سعدون ضمد

Last Updated: 2024/06/22By

حوار مع الدكتور علي المؤمن حول الاجتماع الشيعي: مميزاته وخصائصه

حاوره: سعدون ضمد

(إعلامي عراقي)

قناة العراقية الفضائية، في 6 و 7 / 4/ 2022

سعدون ضمد: نحاور الدكتور علي المؤمن، الباحث في الفكر الإسلامي ومؤلف كتاب «الاجتماع الديني الشيعي». لقد طرحت حضرتك تأسيس «علم الاجتماع الديني الشيعي». طبعاً هذا التأسيس يحتاج إلى تمايز الذات الشيعية، تمايزها اجتماعياً عن الحاضنة الاسلامية بصورة عامة. اللافت أيضاً أنك أشرت إلى أنّ هذا التمايز موجود، وتؤكد أنّ ثمة تمايز ما بين الذات الاجتماعية الشيعية وبين الذات الاجتماعية الاسلامية عموماً. ثم تقول أنّ هناك تمايز يفصل بين الشيعة الإثني عشرية وبقية الفرق الشيعية. ياريت تفصّل هذين التمايزين.

د. علي المؤمن: قبل الدخول في صلب الإجابة، أودّ أن أوضح وظيفة علم الاجتماع الديني. هذا العلم هو أحد فروع علم الاجتماع، وعلم الاجتماع يدرس الظواهر الاجتماعية، سواء الظواهر الخاصة بمجموعة بشرية معينة أو الظواهر العامة للمجتمعات الأوسع، سواء كانت هذه المجتمعات حضرية أو بدوية أو ريفية. وهناك فروع عديدة لعلم الاجتماع، كالسياسي والديني والثقافي والمعرفي. أما علم الاجتماع الديني تحديداً؛ فهو يدرس الظواهر الاجتماعية التي تفرزها الأديان والمذاهب الدينية، أي أنّ علم الاجتماع الديني لايدرس الأديان نفسها ولا المذاهب نفسها، كما أنه لا يخلق ظاهرة ولايبتكر ظاهرة؛ فالظاهرة موجودة، وإنّما يجد الظاهرة ويكتشفها، ثم يصفها ويحلّلها ويفسّرها، كما يكتشف علاقاتها وسياقات حركتها.

وعندما نُخضع «الاجتماع الديني الشيعي» أو «النظام الاجتماع الديني الشيعي» لقواعد علم الاجتماع الديني التقليدي، كما بلورها “آغوس كنت” و”إميل دوركايم” و”ماكس فيبر” وغيرهم؛ نجد أنها عاجزة عن إعطاء تفسير واضح ووصف دقيق لهما، بالنظر لخصوصية «النظام الاجتماع الديني الشيعي» أو «الاجتماع الديني الشيعي»، وبالتالي؛ كما لجأ علماء الاجتماع إلى التأسيس لفروع ثانوية وحقول جديدة متفرعة عن علم الاجتماع، كعلم الاجتماع الحضري أو الريفي وعلم الاجتماع السياسي وعلم اجتماع الاقتصاد وعلم اجتماع المعرفة، من أجل دراسة الظواهر الفرعية التي يعجز علم الاجتماع العام عن دراستها؛ فكان لابدّ أن نلجأ إلى فرع جديد في علم الاجتماع الديني، نستطيع من خلاله أن نصف و نحلّل ونفسّر الظاهرة الشيعية المتفرّدة.

وتفرّد الظواهر الاجتماعية الدينية الشيعية يكمن في كونها ظواهر مركبة وليست بسيطة، وإن النظام الاجتماعي الديني الذي يجمعها هو نظام مركب، يمتزج فيها الديني بالسياسي بالاقتصادي بالمالي، وبكل مجالات حركة الحياة، وهو ما يميزها عن باقي المؤسسات الاجتماعية الدينية وعن باقي الظواهر الدينية، الإسلامية وغير الإسلامية، سواء السنية أو الكاثوليكية أو البروتستانتية أو البوذية.

وما يميز الظاهرة الاجتماعية الدينية الشيعية، إضافة الى كونها مركبة وتشتمل على مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والدينية والعبادية؛ هو أنّها ظاهرة مستقلة عن الدولة، أي أنها إزاء هاتين الميزتين، تستوعب كل ما له علاقة بتكاليف المرجع الديني وصلاحياته وولاياته الفتوائية والقضائية والمالية والحسبية والسياسية، في حين أن المؤسسة الدينية السنية ـــ مثلاً ـــ هي إحدى مؤسسات الدولة، وعملها يتقتصر على الجانب الديني المحض؛ فالدولة منذ العصر الأموي، أقصت المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية في داخل مدرسة الخلافة، وبات  المرجع الديني السني أو المفتى أو شيخ الاسلام خلال العصور الأموية والعباسية والعثمانية، موظّفاً عند الخليفة أو السلطان. في حين أن الذي يقف على رأس النظام الاجتماعي الديني الشيعي ليس الخليفة ولا السلطان ولا المك ولا رئيس الجمهورية؛ إنّما المرجع الديني الشيعي، المستقل عن سلطة الدولة وإلزاماتها وشروطها، وهو الذي يمتلك صلاحيات قيادة المذهب الشيعي وأتباعه والاجتماع الديني الشيعي، من خلال تمتعه بالولاية على الفتوى والولاية على المال الشرعي وعلى القضاء والحسبة والحكم، وهذا اللون من القيادة والنظام الاجتماعيين الدينيين، غير موجود في أي ظاهرة اجتماعية دينية على مستوي المذاهب والأديان في كل العالم.

سعدون ضمد: دكتور هناك ميزات أود أن تتعرض لها، منها ميزة استناد المذهب الشيعي إلى قاعدة غيبية، تتمثل في نيابة سلطة «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» عن القائد الحقيقي الغائب. حضرتك تعتبر هذه ميزة موجودة عند المذهب الشيعي وغير موجودة في المذاهب السنية، والحال أن المذاهب السنية تؤمن بالإمام الغائب أيضاً؛ فكيف تميز بين الايمانين؟

د. علي المؤمن: هناك فرق كبير جوهري في هذا الجانب بين السنة والشيعة؛ فالشيعة يؤمنون بظهور مهدي له اسم، أبوه معروف، سلسلة نسبه معروفة، تاريخه معروف، له حضور واقعي، في حين أن السنة يؤمنون بظهور مهدي، ولكن من هو هذا المهدي؟ ما هو تاريخه؟ ماهو نسبه؟ والأهم من كل ذلك ماهي صلاحياته ودوره في فترة غيبته؟. كل هذه الأمور لاتجيب عليها المذاهب السنية.

الأمر الآخر، إن المذاهب السنية لا تربط مستقبلها ولا نظامها الاجتماعي الديني بشخصية الامام المهدي الغائب، وانّما تربط كيانيتها ونظامها الاجتماعي الديني بالمؤسسة الدينية الحكومية القائمة في أي عصر ومكان، بينما يربط الشيعة شرعية وجود نظامهم الاجتماعي الديني بمبدأ الإمامة، وعبر هذا القائد الغائب، الذي ترك فيهم نواب خاصون أربعة ووكلاء، ثم نواب عامون بعد انتهاء عصر الغيبة الصغرى، وقد سمِّي هؤلاء النواب العامون بالمحدِّثين والفقهاء والمراجع، وهم الذين بدأت مهمتهم بعد انتهاء مرحلة السفراء الأربعة الخاصين للإمام المهدي، وأعقبتها مرحلة ولاية الفقيه أو ولاية المجتهد أو ولاية النائب العام للإمام المهدي أو المرجع الديني، وكلها تسميات لمنصب واحد.

ووكيل المهدي ونائبه الذي هو الفقيه، أصبحت له ولايات على المجتمع الشيعي خلال مرحلة غياب القائد الأصيل الذي هو الإمام. وهذه الولايات، حسب ما منصوص في الأحاديث والروايات، كحديث الإمام الصادق ((فإني جعلته عليكم حاكماً)) أو حديث الإمام العسكري ((فارجعوا فيها الى رواة أحاديثنا)) أو الحديث المنسوب إلى الإمام المهدي نفسه؛ تجعل من الفقيه ومن المرجع الديني حاكماً زمنياً وحاكماً دينياً على الاجتماع الديني الشيعي؛ فهو يقضي وهو يفتي وهو يدير الأمور الحسبية للشيعة، وفي نفس الوقت يتولى شؤون الأموال الشرعية والشؤون العامة، بما فيها الشأن السياسي.

سعدون ضمد: حسناً دكتور؛ صار واضحاً أن هناك ارتباطاً ما بين الفقيه وما بين الإمام الغائب الذي هو امام محدّد مثل ما قلت؛ إذن هذا فرق. لكنك أيضاً تضع فرقاً آخر؛ فتقول في كتابك أن الشيعة الإثني عشرية يشكلون 85 بالمائة من مجموعة شيعة العالم. اما بقية الفرق الشيعية فتشكل باقي النسبة، وهم لايمثلون وحدة سيسيولوجية مع الشيعة الإثني عشرية، بل وحدة تاريخية سياسية شبه عقدية، أي أنك تفصل ما بين الزيدية والاسماعيلية ــ مثلاً ــ وما بين الشيعة الاثني عشرية، لماذا؟

د. علي المؤمن: علم الاجتماع الديني يدرس الظواهر الاجتماعية والنظم الاجتماعية التي تفرزها العقائد والمذاهب ومساراتها التاريخية، أي وفق ما تفرضه العقائد والأنساق الفقهية والتراكم الاجتماعي التاريخي. هذه الأنساق والتراكمات فرضت نظاماً دينياً اجتماعاً زيدياً مستقلاً عن الإثني عشري، وكذلك المذهب الإسماعيلي. وبالتالي؛ نحن نتحدث عن مجتمعات المذاهب ولا نتحدّث عن المذاهب أنفسها. نعم؛ هناك مشترك عقدي واضح بين الاسماعيلية والزيدية مع الإثني عشرية، ولكن على مستوى النظام الاجتماعي الديني؛ هناك استقلالية لكل من الاثني عشرية والاسماعيلية والزيدية، كما هو الحال ــ مثلاً ــ مع المذهب الحنفي والمذهب المالكي والمدرسة الوهابية والمدرسة الصوفية؛ فلكل منها نظام اجتماع ديني مختلف ومستقل، رغم كونها تنتمي جميعاً الى التسنن.

سعدون ضمد: حسناً دكتور، قبل أن أنتقل من موضوع التمايزات، وهي كثيرة وتحتاج إلى نقاش معمّق؛ أريد أن انتقل إلى ميزة وجدتك فيها غير دقيق، والتي تقول فيها أن للشيعة الإثني عشرية تماسك يجعلهم إلى حدّ ما يتجاوزون القومية واللغة فيما بينهم. عدم الدقة أراه هنا أن الشيعة يشبهون المسلمين عموماً، يشبهون المسيحين عموماً؛  فالمسلم المسلم العراقي أيضاً، يتجاوز العقبات أو الفوارق اللغوية بينه وبين المسلم الباكستاني، ويقاتلون سوياً، يعني يعيشون سوياً أيضاً، والمسلم يتجاوز الفوارق القومية بينه وبين المسلم الأمريكي مثلاً؛ فلماذا تجعل هذه الميزة خاصة بالشيعة الإثني عشرية؟

د. علي المؤمن: هذه الفرضية غير صحيحة، ويمكن تصورها نظرياً فقط، أو في حالات محدودة لاتشكل ظاهرة، أو ظواهر سطحية لاتشكل دلاله مهمة. أما على مستوى النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ فالأمر مختلف، وهو يرتبط بقيادة هذا النظام، وهي المرجعية الدينية، هذه المرجعية بصلاحياتها وهيكلتها وسياقات عملها، غير موجودة في أي مذهب من المذاهب الاسلامية الأخرى، ولا الأديان الأخرى، ولذلك؛ فإن المرجع الديني للسنة في مصر هو مصري، ويعينه رئيس الدولة، وله درجة حكومية، سواء تمثل بشيخ الازهر او المفتي، وليس له صفة خارج مصر، وليس له دالة على المسلمين السنة في الدول الأخرى، وهكذا المفتي الديني للسنة في سورية هو سوري وفي اندونسيا اندونسي وفي نيجيريا نيجيري. وعمل كل هؤلاء محدود في بلدانهم، ويعملون وفق توجيهات حكومات بلدانهم.

أما عند الشيعة؛ فهناك مركزية عالمية للمذهب وللنظام الاجتماعي وقيادة مركزية وشبكة عالمية لتوجيه الظاهرة الاجتماعية الدينية، سواء تمثلت هذه المركزية بالنجف أو الحلة وكربلاء وجبل عامل وسامراء وإصفهان سابقاً أو بقم. هذه المركزية فيها مرجع ديني يقود أغلب الواقع الشيعي، سواء كان هذا المرجع عراقياً أو إيرانياً أو هندياً أو باكستانياً أو لبنانياً، و يتبع له الجمهور الشيعي ليس تبعية فتوائية ودينية فقط، يعني ليس مجرد رؤية الهلال، أو توقيتات الصلاة والصوم أو معرفة أحكام الحج وعقد الزواج، وفي حدود أبناء البلد الذي يحمل جنسية المفتي والموظف عند رئيس الدولة فقط. لا ليس هكذا عند الشيعة؛ فالفرق بين الطائفتين في هذا المجال جوهري وشاسع، أي أن تبعية الشيعي، في أي بلد كان، لمرجعه في أي بلد كان، هي تبعية اجتماعية ودينية ومالية وقضائية، وصولاً إلى ما يتعلق بقضايا الدولة والسياسة. هذه التبعية لا وجود لها في باقي المذاهب، بل ولا وجود لها في كل الأديان. وهنا تكون الحدود والقوميات واللغات باهتة في داخل المذهب الشيعي.

سعدون ضمد: طبعاً دكتور لنا عودة إزاء موضوع الحدود اللغوية والحدود السياسية وتجاوزه، وذلك ضمن النقاش الذي سنفرده لموضوع المرجعية. دعني انتقل معك إلى هيكلية النظام الاجتماعي. عندك بالهيكلية تعدد المرجعية الدينية العليا أو ولاية الفقيه. ثم الحوزة العلمية، ووكلاء المرجعية ومعتمدوها ومكاتبها الجغرافية. نحن نبحث في الاجتماع الشيعي؛ ماذا يعني وكلاء المرجعية؟ أليس لرجال الدين في المذاهب الأخرى وكلاء؟ وما هي أدوارهم؟

د. علي المؤمن: هذه ميزة أخرى للنظام الاجتماعي الديني الشيعي عن كل المذاهب والأديان الأخرى. المرجع الديني الأعلى في النجف ــ مثلاً ــ لديه وكلاء ، بمعنى نوّاب وممثّلين ومعتمدين ومندوبين وسفراء، لهم صلاحيات في حدود ما يمنحه لهم المرجع، كصلاحية استلام الحقوق الشرعية وتوزيعها، صلاحية التنظيم الاجتماعي والأمور الحسبية، صلاحية نشر الفتاواي واستلام الإستفتاءات، بناء وإدارة المساجد والحسينيات والمراكز الثقافية والصحية ومؤسسات رعاية الفقراء والأيتام وغيرها، متابعة الشأن العام للشيعة في البلد، بما فيه الشأن السياسي. فتجد هذا المرجع لديه مئات الوكلاء المنتشرين في كل بلدان العالم، من أمريكا وحتى استراليا، ومن روسيا وحتى جنوب أفريقيا. هؤلاء الوكلاء هم شبكة عالمية متماسكة، لديهم مرجعية واحدة وتوجيهات مركزية على كل الصعد.

كما أن التواصل بين الوكلاء والمرجع، بل بين عموم الشيعة والمرجع هو ميزة أخرى في النظام الاجتماعي الشيعي؛ فهو بسيط جداً، ولايزال نفسه منذ عصر الشيخ المفيد والشيخ الصدوق والسيد المرتضى والشيخ الطوسي؛ فهناك التواصل المباشر، دون بروتوكول وتعقيدات، وهناك التواصل عبر الرسائل. وقد ظل الوكلاء يحضرون الى مركز المرجعية، سواء في بغداد او النجف أو قم وغيرها. وهناك حلقة مهمة هي مكتب المرجع، الذي يسمى (البرّاني) أو (البيت)، وهو ــ رغم بساطته اللافتة ـــ يمثل المقر الشيعي العام، أو المقر المركزي النظام الاجتماعي الديني الشيعي. ويدير المقر ــ عادة ــ عدد من أسرة المرجع وتلاميذه، كأبنائه وأصهاره وإخوته وتلاميذه المقربين. ويكون التركيز دائماً على تلاميذ المرجع من الصف الأول؛ فلكل مرجع تلاميذ من الصف الأول، يعتمد عليهم أحياناً في الشأن الإداري والمالي، إضافة الى الشأن الديني والفتوائي؛ فمثلاً أحد تلامذته يكون مسؤلاً عن بيت المال، وتلميذ آخر يكون عن لجنة الفتواء، وهكذا مسؤولي اللجان الحسبية والاجتماعية. ويمارس الوكلاء الشؤون نفسها غالباً، كل في حدود البلد الذي يقيم فيه.

سعدون ضمد: حسناً دكتور، هؤلاء الوكلاء هل يشكلون شبكة إدارية تدير كلّ أتباع المرجع وشؤون المرجع، سواء ما يتعلق بأسئلتهم الشرعية أو خمس أموالهم، جبايتها، بوصفها شبكة إدارية تنتشر في جميع دول العالم. هل بين هؤلاء الوكلاء طبقات؟ يعني وكيل أكبر أو وكيل أصغر؟

د. علي المؤمن: هذه الأمور تدبيرية متغيرة، ولها علاقة بالزمان والمكان؛ فكلما تعقّدت الحياة وتطورّت تكون هناك أمور تدبيرية أكثر تطوراً وتعقيداً، وليس بالضروة أن يكون لهذه النظم أصول تشريعية، لأنها مجرد أمور تدبيرية وإدارية مباحة، ولاتتعارض مع الأصول التشريعية. مثلاً المرجعية النجفية لجأت إلى تقسيم العالم إلى قارّات أو إلى مناطق جغرافية، يكون على رأس كل منطقة جغرافية كبيرة وكيل عام مطلق، هذا الوكيل العام المطلق يتصل به مجموعة من الوكلاء الأقل صلاحية في الدول الأخرى، ويشرف كل وكيل على مجموعة من الوكلاء في المدن، وصولاً الى الوكلاء في القري والأرياف. وهذه الشبكة متماسكة ومتعاضدة و لا يقتصر عملها على الجانب الديني والفتوائي كما ذكرنا، بل يتسع حتى الى الجانب السياسي وتنظيم العلاقة بسلطات الدولة. وبالتالي فهم هيكلية إدارية عالمية متماسكة، ترتبط بالمركز، سواء عبر مناطق جغرافية أوسع أو من خلال اتصال بالنجف أو بقم مباشرة.

سعدون ضمد: نبقى بالهيكلية دكتور، هناك ظواهر ظواهر واضحة، مثل مراقد أهل البيت والمزارات شيعية، المساجد والحسينيات والمواكب والمؤسسات الثقافية والتعليمية، ولكن دعني اتوقّف عند ما أسميته حضرتك الحكومات والجماعات السياسية. ما الذي تقصده بالحكومات والجماعات السياسية ضمن الهيكلية، والحال أنها هيكلية نظام اجتماعي؟.

د. علي المؤمن: واحدة من التمايزات التي تميز النظام الاجتماعي الديني الشيعي عن باقي مجتمعات المذاهب والاديان هذه النقطة، وهي كون الحكومات والأحزاب والجماعات والمؤسسات الشيعية؛ تأخذ شرعيتها من المرجع الأعلى، وليس العكس، فالسلطان لا يعين الفقية وإنما الفقيه هو الذي يعين السلطان. مثلاً فتح علي القاجاري شاه ايران لديه إجازة بالتصرف في الحكم من مرجع النجف الشيخ جعفر كاشف الغطاء في النجف، كما يخوّله بقيادة الجيوش والتصرف بالأموال والخراج وغيرها. وكان العلامة الكركي والعلامة البهائي وغيرهما يمارسون الدور نفسه خلال العهد الصفوي. وبالتالي؛ فالأحزاب والحكومات وجماعات المقاومة تأخذ شرعية عملها من المرجع الأعلى وليس العكس، أي أنها جزء من النظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي يقوده المرجع الأعلى.

سعدون ضمد: هذا التمايز بالذات، الذي هو حكومات وجماعات سياسية، قد يصدق في فترة زمنية أو صدق في فترات زمنية محددة، وقد لا يصدق. وأنت تعلم بأن التمايزات التي تؤخذ بنظر الاعتبار، ونحن ندرس الحالة الاجتماعية، يجب أن تكون تمايزات مستمرة.

د. علي المؤمن: لا يوجد فارق زماني ومكاني، منذ عهد الصدوق والمفيد والمرتضى والطوسي هذه الظاهرة موجودة ولحد هذه اللحظة. كل الوجودات الشيعية الحالية، بصرف النظر عن أدائها وسلوك أعضائها تأخذ شرعيتها من المرجع، سواء في العراق او ايران او باكستان، كما كان يحدث في الدول الشيعية.

سعدون ضمد: سأتجاوز موضوع المؤسسات الوقفية الاقتصادية ومقلدي المرجعية وأتجاوز موضوع عموم الشيعة، لكن أتوقف عند ما أسميته المؤسسات والجماعات الأمنية والعسكرية. هل هناك فارق جوهري بينها وبين الحكومات والجماعات الاسلامية أم لا؟

د. علي المؤمن: لا هي نفسها عادة. لنأخذ العراق ـــ مثلاً ــ في ثورة النجف أو ثورة العشرين، كانت الجماعات المسلحة والعشائر المسلحة عبارة عن حركات مقاومة تأخذ فتواها من المرجع الأعلى، أي كانت تابعة للمرجع الاعلي، وهكذا في ثورة التنباك في ايران، وكذلك في ثورة المشروطة في ايران، وصولاً الى الثورة الإسلامية في ايران. في زمن النظام البعثي كان حزب الدعوة  ومنظمة بدر وغيرهما يعملون بفتوى المرجع في ممارسة العمل المسلح، وبالتالي؛ فهي تابعاة فتوائياً ودينياً إلى الفقيه.

سعدون ضمد: حسناً دكتور، صار واضحاً. هناك مفردة لا تقلّ أهمية عن المفردات التي ناقشناها حتى الآن، وهو التأسيس، أو ما أسميته حضرتك بالثمانية المؤسسين، وهم السفراء والفقهاء، أربعة سفراء وأربعة فقهاء. قبل أن تحدثنا عن السفراء، أقصد العمريين عثمان ومحمد والنوبختي والسمري، أسألك عن مفردة التأسيس، ألا تراها مفردة تستحق التوقف؟ فنحن نتحدث عن مذهب ممتد، منذ زمن الأمام على نزولاً إلى الآن. ما الذي تقصد بالتأسيس تحديداً.

د. علي المؤمن: أنا أقصد بالتأسيس الجانب الزماني والجانب الموضوعي، ولا أقصد تأسيس العقيدة الشيعية وتأسيس المذهب الشيعي، ولا الاجتماع الديني الشيعي بصفة عامة، بل أقصد تأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر غيبة الإمام المهدي تحديداً. أنا ذكرت أنّ هناك تأسيسان للاجتماع الديني الشيعي، التأسيس الأصلي، وهو التأسيس التلقائي الأول في المدينة المنورة، وقد جرى على يد الإمام على بن أبي طالب، بعد واقعة السقيفة مباشرة. أما التأسيس في عصر الغيبة فهو التأسيس الثاني أو التأسيس الفرعي الذي جرى في بغداد، على يد النائب الاول للإمام المهدي الشيخ عثمان بن سعيد العمري الأسدي.

العمري كان مديراً مدبراً عبقرياً وعظيماً، وقوياً أميناً، وتفوق عظمة إنجازه في التأسيس، كل ما أنجزه المحدثون والفقهاء الشيعة من عصر الغيبة الصغري وحتى الآن؛ فلو لا إدارة السفير الاول عثمان العمري لما استطعنا أن نشاهد نظاماً اجتماعياً دينياً بهذه السعة الجغرافية وبهذا الترابط الاداري وبهذا الامتداد التاريخي، ومن جاء بعده من السفراء (الثلاثة) هم عيال على السفير الأول وامتداد له. أما الفقهاء الأربعة؛ فكان أحدهم يكمّل الآخر، بدءاً بالشيخ الصدوق، ثم المفيد، ثم الطوسي، ثم السيد المرتضي. وجميعهم (السفراء الأربعة والفقهاء الأربعة) كانوا يعيشون في بغداد، وقادوا الواقع الشيعي من بغداد وتوفوا في بغداد، عدا الشيخ الطوسي الذي عاش آخر أربعة عشر عاماً من حياته في النجف ودفن فيه.

ولذلك؛ اؤكد أنّ النظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي في عصر الغيبة هو بغدادي التأسس والنكهة، وليس كوفياً ولا حتى نجفياً. النكهة العراقية البغدادية الإدارية الانفتاحية لها دور في بنية ها النظام. أي أنّ المرجعية الشيعية عندما انتقلت إلى النجف الأشرف، كان النظام الاجتماعي الديني الشيعي قد قام وتبلور نسبياً، وكانت له شبكة من الوكلاء وهيكلية أيضاً.

سعدون ضمد: لنا وقفة دكتور قد تكون طويلة عند قضية السفراء والفقهاء المؤسسين الثمانية، لكن قبلها ألاحظ على ما تفضلت به في الكتاب أيضاً، أنّ هناك بصمة اجتماعية. اسمح لي أن أطرح وجهة نظر هنا حول حركة الامام حسين وواقعة كربلاء؛ لماذا لم تفرد للحسين وواقعة كربلاء بصمة تأسيسية بالنسبة للمذهب الشيعي والوجود الاجتماعي؟

د. علي المؤمن: حركة الإمام الحسين هي أكبر من ثورة، هي حركة نهضوية شاملة، هذه الحركة النهضوية إضافة إلى حراك الإمام الحسن، وكذلك الإمام زين العابدين وحتى الإمام الباقر، هذه كلها جزء من حراك المرحلة الأولى، أي مرحلة الإمام على بن ابي طالب، واستمرار لها، وحتى بداية المرحلة الثانية من حياة الامام الصادق. هذه كلها مرحلة تاريخية واحدة. بالتالي؛ حراك الإمام الحسين لا نستطيع أن نفرد له مفصلاً خاصاً، لأنه جزء من حراك الإمام علي، وامتداد لاينفصل عنه، في حين الانتقال للمرحلة الثانية، أي حراك الإمام جعفر الصادق هو انتقال الى حراك مستقل، حراك منفصل بانعطافته الكبيرة. وقد اعتبرته المرحلة الثانية من مراحل تأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي.

سعدون ضمد: إذا سمحت لي دكتور قد أتفق معك بأن القصدية هنا مهمة، القصدية في التأسيس مهمة عند الإمام جعفر الصادق، كما كانت هناك قصدية بالتأسيس عند السفراء والفقهاء. أتفق بأن في حركة الإمام الحسين لم تكن هناك قصدية بالتأسيس. لكن تعرف حضرتك، إذا كنا نبحث عن التمايزات للرمزية الحسينية في الوجود الاجتماعي للشيعة والطقوس، بما أنك أكدت على الطقوس وفصلها عن الشعائر؛ فكل طقوس الشيعة مبنية على رمزية الامام الحسين.

د. علي المؤمن: بدون شك ما أفرزته نهضة الإمام الحسين من حراكات سياسية وجهادية واجتماعية في كل العالم، لها مدخلية مباشرة جداً في مظهرية أو في نشوء مظاهر جديدة للنظام الاجتماعي الديني الشيعي. ولكن أعود وأقول بأن نهضة الامام الحسين هي حلقة متصلة بحراك الإمام على بن ابي طالب، وليس مفصلاً تاريخياً، فقد بدأت حلقات هذه السلسلة في يوم السقيفة، ثم حكم الخلفاء الثلاثة المتصل به، وصعود بني أمية خلاله، ثم ما مر على الإمام علي في فترة حكمه، وخاصة خروج معاوية عليه، والذي أدى الى سقوط دولة الامام الحسن من جهة واستخلاف يزيد لأبيه معاوية من جهة أخرى، وهو ما ادى الى رفض الإمام الحسين لبيعته، وتصاعد نهضته، وصولاً الى استشهاده. هذه النكبة كانت عنواناً لسيرة الإمامين السجاد والباقر، وحتى نهاية المرجلة الاولى من حياة الإمام الصادق. أي أنها سلسلة مترابطة. في حين أن الانتقال الى المرحلة الثانية، وهي مرحلة الإمام جعفر الصادق، يمثل انتقالاً تاريخياً مفصلياً لمرحلة مستقلة.

سعدون ضمد: نعود دكتور الى التأسيس والسفراء الأربعة والسفير عثمان العمري، وأنت تفتح هذه البوابة التي هي بوابة علمية عبر علم الاجتماع وتفرد بحثاً للتأسيس؛ ألا تجعل بأن هذا المذهب الذي هو مذهب ديني، وهو بالنتيجة خلق غيبي، وتأسيس غيبي؛ ألا تجعله تأسيساً دنيوياً عندما تقول أنّ عثمان بن سعيد أسس للسفارة، يعني ثمة انعطافة أسسها رجل. هنا صار عندنا التأسيس ليس غيبياً بكله، بل تأسيساً بشرياً.

د. علي المؤمن: سبق أن أشرت الى أن التأسيس الذي أقصده هو التأسيس الاجتماعي في عصر الغيبة وليس مطلق التأسيس، أي ليس التأسيس العقدي والفقهي والسياسي ومطلق الاجتماعي. وأؤكد بأن الظواهر الاجتماعية التي تفرزها المذاهب والاديان بما فيها المذهب الشيعي هي في معظمها ظواهر دنيوية، هي ظواهر لها علاقة بإدارة المجتمع وادارة المال وادارة الاقتصاد وإدارة الحسبة، هذه كلها أمور دنيوية، لها علاقة بطبيعة حياة الفرد والمجتمع، ولكنها تستند إلى أصول تشريعية، أي أن تأسيس الشيخ عثمان العمر الاسدي للنظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة الصغري؛ قائم على أصل تشريعي؛ إذ لم يؤسسه بناءً على مزاجه أو بناء على رؤيته واستحسانه، وإنما أسّسه بناء على تكليف مباشر من الامام المهدي، ثم لِحُسن إدارته وعبقريته؛ استطاع أن يؤسس لهذا النظام ويحافظ على تماسك الشيعة، لأنّ وفاة الامام العسكري تسببت في حصول بعض الفتن والتصدعات والشكوك في المجتمعات الشيعية، لكن التكليف الذي منحه الإمام المهدي الى الشيخ عثمان العمر الاسدي، وحسن إدارة الشيخ وتدبيره وقوته وأمانته؛ جعلته يمسك بالمجتمعات الشيعية بقوة في كل البلدان الإسلامية، من شرق آسيا والقوقاز وحتى بلاد الشام والحجاز وشمال أفريقيا، ويحوّلها إلى نظام اجتماعي ديني.

نعم؛ هذه الأعمال فيها كثير من الأمور التدبيرية الدنيوية، ثم عندما سلّمها إلى السفير الثاني كانت الأمور متبلورة، حتى كان النظام الاجتماعي الديني الشيعي في بداية عصر الغيبة الكبري، أي عند نهاية السفارة الرابعة، كان قد تبلور، وعندما تزعّم الشيخ المفيد ثم السيد المرتضي ثم الشيخ الطوسي إدارة المجتمع الشيعي؛ كانت تدعمهم الشبكات التي أوجدها السفراء الأربعة نفسها، وحركة المال الشيعي نفسها، والتواصل بين الوكلاء نفسه، كان كل شي يسير وفق ما رسمه الشيخ عثمان العمر الاسدي، رغم مرور عدة عقود على وفاته

سعدون ضمد: المشاهد العام والمشاهد الباحث يركز معك الآن على مرحلة مفصلية تأسيسية، وتحتاج حقاً إلى بحث وإلى تسليط مزيد من الضوء على ما فعله هذا الرجل لوحده؛ فمرة تتحدث عن تكليف ومرّة عن تنفيذ للتكليف، وعن تشعّب وشبكة وكلاء ومصالح وإدارة. وقد كان يفترض أن أتوقّف عند مرحلة الشيخ الطوسي لعلاقة هذا التأسيس بالمرجعية، ولكن دعني أسألك عن العصور الشيعية الستة، ما هي المعايير التي فصلت وفقها بين عصور الشيعة وجعلتها ستة؟

د. علي المؤمن: هي في الواقع معايير لها علاقة بالمنهجية التاريخية؛ فكل عصر أو مرحلة تبدأ بظهور قائد يقوم بعمل مفصلي كبير ويوصله الى الذروة، ثم تبدأ المرحلة بالأفول، حتى تنتهي، ثم يظهر رمز جديد يؤسس لعصر جديد، وهكذا. وربما يستمر كل عصر مائة عام أو خمسين عام أو ثلاثمائة عام أو اربعمائة عام، فالنهاية لها علاقة بظهور رمزية جديدة. ولذلك؛ قلت أنّ العصر الأول أسّسه الامام على بن أبي طالب، وأن حياة الائمة الأربعة من بعده، كانت مرتبطة بالعصر نفسه، حتى جاء الإمام الصادق وأسّس لعصر جديد. هذا العصر الجديد استمرّ حتى بداية الغيبة الصغرى وظهور الشيخ عثمان العمر الذي أسّس لعصر شيعي جديد، هو العصر الثالث، ثم أسس الشيخ الطوسي العصر الرابع، وأعقبه السيد اسماعيل الصفوي بتأسيس العصر الخامس، وأخيراً العصر السادس الذي نعيشه الذي أسسه الإمام الخميني.

سعدون ضمد: إذا رجعنا الى عصر الإمام علي، أي ما قبل عصر الإمام جعفر الصادق، لأن في عصر الإمام جعفر الصادق بدأ الانفتاح بوضوح أكبر للهوية الشيعية الاجتماعية. قد يختلف معك بقية الباحثين في وجود هوية شيعية اجتماعية ما قبل عصر الإمام جعفر الصادق؛ إذ أن الامام علي كان خليفة لكل المسلمين وليس للشيعة فقط، وأنذاك لم يكن هناك جسد اجتماعي شيعي؟

د. علي المؤمن: أرجو الالتفات إلى هذه القضية بدقة، لأهميتها البالغة. في يوم السقيفة تأسّس نظام سياسي اسلامي يقف على رأسه الخليفة الأول، واستمر حتى الآن. في نفس الوقت تأسس نظام اجتماعي شيعي مستقل يقوده على بن أبي طالب؛ فصار عندنا نظام سياسي يقوده الخليفة ونظام اجتماعي موازٍ يقوده الإمام على.

النظام الاجتماعي الذي يقوده علي بن أبي طلب، هو الذي سُمّي بالشيعة، شيعة علي، أي مجتمع الشيعة أو المجتمع الموالي لعلي بن ابي طالب. أما الاجتماع السياسي الرسمي أو الاجتماع السياسي للدولة؛ فقد بقي الخليفة أو رئيس الدولة يقوده. واستمرت هذه الثنائية حتى خلال سنوات خلافة على بن ابي طالب. خلال هذه السنوات التحق أغلب الصحابة والتابعين بالإمام علي، بوصفه الخليفة الرابع وليس بوصفه الوصي المنصب من الرسول وفق ما يرى الشيعة. هناك قادة عسكريون ورجال دولة وإدارة من الصحابة والتابعين، كانوا جزءاً من جهاز الدولة في عصر أبي بكر وعمر وعثمان؛ هؤلاء التحقوا بالامام علي، بصفتهم جزء من جهاز الدولة أو بصفتهم مسلمين يرون الشرعية في الخليفة حصراً، أيا كان، وبغظ النظر عن الخلافات العقدية والاصطفافات السياسية بين المسلمين، ليس التحاقهم بالامام علي بصفته اماماً مفروض الطاعة، اماماً موصي به من الرسول، وكان الإمام علي بالنسبة لهم الخليفة الرابع فقط. وقد استشهد كثير منهم في البصرة وصفين والنهروان. هؤلاء كانوا ضمن الاجتماع السياسي للدولة وليسوا ضمن الاجتماع الديني الشيعي، أي أنهم على سنة الخلفاء وليسوا من شيعة علي، وعلاقتهم بالإمام علي لم تكن عقدية، بل سياسية، أي علاقة المواطن والموظف برئيسه في العمل أو برئيس الدولة.

أما الاجتماع الديني الشيعي؛ فقد استمر بقوة وتوسع أفقياً وعمودياً، في عهد أبي بكر وعمر وعثمان، وخاصةً في عهد عثمان، واصبح له حضور في بلدان المسلمين وفي الأحداث، من مصر وحتى ايران، وعندما جاء الإمام علي كان لديه جيش من العقائديين المعتقدين بإمامته ووصايته. ولذلك؛ كان هناك فرق بين العقائديين التابعين أساساً للامام علي، وبين جهاز الدولة الذي انتقل للإمام على بعد مقتل الخليفة عثمان. العقائديون أصبحوا جيشاً كبيراً صمد مع الإمام علي ثم مع ابنه الحسن. وبعد تقارب النظام السياسي للدولة والنظام الاجتماعي الشيعي في عهد خلافة الإمام علي، عاد الانفصال الى سابق عهده بعد سقوط دولة الإمام الحسن واختطاف الامويين للدولة؛ فكان انفصالاً حازماً وحاداً، ولايزال مستمراً حتى الآن.

سعدون ضمد: هذه المناوشات بين جهاز الدولة وبين النظام الاجتماعي الشيعي واضحة. دكتور كنت آمل أن أتوقّف عند عصرين مهمّين: العصر الصفوي وقبله عصر الإمام جعفر الصادق. ما الذي أضاف عصر الإمام جعفر الصادق الى الشيعة غير العقائد والفقه؟ واضح أنه اسّس مدرسة عقدية وفقهية، لكن هل أضاف عصر الامام جعفر الصادق الى الاجتماع الشيعي شيء؟

د. علي المؤمن: الامام جعفر الصادق لم يؤسس مدرسة عقدية فقهية. هذه المدرسة كانت موجودة قبله، وقد تدرج تأسيسها منذ عهد رسول الله والإمام علي، وكان التدرح يسير وفق الوقائع وتراكم الحاجات، لكنها برزت وظهرت في عهد الامام جعفر الصادق وتبلورت، على اعتبار طول عمر الامام جعفر الصادق نسبياً، حوالي سبعين سنة، إضافة إلى حصول مرحلة انتقالية من العصر العباسي إلى العصر الاموي، خاصة بعد سقوط الدولة الاموية في الكوفة. هذه المرحلة أعطت الإمام الصادق فرصة كبيرة جداً لإظهار المدرسة الشيعية التي كانت مُقصية ومحاربة في عهد السلطة الأموية، وكذلك فرصة التأسيس لواقع شيعي جديد، دون خوف من تشريد الشيعة وقتلهم واعتقالهم، واقع جديد يسمح بالحركة العلمية والاجتماعية والتنقل بحرية، ويسمح بالتواصل مع الشيعة بعلانية وسهولة، و بتقوية شبكة الوكلاء، وتنقل تلاميذه ومعتمديه في كل البلاد الإسلامية وقيامهم بالتبليغ والتعليم. كما قام الشيعة بإنشاء مجتمعات شيعية منظمة ومتماسكة. ولذلك؛ إن الذي حصل في عهد الامام الصادق لم يكن اظهاراً للمدرسة العقدية والفقهية الشيعية الاثني عشرية، وانّما حصل تكريس لبلورة الهوية الشيعية، وتعميق للنظام الاجتماعي الشيعي وتماسكه وامتداداته من افغانستان وباكستان والهند وحتى الجزائر.

سعدون ضمد: ما الذي يختلف فيه هنا الإمام جعفر الصادق عن أئمة المذاهب الأُخر؟ يعني لو أخذنا أي أمام من أئمة المذاهب في ذلك الوقت، ناس تأتيه من مختلف أقطار الإمبراطورية الإسلامية، حتى تسأله أو حتى تعطيه الحقوق أيضاً؛ أي هناك ارتباط وأيضاً هناك جسد اجتماعي؛ ما الفارق بين هذا الارتباط وهذا الارتباط؟

د. علي المؤمن: فارق جوهري كبير. الإمام المعصوم في المعتقد الشيعي هو القائد الديني والدنيوي للمسلمين، أي إمام الدين والحكم، حتى لو لم يكن يمسك بزمام سلطة الدولة. لكن الفقيه السني لا يطرح نفسه قائداً زمنياً، إنّما يطرح نفسه فقيهاً يُصدر الفتاوى. وقد قام الخلفاء العباسين بتدجين هؤلاء الفقهاء، وحصروا المذاهب كلها بأربعة مذاهب سنية فقط، وهو شيء غريب جداً، أن يقوم الخليفة العباسي، وهو رجل دولة وإدارة وسياسة، أن يتدخل في شأن فقهي ديني صرف، ويحصر فقهاء المسلمين بأربعة فقهاء سنة، انتقاهم على أسس طائفية ومزاجية، من بين عشرات الفقهاء. وهذا دليل على تدخّل السلاطين في جزئيات المذاهب، وفرض بعض المذاهب السنية على المسلمين دون غيرها، بما في ذلك إمام المذهب الظاهري، الذي كان يوصف بأنه الأعلم بين فقهاء السنة. وهذا لا يمكن أن يحصل في المذهب الشيعة، ولايستطيع أي سلطان فعله، على اعتبار أنّ الإمام، وحتى وكيله الفقيه والمرجع؛ يعتبر قائداً دينياً وزمنياً للمجتمع الشيعي، ولذلك؛ لا يمكن أن نقارن بين موقع الإمام ونفوذه وصلاحياته، وبين موقع باقي فقهاء المذاهب السنية.

سعدون ضمد: حسناً دكتور؛ لماذا قلت أو نسبتَ التأسيس الاجتماعي الشيعي الى السفير الأول ولم تنسبه إلى الامام الغائب؟

د. علي المؤمن: في الحقيقة؛ الإمام الغائب أسّس للاجتماع الديني الشيعي والنظام الاجتماعي الديني الشيعي تأسيساً تأصيلياً نظرياً، بعنى أنّه، من خلال تكليف الشيخ عثمان العمري بإقامة هذا النظام، وبأن يكون وكيلاً وسفيراً ونائباً من بعده؛ فانّه أسس تأسيساً نظرياً شرعياً، وبما أنني أتحدّث في إطار علم الاجتماع الديني الذي يدرس الظواهر العملية القائمة على الأرض؛ فلابدّ أن أقول بأنّ الشيخ عثمان هو الذي أسّس على الأرض هذا النظام، ولم يؤسس نظرياً.

سعدون ضمد: تطرّقنا مع الدكتور علي المؤمن حتى الآن إلى تفاصيل كثيرة، من أهمها ما يميز الشيعة، باعتبارهم مكوّن اجتماعي، عن سائر المسلمين، وما الذي يميز الجماعة الشيعية اجتماعياً عن باقي فرق الشيعة. ثم مررنا على هيكلية “النظام الاجتماعي الديني الشيعي”، وناقشنا الكثير من تفاصيل هذه الهيكلية، ثم توقّفنا ملياً عند العصور الشيعية وعند مراحل التأسيس، وأهم من ساهموا بقضايا تأسيس المذهب أو الجماعة الشيعية الاجتماعية. وسيكون النقاش الآن حول المرجعية الدينية هذه المؤسسة التي تعتبر من أهم مميزات الجماعة الشيعية.

    دكتور نعود الى التأسيس. ذكرتَ بأن هناك ثمانية مؤسسين هم السفراء الأربعة والفقهاء الأربعة: الصدوق والمفيد والمرتضي والطوسي. لماذا تعتبر هؤلاء الفقهاء مؤسسون دون غيرهم، وما ميزة الشيخ الطوسي؟

د. علي المؤمن: أودّ الإشارة إلى قضيه مهمة تتعلّق بدور علم الاجتماع الديني الشيعي في توصيف المؤسسة الدينية الشيعية، وتوصيف أنساقها وتفسير حراكها. هذا التوصيف ينبغي أن يتمّ من خلال باحث من داخل هذه المؤسسة، ومن داخل النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وليس باحث من خارجه. لقد اطلعت على عشرات المؤلفات والبحوث التي تصف وتدرس الظواهر الاجتماعية الدينية الشيعية والمرجعية الدينية، وتحلل حراكها، سواء ما كتبه المستشرقون أو ما كتبه الباحثون العرب السنة، وحتى الباحثون الشيعة من خارج المؤسسة الدينية، ومن خارج المعرفة الدقيقة بأنساق عمل المرجعية والاجتماع الديني الشيعي، فضلاً عن أن هذه الدراسات استخدمت قواعد علم الاجتماع الديني التقليدي، وليس علماً خاصاً بالظواهر الشيعية الخاصة؛ فظهرت فيها كثير من الأخطاء في التوصيف والتحليل والمصطلحات والأدبيات، ويدل كثير منها على جهل بطبيعة المرجعية الشيعية وطبيعة النظام الاجتماعي الديني الشيعي. وبالتالي؛ هذا اللغط وهذا الجهل، يساهم في خلق الأزمة الطائفية والفتنة الطائفية، لأن ((الإنسان عدو ما يجهل))، فكلّما وصف الإنسان شيئاً يجهله، ثم بنى نتائجه على هذا الجهل؛ فإنه سيقع في أخطاء فاحشة، خاصة إذا كان ينطلق من مواقف مسبقة وأحكام جاهزة يستبطنها.

وتتضاعف خطورة هذا الجهل في بلد كالعراق؛ فهو بلد فيه مكوّنات كثيرة، وبينها صراعات طائفية وقومية تراكمية، وينبغي أن نحذر جداً عند توصيف بعضنا الآخر، كما ينبغي أن نعرف بعضنا الآخر بعمق، وليس معرفة تحمل أحكاماً مسبقة، أو معرفة سطحية عاطفية. هذه القضية تتعلق بانتماء الجميع للوطن، وبالحرص على عدم إثارة الفتن الطائفية والفتن الاجتماعية. مثلاً؛ إذا أردت أن أفهم ما يجري في داخل الفرق الصوفية؛ فيجب أن استمع إلى باحث من داخل الفرق الصوفية، وليس إلى مستشرق يصف ويفسّر هذه الحركات الصوفية على مزاجه ووعيه، ووفق فهمه للأذكار وطبيعة العلاقة بين المريد والمراد. وهكذا فيما يتعلق بفهم المرجعية الدينية وفهم الطقوس والشعائر الشيعية وفهم طبيعة عمل المزارات وطبيعة عمل جماعات المقاومة والأحزاب الشيعية، كل هذه يجب أن استمع إليها من باحث متخصص من داخل هذه المؤسسة، لكي يكون التوصيف دقيقاً.

وباعتباري ابن مؤسسة المرجعية وابن النجف الأشرف؛ فأزعم أنني أستطيع أن أكتشف وأصف وأفسّر الأنساق والعلاقات وعمل المؤسسات المتعلقة بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي، وصفاً حسّياً دقيقاً وتحليلاً دقيقاً، يختلف عن وصف المراقب من الخارج وتحليله. وهذا أمر مهم جداً. ويمكن أن تشبيهه بكتاب «ماكس فيبر»؛ فالذي قرأ كتابه في “الأخلاق البروتستانتية”، سيجده دقيقاً جداً في وصفه وتحليله؛ إذ أعطي صورة واضحة عن الطائفة البروتستانتية، لأنّه ابن الطائف البروتستانتية وابن مؤسستها وابن الأخلاق البروتستانتية. وهكذا باقي الباحثين مثل «كارل ماكس» عندما اصدر دراساته عن المسألة اليهودية والايديولوجية العلمانية أيضاً، كان دقيقاً، وهكذا «دوركايم» والآخرين؛ فهم عندما يتحدّثون عن مجتمعاتهم فإنّهم يبدعون في توصيفها وتحليلها.

نعود الى السؤال. السبب يكمن في الانفراج السياسي. المجتمع الشيعي يزدهر دائماً في حالات الانفراج السياسي، وهو ما حصل في عهد الدولة البويهية الشيعية، وتحديداً بعد سيطرة البويهيين على بغداد في ظل الدولة العباسية. في هذه المرحلة التي تزامنت مع بدايات الغيبة الكبرى، وظهور الشيخ الصدوق في ايران والعراق، ثم زعامة الشيخ المفيد للشيعة، وحتى المرحلة الأولى من زعامة الشيخ الطوسي. في عهد الدولة البويهية حصلت انفراجة مهمة، وتخلّص الشيعة أعمال القمع والتشريد والتضييق، وأصبح شيخ الطائفة أو سيد الطائفة أو زعيم الطائفة الشيعية يتحرك بحرّية؛ فكان هذا المفصل مهماً جداً في عملية إنضاج العملية التأسيسية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي التي جرت فصولها في بغداد. ولذلك؛ ذكرت سابقاً أن التأسيس للنظام الاجتماعي الديني الشيعي كانت تأسيساً بغدادياً عراقياً، أي أن هذا النظام هو ابن بغداد وابن العراق، بما في ذلك امتداداته الجغرافية التي حملت النكهة العراقية البغدادية.

الذي أُريد قوله؛ إنّ الشيخ الطوسي عاش نهايات الدولة البويهية. في هذه الفترة هجم السلاجقة الأتراك، وهم محاربون متعصبون على المذهب السني، وطردوا البويهيين واحتلّوا بغداد؛ فانتقلت بغداد من الاحتلال الشيعي الفارسي إلى الاحتلال التركي السني، وحينها عاد الوضع الشيعي إلى ما كان عليه من التضييق والقتل والتشريد. كثير من كتب الشيعة ألقيت في نهر دجلة، وصارت المذابح في صفوف الشيعة كما كانت عليه سابقاً. ولذلك؛ هاجر شيخ الطائفة الطوسي الى النجف الأشرف، حيث مرقد الإمام علي، والحوزة العلمية الفرعية.

حينها أصبحت النجف الحاضرة الوحيدة الشيعية بالكامل التي احتضنت مركزية النظام الاجتماعي الديني الشيعي، لأنّ بغداد هي مدينة متنوعة مذهبياً، بمعنى أن فيها السلفية وفيها الشيعة وفيها السنة وفيها من مختلف المذاهب، وحتى فيها النصاري واليهود والصابئة. في حين أن النجف عندما انتقل إليها الطوسي، كانت حاضرة وبلدة شيعية بالكامل، أي مغلقة على الشيعة. حتى محيطها، أي البلدات المجاورة لها، كان محيطاً شيعياً. هذا الأمر، إضافة إلى بُعد النجف عن بغداد، مركز القرار السياسي، أعطى الاجتماع الديني الشيعي دفعاً نوعياً وكمياً قوياً واستقلالية كاملة. بمعنى أن وجود مركزية النظام الاجتماعي الشيعي في بغداد سابقاً كان يؤثر نسبياً على استقلاليته في بغداد، إذ كان القرار الشيعي يتأثّر بشكل وآخر بالقرار السياسي للدولة، ويتأثّر بالأحداث ويتأثر بطبيعة الجماعة القومية أو الطائفية التي تحتل العاصمة بغداد. ولكن هذا الأمر انتهي عندما انتقلت مركزية النظام الاجتماعي الديني الشيعي إلى النجف.

هناك فهم تاريخي مبتور في هذا المجال؛ إذ يقال أنّ الشيخ الطوسي نقل المرجعية الشيعية من بغداد إلى النجف، وفي الواقع هو لم ينقل المرجعية فقط؛ إنّما نقل مركزية النظام الاجتماعي الديني الشيعي الى النجف، وحوّل النجف، لأول مرة في تاريخ الشيعة، الى عاصمة دينية وعلمية واجتماعية شيعية خالصة، وهو ما لم يكن يحظى به الشيعة سابقاً، لا في الكوفة ولا في المدينة المنورة ولا في بغداد، ولذلك؛ ذكرت في كتابي الاجتماع الديني الشيعي بأن الطوسي أسس العصر الشيعي الرابع بعد إقامته في النجف، وبات الطوسي المرجع الديني والقائد المطلق للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، بكل مكوناته وعناصره الدينية والدنيوية.

سعدون ضمد: حسناً دكتور؛ هناك إذاً تأسيس يشترك به فقهاء أربعة، يبدأ هذا التأسيس بالصدوق وينتهي بالطوسي. هناك من يقول بأنّ الطوسي أسس للمرجعية، يعني ركّز أو وضع أو ثبّت نظام المرجعية، باعتبارها امتداد اجتماعي أو قيادة اجتماعية إدارية للشيعة. هل هذه الكلام صحيح؟ وما الفرق بينه وبين تأسيس بقية الفقهاء؟

د. علي المؤمن: ذكرت في إجابتي على السؤال السابق بأن الذي تميز به الشيخ الطوسي هو نقله مركزية النظام الاجتماعي الديني ومؤسسة المرجعية الشيعية المركزية إلى النجف، البلدة الشيعية الخالصة، والابتعاد عن تأثيرات القرار السياسي للدولة العباسية في بغداد، وأصبح للشيخ الطوسي الحرية الكاملة في إرسال الوكلاء الى كل بلدان الوجود الشيعي، وفي استقبال الأموال وفي توزيعها، وفي استقبال الاستفتاءات وإرسال الفتاوى، وفي إدارة شؤون الشيعة في كل هذه البلدان. هذه المركزية والاستقلالية والحرية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، هي الدعائم الطوسية الثلاثة التي ظل الشيعة يتوارثونها عبر الأجيال، ولم يكن تحصل في ظل وجود التعسّف الذي تمارس السلطة في بغداد، عندما كانت مركزية النظام الشيعي في بغداد. هذا هو الفرق المؤسساتي الكبير بين ماقبل النجف ومابعد النجف، وإلّا فطبيعة عمل المرجعية الشيعية وصلاحياتها، سواء في عهد الطوسي أو في عهد الذين سبقوه، كالشيخ الصدوق والشيخ المفيد والسيد المرتضى، هي واحدة من ناحية التأصيل التشريعي ومن ناحية صلاحيات المرجع.

الشيخ الطوسي استثمر وجود بلدة شيعية خالصة، بعيدة عن القرار السياسي الضاغط طائفياً، وله حرية التحرّك فيه، كانت فيها بالأساس حوزة علمية قبل أن ينتقل إليها، ووجود مرقد الإمام على بن ابي طالب، الأمر الذي أتاح للشيخ الطوسي حوّل النجف من بلدة دينية فيها مرقد الإمام علي وحاضرة علمية صغيرة، إلى عاصمة للنظام الاجتماعي الديني الشيعي ومركز عالمي دائم للعلوم الدينية الشيعية، لايزال قائماً حتى الآن، بمركزيته وعنوانه وصفته الذي أسس له الشيخ الطوسي قبل 1000 عام.

سعدون ضمد: سنتوقّف عند خصوصية النجف لاحقاً، خلال عمرها الزمني الذي يمتدّ إلى اكثر ربّما من ألف سنة. إذا اعتبرنا أنّ الفقهاء الأربعة، أسّسوا شيئاً فلابدّ أن ينصرف الذهن إلى التأسيس الفقهي، ونحن كنا تحدّثنا عن تأسيس الامام جعفر الصادق وأنّه فضلاً أنت قلت أن الإمام جعفر الصادق لم يؤسّس للفقه الشيعي، لأنه كان موجوداً، لكنّه اظهره، إذن؛ إذا كان الإمام جعفر الصادق نفسه لم يؤسّس فقهاً؛ فما الذي أسّسه الفقهاء الأربعة؟

د. علي المؤمن: الفقه لا يتوقّف عند أحد، والفتوى لا تتوقف عند أحد، الوقائع الجديدة والأحداث المستجدة مستمرة، وعملية استنباط مستمرة، ولا تقف عند زمن معين، ولا تقف عند الإمام، ولا تقف عند فقيه معين. فكلما استجدّت الموضوعات وكلما ظهرت وقائع جديدة؛ كان لابد من إجابات عقدية وفقهية جديدة، ولابد من أحكام شرعية وفتاوى جديدة. وهذا الموضوع له علاقة بالزمان والمكان ومتطلباتهما وحاجاتهما التي تتزايد باطراد، كما أن له علاقة بإمساك الفقه بالعصر والاستجابة لحاجات المجتمع والفرد.

ما قام به الفقهاء في عصر غيبة الامام المعصوم هو الاستجابة لحاجات الفرد والمجتمع بكل ما يحتاج من معالجات عقدية وأحكام فقهية. هذا التطور؛ نقل عالم الدين من كونه محدثاً أو فقيهاً أو زعيماً للشيعة، إلى كونه مجتهداً، وظهرت الحاجة لعلوم جديدة كعلم أصول الفقه وعلم الرجال وعلم دراية الحديث وعلوم القرآن. هذه العلوم لم يكن لها حضور في السابقن لكنها استجدّت بمرور الزمن، تبعاً لطبيعة الحاجة؛ فعلم الرجال وعلم الدراية وعلوم القرآن والمعارف الاجتهادية، لم تكن لها أهمية أو حاجة بوجود الإمام المعصوم، الذي يعطينا الحكم الشرعي المساوق لحقيقة مراد الشارع، ولايتعامل بالأحكام الظنية، ويعرفنا بحقية تفسير الآية وبالناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه وأسباب النزول، وهو الذي ينقل لنا الحديث عن عن آبائه عن الرسول. ولكن في عصر الغيبة، وكلما أصبح هناك ابتعاد عن عصر التشريع وعصر الأئمة؛ أصبحت هناك ضرورة لانشاء علوم جديدة تستجيب لحاجات التفقه والاجتهاد والمعرفة الدينية، وتؤسس لواقع علمي ومعرفي ديني جديد. وهذا هو ما قام به الفقهاء على مرّ هذه العصور. سواء قبل الطوسي، كالكليني وابن الجنيد والصدوق والمرتضى وأبي عقيل والغضائري والمفيد والمرتضى، أو ما بعد الطوسي، كالمفيد الثاني وسلار والديلمي وابن ادريس، وكذلك المحقق الحلي وابن طاووس والعاملي الأول والعاملي الثاني والعلامة الحلي، وصولاً الى الوحيد البهبهاني والمقدس الأردبيلي وكاشف الغطاء وبحر العلوم والجواهري والأنصاري، وانتهاء بالحكيم والخوئي والخميني والصدر والسيستاني والخامنئي.

سعدون ضمد: كثيراً ما يشير بهذا السؤال بعض النُقّاد أو المحلّلين إلى أنّ هناك ثمة تحكم. حضرتك قلت أنّ الخلفاء العباسيين اختاروا أربعة مذاهب فقط من بقية المذاهب السنية الأخرى، وأقصيت باقي المذاهب، بما فيها المذهب الشيعي. فإذن أسميته تدخّل. هنا ألا يعد تدخّلاً أن يأتي فقيه ويعمّم رأيه؟. بالتأكيد هناك فقهاء آخرين لهم آراء مختلفة. هناك مدرسة الأصول وهناك المدرسة الإخبارية. فهناك مدارس أُقصيت وآراء أُقصيت، واقتصر المذهب على فقيه واحد. ألا يوجد هنا نوع من أنواع التحكم؟ نحن نسميه تأسيس.

د. علي المؤمن: هذا الموضوع لايشبه إطلاقاً ما قامت به السلطة العباسية من حصر المذاهب وإقصائها، لأن ذلك كان قراراً سياسياً وإقصاءً طائفياً، بينما في الوسط الشيعي؛ فإن القضية مختلفة تماماً ولاعلاقة لها بالسياسة والسلطة، بل لايوجد نوع من أي نوع من أنواع التحكم؛ فهناك قضايا علمية وفقهية كثيرة مختلف عليها، ويتم تناولها بحرية كاملة وانفتاح، ودائما التقدم والتفوق للرأي الأرجح، ولايوجد أي اقصاء لأي فقه، وهذا هو سبب حيوية الفقه الشيعي. فضلاً عن أن هناك معايير وسياقات حازمة لفرز المرجع الأعلم والفقيه الأعدل والأكفأ، ولايوجد إقصاء لأحد، بل يمارس جميع الفقهاء والمراجع أعمالهم العلمية والدينية والاجتماعية الى جانب المرجع الأعلم او المرجع الأعلى بمطلق الحرية.

وهناك أيضاً هناك ضرورات تتعلّق بالشأن التدبيري والإداري والقيادي، وقد صار عرفاً؛ فلا بدّ أن يكون للمجتمع الشيعي في الجانب الزمني الدنيوي، زعيماً واحداً أو مديراً واحداً، أو مدبراً واحداً، لكي لا تتعارض الآراء ولا تتضارب المواقف، وخاصة في الشأن العام، مما يؤدّي إلى تمزيق المجتمع الشيعي وإلى تشظي المجتمع الشيعي، على اعتبار أنّ المرجع الديني أو الفقيه الشيعي الأول الذي يقف على رأس النظام الاجتماعي الديني الشيعي، هو ليس مفتي وحسب، هو يختلف عن الفقيه السني اختلافاً جوهرياً بنيوياً. هنا يوجد تشابه فقط في المصطلح، أي هذا فقيه شيعي وهذا فقيه سنّي، ولكن في الجانب العملي هناك فرق جوهري بين الإثنين.

وبالتالي؛ فإن وحدة النظام الاجتماعي الديني الشيعي وعالميته وتماسكه، تتطلب أن يكون هناك فقيه واحد يدير النظام أو فقيهين في مكانين مختلفين حداً أعلى، وهذه قضية تنظيمية تدبيرية بشرية يعيها كل عاقل. ومن الأمور التدبيري التي لحقت بها قضية الأعلمية حيال تعدد الفقهاء. مثلاً؛ إذا كان هناك في زمن واحد مائة فقيه؛ فكيف يمكن أن نختار من بينهم زعيماً واحداً لإدارة المجتمع الشيعي والنظام الاجتماعي وهذه الشبكة من الوكلاء والمال الشيعي الشرعي الضخم. فبرزت لدينا مصطلحات تدبيرية كالأعلمية وغيرها من الاشتراطات، وظهرت لدينا مصطلحات كالمرجع الأعلي، إلى جانب باقي المراجع. هذا ليس إقصاءً، وإنّما هي عملية طبيعية تنظيمية تدبيرية؛ فهناك فقيه عالم وهناك فقيه أعلم أو أكفأ،  ولابدّ من الرجوع إلى الأعلم، وفق ما تمّ تكييفه من قبل الفقهاء.

سعدون ضمد: دكتور.. نتحدّث عن الارتباط، عن منطقة رابطة، حلقة واصلة بين الدين وبين النظام الإجتماعي. هنا نتحدث عن مؤسس يطرح وجهة نظر، هذه وجهة نظر تبنى على تأثيرات أو بُني اجتماعية. لما يكون هناك فقيه من بين بقية الفقهاء تُثنى له الوسادة لأعلميته أو لظروف أخرى، هذا يؤدي إلى تأثير بالنظام الاجتماعي ممتدّ زمنياً. ولكن لو ثُنيت الوسادة لغيرة في عصره ما، ألا يظهر تغير آخر أو نمط آخر من النظام الاجتماعي؟ هذا قصدي بالتحكم.

د. علي المؤمن: بعد تأسيس النظام الاجتماعي الديني في عصر الغيبة وإلى زمن الشيخ الطوسي؛ أصبحت هناك أنساق وأعراف وظواهر ثابتة مطردة. والعرف له تعريف في القانون وفي الشريعة، وكذلك للظاهرة تعريف في علم الاجتماع. الظاهرة لا تعني الحالة المؤقتة أو النسق العابر، الظاهرة ثابتة، ومن مجموعها أصبح هناك ظواهر متشابكة منظمة، وقد اسميناه في الكتاب بالنظام. هذا النظام فيه انساق، فيه هيكلية، وهذه الهيكلية أصبحت عرفاً قائماً شبه ثابت بمرور الزمن، ولم يختلف أصولياً منذ عهد الشيخ المفيد والشيخ الطوسي وحتى عهد السيستاني والخامنئي، هو نفس النظام، ولكن تبرز بين فترة وأُخرى، مصطلحات جديدة وأشكال مؤسساتية جديدة وانساق متجددة، حسب متطلّبات الزمان والمكان، لكنها تبقى محافظة على الأصول التشريعية أولاً، والقواعد التأسيسية العرفية ثانياً.

سعدون ضمد: نتوقف إذن دكتور عند خصوصية النجف؛ ما الذي تمتاز به النجف؟ كحوزة. هناك حوزات اندثرت هناك حوزات كان تمرّ مراحل أفول أو غير أفول، ربما كثير من المشاهدين لا يعرفون أنه كانت هناك حوزة في بغداد، حوزة في الكاظمية، حوزة في الحلة، في سامراء، في جبل عامل بلبنان، في قم أيضا لا تزال الحوزة قائمة. ما الذي يميز حوزة النجف؟

د. علي المؤمن: هناك أمور كثيرة تميز حوزة النجف. الميزة الأولى ذكرتها سابقاً، وهي أنّها أول حوزة تنشأ في بيئة شيعية خالصة. الحوزات العلمية السابقة، سواء في عهد الأئمة، في الكوفة والمدينة ومكة وبغداد، كانت تعمل في بيئات متنوعة مذهبياً، وحتى متنوعة على مستوى الأديان. الميزة الثانية أن الشيخ الطوسي قام بعملية مأسسة نوعية وكمية. عندما أسس للنظام الاجتماعي الديني الشيعي في النجف وأسس لأعرافه وهيكليته؛ فإنّه لم يؤسس لهيكلية موقتة أو هيكلية ظرفية، لتسيير أمور الطائفة لسنوات، وفق ما تسمح به الظروف، إنّما أسس لهيكلية تدوم طويلاً، أي أنه تحرك بعقلية ستراتيجية وأسس لهيكلية ستراتيجية، وهذا جزء من عبقرية الشيخ الطوسي، الذي أسس لنظام نوعي ذي أفق بعيد الأمد. وكان يدعمه في ذلك الحرية شبه الكاملة التي كان يتمتع بها، بعيداً عن الضغوطات السياسية والطائفية، وفي إطار حاضنة محيطة محمية من العشائر العربية الشيعية في الكوفة وفي الحيرة وغيرهما من المناطق المحيطة بالنجف. الشيخ الطوسي كان محمياً من أي تأثيرات سياسية وأي تأثيرات اجتماعية معارضة. باتت حينها شبكة الوكلاء ثابتة وواسعة وتتحرك بفاعلية، وباتت حركة المال الشيعي تتحرك بشكل انسيابي ودقيق.

أرى أنّ الشيخ الطوسي كان يتمتع بحسّ إداري كبير وقدرة قيادية عالية المستوي، وليس مجرد عبقرية فقهية وعلمية. هذا الذي جعله يعيد تأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي، لكي يبقي هذا النظام؛ فهو لم يأت إلى النجف ليبقى بضع سنوات، بنية الرجوع إلى بغداد أو الذهاب الى كربلاء أو قم أو طوس، بل جاء الى النجف ليبقي، جاء ليعيد تأسيس هذا النظام ليبقي آلاف سنين. وأنا أعتقد أن وجود هذا النظام القائم في النجف حتى الآن هو جزء من العبقرية التنظيمية والإدارية والقيادية للشيخ أبي جعفر الطوسي.

هنا يأتي موضوع الكفاءة لدى المرجع، الكفاءة الإدارية والتدبيرية والسياسية والاجتماعية والقيادية، والتي بحثتها بدقة في كتاب «الاجتماع الديني الشيعي»؛ فلو كان هناك مرجع آخر غير الطوسي، توافرت له الظروف نفسها، ولكن ليس لديه القابلية على التدبير والإدارة والقيادة، وليست لديه الوعي بالشأن العام، الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وليس لديه النظرة الستراتيجية والتفكير العميق؛ لما تأسس النظام الاجتماعي الديني الشيعي بهذه البنية والشكل المتماسكين العالميين، ولبقي هشّاً، حتى يقيّض له شخص آخر ليقوم بهذا الدور.

وبالتالي؛ كفاءة المرجع الأعلى، حتى في البعد السايكولوجي، لها مدخلية في طبيعة بنية هذا النظام، ولها مدخلية حتى في الفتوى والحكم الشرعي في الشأن العام. ولذلك؛ ركّزت كثيراً في هذا الكتاب على أهمية الكفاءة وضرورتها، وعلى ضرورة دراسة الجانب السايكولوجي في شخصية الفقيه، لكي يكون المرجع الأعلى دائما على مستوى التحديات، وليس فقط الأعلمية والفقاهة والعدالة، وإنّما الكفاءة الإدارية والكفاءة السياسية والوعي بالشأن العام، على اعتبار أن المرجع الأعلى هو مرجع زمني وديني.

سعدون ضمد: قبل ما أتوقّف عند مفهوم الاجتهاد ومفهومي الاجتهاد والتقليد، دعني أحاول أن نفكك مؤسسة المرجعية، هذه المؤسسة تتكوّن من المرجع ثمّ البرّاني ثم حاشية المرجع. وذكرت حضرتك عدة دوائر من الحاشية. لنتوقف عند هذه المفاهيم.

د. علي المؤمن: لقد شرحت هيكلية النظام الاجتماع الديني الشيعي في الفصل الأول من الكتاب، هذه الهيكلية التي تفسّر وتبين طبيعة النظام وطبيعة حركة المرجعية ووجود المكتب والحاشية والبرّاني وكل التسميات الرديفة. هذه التسميات لها علاقة بالأنساق والأعراف، يعني هي أمور تنظيمية تدبيرية ترتبط بقدرة المرجع على إدارة المؤسسة الدينية العلمية أولاً، أي الحوزة العلمية بكل تفرعاتها، ثم المجتمع الشيعي بكل تعقيداته ثانياً. وأذكّر هنا بما يقوله بعض علماء الاجتماع الديني، مثل «دور كهايم» و«ماركس فيبر» و«اكوا فيفا»، يقولون بأنه كلما تعرّض الاجتماع الديني لمذهب معين أو لدين معين إلى الضغط أكثر، كلما أدّى ذلك إلى تعقيد بُناه الاجتماعية الدينية.

لماذا تكون هذه البنى بسيطة أحياناً وأخرى معقدة ومركبة. تكون بسيطة إذا كانت الطائفة الدينية أو المذهبية تعيش حالة استقرار واسترخاء، في ظل واقع ديني وسياسي واقتصادي داعم. وتكون معقّدة ومركبة، بسبب الضغوطات الدينية والسياسية، لكي تحمي نفسها، ولكي تتخلص من الضغوطات، من القمع، من التشريد، وهذه غريزة إنسانية. ولذلك؛ فإن بعض أنساق النظام الاجتماعي الديني الشيعي أو المرجعية الشيعية هي معقدة وضبابية وغير مفهومة لغير أبناء المؤسسة، وهي سياقات اعتادت عليها المرجعية منذ قرون طويلة، نتیجة القمع الشديد من قبل السلطات المتعاقبة لمجتمع المؤمنين الشيعة. وبالتالي؛ من الطبيعي والضروري أن تكون هيكلية هذا النظام هيكلية معقّدة، بما فيها المقر المحيط بالمرجع. فالمرجع ــ نتيجة ظروف القمع والرقابة ــ يعتمد في إدارة مؤسسة المرجعية والشأن العام على فريق خاص من الثقاة المقربين، وخاصة من بين تلاميذته وأسرته، وهم مكتبه وحاشيته الخاصة. الظروف هي التي جعلت المرجعية تعتمد على السياق الموروث التقليدي من الإدارة منذ مئات السنين، أي أن هذا السياق ليس من اختراع الحكيم أو الخوئي أو الخميني أو السيستاني أو الخامنئي.

الشريف المرتضى ــ مثلاً ــ  كان يسند الإدارة الى أخيه، الذي هو ثقته، والشيخ الطوسي كان يعتمد على ابنه في إدارة مكتبه وحاشيته، وابنه هذا أصبح المرجع الأعلي للطائفة بعد أبيه، وكان يلقّب بالمفيد الثاني. العلامة الحلي كان يعتمد على ابنه وصهره. ظل المرجع مضطراً لأن يؤسس لفريق خاص به، يثق به، يحيط به، يستشيرهم في الجانب الفقهي، وفي الشأن السياسي وفي الشأن المالي وفي الشأن المعيشي، وفي كل شؤون الحسبة التي لها علاقة بالمجتمع. ولذلك؛ ليس بدعة أن يعتمد المرجع الآن على حاشيته وفريقه الخاص. الحاشية هي البطانة وتعني الفريق الخاص، وتسمّي بالمكتب، وكان اسمها البرّاني. البرّاني يعني أن بيت المرجع ينقسم الى قسمين: دخلاني وبرّاني، الدخلاني الذي تسكن فيه عائلته، أمّا البرّاني فهو المكتب ومركز حضور الفريق الإداري واللجان والحاشية، وكذلك المراجعين وعموم المؤمنين. وأحياناً يكون البراني مَدرَساً، أي قاعة للدرس الذي يقدمه المرجع نفسه، وأحياناً يقوم المرجع بإعطاء دروسه في الصحن العلوي أو أحد أروقة الضريح أو أحد المساجد والمدارس والحسينيات المنتشرة في النجف القديمة.

فريق المرجع الذي يعرف بالحاشية، ينقسم إلى طبقات؛ فهناك الحاشية الخاصة جداً، وهم كبار تلاميذ المرجع، وأكثرهم فقهاء وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد، لكن بقوا يعيشون في ظل المرجع الأعلى، وأصبحوا بطانته الخاصة، وهناك الحاشية العامة، أي صغار التلاميذ أو تلاميذ رئيس الحاشية. بالتالي؛ مصطلح الحاشية ليس مصطلحاً سلبياً إطلاقاً؛ فهو يعني فريق الثقاة الخاص بالمرجع، وهو ليس بدعة ولا اختراع جديد كما قلنا. وتجد ذلك مفصلاً في الكتاب.

سعدون ضمد: دكتور، أفردت في كتابك فصلاً عن إصلاح مؤسسة المرجعية الدينية الشيعية.هنا تتحدّث عن مرجعية كبرى مركزية، تدير شبكة علاقات تعبر القارات وتمتد إلى دول بعيدة وكبرى، ألا تحتاج إلى نظام اداري، يعني مؤسسة خاصة فيما يتعلّق بالأموال تحتاج أولاً إلى المزيد من الشفافية، إلى المزيد من التوثيق، يعني نظام يشبه نظام المصارف، أو نظام يمتدّ إلى يعبر قارّات، متى تعمل المؤسسة بعنوانها العام على إجراء هذه التعديلات أو الإصلاحات؟

د. علي المؤمن: أودّ الأشارة هنا إلى قضية منهجية، وهي أن إصلاح النظام الاجتماعي الديني الشيعي يجب أن يكون من داخل النظام وليس من خارجه، وإصلاح المؤسسة الدينية الشيعية يجب أن يكون من داخل المؤسسة وليس من خارجها، وهكذا منظومة المرجعية الدينية. بمعنى أن لايأتي أكاديمي، وإن كان دكتوراً في النُظُم أو علم الاجتماع الديني، ويقوم بالتنظير للمرجعية الدينية وإصلاحها، ویقول يجب أن تفعل المرجعية کذا وتعمل کذا، لأن المرجعية أدرى بشؤونها. نعم؛ المرجعية من المفترض أن تستمع الى أصحاب الاختصاصات في النظم والقانون الدستوري والقانون الدولي وعلم الاجتماع والانتربولوجيا والإدارة والاقتصاد والمالية، وتستشيرهم في عملية الإصلاح، لماذا؟، لأنّ المؤسسة الدينية الشيعية ليست مؤسسة فتوي، إنّما هي زعامة النظام الاجتماعي الشيعي. اليوم الشيعة موجودون في (120) دولة في العالم. هؤلاء لديهم مجتمعات كبيرة، مؤسسات، مساجد، حقوق شرعية، مشاكل مع السلطات، مشاكل قانونية، علاقات داخلية وخارجية، إشكاليات سياسية وثقافية. هذه كلها مسؤولية المرجع في النجف أو في قم، مسؤوليته ان يرعاهم ويهتم بهم. هذه الأمور هي صلاحية المرجعية وواجبها، وليس مهمة الدولة.

ومن البديهي أن تكون عملية الإصلاح منسجمة مع متطلبات الزمان والمكان، أي حاجات العصر، وكذلك مع طبيعة صلاحيات المرجع وطبيعة مسؤوليات النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ فلو كانت صلاحيات وواجبات المرجع الأعلى الذي يقف على رأس النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ تتلّخص في الفتوى؛ فلن تكون هناك حاجة إلى عملية إصلاح معقّدة، أي يكون هناك تجديد في الفكر الفقهي وفي الفكر الأصولي وفي علم الدراية وفي علوم القرآن، وانتهي الموضوع، باعتبار أن القضية قضية اجتهاد وفتوى وحكم شرعي لا اكثر، ولكن المرجع الديني ليس مفتياً، ولا تنحصر مهمته بالافتاء، وإنّما بزعامة الطائفة، زعامة المجتمع الشيعي برُمّته.

لقد أشرت في هذا الكتاب إلى ضرورة ايجاد مؤسسة من المجتهدين، نسمّيها ــ مثلاً ــ  مجمع أهل الخبرة. أهل الخبرة هم المجتهدون. هؤلاء كم عددهم؟ خمسين مجتهداً.. مائة.. هؤلاء يكونون بمثابة مؤسسة استشارية ومؤسسة لاختيار المرجع الأعلي. هذه فكرة، مجرد مقترح، لكي يتم انتخاب المرجع الأعلى من طريق أهل الخبرة، بهذه الطريقة المؤسساتية، إضافةً إلى أن يكون لهم دور استشاري في قضايا المجتمعات الشيعية، الدينية او السياسية أو المعيشية أو الاجتماعية. وفي هذا السياق ذكرت الطرق التي يتوصل فيها الشيعي الى تقليد المرجع، كالشياع أو شهادة خبيرين مجتهدين عادلين. وهنا أتحدّث أيضاً عن مؤسسة مجتهدين خبراء ومستشارين، تختار المرجع الأعلي من بين المراجع المطروحين وتتحمل مسؤولية الاستشارة في كل الشؤون التي لها علاقة بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي. ويكون هناك مجلس آخر من كل الاختصاصات العلمية والشرائح الاجتماعية، لتقديم المشورة الى المرجعية الدينية والى مكتب المرجعية بشأن الموضوعات والقضايا والمصالح.

سعدون ضمد: هذه قضية مهمة، اسمح لي دكتور، أنت تتحدّث عن المجلس الاستشاري، تفترض بأن يكون هذا المجلس مكوّن من مجتهدين. لكن هناك مشكلة تمثل واحدة من من ملامح الفقه الشيعي. ميزة المجتهدين الشيعة أنّ هناك اختلافات بالرأي في رسائلهم الفقهية العلمية، وهذا يؤدّي إلى نوع من الحساسيات؛ لذا من الصعب أن يجتمعوا داخل مجلس استشاري واحد ويخرجون برأي واحد. هذه تحديداً من ضمن المشاكل التاريخية.

د. علي المؤمن: لا توجد عملية إصلاح مفروشة بالورود، أو يسير فيها المصلحون على سجاد أحمر، خاصة حيال تقاليد متشابكة تراكمية موروثة، كتقاليد الاجتماع الديني الشيعي؛ فهذه العملية معقّدة وشائكة جداً، وتحتاج إلى عقول تنظيمية وإدارية، تعمل بحذر ودقة بإشراف المرجع وتوجيهة، لكي لاتصطدم بأصل تشريعي أو تكييف فقهي أو مصلحة عامة. الإصلاح وإعادة البناء ليست قضية اعتباطية أو مزاجية أو فكرة ناجزة أو مقترح جاهز ناجز. لكن طرح الفكرة، والقبول بها، بحد ذاته أمر مهم. أتحدّث هنا عن أصل فكرة الإصلاح، وإمكانية التفاعل معها؛ فاستحصال القبول بالفكرة؛ سيؤدي إلى التفكير بعملية الإصلاح والتخطيط لها، ولمأسسة بعض سياقات حركة النظام ومؤسسة المرجعية، ومنها ما يرتبط بمجلس أهل الخبرة المجتهدين، الذي يقوم باختيار المرجع الأعلي المتصدّي للشأن العام، وتقديم المشورة له، أو ما يتعلق بالمجلس الخاص الآخر الذي يتكوّن من الخبراء في الشأن العام، كالخبراء في السياسة والعلاقات الدولية والإدارة الاقتصاد وعلم الاجتماع والقانون والانتروبولوجيا. هؤلاء أيضاً يكوّنون مجلساً استشارياً علمياً لتشخيص مصلحة الشيعة وحل مشاكلهم في كل بلدان العالم. هذا اللون من المأسسة سيريح المرجع الأعلى، وسيزيل عن كاهله وعن كاهل مكتبه وفريقه المقرّب حملاً ثقيلاً، على اعتبار أنّ المرجع يرعى شؤون الطائفة في كل مكان، وبالتالي؛ فإن الاستعانة بالمستشارين والخبراء ستخفّف من هذا العبء وستجعل القرار سهلاً من قبل المرجع، وأكثر مقاربة للمصلحة.

سعدون ضمد: كنت قد خططت أن أناقش معك دكتور موضوع الولاية التي يمنحها الإمام المعصوم الغائب للفقهاء، وعلى أساسها أسّست لولاية عامة ولولاية خاصة. هذا الموضوع فيه نقاش طويل عريض. هنا أريد أن تحدثنا عن قضية جد مهمة، هي عبور الشأن المرجعي والإدارة المرجعية للأوطان والحدود السياسية، ومن ثمّ تبعية المواطن لمرجع آخر من دولة أخرى، ربما متعارضة سياستها مع هذه الدولة. مثلاً مسلم شيعي تركي أو مسلم شيعي ايراني يتبع مرجع عراقي، ومسلم شيعي أمريكي يتبع مرجع إيراني. هنا يقال عن الشيعة أنهم مذهب يصنع ناس ليسوا مواطنين، لا يتبعون قوانين الدولة، لا يكونون رعايا صالحين في الدولة. كيف يمكن معالجة هذا الموضوع؟

د. علي المؤمن: هذا الأمر سبق أن عالجه الفقه الشيعي والفقهاء الشيعة. ويمكن الاطلاع على شروحاته وتفاصيله في الفصل الثامن من كتاب “الاجتماع الديني الشيعي”. الشيعي، ككل البشر المتحضرين، له هوية مركبة، له تبعية وانتماء للوطن الذي يحمل جنسيته من جهة، وله تبعية للمرجعية الدينية التي يقلدها أو المرجعية التي تقود النظام الاجتماعي الديني الشيعي من جهة أخرى. هي ليست عملية معقّدة. الذي يعقّد هذا الموضوع هي الدعاية المخاصِمة، هي بروباغاندا الخصوم هنا وهناك، ليحولوها الى تهم وشبهات ضد الشيعة وضد نظامهم الاجتماعي الديني، وإلّا فإن الموضوع ليس فيه ذلك التعقيد.

النظام الاجتماعي الديني الشيعي منذ تأسيسه في عصر الغيبة الكبرى على يد نواب الإمام الخاصين الأربعة ثم الفقهاء الأربعة، وصولاً الى الشيخ الطوسي، وحتى الحال الحاضر هو نظام اجتماعي ديني عالمي ومتماسك اجتماعياً. هذا التماسك يأتي عبر الاستفتاءات الواردة والفتاوى الصادرة، وعبر شبكة الوكلاء العالمية، وعبر المال الشرعي، وعبر المؤسسات والمشاريع المرجعية المنتشرة في كل مكان، وعبر الحوزات العلمية الفرعية والمدارس الدينية المنتشرة في أغلب بلدان العالم، وعبر التوجيهات الصادرة في الشأن العام الى الشيعة. هذه كلها يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، وهي من المسلّمات التي لا اختلاف فيها، ولم يعترض عليها يوماً ملكاً شيعياً أو رئيساً شيعياً أو وزيراً شيعياً، بل الاعتراض يأتي من الخصوم الطائفيين عادة.

مثلاً؛ الممالك الشيعية في شبه القارة الهندية، كان يوجهها ويرعاها المرجع الديني في إصفهان، أو المرجع الديني في النجف. الدولة الصفوية كان يعطيها الشرعية مرجع لبناني. الدولة القاجارية كان يعطيها الشرعية المرجع الديني في النجف. ولكن ظهور الدولة القومية التي لديها حدود جغرافية سياسة وقوانين محلية وجنسية وطنية؛ أصبح على المواطن الشيعي أن يتقيّد بالدرجة الأساس بانتماءه الى وطنه الذي يحمل جنسيته، وأيضاً يتقيد بقوانين البلد. وفي الوقت نفسه يعبِّر عن انتمائه الطبيعي لمرجعيته الدينية، بغض النظر عن جنسيتها ومحل إقامتها، وانتمائه لنظامه الاجتماعي الديني العالمي، أيا كانت جغرافيا ركزيتها. التقيد بهذه الأمور ليست بالعملية العسيرة والمعقّدة. حتى الأنظمة الطائفية بات لديها تفّهم نسبي لهذا الموضوع.

سعدون ضمد: إذا تسمح لي دكتور، الموضوع ليس بالبساطة هذه؛ فثمة تعارض ما بين مقلد يتبع مرجعاً لا يقيم وزناً لهذه القضايا، ويطلب من مقلّديه في الدولة الفلانية أن يقوموا بأفعال تتعارض مع القانون، بل يجرّمها القانون. هنا كيف؟

د. علي المؤمن: من أهم شروط المرجع الشيعي أن يكون عادلاً، يعني العدالة والتقوى أساسية في المرجع. نتحّدث هنا عن المرجع الأعلي، وليس عن أي مرجع وفقيه. المرجع الأعلى ليس رجل سياسة ولا تاجر، ولا ساذج بحيث لايعي خصوصيات الشيعة في بلدانهم، ولايعي التزاماتهم القانونية والوطنية. المرجع الديني لايربط مواقفه واحكامه الشرعية وتوجيهاته في الشأن العام، بسلطة أو بدولة؛ فهو مستقل في مواقفه، بغض النظر عن جنسيته، بل حتى لو كان هو على رأس الدولة. عندما يقوم المرجع بتوجيه الشيعة في أي بلد من البلدان؛ لا شك أنّه يراعي مصالحهم والتزاماتهم الوطنية، وعندما يتعرضون الى القمع والاضطهاد؛ فإنه يعمل بتكليفه الشرعي في رعاية شؤونهم والدفاع عنهم، وربما يشير عليهم بردع الحاكم الظالم والدفاع عن انفسهم، وغالباً مايترك المرجع لحكماء الشيعة في بلد ما، وهم وكلاءه غالباً، أن يتصرفوا بما يرون في مصلحة الشيعة. فهو بالتالي؛ يعي مصلحة شيعة كل بلد، ويريد لهم الخير والصلاح، ولايريد لهم الشر والاصطدام بقوانين بلدانهم.

المشكلة ليست في تبعية الشيعي لمرجع من جنسية أخرى أو يقيم في بلد آخر، لأنه أمر طبيعي ومتوارث منذ مئات السنين، بل المشكلة في الأنظمة الطائفية التي تقمع المجتمع الشيعي، ولا تريد له أن يندمج في واقعه، ولا تريد أن تجعل أبناءه مواطنين من الدرجة الأولى، بل تعمل على الإبقاء عليه مهمّشاً، كما كان يحدث في العراق، منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، وصولاً الى زمن البعث. فمن الطبيعي أن يتدخّل المرجع للدفاع عن هؤلاء الشيعة جراء ما يتعرضون له من قمع وإقصاء وظلم. هذا واجب، سواء كان هذا المرجع عراقياً أو إيرانياً أو لبنانياً أو هندياً، وسواء كان يقيم في بغداد أو قم أو النجف أو طهران أو سامراء أو كربلاء أو لبنان.

كان مرجع النجف الأعلى يتحرك لرفع الظلم عن شيعة ايران، ويدفع باتجاه اسقاط النظام في ايران. وهكذا يعمل مرجع النجف أو قم ضد ما يتعرض له الشيعة في لبنان أو العراق، لأن هذه الحكومات انحرفت عن الجادة، وعندما يقوم المواطن الشيعي بأي فعل يتعارض مع سياسة هذه الدولة وتلك بضوء أخضر من المرجع؛ فهو إنما يدافع عن نفسه، للتخلص من ضغط الاستبداد وضغط الانحراف، وبما يتفق ومصلحة المجتمع الشيعي التي يشخّصها المرجع الديني، انطلاقاً من واجبه الديني كقائد للنظام الاجتماعي الديني الشيعي. وهذا ليس فيه أي تعارض مع الهوية الوطنية. فإذا كانت الأُمم المتحدة ومؤسسات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية، بل حكومات الدول، تتدخل وتدافع عن حقوق الإنسان وتطالب بالعدالة والديمقراطية؛ فكيف نتوقع من المرجع أن يصمت إزاء ما تتعرض له رعيته في أي بلد كان، وأينما كان هناك شيعي. المرجع يدافع عن مصلحة هذا المواطن، بصرف النظر من هويته وجنسيته. مصلحة المواطن الشيعي والمجتمع الشيعي لها الأولوية لدى المرجع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملاحظة: تم تنقيح بعض العبارات أو إعادة صياغتها، بما يتناسب واللغة المكتوبة.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment