلاحقة من الانهيارات المالية. واتجهت دول أوروبا للاكتفاء ذاتياً من أجل معالجة المشكلة، فمنعت الاستيراد ونشطت الإنتاج المحلي. حينها تضخم الإنتاج لعدم وجود أسواق للتصريف. وبحلول عام 1929، أخذت الأزمة بعداً عالمياً واسعاً، بعداً أن شهد العقد الثالث سلسلة من الاضطرابات العمالية والإدارية في أوروبا، ولا سيما إضرابات العمال عام 1926 في بريطانيا، التي كانت تضاعف من الأزمات التي تعصف ببريطانيا وبدأت حقيقة فقدانها موقعها كقوة اقتصادية أولى في العالم لصالح الولايات المتحدة تبرز بوضوح.

وقد تعرضت الولايات المتحدة هي الأخرى لهزة اقتصادية منذ عام 1926 شكلت السبب الأساس للأزمة العالمية. بعد الانهيار الكبير على المستويين الاقتصادي والاجتماعي في أمريكا، فضلاً عن امتناع دول أوربا المكتفية ذاتياً عن استيراد المنتوجات الأميركية، تضخم الإنتاج الأمريكي أيضاً، ولا سيما الزراعي، وتقلصت الأرباح وتراجعت الأسعار.

وظهرت بوادر الأزمة الاقتصادية الكبرى في عام 1929 في بورصة نيويورك، حين بدأت أسعار الأسهم بالتدني، بعد انخفاض أسعار المواد الأولية في كل أنحاء العالم، وانتهى الأمر إلى انهيار قيمة الأسهم وعجزت المصارف عن شراء المزيد من الأسهم وعن منح القروض لأصحابها، وتبع ذلك سحب أصحاب رؤوس الأموال ودائعهم في المصارف، فانهارت حركة المال وتعطلت المعامل والشركات بعد تعرضها للإفلاس، وما هي إلا أسابيع حتى بلغ عدد العاطلين عن العمل (15) مليون عامل.

ونتيجة لتشابك العملية الاقتصادية بين بلدان العالم، ولا سيما الغربية منها، فقد انتقلت الأزمة إلى بلدان أوربا انتقالاً طبيعياً، خاصة وأن أمريكا قد طالبت دول أوربا المدينة لها بتسديد ديونها، لتحسين وضعها المالي؛ الأمر الذي تسبب في أزمة مماثلة في دول أوربا. فكانت الأزمات تتوالد بصورة مرعبة، ولا يمكن محاصرتها؛ نظراً لسرعة حركة التوالد الذاتي للأزمات التي تكمل بعضها بعضاً. وبلغت خسائر المصارف وحدها في أوربا وأمريكا حوالي (50) مليار دولار حتى عام 1931. وانخفض الإنتاج العالمي والدخل القومي خلال أعوام الأزمة (1929 – 1932) بمقدار 40%، وتراجع التبادل التجاري العالمي بنسبة 66% وبلغ عدد العاطلين عن العمل في الدول الرأسمالية وحدها حوالي (30) مليوناً، وبات الأمر وكأنه انهيار للنظام الرأسمالي برمته، أو ما أطلق عليه الاشتراكيون الأزمات الدورية الحادة التي يتعرض لها النظام الرأسمالي. ورافق ذلك نزوع الشعوب المستعمرة نحو الاستقلال والتحرر والنمو الاقتصادي. وكانت بريطانيا المتضرر الأكبر من هذه الأزمة.

وفي عام 1932 (آخر أعوام الأزمة) بدأت مؤشرات انفراج الأزمة تظهر بالتدريج، بعد أن استعادت المعادلات الاقتصادية من حيث العرض والطلب والاستهلاك وضعها الطبيعي، فضلاً عن إصرار أوروبا على إعادة النظر في هذه المعادلات التي ترسم صورة سياستها الاقتصادية. وبحلول عام 1936، بدا وكأن أوربا قد استعادت عافيتها، وبدأت عملية النمو الاقتصادي تسير بصورة مطرده.

النازية تمهد لحرب جديدة

بعد سقوط الإمبراطورية الألمانية عام 1918 ظهرت دولة الرايخ، وكانت ضعيفة وتفتقد لأدوات الردع والسيطرة على الأوضاع، الأمر الذي شجع الشيوعيين لتجربة قوتهم في السيطرة على السلطة عام 1919، ولكنهم فشلوا بعد أسبوع دموي. ثم قامت «جمهورية فيمار». التي تعرض أعضاؤها لعمليات اغتيال سياسي واسعة جداً قام بها اليمينيون المتطرفون، أعقبها محاولة انقلابية قام بها اليمينيون أيضاً بزعامة «لودندورف» وبمساعدة النازيين المغمورين بزعامة «أدولف هتلر»، انطلاقاً من ميونخ، وهي المحاولة التي أبرزت النازيين كقوة سياسية لا يستهان بها في ألمانيا. وظهور هذه الحركات يعد طبيعياً في ضوء الخيبة النفسية التي تعرض لها الألمان بعد الحرب، فمعاهدة فرساي اقتطعت حوالي 15% من أراضيها و10% من سكانها، ورافق ذلك ظهور طبقة كبرى من العاطلين عن العمل بلغ عددهم حوالي عشرة ملايين شخص، وارتفاع معدلات التضخم المالي بشكل رهيب، حتى لم يبق للمارك قيمة تذكر، بسبب ما تدفعه ألمانيا من تعويضات واكتملت حلقات الإذلال باحتلال فرنسا وبلجيكا لمنطقة الروهر الألمانية عام 1923. ولم تكن «معاهدة لوكارنو» سوى مخدر صحا منه المارد الألماني فيما بعد بغضب أكبر.

وكان رئيس وزراء بريطانيا «لويد جورج» قد رفض منذ عام 1919 فرض شروط قاسية على ألمانيا؛ لأن ذلك سيفجر الموقف في أوربا مرة أخرى؛ لمعرفته بأن الألمان لن يصمتوا طويلاً على معاهدات الإذلال المفروضة عليهم، فكان خطابه وكأنه استشرافاً لما سيحدث في المستقبل: «إذا كنا حكماء فلنقدم لها [لألمانيا] صلحاً عادلاً، يفضله كل إنسان؛ فإذا قدمنا لها شروطاً مجحفة فستمتنع كل حكومة [ألمانية] مسؤولة عن توقيعها. إن علينا الالتزام بعقد معاهدة صلح كما لو كنا حكماً عادلاً تناسى كل مجموع الحرب… يجب أن تخلو هذه المعاهدة [فرساي] من بذور كل حرب مستقبلية، وأن تأتي حلاً مقبولاً ومقاوماً للبلشفية».

وازداد الوضع سوءاً خلال الأزمة الاقتصادية التي عصفت بأوربا وأمريكا عام 1929، فقد تأثرت بها ألمانيا تأثراً مضاعفاً؛ فلم يمتنع مانحو القروض عن تقديم المزيد من القروض لألمانيا وحسب، بل طالبوها بتسديد ما عليها من ديون. وأخذت البنوك تشهد إفلاساً بالتدريج.

وحين حل عام 1932، كان عدد العاطلين عن العمل قد بلغ حوالي سبعة ملايين شخص، وكانت الأزمة خانقة بصورة أدت إلى حدوث هزات اجتماعية عنيفة، سمحت معها بازدياد نشاط الجماعات والأحزاب المتطرفة، وكان أشهرها «الجبهة الحمراء» الشيوعية، و«الخوذة الفولاذية» الملكية. وإلى جانبها أخذ الحزب الاشتراكي الوطني النازي بقيادة «أدولف هتلر» بالامتداد السريع في الشارع الألماني وامتلاك عقول الشباب، من خلال شعاراته العنصرية وآلياته وأساليبه المتميزة في التعبير عن آرائه وأهدافه، وكان يرضي بها شرائح واسعة من الشعب الألماني الذي أذله الأوربيون بمعاهداتهم وحصارهم وأذله التراجع القومي والانهيار الاقتصادي طيلة الخمسة عشر سنة الماضية التي أعقبت الحرب الأولى، فظن كثير من الألمان أنّ الحزب النازي يمثل بصيص الأمل ورمز الخلاص من مجموع الأزمات التي تمر بها ألمانيا، ولا سيما أنّ شخصية «هتلر» الكارزماتية وطريقة أدائه القيادي وخطبه النارية، كانت بمجموعها تلهب المشاعر وتسحر الألمان التواقين للتمرد على الأوضاع برمتها.

وفي انتخابات عام 1932، تمكن الحزب النازي من الوصول إلى الحكم، وأصبح هتلر رئيساً لوزراء ألمانيا. وحينها بدأ بتطبيق شعاراته وحث الخطى باتجاه بلوغ أهداف حزبه، فكانت الخطوة الأولى السعي لإعادة بناء القوات المسلحة الألمانية، مما دفعه إلى الانسحاب من مؤتمر السلاح في صيف 1933، بعد أن رفض طلبه بإعادة تسليح ألمانيا كباقي الدول الأوربية، ثم انسحب من عصبة الأمم المتحدة، وفي العام التالي قرر ضم النمسا إلى ألمانيا سلمياً، ولكنه فشل، بينما نجح في ضم منطقة «سار» سلمياً إلى ألمانيا عام 1935، وفي هذه السنة بلغت ألمانيا ذروه مخططها باستعادة قوتها العسكرية، فقد بلغ جيشها أكثر من (350) ألفاً، وأعادت بناء قوتها الجوية وعززت أسطولها البحري وفرضت التجنيد الإجباري، وهي بذلك تعلن نقضها لشروط «معاهدة فرساي» المفروضة عليها. وحيال ذلك كانت بريطانيا ترفع راية الاعتراض على خطوات «هتلر» المرعبة، بينما فضلت فرنسا القيام بردود فعل سياسية هادئة، فقد عقدت تحالفاً دفاعياً مع الاتحاد السوفيتي بعد أن نجح الأخير في دخول عصبة الأمم المتحدة، وأخذت تشجع التحالف الروماني – اليوغسلافي – التشيكوسلوفاكي وسمحت لإيطاليا (بزعامة موسوليني) ببعض التوسع في إفريقيا مقابل تصدي إيطاليا للتوسع الألماني باتجاه النمسا؛ وتتويجاً للتعاون البريطاني – الفرنسي – الإيطالي عقدت الدول الثلاث في عام 1936 «معاهدة ستريزا» للتصدي لنزعة التوسع الجديدة لدى ألمانيا الهتلرية.

هذه المعاهدة فسحت المجال – بدورها – لموسوليني بالاستمرر في سياسته القمعية في ليبيا واحتلال الحبشة (أثيوبيا فيما بعد)، مستغلاً عجز عصبة الأمم وتشتت كلمة الدول الأوربية وتشجيع هتلر لخوض الحرب، الأمر الذي أدى إلى حصول تقارب بين هتلر وموسوليني. ثم إنّ تداخل المصالح في أوربا واختلاط الأوراق والمعادلات؛ شجع هتلر أيضاً على احتلال منطقة الراين عام 1936، متذرعاً بالتهديد الذي يسببه التحالف الفرنسي – السوفيتي، ومستنداً على دعم إيطاليا وصمت بريطانيا وعدم قيام فرنسا برد فعل قوي، سوى إثارة القضية في عصبة الأمم. ورداً على التحالف الفرنسي – السوفيتي، عقد هتلر وموسوليني في عام 1936 معاهدة دفاع مشترك أطلق عليها «محور روما – برلين»، كتتويج لتعاونهما الجديد. ثم سارعت إيطاليا للانضمام إلى الحلف الياباني الألماني المضاد للشيوعية؛ والذي عقد في فترة متقاربة، ولا سيما أن اليابان تحتاج إلى من يسندها في خطواتها التوسعية بعد احتلالها منشوريا والانسحاب من عصبة الأمم والتمهيد لإعلان الحرب على الصين.

حيال ذلك بدأت خارطة التحالفات في أوربا تتوضح بشكل أكبر وأخذت الدول الأخرى تعلن موقفها بصورة وأخرى حيال التحالفين الرئيسيين، ثم دخل التحالفان في مواجهة عسكرية غير مباشرة من خلال الحرب الإيطالية الإسبانية التي بدأت في عام 1936، إذ ساندت بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي وأمريكا وتشيكوسلوفاكيا القوات الجمهورية الشيوعية، وانتهت الحرب في عام 1939 بانتصار فرانكو وأنصاره، وكان ذلك انتصاراً للنازية والفاشية.

وحقيقة الأمر، أن الصراع في أوربا كان يدور بين أنظمة دكتاتورية استعمارية خاضعة لحكومات قمعية تشترك في الأدوات والأساليب وتختلف في الأسماء والعناوين، فبريطانيا كانت خاضعة لحكم ملكي مارس أبشع ألوان القمع والاضطهاد ضد الشعوب الأخرى، وإن رفع شعار الديمقراطية، وألمانيا كان يحكمها دكتاتور نازي (هتلر) رغم أنها دولة جمهورية، والاتحاد السوفيتي يحكمه نظام شمولي مستبد يقف على رأسه دكتاتور شيوعي (ستالين)، وفرنسا الجمهورية التي كانت تمارس القمع والإرهاب ذاته مع الشعوب الأخرى، وكذا إيطاليا وأمريكا واليابان وإسبانيا. حتى كان اشتداد التناقضات في المصالح بين هذه الدول دافعاً سحرياً لها لحث الخطى باتجاه الدمار والدخان والدم.. باتجاه الحرب الشاملة مرة أخرى.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment