سلطات الحديث والفتوى والسياسة ودورها في التأسيس للفرق والمذاهب الإسلامية

Last Updated: 2024/06/09By

سلطات الحديث والفتوى والسياسة

ودورها في التأسيس للفرق والمذاهب الإسلامية

د. علي المؤمن

مقدمة

الموضوعات المتعلقة بالمقالات العقدية والفقيهة للمسلمين، والتي أنتجت فرقاً ومذاهب ومشارب منذ عصر الانقسامات الأُولى بين المسلمين؛ ليست تاريخاً ولا اجتراراً للتاريخ، بل هو الواقع الموروث الذي نعيشه. ولكي نفهم واقع المسلمين اليوم ومظاهر الفرز الطائفي السلبي الحادة الذي ترشح عن تلك المقالات والمعتقدات، ينبغي تقصي خلفياتها وجذورها في التاريخ. وكما أن سلطات الحديث والفتوى والسياسة هي أدوات الواقع الطائفي؛ فإن هذه الأدوات هي التي بلورت كثيراً من حقائق وقواعد فرق المسلمين ومذاهبهم، وتتمثل في ثلاثة أركان:

  • الوضع والتحريف في السنة النبوية والإمامية
  • تزوير التاريخ وتحريفه
  • المصالح السلطوية السياسية.

ظهور الفرق العقدية والمذاهب الفقهية

لم يكن ظهور الفِرق والمذاهب في الواقع الإسلامي فجائياً أو منطلقاً من فراغ، بل أن له من الخلفيات والأرضية المناسبة والعوامل ما تفاعل بقوة، حيث بات ظهورها أمراً طبيعياً ومتوقعاً. ويمكن حصر أهم العوامل والأسباب التي أدت إلى الإعلان عن نشوء مقالات الفرق والمذاهب بشكل رسمي بما يلي:

1- أرضية الخلاف الواسعة، والتي كانت مزيجاً من عاملين: عقدي ــ سياسي، بدأ بعد واقعة السقيفة، ثم تكرس على يد الدولة الأُموية.

2- ظهور مناطق فراغ في المجالين العقدي والفقهي، وحاجة المسلمين لمعرفة تكليفهم الشرعي؛ الأمر الذي حمل الفقهاء والمتكلمين على سد هذه المناطق، من خلال بلورة أفكار واتجاهات وأصول متباينة، حيال تفسير القرآن وتطبيقه، وإخضاع ذلك للاجتهادات، وكذا الحال بالنسبة للسُنّة النبوية، وبذلك يختلف الموقف من القضايا المطروحة.

3- حاجة الخلفاء والسلاطين إلى أحكام عقدية وفقهية وتشريعات تسوغ سلوكياتهم في الحكم وفي التعامل التيارات الإسلامية التي تخالفهم فكرياً وسياسياً، وإلى غطاء ديني يدعم ممارساتهم.

4- الوضع السياسي العام، وحالة الانفتاح خلال الفترة الانتقالية التي فرضها سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسيّة، والاستقرار النسبي الذي شهدته البلاد الإسلامية، وخاصةً على مستوى الوضع الداخلي، وحركة الفتوحات.

5- شعور بعض التيارات العقدية ـــ السياسية، التي لها عمق زمني في الواقع الإسلامي، بضرورة إظهار كيانيتها العقدية المذهبية الاجتماعية المستقلة، انطلاقاً من اعتقادها بأنها تمثل الموقف الإسلامي الشرعي الأصيل، وبأحقية تصوراتها في المجالات العقدية والفقهية والسياسية، إضافة إلى الرد على حالة العداء العميق التي تتعرض له من الحكام الذين قبضوا على زمام السلطة والولايات.

وقد تركّز ظهور الفرق العقدية ومقالاتها خلال العصرين الأموي والعباسي، ثم ظهرت المذاهب الفقهية في وقت متأخر عن الفرق العقدية أو الكلامية، لأن النصف الأول من القرن الهجري، وخاصة خلال خلافة الإمام علي ثم السلطة الأموية، كان يعتمد في الأحكام على النص القرآني وتفسيره، وعلى الرواية السننية من جهة، ويحتاج الى تكييفات عقدية للوقائع التي كان تحدث بين المسلمين، ولم يكن المسلمون، بحاجة الى الفتوى والاجتهاد من الفقهاء، وبالتالي؛ كانت الحاجة الى الفقهاء كلما ابتعد المسلمون عن عصر التشريع والنص. وكان المجتمع السني بحاجة الى الفقهاء مبكراً قبل المجتمع الشيعي، لأن الشيعة ظلوا يتمتعون بوجود الأئمة الذين يعدونهم امتداداً لرسول الله، ويحصلون منهم على ما يحتاجونه من روايات وتعاليم وتفسيرات وأحكام.

حركة الوضع في السنة النبوية

من أهم القضايا التي جرّت البلاء على المسلمين، وعمّقت ما بينهم من فرقة وخلاف، هي حركة وضع الحديث والرواية، التي أصبحت عنصراً بارزاً من عناصر تحريف تعاليم الإسلام وأحكامه، ومن قواعد التعصب الطائفي. وقد بدأت على يد الراهب اليهودي كعب الأحبار، الذي أعلن إسلامه، لكنه استمر مع آخرين من اليهود والمنافقين، في الكيد بالإسلام، من خلال الوضع في الحديث ودس الروايات، وهو ما يعرف في علم الحديث بـــ “الإسرائيليات”.

واستمراراً لهذا النهج اليهودي، قام آل امية، بدءاً من ولاية معاوية، بأخطر مؤامرة لحرف عقائد الإسلام وأحكامه، عبر التأسيس لمدرستهم الخاصة للوضع في سنة رسول الله وتحريفها، واختلاق الأحاديث وتحريف الصحيح منها، وأخذت عملية التحريف والدس في الحديث والرواية والتاريخ تأخذ شكلاً منظماً، إذ انكبّ عدد من المحدّثين والمؤرخين على وضع عشرات الأحاديث الكاذبة عن الرسول وتحريف أخرى، الأمر الذي قلب الكثير من الموازين والأحداث، وعمّق الشقاق المجتمعي بين المسلمين. وكانت الأحاديث التي وضعت بحق معاوية نفسه، هي الأكثر إثارة للدهشة على حجم الجرأة التي تمتلكها ماكنة الدعاية الأموية.

من هذه الأحاديث، حديث الائتمان، المروي عن واثلة، عن الرسول: «إن الله ائتمن على وحيه جبرائيل وأنا ومعاوية، وكاد أن يبعث معاوية نبياً، من كثرة علمه وائتمانه على كلام ربي، يغفر الله لمعاوية ذنوبه ووقاه حسابه وعلّمه كتابه وجعله هادياً مهدياً وهدى به»(1). ويروي المقدسي أنه كان يوماً بجامع واسط، فإذا برجل يروي عن رسول الله: «إن الله يدني معاوية يوم القيامة، فيجلسه إلى جنبه، ويغلفه بيده، ثم يجلوه على الناس كالعروس»، فقال له المقدسي: كذبت يا ضال!، فأشار الراوي على المقدسي قائلاً للناس: «خذوا هذا الرافضي»؛ فأقبل الناس عليه يريدون الفتك به؛ فعرفه بعض الكتبة ودفعوهم عنه(2).

ولم تقتصر هذه الحركة الواسعة المتفشية على وضع الحديث عن الرسول، وتحريف ما جاء عنه من حديث صحيح، بل شملت إضافة إلى وضع الرواية واختلاقها أو تحريفها، اختلاق بعض الشخصيات التي ليس لها وجود خارجي ومنها ما نسب إلى الصحابة والتابعين(3)، وكذلك تحريف الأحداث والوقائع التاريخية، وخاصة التي جرت على عهد الرسول والخلفاء الأربعة، واختلاق الكرامات والمعاجز لبعض الصحابة والتابعين والفقهاء وأئمة المذاهب وشخصيات أخرى. وكان ذلك يتم خدمة لأغراض شخصية بحتة أو لخدمة مذهب أو اتجاه فكري معين، أو جهلاً، حين يتصوّر بعضهم أنه يخدم الإسلام بوضعه الأحاديث والروايات التي تعضد الإسلام والقرآن وسنة الرسول. إضافة إلى أن قسماً من الوضاعين والمحرفين كانوا مندسّين في صفوف المسلمين، ويهدفون الكيد للإسلام، وبينهم يهود وزنادقة. وقد لا تهمنا نيات هؤلاء بقدر الآثار التي تركوها.

وفي رسالته لبعض الوضّاعين، فعل معاوية ما هو أخطر من ذلك، حين قال للوضاعين: «لا تتركوا جزءاً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب(4) إلاّ وأتوني مناقض له في الصحابة مفتعل، فإن هذا أحب إلىَّ وأقرّ لعيني وأدحض لحجة شيعة أبي تراب»(5)؛ فوُضِعت نتيجة ذلك أحاديث لا تحصى، منها ما روي عن رسول الله: أن جبرائيل نزل عليه وقال له: «يا محمد إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك: سل أبا بكر هل هو عني راض، فإني عنه راض»(6). وكذلك الحديث المنسوب إلى رسول الله: «لو لم أبعث لبُعث عمر»(7). وحديث آخر عن الرسول أيضاً: «ما احتبس عني الوحي قط إلا ظننته قد نزل على آل الخطاب»(8).

وفتح هذا المجال في جانب منه الباب لسنّة أخرى سنّها معاوية وتمسكت بها الدولة الأُموية، وهي شتم الإمام علي على المنابر، حيث يقول الجاحظ في كتاب «الرد على الإمامية» بأن معاوية كان يقول في آخر خطبه: «الّلهم إن أبا تراب ألحد في دينك، وصدّ عن سبيلك فالعنه لعناً وبيلاً، وعذّبه عذاباً أليماً»؛ فكان الخطباء في سائر البلاد الإسلامية يرددون هذه العبارة على المنابر ويزيدون، وخاصة في خطبتي صلاة الجمعة، حتى منعها الخليفة عمر بن عبد العزيز بعد أكثر من أربعين عاماً. وحاول الأمويون إعادتها بعد وفاته، لولا رفض هشام بن عبد الملك(9).

وكرد فعل على سب الإمام علي بن أبي طالب، برزت ظاهرة توجيه الإهانة لبعض الصحابة في أوساط بعض شيعة الإمام علي، برغم أن أئمة أهل البيت يكرهون لأتباعهم أن يكونوا سبّابين أصلاً، فحين سمع الإمام علي أن بعض أهل العراق يسبّون أهل الشام، قال: «إني أكره، لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به»(10).

واستمرت حركة الوضع والتحريف في السنة النبوية، ووجدت لها سوقاً رائجة ومربحة في فترة ظهور المذاهب، والفترة التي أعقبت رحيل الأئمة الأربعة (أي القرنين الثاني والثالث للهجرة)، حتى أصبحت الخبز اليومي لمعظم الوضّاعين والمحرِّفين. وكان سيف بن عمرو التميمي (ت 170 هـ) من أبرز هؤلاء الوضّاعين، الذين شوّهوا الكثير من جوانب التأريخ الإسلامي، وتركوا أثراً بالغاً في ساحة الاختلاف والشقاق بين المسلمين، رغم أن مؤرخي ومحدثي السنة والشيعة المتقدمين، قالوا عنه بأنه كذاب وليس بثقة ومتروك الحديث، فالنسائي يذكر بأنه «ضعيف، متروك الحديث، ليس بثقة، ولا مأمون»، ويقول عنه أبو داود: «ليس بشيء، كذاب»، ويقول الحاكم بأنه «متروك، اتهم بالزندقة»(11).

والغريب أن كل هذه الشهادات السلبية التي تنال من عدالة سيف والثقة به، وتؤكد كذب مروياته، لم تثن أو تؤخر عدداً من المؤرخين، وأبرزهم الطبري (في تاريخه)، عن نقل مختلقاته وأكاذيبه التي انفرد بها في كتابيه «الفتوح والردة» و«الجمل ومسير عائشة وعلي»، وأبرزها الأسطورة المعروفة بـ«السبئية»، والتي تتلخص في أن مؤسس التشيع هو رجل يهودي من أهل اليمن اسمه «عبد الله بن سبأ». وكان ابن سبأ – وفق أسطورة سيف – قد أظهر الإسلام وقصد مكة في خلافة عثمان، وأخذ يبشّر بأفكار جديدة حاول دسها في صفوف المسلمين، كيداً للإسلام. وكان محور أفكار ابن سبأ يدور حول أحقية علي بن أبي طالب بالخلافة، وأنه وصي رسول الله. وادّعى سيف أن ابن سبأ تحرك على بعض الصحابة والتابعين، وتمكن من استقطاب بعضهم إلى مذهبه، كأبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر ومالك بن الأشتر، واستمر يوسع دائرة نشاطه، حتى تم له إشعال الفتنة ضد عثمان، والتي انتهت بمقتله. كما كان «السبئيون» السبب في اندلاع حرب الجمل ومادتها الأساس(12).

وإذا تجاوزنا سيف وأساطيره، نجد أن التاريخ الإسلامي، يحفل بالمئات من أمثاله؛ فهناك أكثر من (700) محدِّث وراوية، يمكن الإشارة إليهم بالأسماء(13)، كلهم وضّاعون وكذابون، كانوا يضعون الحديث عن رسول الله (ص) أو يحرفون الصحيح منه، ويضعونه أيضاً على ألسنة أئمة المذاهب الأربعة. ومن هؤلاء أبان بن فيروز بن عياش، الذي نقل أكثر من ألف وخمسمائة حديث ليس لأكثرها أصل، ويقول عنه الإمام ابن حنبل: «إن أبان كذّاب»، ويقول: «لأن يزني الرجل خير من أن يروي عن أبان»(14).

كما وضع أحمد بن عبد الله الشيباني الجويباري، مع محمد بن تميم ومحمد بن عكاشة عشرة آلاف حديث حديث، ويقول عنه البيهقي: «وضع أكثر من ألف حديث، وسمعت الحاكم يقول: هذا كذاب خبيث، وضع الكثير من فضائل الأعمال، لا تحل رواية حديثه بوجه. وقال السيوطي: وضع ألوف الأحاديث الكراميّة»(15). ووضع عثمان بن مقسم البري الكندي أو حرّف، ما يقرب من خمسة وعشرين ألف حديث، ويقول فيه أبو داود: «في صدري عشرة آلاف حديث عن عثمان وما حدّثت به»(16). ومنهم علي بن الجهم، الذي يقول عنه الشيخ الأميني بأنه «أكذب خلق الله»، كان يلعن أباه لأنه سماه علياً، لشدة كرهه علي بن أبي طالب(17).

ويقول الجزري عن وضّاع ومحرف آخر اسمه محمد بن حميد الرازي: «ما رأيت أجرأ على الله منه… عندي عن ابن حميد خمسون ألف حديث ولا أحدث عنه بحرف»(18). ومن هؤلاء أيضاً عبد الكريم ابن أبي العوجاء، وهو أحد مشاهير الزنادقة في العصر العباسي، والذي رفض العدول عن ردته، وقال ساعة قتله بأنه ((وضع أربعة آلاف حديث، حلل بها الحرام وحرم الحلال))(19).

ومن أمثلة الاستخفاف الغريب في مجال وضع الحديث، ما فعله الخليفة العباسي المهدي بن المنصور (والد الرشيد)، حيث دفع عشرة آلاف دينار لغياث بن إبراهيم النخعي، وهو أحد محدثي عصره، بعد أن وضع حديثاً عن الرسول، كدليل من السنة النبوية لتسويغ حب الخليفة اللعب بالحمام، فقال غياث، عن الرسول: «لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح»، وهنا أضاف «جناح» إلى نص الحديث الصحيح. وحين قام غياث قال المهدي: «أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله، ما قال رسول الله جناح، ولكنه أراد أن يتقرب إلي»(20).

ومن مجموعة السبعمائة وضّاع، خمسة وثلاثون فقط وضعوا وقلبوا نحو مائة ألف حديث. وبإضافة المتروكات لستة آخرين منهم، فإن عدد الأحاديث الموضوعة والمحرفة تصل إلى أكثر من أربعمائة ألف حديث(21). وهو رقم مخيف يستحق الكثير من التأمل. والسؤال هنا: أين ذهبت تلك الآلاف المؤلفة من الأحاديث والروايات الموضوعة والمحرفة؟! وفي أي كتب دُسّت؟!

تزوير التاريخ وتحريفه

إذا تركنا جانباً المحدثين والرواة والوضاعين (خلال القرنين الثاني والثالث للهجرة) جانباً، ودرسنا كتابات الذين جاؤوا فيما بعد (القرون الرابع حتى الثامن)، والذين تحملوا مسؤولية تدوين التاريخ الإسلامي، نرى أن مساهمتهم في تأجيج الفتنة الطائفية وتعميق الفرقة بين المسلمين، لا تقل خطورة عمّن سبقوهم من الرواد، بل وتفوقها أحياناً، فكما طعن البعض في أئمة المذاهب السنية الأربعة، فإن الكثيرين من المؤرخين اتجهوا بكل ثقلهم للطعن في أئمة الشيعة وتلامذتهم وأتباعهم وفكرهم.

يقول ابن عبد ربه المالكي (ت 328 هـ): ((الرافضة(22) يهود هذه الأمة، يبغضون الإسلام كما يبغض اليهود النصرانية، وإن محنتهم هي محنة اليهود، كما قالت اليهود: لا يكون الملك إلا في آل داود، وقالت الرافضة: لا يكون الملك إلا في آل علي بن أبي طالب))(23). بينما عدّ ابن طاهر البغدادي (ت 429 هـ) الشيعة بأنهم ((من أهل الأهواء))، ووفّر على معاصريه مهمة تكفير الشيعة بجميع مذاهبهم، بمن فيهم الإمامية، في فصل كامل من كتابه(24) ، وهو ما فعله ابن حزم الظاهري (ت 456 هـ) أيضاً، حين اعتبر ((الشيعة، ومنهم الإمامية الاثنا عشرية، مرتعاً لكل من يريد الكيد للإسلام))، وأن ((الإمامية من الروافض سلكت مسلك اليهود والنصارى في الكذب والكفر))، وأن ((أهل السنة هم أهل الحق، ومن عاداهم فأهل البدعة))(25).

أما أحمد ابن تيمية (ت 728 هـ)؛ فكان الأكثر عداءً للشيعة وطعناً بأئمتهم، بدءاً بالإمام علي، واعتبرهم ملة خارجة عن الإسلام؛ إذ يقول بأن ((الرافضة تعجز عن إثبات إيمان علي وعدالته مع كونهم على مذهب الرافضة، ولا يمكنهم ذلك إلا إذا صاروا من أهل السنة))(26). ويؤيده ابن خلدون (ت 808 هـ)، حين يقول في مقدمته: «وشذّ أهل البيت في مذاهب ابتدعوها، وفقه انفردوا به»(27).

وكانت مجمل هذه الكتابات والمقالات هي المراجع التي اعتمدها المؤرخون الذين ظهروا في القرون اللاحقة، وكذلك فعل الكتّاب المعاصرون؛ الأمر الذي يؤكد الدور السلبي الذي مارسه معظم المحدثين والرواة والمؤرخين وعلماء الكلام، وما زالت آثاره قائمة حتى الآن، في تصديع كيان الأمة وتسويغ انقساماتها، وهو ما ظل هدفاً للسلطات التي حكمت المسلمين منذ نهاية عصر الخلافة الراشدة؛ فتاريخ المسلمين كتبه الحاكمون ـــ غالباً ـــ عبر عقول وأقلام قريبة منهم سياسياً وطائفياً، وحتى المؤرخ والكاتب المحايد – إن وُجد – فإنه يصعب أن يكتب ما يسيء إلى الحاكم، وإن أصر على كتابة الحقائق. وبالتالي؛ من الطبيعي أن تكون كتابات وآراء ابن عبد ربه وابن طاهر وابن حزم وابن خلدون وعشرات غيرهم معبرة عن آراء الحاكمين ورغباتهم، فضلاً عن انسجامهم مع انتمائهم الطائفي.

ومن خلال حركة الوضع في السنة وتحريف التاريخ، انبرى معظم الفرق والمذاهب لدعم رموزه ومواقفه العقدية والفقهية والتاريخية، بغية ضرب الفرق والمذاهب الأخرى، واستقطاب المسلمين إليه، وكان ذلك مدعاة لخلق مزيد الفتن وتعميق الصراع الطائفي. فنرى في التاريخ أن بعض الشيعة غالوا في حب أئمة أهل البيت، وخاصة الإمام علي، ونسبوا إليهم ما لا يُنسب سوى إلى الله (تعالى)، فخرجوا بذلك عن جادة الدين ودائرة التشيّع، وقد تبرأ منهم أئمة المدرسة الشيعية وعلماؤها. كما غالى أتباع المذاهب السنية في أئمتهم، وافتروا عليهم بأحاديث وكرامات مكذوبة، ظناً منهم بأنهم يحسنون إليهم بذلك، ولو كان أئمة المذاهب، ومنهم الأئمة الأربعة، أحياءً في عصر الفتن والنزاعات، لتبرأ كل إمام من أتباعه، ولتبرؤوا من الذين يضعون الأحاديث على لسان رسول الله بحقهم.

فقد زعم – مثلاً – بعض المتقدمين من أتباع المذهب الحنفي، أن أبا حنيفة أعلم من رسول الله، وكان من هؤلاء، أتباع عبد الله بن مبارك، حيث يقول علي بن جرير: «كنت في الكوفة، فقدمت البصرة وفيها عبد الله بن مبارك، فقال لي: كيف تركت الناس؟ قال: قلت تركت بالكوفة قوماً يزعمون أن حنيفة أعلم من رسول الله (ص). قال قلت: اتخذوك في الكفر إماماً. قال: فبكى حتى ابتلت لحيته»(28). وروى آخرون عن رسول الله قوله: «الأنبياء يفتخرون بي، وأنا أفتخر بأبي حنيفة، من أحبه فقد أحبني، ومن أبغضه فقد أبغضني»(29).

أما بعض المتقدمين من المالكية، فقال بأن على فخذ مالك مكتوب بقلم القدرة: «مالك حجة الله في أرضه»(30). ويقول القاضي عياض السبتي: «إن مالكاً أهدى سبيلاً وأقوم قيلاً وأصح تفريعاً وتفصيلاً، في حين ترك أبو حنيفة نصوص الأصول وتمسّك بالمعقول، ووجد بعضهم استحسانه أنه الميل إلى القول بغير حجة. أما أحمد وداود الظاهريين، فإنهما سلكا اتباع الآثار ونكبا عن طريق الاعتبار، ولكن داود غلا في ذلك، فتهافت مذهبه واختل نظره، والشافعي خالف بعض أصول المالكية لا عن دراية بل عناداً»(31). فالقاضي عياض هنا يتهم كل المذاهب بالبدعة، عدا مذهبه.

وبشأن الإمام الشافعي، يروي المزني أنه رأى رسول الله(ص) في منامه، فسأله المزني عن الشافعي، فقال الرسول: «من أراد محبتي وسنتي، فعليه بمحمد إدريس الشافعي المطلبي، فإنه مني وأنا منه»(32).

ويروي المديني بشأن الإمام أحمد بن حنبل: «إن الله أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة»(33). ويقول الجوزي بالإسناد عن أبي جعفر القاضي: «قدم على أبي عبد الله أحمد بن حنبل رجل من بحر الهند، فقال: إني رجل من بحر الهند، خرجت أريد الصين، فأصيب مركبي، فأتاني راكبان على موجة من أمواج البحر، فقال لي أحدهما: أتحب أن يخلصك الله على أن تقرئ أحمد بن حنبل السلام؟ قلت: ومن أحمد؟ ومن أنتما يرحمكما الله؟ قال: أنا إلياس، وهذا الملك الموكل بجزائر البحر، وأحمد بن حنبل بالعراق. قلت: نعم، فنفض البحر نفضة، فإذا أنا بساحل الأبلة، فقد جئتك أبلغك منهما السلام»(34).

ولا تنسجم هذه الروايات مع آراء أئمة المذاهب أنفسهم، وخاصة مع ما اشتهر عنهم من القول: «مذهبي صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب»(35). وربما يكفي للدلالة على براءة أئمة المذاهب ممن نسبوا إليهم ما ليس لهم، ما قاله الإمام مالك: «إنما أنا بشر، أصيب وأخطئ، فأعرضوا قولي على الكتاب والسنة»، وقول الإمام أبي حنيفة: «هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي آخر غير هذا قبلناه. حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي»، وقول الإمام الشافعي: «إذا صح بخلاف قولي، فاضربوا بقولي الحائط»، وكذا الإمام ابن حنبل: «لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا»(36)، وهو ما دفع العجلوني في كتابه «كشف الخفاء» والفيروز آبادي في خاتمة «سفر السعادة»، الى التأكيد على أن «باب فضائل أبي حنيفة والشافعي وذمهم، ليس فيه شيء صحيح، وكل ما ذكر من ذلك فهو موضوع ومفترى»(37).

كما أن أئمة آل البيت، بدءاً بالإمام علي وانتهاء بالإمام المهدي؛ تبرؤوا من أتباعهم الذين غالوا فيهم، إذ يقول الإمام الصادق: «إن قوماً يزعمون أني لهم إمام، والله ما أنا لهم بإمام، ما لهم لعنهم الله، أقول كذا ويقولون كذا، إنما أنا إمام من أطاعني». كما يخاطب الإمام المهدي صاحبه محمد بن علي بن هلال الكرخي(38) قائلاً: «يا محمد بن علي، قد آذانا جهلاء الشيعة وحمقاؤهم، ومن دينهم جناح البعوضة أرجح منه. فأشهد الله الذي لا إله إلا هو وكفى به شهيداً، ورسوله محمد صلى الله عليه وآله، وملائكته وأنبياؤه، وأولياؤه (ع)، وأشهدك وأشهد كل من سمع كتابي هذا، أني بريء إلى الله وإلى الرسول ممن يقول: إنا نعلم الغيب، ونشاركه في ملكه، أو يحلنا محلاً سوى المحل الذي رضيه لنا وخلقنا له»(39). وكان أحمد بن هلال الكرخي عم محمد بن علي الكرخي من أصحاب الإمام العسكري إلا أنه غلا فيما بعد، فتبرأ منه الإمام المهدي.

وهذه المؤيدات، تؤكد ضرورة إخضاع روايات ومدونات الرواة والمؤرخين والكتّاب الذين عاشوا في ظل الحكومات الأموية والعباسية والأيوبية والعثمانية والصفوية إلى التمحيص الدقيق والتحليل التاريخي المعمَّق، للحيلولة دون تكريس منهج التفرقة والانقسام الذي أسسه معظمهم بأمر من السلطات. وقد فتحت المدرسة الشيعية لعلمائها باب الطعن في الحديث، بعد أن ابتليت – كالمدرسة السنية – بالأحاديث والروايات التي دسّها الغلاة وبعض أصحاب المصالح الضيقة في كتبهم. ومن الأمثلة في هذا المجال موسوعة «بحار الأنوار» في الحديث للشيخ المجلسي (ت 1110 هـ)، التي فيها الكثير من الأحاديث الضعيفة، والتي سعى علماء المذهب لاستخراجها وتصحيحها. وحتى كتاب «الكافي»(30) الذي يعده الشيعة أهم كتبهم الأربعة، فإن بعض علمائهم ذكر أن فيه «9485» حديثاً ضعيفاً من مجموع «16121»(31)، في حين ذكر محقق معاصر أن «4428» من أحاديث الكافي صحيحة فقط والباقي متروك(32). حتى أن السيد مرتضى العسكري يرد على الحديث المنقول عن الإمام المهدي(ع) والذي مضمونه «إن الكافي كافٍ لشيعتنا»، فيقول عنه: «قول مجهول راويه، ولم يسمِ أحد اسمه، ويدل على بطلانه تأليف مئات كتب الحديث بمدرسة أهل البيت(ع) بعد الكافي»(33).

وإذ فتحت المدرسة الشيعية باب الطعن في الأحاديث المروية في أهم كتبها، فإن المدرسة السنية لم تحاول ذلك بعد، وخاصة في مرويات أبي هريرة والبخاري، حيث تعتبر أن كتب الصحاح الستة في الحديث، (ولا سيما صحيح البخاري)، هي كتب صحيحة، ولا يرقى إلى أحاديثها ورواياتها.

وهذا لا يعني أن تنقية كتب الموروث الإسلامي هو عمل عام وارتجالي ودعائي، يمكن للجميع ممارسته دون معرفة عميقة بالضوابط العلمية، بل هو عمل تخصصي، ومكانه المؤسسات العلمية الدينية التخصصية، شأنه شأن أي عمل علمي آخر، فوسائل الإعلام العامة ليست منبراً علمياً تخصصياً مناسباً، لكي يتم عبره طرح موضوعات الإصلاح العلمي والفكري والكلامي والفقهي؛ إن كان الهدف هو التنقية والتصحيح، ولا الزمان الطائفي الصاخب الخطير الذي تعيشه الأمة والمجتمعات الإسلامية، يصلح للمقاربات التصحيحية المثيرة للصراعات الطائفية المجتمعية، ولا المنهج الانتقائي التعميمي هو منهج موضوعي، ولا النتائج المستندة اليه يمكن أن تكون علمية.

ظاهرة التكفير

برزت قضية التكفير في الواقع الإسلامي في وقت مبكر، وبلغت مستوى خطيراً خلال حكم الدولة العباسية، وذلك نتيجة للمواقف المتطرفة التي كانت تتخذها بعض التيارات الفكرية والسياسية. وإذا أحسنّا الظن بهذه التيارات واستبعدنا تغليبها مصالحها الخاصة وتوجهاتها السياسية، فسنقول بأنها ظلت جاهدة على فهمها للنص المقدس وأحادية وضيقة في نظرتها للواقع وللمصلحة الإسلامية، فضلاً عن القلق الفكري والعقيدي الذي تعاني منه.

وظل الخلاف العقدي المذهبي هو المنطلق الأساس لظاهرة التكفير، مع عدم اغفال العاملين الشخصي والسياسي الذي ظل يغذي ظاهرة التكفير، وفقاً لمصالحة، من أجل تحقيق مكاسب شخصية وسياسية. ولم يقتصر لتكفير على العلاقة بين السنة والشيعة فقط، بل كثيراً ما كان يحدث بين مذاهب المدرسة الإسلامية الواحدة، فقد كان مؤسسو الفرق والمذاهب السنية هم الذين بدأوا بموجة التكفير وإخراج بعضهم من الإسلام، ومثال ذلك ما كان الاتهامات القاسية التي كان يتبادلها الإمام مالك بن انس والإمام أبو حنيفة النعمان؛ إذ قال مالك في أبي حنيفة: «الداء العضال: الهلاك في الدين. وأبو حنيفة من الداء العضال»(40)، و«إن أبا حنيفة كادَ الدين، ومن كادَ الدين فليس له دين))(41)، وقوله: «ما ولد في الإسلام مولود أضر على أهل الإسلام من أبي حنيفة»(42). وفي المقابل قال الفقيه محمد ابن أبي ذئب (ت 159 ه) إن مالك بن أنس «يُستتاب؛ فإن تاب، وإلا ضربت عنقه»، لأنه لم يأخذ بحديث ((البيعان بالخيار))(43).

كما يذكر الشيخ عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل عشرات الطعون في أبي حنيفة نقلاً عن أبيه وغيره من الفقهاء المعاصرين لأبي حنيفة، كمالك والأوزاعي وسفيان الثوري؛ كقول الفقيه الأوزاعي: «ما ولد في الإسلام مولد أشر من أبي حنيفة وأبي مسلم، وما أحب أنه وقع في نفسي أني خير من أحد منهما وأن لي الدنيا وما فيها»(44)، وقول الفقيه سفيان الثوري: «استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين»، وبرواية أخرى: «استتيب أبو حنيفة من كلام الزنادقة مرارا»(45).

ويمكن الوقوف على مظاهر اتجاهات التكفير في تاريخ المسلمين، من خلال الأحداث الطائفية التاريخية التي شهدتها بغداد ودمشق خلال القرون الخامس إلى الثامن للهجرة. كما ظلّت حرب الفتاوى التكفيرية تهيئ الأرضية (الشرعية!) للاقتتال، فمن الفتاوى المبكرة في هذا الصدد، فتوى الشيخ ابن حاتم الحنبلي، التي يقول فيها: «من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم». وقابلت باقي المذاهب السنية الحنابلة بفتاوى معاكسة، بينما رأى الشيخ أبو حامد الطوسي (ت 567 هـ) أن يضع الجزية على الحنابلة.  وتمدد التكفير الى الحنفية وأيضاً أيضاً، حتى قال الشيخ محمد بن موسى الحنفي، قاضي دمشق (ت 506 هـ): «لو كان لي من الأمر شيء لأخذت على الشافعية الجزية». وهو يصل إلى حد الإخراج عن ملة الإسلام. وليس عجيباً حينها أن يحرِّم بعض علماء الشافعية زواج الشافعي من حنفية، إلا بالقياس إلى الكتابية، في حين حرّم الأحناف الصلاة خلف الشافعية، لأن الإمام الشافعي أباح للرجل الزواج من ابنته التي جاء بها من الزنا(46).

واستمرت حركة التكفير والاتهام بالخروج عن الإسلام في المراحل التاريخية اللاحقة، وخاصة مع ظهور المدرسة السلفية التكفيرية التيمية، التي أسسها الشيخ أحمد بن تيمية (ت 728 هـ)، والتي أضافت ذرائع أكثر تعقيداً، استسهلت عبرها تكفير المسلمين، فحين اجتمعت المذاهب في دمشق على الحنابلة تستنكر آراء الشيخ احمد ابن تيمية الحنبلي التكفيرية؛ أفتى علماء أهل السنة بارتداد الحنابلة وبكفر ابن تيمية، ونادى المنادي: «من كان على دين ابن تيمية حل ماله ودمه»(47).

وإذا كان الخلاف بين المذاهب السنية نفسها قد أصبح بهذا الحجم؛ فكيف به – إذن – بين السنة والشيعة، فلا بد أن يتخذ هذا الخلاف طابعاً آخر، يتمثل في التحزب الشامل المتقابل، والذي يشكل الحكام أحد أهم مفرداته؛ فقد قامت السلطات المتتالية، الأموية والعباسية والأيوبية والسلجوقية والعثمانية وغيرها، بقتل أئمة الشيعة وعلمائهم، وصولاً الى الناس العاديين، وكانت تهمة التشيع تعني سياسياً الخروج على السلطة، كما تعني عقائدياً البدعة والارتداد والكفر، وكان كلا المعنيين (التكفير والمعارضة) يكمل أحدهما الآخر، فالذين أفتوا بكفر الشيعة واتهموهم بالانحراف، إنما فعلوا ذلك بدوافع مختلفة، لعل من أبرزها التزلف والتقرب لخلفاء بني أمية وبني العباس، وتتمثل الدوافع الأخرى في الخوف من ميل الناس نحو التشيع، أو الوقوع في اللبس نتيجة اشتراك بعض الفرق والمذاهب مع الإمامية الاثني عشرية في تسمية «الشيعة»، وكذلك حمل الغلاة عليها، فإذا وجدوا – مثلاً – أقوالاً منكرة أو كافرة عند أحد هذه المذاهب، نسبوها إلى التشيع عامة أو إلى الإمامية خاصة. والدافع أو العامل الأخير هو اتباع أو تقليد علماء المذاهب السابقين من الذين اتهموا الشيعة(48).

وكان الشيخ برهان الدين المالكي والشيخ عباد بن جماعة الشافعي بارتداد الشيخ محمد بن مكي العاملي، كبير علماء الشيعة في بلاد الشام وزعيم الشيعة في وقته، والمعروف بالشهيد الأول، حيث قتل بالسيف، ثم صلب ورجم وأحرقت جثته بالنار في سنة 786 هـ في دمشق(49). وهكذا استدعت المصالح السياسية الطائفية أن تنشط حركة التكفير والرمي بالارتداد.

وإمعان النظر في ظاهرة التكفير؛ يقود إلى الشك في من ابتدعها أو مارسها وروج لها، وفي نواياه، لأن التكفير يعني التنصل عن المبادئ التي جاء بها الرسول محمد، وكذلك عما ثبته أئمة المذاهب أنفسهم، إذ يقول الرسول: «ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم يد على من سواهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل»(50). وقد أجمعت المذاهب الإسلامية على حد أدنى للإسلام. وهو ما تحدث عنه الأئمة وأتباعهم أكثر من مرة. يقول الإمام جعفر الصادق(ع): «الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت وصيام شهر رمضان»(51).

ويذكر الشعراني في «طبقاته» ما نقله أحمد السرخسي، عن أبي الحسن الأشعري (شيخ الأشاعرة) قوله عندما حضرته الوفاة: «اشهدوا عليَّ، إنني لا أكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، لأني رأيتهم كلهم يشيرون إلى معبود واحد، والإسلام يشملهم ويعمّهم»(52). ويذكر الشعراني أيضاً إجماع علماء بغداد، بقولهم: «لا يكفّر أحد من المذاهب الإسلامية، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فله ما لنا وعليه ما علينا»(53). وقد سئل الشيخ تقي الدين السبكي (سنة 756 هـ) عن حكم التكفير، فأجاب: «إن كل من خاف الله عز وجل، استعظم القول بالتكفير لمن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله»(54).

وبالتالي؛ فإن معالجة ظاهرة التكفير الطائفي تستدعي الكشف عن جذورها وخلفياتها العقدية والفقهية والسياسية، وسيكون في التصدي لها ودحضها؛ درءاً عملياً لمفاسد كبيرة عن المسلمين، وجلباً للمصالح لهم، وإنهاء لكثير من الصراعات المجتمعية والسياسية.

سلطة السياسة

إذا أمعنا النظر في خارطة المذاهب الإسلامية اليوم، فسنجد أن تفصيلها قد تم على مقاسات السلطات التي تعاقبت عليها وحكمتها، فلولا الدول الاموية والعباسية والسلجوقية والأوزبكية والغزنوية والعثمانية لما انتشر التسنن وفرقته الأشعرية ومذاهبه الأربعة، حتى بات أتباعها يمثلون الأكثرية العددية المسلمة، رغم أن مذاهب سنية أخرى، كالظاهرية، كانت أعمق علمياً من المذاهب الأربعة.

خلال خلافة الراشدين الثلاثة؛ كان واقع السلطة يدعم تلقائياً اتجاه مدرسة الخلفاء أنفسهم، فيما يتعلق بمنهج تفسير القرآن، وأسلوب الاستفادة من السنة النبوية، وإصدار الحكم الشرعي والولائي والفتوى، وعدم الأخذ بمنهج أهل البيت في هذه المجالات، لأن من شأنه التشويش على المسار الأحادي لحركة الدولة، وتضخم هذا الاتجاه في عهد الخليفة الثالث، بعد سيطرة الأمويين، يتقدمهم صهر الخليفة مروان بن الحكم على مقاليد السلطة، وكان ذلك بداية لظهور العقيدة الأموية وفرضها على المسلمين فيما بعد. ألّا أن خلافة الإمام علي أخرت المشروع العقدي الأموي بضع سنوات؛ فعاش المسلمون خلال حكم الإمام علي حرية عقدية وفقهية، سمحت لكل التيارات المتعارضة بالتعبير عن نفسها. وبسيطرة معاوية على السلطة والخلافة، أخذت العقيدة الأموية بالتبلور، وتحولت الى العقيدة السياسية ــ الدينية الرسمية للدولة(55)، وبات كل من لا يؤمن بها يقف تلقائياً في صف المعارضة العقدية والفقهية، وليس السياسية وحسب، ولذلك؛ كانت مدرسة آل البيت الأكثر عرضة للقمع والاقصاء والتصفية العقدية والفقهية، فضلاً عن التصفية الجسدية لأئمتها وشيعتها.

ويمكن القول أنّ الدولة الأُموية كانت تختلف في قواعد نظرتها الى نفسها والى الإسلام وآل البيت، مع الدولة العباسية؛ فالأُمويون كان خلافهم مع الإسلام وآل البيت هو خلاف ايديولوجي عقائدي، وفيه إرث كبير من الأحقاد الجاهلية، أي أنها ظلت تمثل عقيدة العودة الى الجاهلية واختطاف الإسلام وحرفه واجتثاث مدرسة آل البيت وشيعتهم، بوصفها ممثلة الإسلام وانعكاس أصالتها وشريعتها وسلوكها، وبالتالي؛ لم يكن الأُمويون ينظرون الى أئمة آل البيت باعتبارهم منافسين على السلطة أو خصوماً سياسيين، بل باعتبارهم يمثلون أصالة الإسلام التي يجب اجتثاثها والتخلص منها، لبلوغ الأهداف النهائية لاختطاف الإسلام وحرفه، وتحويله الى غطاء ديني لإمبراطورية أسرية تدوم الى الأبد.

في حين أن نظرة العباسيين الى آل البيت هي نظرة الحاكم الى من يعتقد أنه منافسه على السلطة وخصمه السياسي، ولم يكن للعباسيين عداءً لأصل الإسلام وعقيدته وشريعته، أو لأصل وجود آل البيت، أو نزعة جاهلية، بل كان هاجسهم الحؤول دون وجود آل البيت كمنافسين سياسيين، ولذلك؛ كانت عملية محاربتهم الأئمة وشيعتهم، وإقصائهم، تستند الى منطلقات سياسية وليست عقدية. ولذلك؛ كان تعامل الأئمة والشيعة مع السلطة العباسية مختلفاً ــ غالباً ــ عن تعاملهم مع السلطة الأموية. وقد حاول بعض الخلفاء العباسيين تقريب أئمة آل البيت وإغرائهم وترغيبهم وترهيبهم، وصولاً الى مصاهرتهم وتوليتهم العهد، لجعلهم فقهاء سلطة ومفتي بلاط، وإضفاء الشرعية الدينية على خلافتهم، لإيمانهم أنّ الخلافة هي حق الأئمة الحصري، كما حدث تحديداً من قبل المأمون، الذي اتهمه خصوم آل البيت بالتشيع، لكن رفض الأئمة لهذه المحاولات التآمرية، كانت تحمل العباسيين على المحاولة في اتجاهين:

  • تصفير تأثير أئمة آل البيت وذراريهم، على المستوى الديني والعلمي والاجتماعي والسياسي، من خلال القتل والسجن والتشريد، ومنع الناس بالقوة من اتّباعهم حتى على المستوى العقدي والفقهي، لأن السلطة العباسية كانت تعرف يقيناً ميل المسلمين دينياً وسياسياً واجتماعياً لأهل البيت، ولو تركوا الأمور للناس وقناعاتهم، لانقلبت الأوضاع على السلطة العباسية على كل المستويات.
  • إيجاد البدائل العلمية والفتوائية لأئمة آل البيت، وإجبار المسلمين على اتباع الفقهاء والمتكلمين البدائل وتقليدهم، لكي يبتعدوا ابتعادا قسرياً عن الأئمة.

وعندما أطاح بنو العباس بسلطة آل أمية سنة 132 ه، تحت شعار الانتقام لآل البيت وإعادة الحق لهم؛ فإنهم أبقوا على السلطة ملكية وراثية خاصة بهم، وفعلوا بآل البيت وأحفاد رسول الله وعلي وفاطمة مثلما فعل آل أمية، وقتلوا أئمة آل البيت وأبنائهم وذراريهم وشيعتهم، ومنعوا انتشار عقيدتهم وفقههم ومنهجهم العلمي النبوي، ثم حصروا المذاهب الإسلامية التي يجب أن يتعبّد بها المسلمون بأربعة مذاهب فقط: الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، وحظروا الأخرى، وبذلك؛ أسسوا لبدعة خطيرة في تاريخ المسلمين؛ حين منعوا المسلمين رسمياً من إتّباع مدرسة آل البيت، والأخذ بعقائدها وفقهها.

وكانت بداية اهتمام الدولة العباسية بتقريب الفقهاء السنة إليها وخلق طبقة من فقهاء السلطة، لاستغلالهم في مواجهة أئمة آل البيت والتشيع، مع محاولات الخلفية العباسي الأول أبو العباس السفاح مع الفقيه ربيعة الرأي التيمي (ت 136 ه)، حين طلب منه أن يكون قاضي الدولة العباسية، كما أرسل له خمسة آلاف درهم ليشتري بها جارية، فامتنع الشيخ ربيعة عن قبول المنصب والجائزة، رفضاً للتعاون مع السلطة، رغم كونه أبرز الفقهاء السنة في المدينة، وأستاذ الإمام مالك بن أنس، ما أدى أُفول نجم ربيعة واندثار مذهبه، وبروز مذهب تلميذه مالك الأقل علماً منه، بسبب ارتباطه بالسلطة، برغم وجود فقهاء سنة كبار، ويشهد لهم الفقهاء الآخرون بأنهم أعلم وأكثر تقوى من الإمام مالك، كربيعة والليث وابي حنيفة وسفيان الثوري، وكان ربيعة يقول: «أما علمتم أن مثقالاً من دولة، خيرٌ من حِمل علم»، وذلك بعد أن سأله أصحابه: ((كيف يحط بك مالك ولم تحط أنت بنفسك؟))(56). وهي كناية لغلبة أهمية المرتبط بالسلطة على الأعلم، في إشارة واضحة الى الفارق بين وضعه ووضع تلميذه مالك.

أما المنصور الدوانيقي؛ فقد استغل تعارضات الفقهاء الشخصية والعلمية، ليلعب على تناقضين، التناقض القومي والتناقض الطائفي؛ فقد كان في بداية حكمه يدعم أبا حنيفة، بهدف ضرب كبرياء العرب وفقهاء المدينة، لكون أبو حنيفة فارسياً، ولأن العباسيين اعتمدوا أساساً على العنصر الفارسي في التأسيس لدولتهم، وهو ما كان يسخط عرب الحجاز، وكان المنصور يقابلهم بالتصعيد. ولكن؛ حين فشل في استقطاب الإمام أبي حنيفة، كما فشل من قبله السفاح في استقطاب ربيعة الرأي؛ فإنه اتجه الى المحاولة مع الإمام مالك بن أنس؛ فنجح في مسعاه، وصولاً الى تثبيت مذهب مالك بن انس مذهباً رسمياً للدولة، وحصر الإفتاء به، نكاية بمذهب آل البيت الذي كان يتزعمه آنذاك الإمام الصادق، وهو أستاذ الإمام مالك والإمام أبي حنيفة، ودليل هذه النكاية قول المنصور للإمام مالك: «ضع للناس كتابا أحملهم عليه… فما أحد اليوم أعلم منك»، وقول آخر له يطمئن مالكاً: «لئن بقيتُ، لأكتبنّ قولك كما تُكتب المصاحف، ولأبعثنّ به إلى الآفاق فأحملهم عليه))، فقال له مالك: «إن أهل العراق لا يرضون عِلْمَنَا»، فقال المنصور: «أما أهل العراق فلا أقبل منهم صرفاً ولا عدلاً، فالعلم علم أهل المدينة»، وأضاف يبشر مالكاً بأنه سيفرض فقهه بالسيف على أهل العراق بقوله: «يضرب عليه هامتهم بالسيف، وتقطع عليه ظهورهم بالسياط»(57). وهذا دليل آخر على حقد المنصور المتراكم على أهل العراق، بسبب تشيعهم لآل البيت، وهو ما ينسجم مع موقف مالك الذي يعلم إن أهل العراق متشيعون ويرفضونه.

وبالتزامن مع فرض المنصور تقليد الفقهاء السنة على عامة المسلمين؛ فإن موقفه من الإمام جعفر الصادق كان موقفاً معادياً، بالرغم من عدم قيام الإمام الصادق بأي حراك سياسي مناوئ للسلطة، وعدم دعمه الظاهري للحراك الثوري الشيعي الذي قام بها عمه السيد زيد بن الإمام السجاد، أو ثورات أولاد عمه الحسنيين، ورفضه فيما سبق منصب الخلافة بعد أن عرضه عليه القائد الشيعي أبو مسلم الخراساني، وكذلك أبو سلمة الخلال. ولم يكن رفض الإمام الصادق للخلافة زهداً بها أو عدم إيمانه بأنها حقه، لكنه يعلم أن دعوات العباسيين لآل البيت وتوجهات أبو مسلم وأبو سلمة؛ إنما هي ألاعيب سياسية وأطماع يراد توريط الإمام الصادق بها، ولا تنطلق من إيمان هؤلاء بحق آل البيت، وهو ما يتضح من جواب الإمام الصادق لأبي مسلم الخراساني(58)، ورفضه التقرب من البلاط العباسي، رغم أنهم أبناء عمومته.

وبلغ عداء المنصور الدوانيقي للإمام الصادق ذروته عندما أحرق داره؛ إذ أوعز الى واليه في المدينة بذلك؛ فجاءوا بالحطب الجزل ووضعوه على باب دار الإمام الصادق، وأضرموا فيه النار، وحينما أخذت النار ما في الدهليز، تصايحنَ النساء من عائلة الإمام داخل الدار وارتفعت أصواتهن؛ فخرج الإمام الصادق، وعليه قميص وإزار وفي رجليه نعلان، وجعل يخمد النار ويطفئ الحريق، حتى قضى عليها، وهو يقول: ((أنا ابن أعراق الثرى أنا ابن إبراهيم خليل الله عليه السلام))(59).

وسار الخلفاء الثلاثة الذين أعقبوا المنصور: المهدي والهادي وهارون الرشيد، على خطى سلفهم، حتى يذكر المؤرخون: «إن هارون الرشيد أراد أن يعلّق الموطّأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه». ولما أراد الرشيد العودة إلى العراق منطلقاً من المدينة، قال لمالك: «ينبغي أن تخرج معي، فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطّأ كما حمل عثمان الناس على القرآن»، ثم أخذ منادو الرشيد في بغداد والولايات الإسلامية، ينادون: «لا يفتي إلّا مالك»(60).

ورغم كل هذا التطرف في فرض مذهب مالك؛ إلّا أن الرشيد فشل في فرضه في العراق، لشدة كراهية العراقيين لمذهبه، بسبب ميولهم للتشيع، ولكونهم يرون في مالك نزعة أموية، كما مر، لذلك اقتنع الرشيد بعد وفاة أبي حنيفة باستمالة أبرز تلاميذه في العراق، وهو الشيخ يعقوب بن إبراهيم الأنصاري (ت 182 ه)، المعروف بأبي يوسف القاضي، الذي بات قريباً جداً من الرشيد، حتى قال الرشيد لأبي يوسف: «لو جاز لي إدخالك في نسبي ومشاركتك في الخلافة المفضية إليَّ لكنت حقيقاً به»(61)، وهو ما سمح لأبي يوسف القاضي العمل بكل قوة على نشر المذهب، وأصبحت تولية رجال القضاء في العراق وخراسان والشام ومصر بإشارة منه، حتى أعلن هارون الرشيد المذهب الحنفي مذهباً رسمياً للدولة. وإضافة الى أبي يوسف القاضي؛ فقد عمل ثلاثة تلاميذ آخرين للإمام أبي حنيفة، وهم محمد بن الحسن الشيباني، وزفر بن الهذيل، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وآخرين جاؤوا من بعدهم، على نشر المذهب الحنفي في جميع مفاصل الدولة العباسية، وكان لهم الدور التاريخي الأهم في صياغة شكل المذهب الحنفي ومحتواه.

وفي الأندلس فرض السلطان الأموي الحكم بن هشام (ت 206 ه) ثم ابنه السلطان عبد الرحمن (ت 238 ه) على الناس اتّباع مذهب مالك وترك مذهب الأوزاعي. وفي هذا الصدد يقول ابن حزم: «مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنّه لما ولّي أبو يوسف القضاء كان لا يولّي إلاّ قاضياً من أصحابه والمنتسبين إلى مذهبه. والثاني مذهب مالك عندنا في الأندلس، فإن يحيى بن يحيى كان مكيناً عند السلطان ومقبولاً في القضاء، فكان لا يولي قاضياً في أقفار الأندلس إلاّ بمشورته واختياره ولا يسير إلاّ بأصحابه»(62)، حتى وصل الأمر أن يصدر ملك الأندلس الأموي الحكم المستنصر مما جاء في الأمر الإداري الذي أرسله إلى الفقيه أبي إبراهيم المالكي: ((من خالف مذهب مالك في الفتوى، وبلغنا خبره، أنزلنا به من النكال ما يستحقه، وجعلناه عبرة لغيره، فقد اختبرت فوجدت مذهب مالك وأصحابه أفضل المذاهب، ولم أر في أصحابه ولا في من تقلد مذهبه غير معتقد للسنة والجماعة، فليتمسك الناس بهذا، ولينهوا الناس أشد النهي عن تركه، ففي العمل بمذهبه جميع النجاة»(63). وكان هذا القرار الأموي الشديد؛ نكاية بالعلويين الأدراسة الذين أسسوا دولتهم في المغرب العربي، وكادوا يهددون السلطة الاموية في الأندلس، فكانت هذه السلطة بحاجة الى أراء عقدية وفقهية وتاريخية في مواجهتهم وكبح جماحهم، ولم يجدوا أفضل من مذهب مالك يدعمهم في معركتهم.

وكان القاضي سحنون، والمعز بن باديس، رسولي المذهب المالكي إلى إفريقيا، حيث قدّر لهما نشره في معظم ولاياتها الإسلامية. ولكن حين عين يعقوب بن يوسف والياً على المغرب، فرض على الناس ترك المذهب المالكي، واتباع مذهب داود الظاهري، إلى انقرض هذا المذهب، وعاد مذهب مالك مرة أخرى.

وخلال حكم الدولة الأيوبية لمصر وبلاد الشام؛ فقد مُنع المذهب الشيعي منعاً باتاً، وبات صلاح الدين ومن أخلفه يقتلون من يشتبهون بتشيعه، في مقابل نشر مذهب الإمام الشافعي، بعد أن اختص القضاء والمدارس الدينية به. وقد تخللت عملية انتشاره في مصر نزاعات مع المالكيين، إلاّ إن انتماء بعض أعيان البلاد، كبني عبد الحكم، والربيع بن سليمان، واسماعيل المزني، والبويطي، إلى المذهب الشافعي، غالباً ما كان يختم النزاع لصالح الشافعية، حتى انتهت له الغلبة في البلاد. وكانت الدولة الأيوبية قد سبقت الخليفة المستعصم بحصر المذاهب الإسلامية في الأربعة المذكورة في مصر وبلاد الشام، حين أعلن الملك الأشرف (ابن شقيق صلاح الدين الايوبي) في سنة 643 هـ عبر فتوى الشيخ عثمان الشهرزوري عن ((حرمة الخروج عن تقليد المذاهب الأربعة))(64).

وقد تحدث المقريزي عن دور السلطة في انتشار المذهب الأشعري بالقول ((فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعري في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام؛ فلما ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر، كان هو وقاضيه صدر الدين عبدالملك بن عيسى بن درباس الماراني على هذا المذهب، قد نشئا عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألّفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، وصار يحفظها))(65). وفرض صلاح الدين وورثته العقيدة الأشعرية على جميع مسلمي البلدان التي احتلوها، ثم هكذا فعل السلاجقة والمماليك في مصر وتركيا والعراق، وكذلك ملوك الموحدين في بلدان المغرب وشمال أفريقيا.

في الفترة التي أعقبت رحيل أئمة المذاهب والفقهاء الأوائل، وتحديداً خلال القرن الرابع الهجري، اتسع الخلاف العلمي والفكري بشكل مطرد، وتحول إلى عصبيات وصراعات طائفية، شبيهة بالحرب الشاملة على مختلف المستويات، بما فيها الفتاوى والشعر والسياسة والسلاح، ولم تكن هذه الصراعات الطائفية مقتصرة على الشيعة والسنة، بل كانت أكثر قوة وفتكاً بين أتباع الفرق والمذاهب السنية نفسها.

إلّا أن مشكلة الشيعة في الصراعات الطائفية كانت مركّبة، فأهل السنة وفقهاؤهم ومحدثوهم كانوا في مأمن من السلطة، إلّا ما ندر، وكانت صراعاتهم مجتمعية غالباً، بينما كان الشيعة يعانون من الصراعات المجتمعية نفسها، ولكن يضاف إليها حملات الاجتثاث من السلاطين والولاة والحكام، فقد قتلت السلطة الأُموية والعباسية أغلب أئمة أهل البيت، كما قتلت أعداداً هائلة من الشيعة في مجازر تاريخية معروفة، أدت الى انقراضهم في كثير من البلدان، أي أن الخارطة المذهبية في القرن السادس الهجري، بفعل ما قام به أربعة شخصيات فقط: المعز بن باديس وطغرل بك ونور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي، وعلى النحو التالي:

  • مجازر المعز بن باديس الصنهاجي في بلدان شمال أفريقيا، بدءاً من سنة 410 ه، بعد أن كانت الدولة الشيعية الإدريسية ثم الفاطمية تحكمان أغلب شمال أفريقيا، حتى ذكر أن حجم مجازر بن باديس تسبب في انقراض الشيعة هناك، ولذلك كان يسمى ناصر السنة وقاهر الشيعة.
  • مجازر السلاجقة في بغداد بقيادة طغرل بيك، بدءاً من سنة 450 هـ، بعد أن كانت بغداد مقراً تأسيسياً للنظام الاجتماعي الشيعي، فذبحوا الشيعة وأحرقوا دورهم ومكتباتهم، وفيها هاجر الشيخ الطوسي (زعيم الشيعة) إلى النجف الأشرف، وأسس حوزتها العلمية.
  • مجازر نور الدين زنكي ضد شيعة بلاد الشام وشمال العراق، بدءاً من العام 541 ه، بعد أن كانت الدولة الحمدانية الشيعية، بعاصمتيها الموصل العراقية وحلب السورية، تحكم المنطقة الممتدة من شمال العراق وحتى سوريا وفلسطين، وأعقبتها الدولة الفاطمية في حكم بلاد الشام إضافة الى مصر.
  • مجازر صلاح الدين الأيوبي ضد شيعة مصر وبلاد الشام، بدءاً من العام 567 ه. ولعل مجازر صلاح الدين وعمليات الاجتثاث التي قام بها ضد الشيعة، هي الأكبر في التاريخ الإسلامي، والأكثر تأثيراً في تغيير حقائق الجغرافية السكانية المذهبية، إذ لم يقضى الأيوبي على الدولة الفاطمية أو يجتث شيعة مصر عن آخرهم، وأغلب شيعة بلاد الشام قضى على المذهب الشيعي في مصر والشام بالكامل.

تدخل هذه المجازر في إطار الاجتثاث المجتمعي الطائفي الذي كان يقوم بها الحكام المنتصرون ضد عموم الشيعة، حتى ممن لا علاقة لهم بالسلطة والسياسة، والعمل على اجتثاث المذهب الشيعي عقدياً وإنسانياً، وليس مجرد القضاء على الحاكم الشيعي أو الدولة الشيعية، وهو ما لم يكن يحصل عند قضاء حاكم سني على حاكم سني آخر، إذ لا يتعرض الحاكم السني المنتصر الى الناس العاديين السنة ولا الى المذهب الرسمي السني للدولة.

والملاحظة الأخرى تتعلق بالجانب القومي الإنثروبولوجي، فملايين الشيعة الذين تعرضوا للاجتثاث والانقراض في شمال أفريقيا ومصر وبلاد الشام، كانوا من العرب الأقحاح، أما الذين استعانت بهم سلطة الخلافة على اجتثاث الشيعة والتشيع، فهم من غير العرب، فابن باديس هو من الأمازيغ (البربر)، وطغرل بيك سلجوقي تركي، ونور الدين زنكي سلجوقي تركي، وصلاح الدين الأيوبي من أكراد إيران المهاجرين الى غرب العراق. والمفارقة أن هؤلاء الأربعة يعدون شخصيات مقدسة عند الطائفيين من السنة، ليس لإنجازاتهم الإنسانية والإسلامية والعلمية، بل لأنهم اجتثوا الأكثرية السكانية الشيعية في المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر ولبنان وفلسطين وسوريا والأردن وشمال العراق.

وخلال احتلال الدولة العثمانية للبلدان العربية والإسلامية، فقد أدت فتوى شيخ الإسلام في الدولة العثمانية نوح حكيم الحنفي، إلى مقتل (40 ـــ 70) ألف شيعي في منطقة الأناضول التركية، و(44) ألفاً في منطقة جبل عامل اللبنانية، و(40) ألفاً في مدينة حلب السورية وضواحيها على يد السلطان سليم الأول (ت سنة 925 هـ)، الذي أمر بقتل الشيعة أينما وجدوا في البلاد العثمانية، حتى ذكر أنه لم يبق شيعي في حلب، حيث قتل رجالهم وسبيت نساؤهم وانتهبت أموالهم وأخرج الباقون من ديارهم. وتتضمن فتوى الشيخ نوح التي ذكرها في كتاب “الفتاوى الحامدية” وجوب مقاتلة الشيعة وكفر من لا يرى ذلك، إذ يقول: «إن هؤلاء (الشيعة) الكفرة البغاة الفجرة، جمعوا بين أصناف الكفر والبغي والعناد، وأنواع الفسق والزندقة والإلحاد، ومن توقف في كفرهم وإلحادهم ووجوب قتالهم وجواز قتلهم، فهو كافر مثلهم… فيجب قتل هؤلاء الأشرار الكفار تابوا أو لم يتوبوا». ثم حكم – في نهاية فتواه – باسترقاق نساء الشيعة وذراريهم(66).

وفي أواخر القرن السادس عشر الميلادي، أصدر الفقيه السني الهندي أحمد السرهندي الفاروقي (ت 1624 م) رسالة فقهية بعنوان» رد الروافض« موجهة الى حاكم بخارى عبد الله خان الأوزبكي (ت 1598 م) ليبرر له ذبح  الشيعة في خراسان عامة ومدينة مشهد خاصة، ويقول فيها: ((بما أن الشيعة أجازوا سب أبي بكر وعمر وعثمان وإحدى الزوجات العفيفات، وهو في حد ذاته كفر؛ فإنه يقع على الحاكم المسلم، تنفيذاً لأمر الله بقتلهم وظلمهم من أجل رفع الدين الحنيف. يجوز هدم مبانيهم والاستيلاء على ملكياتهم وممتلكاتهم)).

وقد تم إحياء المنهج التيمي التكفيري والإقصائي، وممارسات السبي والذبح؛ على يد التيميين الجدد، المتمثلين بالوهابية السعودية، وهو المنهج الذي يٌجمع عليه مشايخ الوهابية قاطبة، والذي ظل يؤدي منذ نهايات القرن الثامن عشر الهجري الى ظهور كثير من الحركات التكفيرية الإرهابية التي سفكت دماء المسلمين، وسبت نساءهم ودمرت مساجدهم ومقدساتهم وممتلكاتهم، ونهبت أموالهم.

فتنة حصر التعبد بالمذاهب الأربعة

بدأت فتنة حصر العقيدة الرسمية للدولة بالأشعرية، والمذاهب الإسلامية الرسمية بالحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، في عهد الخليفة المستنصر العباسي، الذي خصص الدراسة في المدرسة المستنصرية التي أنشأها سنة 625 هـ لهذه المذاهب فقط، وقسّم قبلة الصلاة فيها إلى أربعة أقسام، لكل مذهب قسم. بيد أن قرار الخليفة العباسي المستعصم بحصر المذاهب الإسلامية بالأربعة المذكورة سنة 645 ه، ومعاقبة من يتمذهب بغيرها؛ يعد التاريخ الرسمي لحصر المذاهب الإسلامية، وكان هذا القرار هو السبب الأهم في اندثار المذاهب السنية الاخرى، التي سميت بالمتروكة، بل كانت الفرق الأخرى غير الفرقة الأشعرية، والمذاهب الأخرى غير الأربعة المذكورة، تواجه بالقوة والاتهام بالبدعة والخروج عن الدين من قبل السلطة؛ إذ يقول الشيخ أبو زرعة: «من خرج عن ذلك (المذاهب الأربعة) لم ينله شيء، وحرم ولاية القضاء، وامتنع الناس عن استفتائه، ونسب إلى البدعة»(67).

واستمر هذا الأمر بعد سقوط الدولة العباسية، وهو ما حدث بعد احتلال المماليك الأتراك مصر، إذ يقول المقريزي: «فلما كان سلطة الظاهر بيبرس البندقداري، ولّي بمصر أربعة قضاة، وهم: شافعي، ومالكي، وحنفي، وحنبلي، فاستمر ذلك من سنة 665 هـ، حتى لم يبق من مجموعة أمصار الإسلام مذهب يعرف مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة… وعودي من تمذهب بغيرها وأنكر عليه ولم يولّ قاضياً، ولا قُبلت شهادة أحد، ولا قُدّم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب، وأفتى فقهاء الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها»(68).

ويرى المؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون، بأن سبب عدم انتشار المذهب الحنبلي وقلة مقلديه، يعود إلى «بعد مذهبه عن الاجتهاد، وأصالته في معاضدة الرواية والأخبار بعضها ببعض»(69)، ولكن لا أعتقد أن هذا السبب كاف، بل السبب الأهم يعود الى عدم وجود دولة تدعمه وتتباه، وعدم وجود طائفة تحميه وتحتمي به، والدليل أن مفصلين غيّرا في واقعه، الأول تولي عبدالله الحجازي القضاء سنة 738 هـ، وكذلك مساعي ابن تيمية وابن قيم الجوزية في مجال إعادة تأسيس الطائفة الحنبلية على قواعد العصبية المذهبية والعقدية والضبط المجتمعي. أما المفصل الثاني فهو الذي صنعه التحالف السياسي ــ الديني بين محمد بن عبد الوهاب وأل سعود في نجد، ليعود المذهب الحنبلي، بنسخته التيمية، الى عصر الظهور والازدهار، بسبب وجود سلطة وقوة عسكرية ومؤسسة دينية كبيرة وطائفة عصبوية تنشره وتحميه.

كما كان تبني الدولة العثمانية المذهب الحنفي، وإعلانه مذهباً رسمياً للدولة، سبباً في تعزيز حضور المذهب الحنفي في الولايات العثمانية كافة. ويعود اختيار الدولة العثمانية المذهب الحنفي مذهباً رسمياً، الى عدم اشتراط المذهب الحنفي في خليفة المسلمين أن يكون قرشياً، وهذا الاختيار المصلحي السياسي، تعبير آخر عن الاستثمار السيئ الذي يقوم به بعض الحكام للمذاهب، من أجل تمرير مصالحهم، دون أن تكون لديهم قناعة بهذا المذهب وذلك، بل ربما بالإسلام برمته. وقد ظل السلاطين العثمانيون يقومون بالأفعال نفسها التي كان يقوم بها الأمويون والعباسيون والأيوبيون من قتل ومطاردة وتشريد وسجن ونفي واستباحة المدن وهتك الأعراض ومصادرة الأموال ضد أتباع أل البيت، حتى كانت فترة حكم السلطان سليم الأول تتساوى في دمويتها وقسوتها مع فترة حكم الأمويين والعباسيين والأيوبيين والسلاجقة والمماليك.

أما التشيع، عقيدة ومذهباً؛ فقد كان يتحمل ضغطاً مركباً، فهو ممنوع علمياً بوصفه مذهباً آخر غير المذاهب الأربعة، ومقموع سياسياً بوصفه معارضاً للدولة، ولولا وجود أئمة آل البيت ومقاومة الشيعة وثوراتهم، وتأسيس دول شيعية خلال القرون الرابع والخامس السادس داخل الدولة العباسية (الحمدانية في شمال العراق وبلاد الشام، والإدريسية في شمال افريقيا، والفاطمية في شمال أفريقيا ومصر، والبويهية في العراق وايران)؛ لاندثرت المذاهب الشيعية أيضاً، بل كاد الشيعة خلال عهود الدول الشيعية المتزامنة والمتعاقبة، أن يتحولوا الى أغلبية سكانية في كل العالم الإسلامي، لولا سقوط هذه الدول بالتدريج، بفعل صراعاتها الداخلية والبينية من جهة، والغزوات العسكرية العكسية للقوى السنية غير العربية النامية الجديدة، وخاصة القوى العسكرية السلجوقية والزنكية التركيتين، والأيوبية الكردية، فإذ قضت القوة العسكرية الزنكية على الشيعة في شمال العراق وجزء من بلاد الشام، والقوة السلجوقية على كثير من في الشيعة وأجزاء من العراق؛ فإن سلطة القهر الأيوبية بقيادة صلاح الدين الأيوبي وأبنائه، كان لها الدور التاريخي الأكبر في القضاء على الشيعة قضاء تاماً في شمال أفريقيا وبلاد الشام، ولولا الأيوبي لكان الشيعة اليوم يشكلون الأغلبية السكانية الساحقة في جميع المغرب العربي وشمال افريقيا ومصر وسوريا والاردن وفلسطين ولبنان.

أما في إيران والهند؛ فلولا الدولة الصفوية لدخل العثمانيون بلاد فارس وقضوا على الأغلبية الشيعية في إيران والعراق، ولولا ضعف الدولة الصفوية وسقوطها لاستمر تمدد التشيع في شبه القارة الهندية وشرق آسيا، وأصبح مذهب الأكثرية المسلمة هناك، بل لولا السلطات الشيعية المتعاقبة في إيران، لتبخر التشيع في آسيا، ولبقي الشيعة مجرد جيوب متناثرة حالهم حال الدروز والصابئة والآشوريين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات

(1) عبد الحسين الأميني النجفي، الغدير في الكتاب والسنّة والأدب، ج 11 ص 77.

(2) انظر: المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ج 2 ص 126 وص 299. نقلاً عن: آدم متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ج 1 ص 128، أيضاً: أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، ج 1 و2، ص 260. وقد روى الأميني في الغدير عشرات الأحاديث الموضوعة في معاوية. انظر: ج11 ص76 ــ 101.

(3) انظر: الأميني، ج 11 ص 74 ــ 75.

(4) (أبو تراب) كنية أطلقها الرسول (ص) على الإمام علي (ع).

(5) الطبرسي، الاحتجاج، ص 448.

(6) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد، ج 2 ص 302، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال، ج 2 ص 302، وقال بأنه حديث كذب. انظر: أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، ج 2 ص 446 ــ 447.

(7) الطبرسي، ج 2 ص 448.

(8) المصدر نفسه.

(9) يقول الحافظ السيوطي: ((كان في أيام بني أمية أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها علي بن ابي طالب بما سنّه لهم معاوية)). انظر: الأميني، ج 2 ص 102.

(10) نهج البلاغة، الخطبة (206).

(11) مرتضى العسكري، عبد الله بن سبأ، ج 1 ص 62 ـ 63.

(12) أوردها الطبري في تاريخه ضمن أحداث السنوات 30 ــ 36، ج 3 ص 335 ــ 571، ونقل عنه ابن الأثير في “الكامل”، وابن كثير في “البداية والنهاية”، وابن خلدون في تاريخه، كما نقل عن سيف رواياته وأحاديثه ـ ولا سيما السبأية ـ ابن عساكر في تاريخه الكبير، حتى وصلت الباحثين المعاصرين، أمثال أحمد أمين في “فجر الإسلام”، ومحمد رشيد رضا في “السنة والشيعة”، وحسن إبراهيم حسن في “تاريخ الإسلام السياسي”. وقد استثمرها المستشرقون إلى أقصى ما يمكن، خدمة لأهدافهم، كفان فلوتن في كتابه “السيادة العربية”، ورونالدس في “عقيدة الشيعة”، وفلهاوزن في “السبأية وروح النبوة”. وقد عالج العلامة العسكري موضوع أحاديث سيف بن عمرو في دراساته “في الحديث والتأريخ” معالجة علمية رائدة في مجالها، فنسف الكثير من الأسس التي قامت عليها الكتابة التاريخية في الإسلام، وأثبت أن الكثير من أحداث التأريخ الإسلامي وأسماء الصحابة والتابعين التي تتناقلها الكتب كالمسلمات، هي مختلفة كلياً، وأساطير ليست إلا، وأبرزها أسطورة السبأية.

(13) محمد بن حيان البستي، ذكر في كتابه “المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين” المئات من هؤلاء، وقد نقل عنه الشيخ عبد الحسين الأميني في “الغدير”، ج 5 ص 209 ـ 228.

(14) الأميني، الغدير، ج 5 ص 209 ــ 210.

(15) المصدر نفسه، ص 214.

(16) المصدر نفسه، ص 243.

(17) المصدر نفسه، ص 244.

(18) المصدر نفسه، ص 257.

(19) المصدر نفسه، ص 260.

(20) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج 12 ص 324.

(21) انظر: ابن حيان، والأميني، ج 5 ص 290.

(22) يريد بهم الشيعة.

(23) انظر: شهاب الدين بن عبد ربه، العقد الفريد، ج 2 ص 249، وانظر أيضاً الصفحات 245 ــ 251.

(24) عبد القادر بن طاهر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 53 ــ 71 و322.

(25) ابن حزم الظاهري، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 2 ص 78 و113، وج 4 ص 179 ـ 188.

(26) أحمد بن تيمية، منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، ج 1 ص 163.

(27) ابن خلدون، المقدمة، ص 446.

(28) الأميني، ج 5 ص 280.

(29) هذا الحديث ذكر في أكثر من كتاب، منها: الدر المختار في شرح تنوير الأبصار، ج 1 ص 53 ــ 54.

(30) أسد حيدر، ج 2 ص 497.

(31) عياض السبتي، ترتيب المدارك وتقريب المسالك، ج 1 ص 89 ـ 102.

(32) الأميني، ج 5 ص 284.

(33) يقصد محنة خلق القرآن، المصدر السابق نفسه.

(34) الأميني، ج 5 ص 288.

(35) محمد محمد المدني، أسباب الخلاف بين أئمة المذاهب الإسلامية، ص 211.

(36) المصدر السابق نفسه.

(37) أسد حيدر، ج 1 ص 175، والأقوال الأربعة نقلت عن هذا الكتاب.

(38) الطبرسي، الاحتجاج، ج 2 ص 474.

(39) المصدر السابق نفسه.

(40) العقيلي، الضعفاء، ج 4 ص 281.

(41) ابن عدي، الكامل، ج 7 ص 6.

(42) عبد الله بن أحمد بن حنبل، السنة، ص 165.

(43) الإمام أحمد بن حنبل، العلل ج 1 ص 539.

(44) عبد الله بن أحمد بن حنبل، السنة، ص 211.

(45) المصدر السابق نفسه.

(46) انظر: أسد حيدر، ج 1 ص 190 ــ 192.

(47) المصدر السابق نفسه.

(48) عبد الحسين شرف الدين، الفصول المهمة، ص 154 ــ 156.

(49) كان للشيخ العاملي تسعة عشر تلميذاً من كبار علماء أهل السنة في دمشق انظر: محسن الأمين، أعيان الشيعة، م 7 ص 157.

(50) عبد الحسين شرف الدين، الفصول المهمة، ص 28.

(51) المصدر السابق، ص 30.

(52) المصدر السابق، ص 31.

(53) المصدر السابق، ص 32.

(54) المصدر السابق، ص 28 ـ 32.

(55) حول نشوء العقيدة الأموية وأسسها الفكرية والسياسية، أُنظر: الفصل الأول من كتاب المنظومة الطائفية، علي المؤمن.

(56) أبو إسحاق، “طبقات الفقهاء”، ص 54، والخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج 8 ص 424.

(57) محمد ابو زهرة، “مالك: حياته وعصره ــ آراؤه وفقهه”، ص 207 ـــ 211.

(58) أنظر: محمد أبو زهرة، الإمام الصادق: حياته وعصره ــ آراؤه وفقهه، ص 251.

(59) الكليني، الكافي، ج ١، ص ٤٧٤.

(60) محمد أبو زهرة، “مالك: حياته وعصره وآراؤه وفقهه”، ص 223 ـــ 226.

(61) أسد حيدر، الإمام الصادق، ج 1 ص 161، نقلاً عن المكافأة لابن الداية، ص 62 ــ 64.

(62) أسد حيدر، الإمام الصادق، ج 1 ص 167، نقلاً عن وفيات الأعيان لابن خلكان، ج 2 ص 116.

(63) الونشريسي، المعيار المعرب، ج 12 ص 26.

(64) الشيخ محمد مصطفى المراغي، “بحث في التشريع الإسلامي”، عن كتاب “تاريخ حصر الاجتهاد” للشيخ أغا بزرگ الطهراني، ص 108..

(65) المقريزي، الخطط المقريزية، ج 4 ص 57.

(66) للمزيد انظر: محسن الأمين، أعيان الشيعة، م 10 ص 60.

(67) أسد حيدر، الإمام الصادق، ج 1 ص 175.

(68) المصدر نفسه، ص 171.

(69) ابن خلدون، المقدمة، ص 448.

المصادر والمراجع

  • آل عمر، الشيخ عبدالرحمن بن حماد، «الإرشاد إلى توحيد رب العباد»، دار العاصمة، الرياض، 1422 هـ.
  • آغا بزرگ الطهراني، الشيخ محمد محسن، «تاريخ حصر الاجتهاد»، تحقيق: محمد علي الأنصاري، مدرسة الإمام المهدي، خونسار.
  • أبو إسحاق الشيرازي، إبراهيم بن علي، «طبقات الفقهاء»، المحقق: إحسان عباس
    دار الرائد العربي، بيروت، ١٩٧٠.
  • أبو زهرة، الشيخ محمد، «الإمام الصادق: حياته وعصره ــ آراؤه وفقهه»، دار الفكر العربي، القاهرة.
  • أبو زهرة، الشيخ محمد، «الإمام مالك: حياته وعصره ــ آراؤه وفقهه»، دار الفكر العربي، القاهرة.
  • ابن أبي الحديد، عبد الحميد، «شرح نهج البلاغة» تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط2، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1965 م.
  • ابن أحمد بن حنبل، عبد الله، «السنة»، تحقيق: محمد سعيد سالم القحطاني، دار ابن القيم، الدمام، السعودية، 1406 ه.
  • ابن الأثير، علي، «الكامل في التاريخ»، دار صادر ودار بيروت، بيروت، 1966 م.
  • ابن تيمية، أحمد، «منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية»، ط 1، المطبعة الأميرية، بولاق، 1312 هـ.
  • ابن حيان، محمد التميمي البستي، «كتاب المجروحين والضعفاء والمتروكين»، تحقيق: محمد إبراهيم زايد، دار المعرفة، بيروت.
  • ابن حزم، علي الظاهري الأندلسي، «الفصل في الملل والأهواء والنحل»، دار المعرفة، بيروت، 1975 م.
  • بن حنبل، الإمام أحمد، «العلل ومعرفة الرجال»، تحقيق: صبحي البدري السامرائي، مكتبة التعارف، الرياض، 1989.
  • ابن خلدون، عبد الرحمن، «مقدمة ابن خلدون»، ط 4، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
  • ابن خلكان، أحمد، «وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان»، تحقيق: د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت.
  • ابن رجب، عبد الرحمن الحنبلي، «كتاب الذيل على طبقات الحنابلة»، دار المعرفة، بيروت.
  • ابن طاهر، عبد القادر البغدادي، «الفرق بين الفرق»، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت.
  • ابن عبد ربه، أحمد الأندلسي، «العقد الفريد»، حققه: د. مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت.
  • ابن عدي الجرجاني، «الكامل في ضعفاء الرجال»، دار الكتب العلمية، بيروت، 1997 م.
  • ابن قتيبة، عبد الله الدينوري، «الإمامة والسياسة»، مكتبة ومطبعة الحنبلي، القاهرة، 1969 م.
  • ابن كثير، عماد الدين، «البداية والنهاية»، ط 6، مكتبة المعارف، بيروت، 1985 م.
  • الأشعري، الشيخ أبو الحسن، «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين»، تحقيق: محمد عبد الحميد، المكتبة العصرية، لبنان.
  • أمين، أحمد، «فجر الإسلام»، ط 10، دار الكتاب العربي، بيروت، 1969 م.
  • الأمين العاملي، السيد محسن، «أعيان الشيعة»، دار التراث العربي، بيروت.
  • الأميني النجفي، الشيخ عبد الحسين، «الغدير في الكتاب والسنّة والأدب»، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1994 م.
  • بروكلمان، كارل، «تاريخ الشعوب الإسلامية»، تعريب: نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي، ط 2، دار العلم للملايين، بيروت، 1984 م.
  • البستي، محمد بن حبان التميمي، «كتاب المجروحين والضعفاء والمتروكين»، تحقيق: محمد إبراهيم زايد، دار المعرفة، بيروت.
  • الحكيم، السيد محمد تقي، «قصة التقريب بين المذاهب وبحوث أخرى»، مطبوعات مكتبة النجاح، طهران، 1982 م.
  • حيدر أسد، «الإمام الصادق والمذاهب الأربعة»، ط 2، دار الكتاب العربي، بيروت، 1969 م.
  • الخطيب البغدادي، أحمد بن علي، «تاريخ بغداد»، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 2002 م.
  • الخطيب، محب الدين، «الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الإثني عشرية»، طبعة عام 1982 م، وطبعة دار طيبة، الرياض، 1988 م.
  • الذهبي، شمس الدين، «تذكرة الحفاظ»، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٩٩٨ م.
  • السبتي، عياض القاضي، «ترتيب المدارك وتقريب المسالك»، تحقيق: د. أحمد بكير محمود، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1967 م.
  • شرف الدين، عبد الحسين، «الفصول المهمة في تأليف الأمة»، ط2، مطبعة العرفان، صيدا، 1347 هـ.
  • الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم، «الملل والنحل»، وتخريج: محمد فتح الله بدران، ط2، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.
  • الطبرسي، الشيخ أحمد بن علي، الاحتجاج، دار التراث العربي، بيروت.
  • الطبري، محمد بن جرير، «تاريخ الأمم والملوك»، تحقيق: نواف الجراح، دار ومكتبة الهلال، القاهرة.
  • العسكري، السيد مرتضى، «خمسون ومائة صحابي مختلف»، ط 4، دار الزهراء، بيروت، 1980 م.
  • العسكري، السيد مرتضى، «عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى»، ط4، مطبعة دار الكتب، بيروت، 1973 م.
  • العسكري، السيد مرتضى، «معالم المدرستين»، ط 1، مؤسسة البعثة، طهران، 1407 هـ.
  • العقيلي المكي، محمد بن عمرو، «الضعفاء الكبير»، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت.
  • الكليني، الشيخ أبو جعفر محمد بن يعقوب، «الكافي»، دار الكتب الإسلامية، طهران.
  • المؤمن، علي، «من المذهبية الى الطائفية: المسألة الطائفية في الواقع الإسلامي»، دار ديوان، بيروت، 2007 م.
  • المؤمن، علي، «المنظومة الطائفية: من المقالات التأسيسية للمسلمين الى الغزو الطائفي الحديث» (مخطوط).
  • متز، آدم، «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري»، تعريب: محمد عبد الهادي أبو ريدة، ط 5، دار الكتاب العربي، بيروت.
  • المقريزي، احمد بن علي، الخطط المقريزية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1998 م.
  • النوبختي، الحسن بن موسى، «فرق الشيعة»، ط 4، المكتبة الحيدرية، النجف، 1969 م.
  • الونشريسي، أحمد بن يحيى، المعيار المعرب، وزارة الأوقاف، الدار البيضاء، 1981 م.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment