رؤية واقعية لوحدة المسلمين

Last Updated: 2024/06/09By

رؤية واقعية لوحدة المسلمين

د. علي المؤمن

 

دور المثقف المنتمي في تفكيك عوامل الأزمات الطائفية

المثقفون المنتمون الى الإسلام وكيانه ومجتمعه وأرضه وتاريخه وحاضره، يحرصون كل الحرص على مستقبله ومستقبل أبنائه ومصيره، ويستشعرون خطر الفتن والمؤامرات والحروب التي تهدد وجوده واستقرار مجتمعاته ووحدة أمته، ولعل المؤامرات والحروب التي ظلت تشنها المنظومة الطائفية، بدعم من أعداء الإسلام، منذ ظهوره وحتى الآن، هي من أخطر ما تواجهه الأمة، كما يستشعرون المسؤولية الكبرى تجاه هذه التهديدات الوجودية. ولذلك؛ ظل دأبهم دعوة حكماء المنطقة وعقلائها من علماء دين واعين معتدلين، ومفكرين وأكاديميين وسياسيين، لاستباق الفتن والحروب، قبل أن تتحول المنطقة الى بركان ينفجر بجميع المسلمين، لتلتهم حرائقه الأخضر واليابس، والصالح والطالح، والمجرم والبريء، وتؤدي الى تناحر مجتمعات المسلمين وكياناتهم ومكوناتهم وتياراتهم، المذهبية والقومية والعقدية والطرائقية والسياسية، وصولاً الى تمزق نسيج المسلمين وانهيارهم على الصعد كافة. وليس بعيدة عنا الدورات التاريخية التي تسببت فيها الاختلافات والصراعات الى انهيار الواقع الإسلامي سيادياً وسياسياً واقتصادياً وفكرياً، وهيمنة المستعمر الغربي.

إن دور المثقفين، من باحثين وكتّاب وإعلاميين وفنانين وناشطين حقوقيين؛ بكل اتجاهاتهم ومشاربهم ومذاهبهم، دور أساس في تفكيك الأزمات الطائفية، وتمهيد الأجواء الأكاديمية والثقافية والإعلامية والاجتماعية لحكماء الأمة وعقلائها، من علماء دين ومفكرين وسياسيين، للعمل بشكل جماعي على وأد الفتن وتجفيف منابعها، بكل ما يمتلكونه من وسائل، لأن الفتن الطائفية السياسية والاعلامية والمجتمعية، هو أحد العوائق العميقة أمام استقرار المجتمعات المسلمة ونموها وتقدمها العلمي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي؛ فهذه المجتمعات الرخوة لم يعد تحتمل أكثر مما احتملت من فتن طائفية تمظهرت إفرازاتها بأبشع ألوان القتل والقمع والاضطهاد والتهجير والاحتراب المسلح والصراعات اللاأخلاقية في المجالات السياسية والاجتماعية والإعلامية؛ جعلت حالة إنسانها يلبس أثواباً فاقعة من الحزن والخوف والملل والكآبة واليأس من الحاضر والمستقبل، وخاصة في المجتمعات المتنوعة مذهبياً وقومياً.

ومن لا يستشعر خطورة هذا الواقع ولا يتلمس المأساة ويهتم بها؛ فينبغي عليه مراجعة إنسانيته قبل دينه، وإلاّ فإنّ كل إنسان طبيعي يعيش الواقع الإسلامي، يشاهد بوضوح ما يحدث من مآسي وفشل وتراجع. ولا يقتصر هذا الواقع على بلد دون آخر، طالما هناك أكثريات وأقليات طائفية غير متعايشة تعايشاً حقيقياً متكافئاً، وطالما هناك فريقان من المسلمين، أحدهما يقول إنه ينتمي الى آل البيت، وهم الشيعة.. الأقلية المهمشة والمحُاربة في أغلب البلدان الإسلامية، وآخر يقول إنه ينتمي الى الصحابة، وهم السنة، التي تمثل طائفة الأكثرية السكانية، وهما فريقان يعيشان قلقاً شاملاً في العلاقة منذ وفاة رسول الله، رغم انتمائهما معاً اليه، ولايزال هذا القلق يتراكم بمرور الزمان، ويتم استغلاله أبشع استغلال من قبل الطائفيين ومنظومتهم.

واقعية المنهج والأساليب في مشروع الوحدة الإسلامية

لابد من القول ابتداءً؛ بأن استخدام مصطلح الوحدة الإسلامية هو استخدام مجازي، لأنه مصطلح ضبابي في دلالاته، وربما لا يكون واقعياً في تطبيقاته العقدية والفقهية، والأصح طرح مفهوم وحدة المسلمين أو حدة الأمة الإسلامية، لأنه مفهوم أقرب الى الواقع، وينطوي على مداخل نفسية واجتماعية وسياسية واقتصادية، يمكن أن تشكل مساحات مشتركة يدخل فيها المصير الديني المشترك، والعيش الوطني المشترك، والتعاون الأمني والاقتصادي والسياسي، والاندماج المجتمعي، والتكافل الاجتماعي، والمصلحة الوطنية والإقليمية، والقرابة القومية.

لا يختلف عاقلان في أن الوحدة الإسلامية الواقعية، حاجةٌ ملحة وضرورة مصيرية، تضمن التعايش الحقيقي بين المكونات المذهبية الإسلامية والقومية والمجتمعية في البلد الواحد، وبين أتباع المذاهب الإسلامية في كل العالم، وخاصة في العالم الإسلامي، كما تضمن الاستقرار المجتمعي، والنمو المستدام على كل الصعد. إلّا أن مفهوم الوحدة الإسلامية الذي يكرس قاعدة الوحدة الوطنية في الوقت نفسه، يبدو وكأنه مفهوم طوباوي فضفاض لا قيمة عملية له، وذلك بسبب تعارض الأهداف والسلوكيات المجتمعية الطائفية للمكونات المذهبية والقومية في البلد الواحد من جهة، وعقيدة الدولة الطائفية أو الشمولية، وسياساتها في تهميش بعض المكونات، والتمييز بين المواطنين على أساس المذهب والقومية من جهة أُخرى؛ فيكون هناك مواطن من الدرجة الأولى، ومواطنون من الدرجات الثانية والثالثة.

ولا تقتصر هذه التعارضات على الأهداف والسلوكيات السياسية الطبيعية الموجودة في كل دول العالم المتحضرة، التي تعتمد معايير المساواة في الحقوق والحريات بين مواطنيها، أو الخلافات المقبولة بين المكونات، بل تتعداها الى مظاهر كسر الإرادات والاحتراب، ومخططات تخريب الدولة والوطن والانفصال عنه، ومحاصرة بعض المكونات عقدياً ومذهبياً ومعيشياً، والتضحية بأبنائه في الحروب الداخلية والخارجية، والضغوط عليهم من أجل التنازل عن الهوية الخاصة، تحت شعار الوحدة الوطنية والتضحية من أجل الوطن، وهي في حقيقتها تضحية من أجل أن يبقى الدكتاتور الحاكم أو الحزب الحاكم أو الأسرة الحاكمة تعض على السلطة بقوة.

ومن خلال كل الأرقام والشواهد التاريخية والواقعية التي سقناها في فصول هذا الكتاب؛ نريد القول – كما أسلفنا في المدخل – بأنّ مفهوم الوحدة الإسلامية الواقعي ليس مفهوماً عاطفياً تعبوياً سطحياً، أو شعاراً انفعالياً يصلح للتظاهرات والمهرجانات الحماسية والمؤتمرات النخبوية. صحيح أن الخطاب التحريضي على الوحدة والضخ الإعلامي والعاطفي والنفسي، لا يخلو من فائدة، بل ويثمر إذا كان في موقع الدعم للاتجاه الواقعي والعقلاني للوحدة، لكنه يبقى ذا مفعول مؤقت وتأثير سطحي عابر، ولا يستطيع بمفرده التعامل بواقعية مع عمق موضوع الوحدة، بمعزل عن الأدوات والوسائل الأُخر، وسيكون مآل المشاريع غير المدروسة التي تعتمد في بناها على الجانب العاطفي والإعلامي والانفعالي؛ الإخفاق لا ريب، وهذا الإخفاق يؤدي ــ عادة ــ إلى نتائج سلبية، قد تنعكس على المشروعات الواقعية، فتعرقل نموها أو نجاحها في تحقيق ما تصبو إليه.

إنّ مفهوم الوحدة الإسلامية مفهوم عميق عمق خلاف القرون الأربعة عشر المتجذّر بين مذاهب المسلمين، وعمق حراك المنظومة الطائفية في واقعهم، وعمق التغلغل الاستكباري داخلهم؛ فليس من الممكن والمعقول المطالبة بمحو آثار ومخلفات قضية متشعبة متشابكة عميقة، خلال سنوات معدودات، أو عبر مؤتمرات ومهرجات وبيانات وقرارات، لأن الاختلاف المذهبي والطائفي بين المسلمين تبلور واتخذت شكلها النهائي خلال ما يقرب من 1400 عام، ما يعني أن الوحدة الإسلامية الواقعية هي في مجموعة معقدة من النظريات والمخططات والأدوات والوسائل، وهي بمجملها إفراز لإرادة أتباع المذاهب ونخبهم وأنظمتهم، على أساس مشتركات واقعية ومصالح مشتركة دقيقة وواضحة، كما ينبغي أن التفكير والتخطيط والتنفيذ في هذا المجال تفكيراً علمياً وموضوعياً وواقعياً، ويعتمد الدراسات المعمقة، التي تتضمن أسباب نشأة الفتنة الطائفية وعواملها وظروفها، وأطراف المنظومة الطائفية ومموليها، وخاصة في المنظومة المعاصرة والقائمة، بكل وضوح وتجرّد، ودون انغلاق أو تعصب أو أحكام سابقة.

ومن الضروري أيضاً وضع حدين أعلى وأدنى لتفكيك الفتنة الطائفية وجزء مهم من أزماتها ومن أدوات المنظومة الطائفية، كي لا يصاب العاملون في هذا المجال بالخيبة والإحباط واليأس في مواجهة الواقع، كما حدث خلال ثمانينات القرن الماضي والعقدين الأول والثاني من القرن الحالي؛ فإذا ما تم الإخفاق في الوصول إلى الحد الأعلى – أو المثالي – لأي سبب كان؛ فإن الحدود الدنيا لا بد أن توضع في نظر الاعتبار، وفق قاعدة «ما لا يدرك كله لا يترك جلّه»(1).

وهناك اتجاهان انفعاليان غير واقعيين في نظرتهما الى مفهوم الوحدة الإسلامية والحاجة إليها، أحدهما يرى أن الخلافات العقدية والمذهبية والتاريخية والطائفية السياسية بين الشيعة والسنة هي خلافات شكلية، وليست اختلافات أساسية ومهمة، ويبني على هذه المقدمة دعوته الانفعالية العاطفية إلى الوحدة الوطنية بين المكونات المختلفة مذهبياً، والوحدة الإسلامية بين عموم المسلمين، وهناك اتجاه يرى أن الاختلافات العقدية والفقهية والتاريخية والطائفية السياسية بين الشيعة والسنة هي اختلافات جوهرية عميقة لا يمكن التقريب بينها أو التقريب بين معتنقيها وتوحيدهم، وأن الافتراق بينهم نهائي، وأن الصراع مستمر حتى ينهار أحد طرفي الصراع الشيعي – السني. وتتبنى هذه الرؤية تيارات تنتمي الى المدرستين السنية والشيعية وهي تيارات متطرفة تعارض أي تقارب بين المدرستين، ولا تراه واقعياً أو ممكناً، ويبذل بعضها كل ما بوسعه لتغذية الفتن الطائفية واختلاق فتن جديدة، وكلاهما يشكل منظومة طائفية مستقلة.

أما الرؤية الوسطية المعتدلة؛ فهي التي تدعو إلى الوحدة الإسلامية التي تنسجم وحركة الواقع، وتعمل من أجل تحقيقها، وهو الخيار الذي يفرضه الإسلام، دين التوحيد والوحدة، الذي جاء للبشرية كافة، ليوحدها تحت لواء التوحيد، كما تفرضه جميع الضرورات الواقعية.

وحول شكل العلاقة التي ينبغي أن تكون بين المذاهب الإسلامية وطوائفها، تتعدد رؤى النخب المسلمة، تبعاً للمنطلق الفكري والعقدي والايديولوجي لأصحاب كل رؤية، وربما يمكن تلخيصها في الرؤى الخمس التالية:

  • إلغاء جميع الفرق والمذاهب الإسلامية والعودة الى أصول الإسلام، أي إسلام ما قبل نشوء الفرق والمذاهب، ما يعني إلغاء أربعة عشر قرناً من المسارات التاريخية السياسية والطائفية، والمدونات التفسيرية والحديثية، والآراء العقدية والاجتهادات الفقهية، والعودة الى القرآن مباشرة والسنة الشريفة.
  • دمج جميع الفرق والمذاهب الإسلامية في فرقة واحدة ومذهب واحد، أو أصول وفروع واحدة وشريعة واحدة، ويكون ذلك عبر تشكيل هيئة من كبار علماء الدين، من كل الفرق والمذاهب، تقوم بالأخذ من كل فرقة ومذهب ما يتم الاتفاق عليه من أحاديث وروايات وآراء تفسيرية وكلامية وفقهية ومناهج اجتهادية.
  • إلغاء بعض الفرق والمذاهب والبقاء على مدرسة كلامية ومذهبية واحدة، ودخول أتباع الفرق والمذاهب الملغاة الى المدرسة الكلامية والمذهبية المتبقية الواحدة، سواء بالإقناع أو بالقوة، على غرار ما تعتقد به الفرقة التيمية الوهابية.
  • الإبقاء على جميع الفرق والمذاهب الإسلامية كما هي، ولكن يتم حصر تداول الخلافات فيها على علماء الدين والمتخصصين، وداخل المؤسسات العلمية الدينية، وعدم تدخل الدول والمجتمعات فيها، بمعنى ابتعاد الدساتير والقوانين والأنظمة السياسية والتعليم والمجتمعات عن الجانب الديني المذهبي.
  • الإبقاء على جميع الفرق والمذاهب الإسلامية كما هي، واستناد التشريعات والمجتمعات المتدينة الى آرائها واجتهاداتها، ولكن يتم خلق مفاهيم واقعية جديدة لتحصين الدول والمجتمعات من أية صراعات وخلافات طائفية، تحت عنوان التعايش المجتمعي والوطني والإسلامي، على غرار تعايش المجتمعات التعددية الناجحة في البلد الواحد، فضلاً عن التحالفات السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية بين البلدان الإسلامية، على غرار الإتحاد الأوروبي.

وسنحاول من خلال العناوين والمقاربات التالية؛ التفصيل في بعض الرؤى المذكورة، ودراسة نقاط ضعفها وقوتها، وإمكان تطبيقها.

منطق رافضي دعوات الوحدة مقابل منطق الحوار

هناك من الجانبين الشيعي والسني، من يرى بأنّ دعوات الوحدة والتقريب هي دعوات خيالية وصعبة، بل مستحيلة، لأن الشيعة والسنة لن يتوحدا ولن يتقاربا. ويرى كل من الفريقين الرافضين أنّ الحق المطلق معه، وأن الفريق الآخر على الباطل المطلق، وبالتالي؛ لا يمكن جمع الحق والباطل في إطار وحدودي واحد. والحقيقة أنّ هذين الفريقين، هما اللذان يتعاملان مع موضوع الوحدة الإسلامية تعاملاً خيالياً وينظران إليها نظرة جامدة طوباوية، ويدافعان عن معتقداتهما دفاعاً انفعالياً هجومياً، وكأنهما يريدان الانتقام من الكينونات التاريخية، ويتصوران أن الوحدة تعني الاندماج العقدي والفقهي، وليس التعايش السياسي والتعاون الاقتصادي والتواد الاجتماعي.

ونموذج هذا الانفعال تجاه الآخر لدى فريق من الشيعة، ما يصدره من خطاب فتنوي تحريضي تاريخي، يعمل على تمزيق النسيج الاجتماعي للمسلمين، وخاصة الخطاب الذي يصدر من بعض الجماعات الشيعية المقيمة في أوروبا، وهي جماعات تمارس الدور الفتنوي التكفيري نفسه مع الشيعة ونظامهم الاجتماعي، وتشتم مرجعياتهم، وتناهض الخطاب الإسلامي الشيعي التعايشي الاجتماعي المعتدل، بحيث يبدو هذا الفريق  وكأنه أكثر حرصاً على التشيع من السيد المرتضى والشيخ المفيد والشيخ الطوسي والسيد الحلي والشيخ كاشف الغطاء والسيد الحكيم والسيد الخميني والسيد الصدر والسيد السيستاني والسيد الخامنئي؛ الأمر جعل الشيعة يصفون هذه الجماعات بــ (وهابيي الشيعة)، لأنهم يستخدمون الخطاب التكفيري نفسه، سواء مع الشيعة أنفسهم أو السنة.

وهكذا بالنسبة للفريق السني الرافض للوحدة والتقارب، والمتمثل بالجماعات الوهابية التكفيرية والجماعات الطائفية المتطرفة الأُخر؛ فهي تكفر الشيعة، وتعتبر أن الوحدة معهم مستحيلة، لأنهم (كفار)، والتعايش معهم مستحيل، لأنهم (متآمرون مع اليهود ضد المسلمين)، كما أنهم يكفرون أو يصفون من يعمل على التقارب مع الشيعة، بأنه كافر أو منحرف العقيدة. وإذا كان الفريق الشيعي الرافض للوحدة والتعايش هو حديث عهد وجديد على الواقع الشيعي؛ فإن الفريق السني قديم، ويستمد نصوصه وتفسيراته ومواقفه من العصور الأموية والعباسية والأيوبية والعثمانية، ومن فقهائها، من ابن تيمية ونوح العثماني وصولاً الى محمد عبد الوهاب وابن باز، وهي نصوص وتفسيرات تعارض مع الخط السني العام المعتدل، وبالتالي يصوِّر هذا الفريق نفسه بأنه هو الذي يمثل الإسلام وليس الإمام أبو حنيفة والإمام الشافعي والإمام مالك، وليس الشيخ المراغي والشيخ عبد المجيد سليم والشيخ محمود شلتوت، على اعتبار أن هؤلاء الأئمة والشيوخ فتحوا صدورهم للتقريب والوحدة بين السنة والشيعة.

والحقيقة أن الإشكالات التي يفرزها منطق رافضي التقارب والتعايش والوحدة بين المسلمين الشيعة والسنة، هي تكرار للمقولات التي ظل (دعاة تمزيق واقع المسلمين)(2) يرددونها منذ العصر الأُموي وحتى الآن، وقد عملوا خلال العقود الأخيرة، عبر كل وسائل الفتنة، على تعميق الفجوة الاجتماعية والسياسية والنفسية والفكرية بين المسلمين، وهي الفجوة التي تسببت فيها عوامل تاريخية معقدة، ولكن يمكن تجاوزها بالحوار والوقوف عند المشتركات والمصالح؛ فقد ذهبت الأغلبية الساحقة من علماء المسلمين من الشيعة والسنة ومختلف المذاهب الإسلامية، على أن الآلية الكفيلة بتقريب وجهات النظر بين المذاهب الإسلامية؛ بهدف تقليص هذه الفجوة، هي آلية الحوار، التي دعا إليها القرآن الكريم وعرض مئات النماذج لها؛ فإذا كان القرآن الكريم يدعو الى الحوار بين المسلمين والنصارى: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم»(3)، «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن»(4)؛ فكيف بالحوار بين أتباع الدين الواحد والكتاب الواحد والقبلة الواحدة والأصول الواحدة؟!

فلماذا يستكثر الفريقان الفتنويان على علماء المسلمين بأن يتحاوروا؛ ليقربوا بين مذاهبهم ويوحدوا صفوفهم ويعتصموا بحبل اللَّه جميعاً ولا يتفرّقوا؟!، ولماذا يستكثران على عامة المسلمين أن يندمجوا ببعضهم في إطار الوحدة الوطنية والوحدة الإسلامية، ودفع المفاسد عن المسلمين وجلب المصالح لهم، والدفاع معاً عن مقدرات الإسلام والمسلمين ضد الغزوات والحروب والحصار والاستكبار والهيمنة الأجنبية؟! وقد جرّب المسلمون الصراع الطائفي خلال تاريخهم الطويل، في قبال الحوار، وكلفهم ذلك أنهاراً من الدماء، ليس بين السنة والشيعة فحسب، بل بين أتباع المذاهب السنية أنفسها، وظلّ هذا الصراع يكلفهم أيضاً الكثير من العناء والمشاكل والجهد، وهو الجهد الذي كان ينبغي أن يوفرونه للمعركة مع أعداء الإسلام، الذين يستهدفون جميع المسلمين دون تمييز، ويوفرون هذه الجهود لمعركتهم الحضارية، التي بدأنا نخسرها شيئاً فشيئاً.

بيد أن رواد التقارب والوحدة من علماء المسلمين في القرن الميلادي الماضي، تنبّهوا إلى حقيقة الواقع الإسلامي وقدّروا عمق الفاجعة التي تتسبب فيها الفرقة بين المسلمين، وتداعوا إلى إحداث آليات منتجة نسبياً لمواجهة التفرقة والفتنة، وكان من أبرزها «دار التقريب» في القاهرة. ثم بعد مضي عدة عقود على هذه التجربة الرائدة، نهض مؤتمر القمة الإسلامي (منظمة التعاون الإسلامي فيما بعد)، ومجمع الفقه الإسلامي ومنظمة (الايسسكو) والمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية وغيرها، بهدف وضع إستراتيجية للتعاون الإسلامي السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وللتقريب والوحدة، بما ينسجم مع حجم الوعي الإسلامي المضاد للطائفية، والذي أخذ بالتبلور في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي.

صحيح أن المشاريع التي تبادر إليها بعض الأنظمة السياسية أثبت عدم إنتاجيتها، لكنها تبقى أفضل من التخندقات الطائفية وتحالفات الفرقة والفتنة والعدوان على فئات من المسلمين. أم المشاريع التي تقوم بها المؤسسات الدينية والثقافية؛ فهي ذات إنتاجية نسبية، وإن كانت محدودة؛ فهي بالتالي؛ تمثل مساعي وتجارب ينبغي تطويرها وتنميتها، وتحويلها الى محاور للتقارب الاجتماعي ووحدة الخطاب، والى ثقافة تتبناها منظمات المجتمع المدني، لكيلا تبقى محصورة في مؤسسات علماء الدين والنخب الدينية، من أجل تحقق غايات إيجاد البديل الحضاري الإسلامي الذي ينفتح على البشرية جمعاء، كمنهج للحياة، بعد أن يتمكن من فتح أبواب الحوار والانفتاح والتعايش والتعاون بين المسلمين أنفسهم.

والحقيقة أن التشكيك في نوايا أصحاب خطاب التقريب والتعايش والوحدة، أمرّ يتعارض مع بديهيات تعاليم الإسلام وقواعده الشرعية، وهكذا بالنسبة لمن يعلن عن الاعتراف بالتعبد بمذهب إسلامي غير مذهبه، كما فعل شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت، حين أفتى بشرعية التعبد بالمذهب الشيعي الإثني عشري، إذ قامت قيامة الوهابيين والطائفيين السنة ضد الشيخ شلتوت، وبلغ الأمر حد اتهامه بالخروج عن الإسلامي، كما أصدر الوهابيون رداً عليه عشرات الكتب والمقالات. في حين أن مدرسة آل البيت متمثلة بالمذهب الشيعي لا تحتاج الى اعتراف وإقرار بشرعيتها من أحد، لكن خطوة الشيخ شلتوت كانت مهمة في عملية التقريب وردم جزء من الفجوة النفسية والفكرية والاجتماعية، وهي كرامة له وإضافة لحسناته، لأنه أقرّ واقعاً قائماً وقضية مفروغاً منها؛ إذ أن فتواه لم تعط الشرعية للمذهب الشيعي، بل إنها عبرت عن عمق نظرة المرحوم الشيخ شلتوت وسعة أفقه وشجاعته وإيمانه بوحدة الأمة، وهو ما لا يريده رافضو التقريب، لأنها خطوة إيجابية تتعارض مع أهدافهم الفتنوية. وهكذا بالنسبة للمذاهب الإسلامية الأخرى؛ فإنها ليست بحاجة إلى أن يعطيها أحد، مهما بلغت مرتبته العلمية والدينية، اعترافاً أو أن يمنحها الشرعية.

وليس التقريب بين المسلمين ومذاهبهم، وسيلة للدعاية لمذهب معين، كما يذهب الى ذلك الجماعة الوهابية وغيرها من الجماعات السنية المتطرفة، التي تصوّر فكرة التقريب وآلية الحوار بأنها دعاية شيعية لجذب السنة، عبر آلية (التقية). في حين أن واقع العصور والعصر الذهبي الذي يعيشه الشيعة منذ عقود، يجعلهم ليسوا بحاجة إلى التقية؛ إذ أنّ واقعهم بات يسمح لهم بالتحرك بكل حرية، وبالتفكير بصوت عال، وطرح أفكارهم وآرائهم بكل شفافية، وهذه الآلاف، بل عشرات الآلاف من كتبهم ومدوناتهم، مطروحة في الأسواق والمكتبات، وبإمكان أي شخص الاطلاع عليها، فضلاً عن أنهم في الملتقيات وجلسات الحوار العلمي لا يجدون أي حرج في التعبير عن أدق أفكارهم في القضايا الكلامية والفقهية والتاريخية، وهي مدعاة اعتزازهم والتزامهم؛ لأنهم يعدون أفكارهم طريقهم إلى اللّه تعالى. وهكذا بقية المذاهب الإسلامية؛ فكل مذهب يعتبر أن ما توصل إليه من أفكار وآراء هو طريقه إلى اللّه، ولا يحق لأي إنسان التشكيك في ذلك.

خرافة إسلام بلا مذاهب

هناك نخب فكرية وثقافية مسلمة ترى أن تحقيق التعايش المثالي بين المسلمين والتأسيس العميق للوحدة الإسلامية، يقوم على قاعدة إلغاء الفرق المذاهب الإسلامية، والاكتفاء بالانتماء للإسلام وشريعته كما كانت قبل نشوء الفرق والمذاهب(5). وهذه الرؤية ــ في الحقيقة ــ هي رؤية خيالية وطوباوية، ومن المستحيل تحقيقها، ولا تمتلك أي نصيب من الواقعية. وإذا كان إلغاء الفرق والمذاهب الإسلامية ممكناً ولو بنسبة مجهرية؛ فإن جميع أتباع الديانات الأخرى، المسيحية والبوذية والطاوية واليهودية والهندوسية سيتمكنون أيضاً من إلغاء مذاهبهم، التي تبلغ مئات المذاهب والفرق، وهو أمر مستحيل، سواء على مستوى الدين الإسلامي أو الأديان الأخرى، وكل منهم يرى أن الحق المطلق معه، وأن المذاهب الأخرى باطلة أو منحرفة أو مبتدعة.

وحتى لو افترضنا جدلاً أن إلغاء الفرق والمذاهب الإسلامية، ومعها أربعة عشر قرناً من التدوين الحديثي والروائي والاجتهادات التفسيرية والآراء الكلامية والفقهية، ثم الرجوع الى إسلام ما قبل الفرق والمذاهب، هو أمرٌ ممكن؛ فإن هذا الرجوع بحد ذاته، والاتفاق على شريعة واحدة بين المسلمين، أي أصول وفروع متفق عليها؛ سيتعرض إلزاماً الى القراءات الخاصة والاجتهاد المتعددة، وستتحول كل قراءة ــ بمرور الزمن ــ الى فرقة عقدية جديدة ومذهب فقهي جديد، ثم الى طوائف جديدة، ربما تكون أكثر بكثير مما عليه المسلمون اليوم.

إنّ وجود المذاهب والفرق والطوائف في الأديان والعقائد، أمر بديهي ومتجذر في الواقع الإنساني، ولا يمكن تجاوزه وتجنبه وتجاهله، بل لا ينفع أي جهد لمحاربته ومقاومته إطلاقاً؛ إذ تبدأ المذاهب والفرق بالظهور تدريجياً كلما ابتعد أتباع الدين عن زمن التأسيس والتشريع والنبوة، وهي تمثل – عادة – قراءات واجتهادات في ثوابت الدين وأصوله؛ فيما لو كانت أهداف الفقهاء والمتكلمين المؤسسين دينية وأدواتهم علمية، وفي النتيجة؛ يرى كل صاحب مذهب انه على الحق. وهذه سنة الله والتاريخ في الخلق. ويُستثني من قاعدة الاجتهاد والقراءة العلمية الدينية؛ أصحاب الأهداف الدنيوية السلطوية، الذين عملوا على تأسيس منظومات عقدية مبتدعة في الدين، تتعارض مع الدين نفسه، خدمة لأهدافهم السلطوية، ونماذجهم: السامري في اليهودية، وقسطنطين الأول في المسيحية، ومعاوية وآل أمية في الإسلام.

ولا يختص ظهور المذاهب والفرق بالإسلام والديانات السماوية، بل يشمل الفكر البشري الأرضي أيضاً؛ فكل مذهب فكري وضعي هو عرضة ليتحول تدريجياً الى مذاهب وطرائق، كلما ابتعد أتباعه عن زمن المؤسس والتأسيس، وربما تكون العقيدة الشيوعية ومذاهبها التي تمثل قراءات واجتهادات في فكر ماركس؛ دليل واضح على هذه الحقيقة.

ومن البديهي أيضاً أن تفرز المذاهب الكلامية والفقهية، بمرور الزمن، مجتمعات إنسانية خاصة بكل مذهب، وهذه المجتمعات تسمى الطوائف الدينية، وهي تمثل هويات اجتماعية دينية ضاغطة ومائزة، وهو أهم الظواهر التي يدرسها علم الاجتماع الديني. ولا يشترط في الانتماء لهذه المجتمعات أو الطوائف أن يكون الفرد فيها متديناً أو ملتزماً بالفرائض والطقوس، لكنه ينتمي انتماءً اجتماعيا للمذهب وليس انتماءً فرائضياً؛ بل وحتى ليس عقدياً أحياناً، وهذا هو أحد أهم الموانع أمام إلغاء المذاهب، وتجاوز حقائقها المتجذرة في الأرض.

المفهوم السلطوي للوحدة

الوحدة القسرية التي تستخدم فيها أساليب القوة القاهرة من ضغوطات سياسية واستخدام للقوة العسكرية أو الحصار الاقتصادي؛ فهي نوع من أنواع الاغتصاب والاستكبار والاحتلال، ومثال ذلك: هيمنة دولة على أخرى بحجة الوحدة في إطار وطني أو قومي أو مذهبي أو ديني، وهيمنة سلطة قومية على أخرى أو سلطة طائفية على أخرى في إطار بلد واحد، وتهميش هذه القومية أو الطائفة، واضطهادهما بحجة الوحدة، ومثال ذلك: ممارسات الدولة العراقية الطائفية قبل العام 2003 ضد الشيعة والكرد والتركمان.

وإذا انطلقنا من مفردات الواقع؛ فإن معظم ما يحدث من مآسي في البلدان الإسلامية، ظل يحدث تحت شعار الوحدة الوطنية والوحدة العربية والوحدة الإسلامية القسرية، والخوف على الوطن والعروبة والإسلام من صحوة الأقلية المذهبية (الشيعة)، أو الخوف من حراك الأقليات القومية المهمّشة، ودفاعها عن وجودها وحقها في الحياة؛ في إطار ما تعارف عليه عقلاء البشر من حقوق وحريات وواجبات. ويعبِّر طائفيو الأكثرية عن هذا الخوف، باتهامات كبيرة فضفاضة، لكنها مدروسة بعناية، كالخيانة والعمالة والعبث بأمن البلد والإرهاب والخروج على الحاكم، وغيرها من العناوين، المعلبة منذ مئات السنين. ولايزال مفعول هذه العناوين ساريا بالطعم واللون والرائحة نفسها، وإن تطورت أدوات تطبيقها عبر الزمن، ولعل أكثر العناوين التي تمثل مفارقات عجيبة، هو اتهام الأقليات الشيعية في بلدان الأكثريات السنية أو الأكثريات الشيعية بلدان الأنظمة السنية الأقلوية، بأنها هي التي تمارس الطائفية والتمييز الطائفي والمذهبي، ما يعني أن الشيعي لمجرد أنه يتمسك بعقائده، أو يمارس عباداته وفقا لفقهه، أو لمجرد أنه يصرخ من شدة التهميش والتمييز والقمع؛ فهو طائفي؛ فعليه، لكي يكون مواطناً عادياً مقبولاً، أن لا يصرخ عندما تقوم السلطة الطائفية بقمعه أو يصدر مشايخ الطائفية فتاوى بتكفيريه أو تنشر الكتب والصحف التي تتهمه بالانحراف العقدي والعمالة.

التقريب بين المذاهب أم بين المتمذهبين؟

إن نتائج الأحداث والمخاضات السياسية والفكرية التاريخية التي لا تزال تحكم الواقع الإسلامي، يمكن تحويل مسارها باتجاه الاختلاف الإيجابي بين المسلمين، والذي من شأنه تعميق حالة الحوار العقيدي التكامل الفقهي والنمو الفكري، بالصورة التي تحصِّن الواقع الإسلامي أمام أي خلل داخلي أو غزو خارجي، لأنّ تلك النتائج ظلت إفرازاً لحالة غير موضوعية؛ وبالتالي يمكن التأثير في مضامينها وأشكالها.

وقد بقي الواقع الإسلامي بقي محكوماً بهذه النتائج، ويعيشها بكل تفاصيلها؛ فما برح المسلمون يعيشون التاريخ ويتفاعلون أحداثه وكأنهم جزء منهم. كما أن إثارة مشكلة الاختلاف المذهبي بين المسلمين خارج سياقها التاريخي والموضوع، بقي أيضاً محكوماً بالظروف، ولاسيما الظروف التي تخلقها الضغوطات الخارجية، حتى نجد أن وراء هذه الإثارة ـ غالباً ـ مؤامرة تستهدف الواقع الإسلامي في الصميم، وتهدف إلى تمزيقه وشرذمته. ولا شك أن الضغوطات الخارجية التي تتجسد في مختلف ألوان التآمر، تبقى عاجزة عن تحقيق أهدافها ولو بالحد الأدنى، دون وجود أرضية مساعدة داخل الواقع الإسلامي، يوفِّر للغزو الخارجي أسباب الحركة والنجاح. وهنا تكمن الخطورة الأساسية، لأن الخلل إذا كان من الواقع الإسلامي نفسه؛ فإنه يؤدي ــ لا محال ــ إلى نخر جسد الأمة من الداخل، وبالتالي تفتيتها وانهيارها.

ويمكن التقريب بين أتباع المذاهب وتوحيد توجهاتهم، في إطار اشتراك المصالح الدينية العليا، أو التعايش الوطني والإقليمي، أو أية مصالح مشتركة أخرى، وهي مهمة لا تقتصر على النخبة الفقهية والعلمية والفكرية وحسب، كما يعتقد بعض أصحاب فكرة التقريب بين المذاهب، وهي الفكرة التي أثبتت ضعف فاعليتها على طول التاريخ؛ بسبب اعتمادها موضوعة المذاهب، ممثلة بعلمائها، وإلغائها أهمية مجتمعات المذاهب، ممثلة بالمحاور الفاعلة الأُخر فيها؛ ظناً من أصحاب فكرة التقريب أن مجتمعات المذاهب تنقاد بأكملها الى علماء الدين وحسب، وأن علماء الدين السنة والشيعة إذا اتفقوا على شيء؛ فإن الأمة ستنقاد إلى توجيهاتهم غالباً.

والحال؛ أنّ هناك محاور فاعلة ومؤثرة في مجتمعات المذاهب، غير الفقهاء وعلماء الدين، كالمفكرين والمثقفين والكتّاب والإعلاميين والأكاديميين والأدباء والشعراء والخطباء والفنانين وشيوخ العشائر والوجهاء الاجتماعيين والطلبة والشباب والنساء، فضلاً عن المؤسسات التي تضم هؤلاء، وبينها منظمات المجتمع المدني، وكذلك الحكام والسياسيين والقيادات الحزبية والتنظيمية. هؤلاء كلهم فاعلون أساسيون في عملية التقريب بين المذاهب وأتباعها. ولا شك أن إغفال دورهم المصيري هو السبب في عدم فاعلية فكرة التقريب بين المذاهب، والإبقاء عليها في حدود المقولات النظرية والجهود العلمية، وعدم تحولها الى واقع ميداني قائم على أرض مجتمعات المذاهب (الطوائف).

وليس حديث العقلاء والحكماء عن التقريب والوحدة ـ كما ذكرنا ــ يهدف الى تحقيق وحدة إسلامية اندماجية أو إلغاء المذاهب العقدية والفقهية أو تصفير الخلافات بين المسلمين، لأنها أمور مستحيلة، لا يمكن تحقيقها ولا يعتقد عاقل بواقعيتها، لأن حقائق الميدان، على مستوى كل بلد إسلامي وعلى مستوى الواقع الإسلامي برمته، أثبتت أن هذا الحديث مجرد طموحات وتمنيات طوباوية، لأسباب معقدة كثيرة، إنّما الحديث يدور حول محور  التعايش والتعاون بين أبناء البلد الواحد، وكذلك بين المسلمين جميعاً، وهو التعايش والتعاون الإيجابيين البنّاءين، في إطار دولة المواطنة والقانون والحقوق والحريات، ودولة التكافؤ في الفرص، والتساوي في الحقوق والواجبات، والتعاون من أجل بناء نظام اجتماعي سليم، ونظام سياسي عادل، ونظام اقتصادي فاعل. وبالتالي؛ يكون الهدف النهائي هو الشراكة الإنسانية في بناء الأوطان والبلدان والدول، أو لنسمها ما نشاء.

ولعل من المناسب هنا طرح مفهوم التکافؤ الطائفي في إطار الدولة الواحدة ومجمل المؤسسات الإسلامية الرسمية وغير الرسمية العابرة للحدود، ويكون ذلك على أساس النسب السكانية، وهو أساس مقبول وعادل عادة، ويؤول الى أن یکون الشیعي کالسني في الحضور الديني والثقافي والسياسي والاجتماعي، دون تمییز طائفي أو عنصري، وصولاً الى العدالة في حفظ حقوق الأقليات الدينية غير المسلمة أيضاً. والمشكلة ــ غالباً في هذا المجال ــ يتحمل مسؤوليتها الطائفيون والمتطرفون الذين يرفضون التکافؤ الطائفي ويقامونه بشتى السبل، وخاصة في البلدان التي يكون فيها للسكان الشيعة حضور واضح، وهو رفض يشكل جزء من عقلهم التاريخي الظاهر أو عقلهم الباطن، وينفعلون جداً عند الحديث عن کون المواطن الشیعي کفء للمواطن السني في الحقوق والحريات كافة. كما يرفضون أي تغيير في معادلات الواقع التاريخي للدولة الطائفية.

والحال؛ أن التکافؤ الطائفي هو الحل الوحید الذي يسبق التعايش والشراكة، ويسبق الوحدة الوطنية والوحدة الإسلامية، بل هو مدخل موضوعي لها جميعاً، لأن الوحدة لا تُبنى على قاعدة وجود مواطن من الدرجة الأولى ومواطن من الدرجة الثانیة، أو حاکم مطلق ومحکوم مطلق، أو طائفة غالبة وطائفة مغلوبة، بل تكون الوحدة على أساس الشراكة بين المواطنين المتکافئین؛ فلا معنى للوحدة في ظل عدم التکافؤ، والتي يكون المطالب فيها هو الغالب، ويريد للمغلوب أن يندمج فيه ويتوّحد تحت عباءته؛ فالحاكم الغالب أو الحزب الغالب أو الطائفة الغالبة، تتحدث عن الوحدة، كلون من الدعاية والاستغفال والتخدير والمراوغة، لکي تنفِّس عن الطائفة المغلوبة أولاً، ثم تزيد من هيمنتها عليها ثانياً، وتسخرها لمآربها وأهدافها ثالثاً. ولعل المغلوب المقهور، المنهزم نفسياً، یتحدث هو الآخر عن الوحدة أحياناً، لکي يتماهي بحاكمه الغالب أو الطائفة الغالبة، ويسعى لإرضائهما، لمجرد أن يعيش ويأكل من فتات السلطة والثروة والجاه. وهذه الشراكة أو التعايش أو الوحدة باطلة جملة وتفصیلاً، لأنها ليست حقيقة، وسرعان ما تنهار، فضلاً عن أنها تتعارض مع تعاليم الإسلام، وآليات الديمقراطية أيضاً.

إن الوحدة والتقارب والتعاون بين المسلمين، هي مشاعر وممارسة وسلوك وتكافل وتعاون، وليس مجرد خطاب تحريضي، وإن كان هذا الخطاب مفيداً. والتعايش هو إحساس حقيقي بالشراكة في بناء حاضر الأوطان المسلمة ومستقبلها، والإحساس بالشراكة بين عموم المسلمين. وهذا الإحساس هو مولِّد للإحساس بضرورة التعارف والتقارب، وصولاً الى الإحساس الحقيقي بضرورة التعاون والتكامل. ويعني التعارف هنا؛ التعرف على معتقدات وأفكار الآخر المذهبي والعقدي والفكري منه نفسه، أي من مصادرة نفسها، وينتهي هذا التعارف بالبحث عن نقاط الاشتراك والعمل. وفي الوقت نفسه؛ فإنّ الإحساس بالشراكة هو نقيض الرغبة بإلغاء الآخر وإقصائه وتهميشه، فضلاً عن تكفيره، واعتراف بالآخر ومكوناته كما هو، سواء كان هذا الآخر من نفس المدرسة الفقهية والكلامية نفسها، أو من المذهب نفسه، بل حتى لو كان من دين آخر، لأن المسلم إما أخ للمسلم، أو نظير في الخلق لغير المسلم، وهو مضمون حديث الإمام علي: ((الناس صنفان: أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق))(6)، والذي قاله حين وبّخ بعض المسلمين بسبب ظلمهم لأجير يهودي كان يعمل عندهم؛ فكيف إذا كان هذا الشخص مسلماً وأخاً في الإسلام؟!

وتبدأ الوحدة والتقارب والتعايش بالدوائر الأصغر وتنتهي بالدوائر الأكبر، أي أنها تبدأ بين أبناء المدرسة الفقهية والكلامية الواحدة، ثم بين أبناء المذهب الواحد، وبين أبناء الدين الواحد، وبين أتباع الأديان، انتهاء بالدائرة الإنسانية الكبيرة؛ فمن المهم الانفتاح فكرياً على أتباع جميع المذاهب والأديان الذين تجمعهم بالمسلمين روابط الوطن واللغة، ومشتركات الإيمان الفطري أو الفكر الإيماني، ولا يمكن تجاوزهم عبر الاكتفاء بأتباع الديانات التوحيدية المعروفة: الإسلامية والمسيحية واليهودية والصابئية والزرادشتية؛ فالبوذيون والطاويون والكونفوشيوسيون والهندوس والسيخ، هم نظراء للمسلمين في الخلق أو مواطنون يشاركون المسلمين مصير الجغرافيا الواحدة، ولا يقل عددهم عن مليارين ونصف المليار إنسان، ما يعني أن المسلمين بحاجة الى التعرف على ما يدين به هؤلاء من عقائد وأحكام وأخلاق وعادات، وهذا الانفتاح سيقربهم نفسياً الى المسلمين، وما يترتب على ذلك من منافع جمة للمسلمين.

وبالتالي؛ فإن من يريد التقريب والتعايش بين شتات أمة رسول الله؛ فعليه ألّا يكتفي بالعمل على المذاهب الإسلامية، في بعديها العقدي والفقهي، بل على أتباع المذاهب الإسلامية، ويقنعهم على أن يتعايشوا كما هم، ويَقبلوا ببعضهم كما هم؛ بعقائدهم، بفقههم، بقناعاتهم التاريخية، لأنهم يتقاسمون الجغرافيا والأوطان والثروات، وأن لا يسلطوا التكفيريين والطائفيين على رقابهم، بأية وسيلة، لأنهم أعداء السنة والشيعة معاً.

حين تكون الوحدة مفهوماً منتجاً

إن الواقعية في النظرة الى مفهوم التعايش والشراكة، تستدعي أن تتحول شعارات الوحدة الإسلامية والوحدة الوطنية الى دعوات للتعايش الإيجابي والشراكة الإنسانية والرفاه المعيشي بين أبناء الحدود الجغرافية المسلمة الواحدة (الوطن) والحدود الجغرافية المسلمة العامة (العالم الإسلامي)، بصرف النظر عن الانتماءات المذهبية والايديولوجية والفكرية، بدلا من الطروحات التقليدية الطوباوية والرومانسية، لأنّ منظومة التعايش والشراكة ودولة المواطنة والإنسان والرفاه، هي وحدها الكفيلة بالوقوف سداً منيعاً بوجه الهيمنة الخارجية والغزو الغربي، كما تقف بوجه كل أشكال الفتنة والتفرقة، وتسد الأبواب بوجه الساسة الطائفيين ودعاة الفتنة من مشايخ السوء، وبوجه حملة السيوف والبنادق من شوفينيين وطائفيين. ويمكن للتجارب الناجحة على مستوى أوروبا المسيحية، وعلى مستوى بعض بلدانها، أن تكون نماذج للدراسة، تنفع لمنطقتنا وبلداننا، ولو في أجزاء منها، وليس في ذلك عائق ديني أو فكري، لأن هذه التجارب هي تجارب إنسانية ومشتركات عامة، يمكن تطبيق ما ينفع وينتج وينسجم منها على واقعنا ومع تعاليم الإسلام.

ولن يكون مبدأ الوحدة الوطنية منتجاً في بلدان المسلمين، إلّا أذا توافر فيه شرطان:

1-أن تكون الدولة التي يتحقق مبدأ الوحدة الوطنية في إطارها، هي دولة المواطنة والقانون، التي تحترم رأي الأكثرية وتضمن حقوق الأقلية، وينعدم فيها التمييز بين المواطنين، على مختلف مذاهبهم وأفكارهم، وتتكافأ الفرص بينهم، وأن يكون هناك فصل بين الوطن والدولة وسلطاتها والحكومة. أما إذا كان شخص الحاكم أو الحزب الحاكم أو الأسرة الحاكمة هو الوطن وهي الدولة والحكومة والسلطة، وكانت الدولة تابعة لحاضنة طائفية اجتماعية معينة أو مكون قومي معين؛ فإن الوحدة الوطنية لن يكون لها أي موضوع ومعنى، لأنها ليست وحدة من أجل الوطن، بل مجرد شعار سلبي يستغله الحاكم، الفرد أو الأسرة أو الحزب أبشع استغلال، من أجل استحكام سلطته والاستقواء بمبدأ الوحدة الوطنية على التحديات التي تواجه بقائه في السلطة.

٢- أن تكون هناك رغبة حقيقية من قبل المكونات الدينية والمذهبية والقومية في البلد، بتحقيق الوحدة الوطنية، على أساس المشتركات التي تُنشِئ قواعد التعايش والتعاون والتحالف. أما إذا كان بعض المكونات يعيش تحت حراب مكون آخر وقمعه وتهميشه، وكان مكون آخر يخطط ويعمل على الانفصال عن الوطن، ومكون ثالث يعمل على تخريب الوطن والدولة، لإحساسه بأن الدولة لا تمثِّله؛ فحينها تكون الوحدة الوطنية شعاراً للمناورات السياسية والابتزاز والمزايدات لا أكثر.

ولذلك؛ نرى في كثير من بلداننا العربية والإسلامية أن أبناء البلد الواحد، المختلفِين دينياً ومذهبياً وقومياً وايديولوجياً، لا يجمع بينهم سوى الرابط السياسي القانوني المتمثل بالجنسية وجواز السفر، وأحياناً اللغة وفريق كرة القدم وبعض الرمزيات، أي أنها وحدة الانتماء السياسي للبلد فقط، ووحدة العواطف المؤقتة؛ بينما تفرقهم الأهداف والطموحات والثقافات والسلوكيات والعلاقات.

وللتغطية على هذه التعارضات العميقة؛ يصرخ بعض حسني النية والمثاليين والمتحمسين، بأن التعارضات والفوارق لا وجود لها بين أبناء البلد، وإن وجدت؛ فلابد أن تزول فوراً، ويتحدث عن المشتركات وعن حب الوطن الذي (يجمعنا)، وبين هؤلاء المتحمسين من يرى بأن المكونات الدينية والمذهبية والطائفية والقومية واللغوية وجودات زائدة يجب إلغاؤها، أو إلغاء تأثيرها في الحياة السياسية، أو ألّا يكون لها مدخلية في بنية الدولة وتشكيلة الحكومة. والحال أن هذا الحماس يعبر عن خطاب طوباوي وغير واقعي، لأنه سرعان ما سيصطدم بالواقع عند أول مفترق أو حدث.

وهناك من يعتبر أن السياسيين والأحزاب والاستعمار، أي العامل السياسي الداخلي والعامل السياسي الخارجي؛ هم سبب إيجاد هذه التعارضات، وهذا الخطاب ــ هو الآخر ــ يقرأ الواقع وحقائقه بتبسيط ودون عمق؛ فلا شك أن الاستعمار والسياسيين المحليين وأحزابهم، يلعبون جميعاً دوراً مهماً في تكريس هذه التعارضات، لكنهم لا يخلقونها ولا يوجدونها، بل يكرسونها، لأنها موجودة أساساً، ولها عمق تاريخي، وترتبط بتكوين الوطن والدولة والنظام السياسي والتشريعات والأعراف التأسيسية، ولو لم يجد الاستعمار والأحزاب والسلطات الداخلية حواضن اجتماعية أساسية نشأت على هذه التعارضات وشكّلت عقلها وخطابها الاجتماعي؛ لما استطاعوا استغلالها وتكريسها والنفوذ والسيطرة من خلالها.

ولذلك؛ ينبغي أن تذعن مكونات الوطن جميعاً، أن قدرها العيش في رقعة جغرافية واحدة توحدها الحدود السياسية والهوية القانونية للمواطنين، وأن عليها العمل على خدمة الوطن وبنائه وعلى تعزيز قوة الدولة وسيادتها وفاعليتها ونجاحها، دون النظر الى البقعة الجغرافية التي يسكنها كل مكون أو المذهب الذي ينتمي إليه المكون، ويكون ذلك بإرادة مشتركة وخطوات مشتركة، لا أن تتبادر بعض المكونات الى ذلك وتتردد أخرى أو تعمل بعكس الاتجاه. كما ينبغي أن يذعن من يمسك السلطة، سواء تمثل بشخص أو أسرة أو حزب؛ بأن الوطن والدولة والسلطة ليس ملكاً له، إنما هو مجرد أداة لخدمة الوطن والمواطن، دون تمييز بين مواطن وآخر، وأنّ تمثيله للوطن والدولة والسلطة هو بمقدار تخويل الشعب له، وأنّ تداول المسؤوليات، من قمة هرم الدولة الى قاعدتها، هو حق طبيعي لكل من ينتمي الى الوطن. وحينها تتحول الوحدة الوطنية من مجرد شعار فارغ للتغطية على الأهداف المتعارضة للمكونات الطائفية والقومية في البلد، وعلى سوءات السلطة وسياساتها التمييزية، وأهدافها في إخضاع الشعب لعقيدتها ومخططاتها الخاصة؛ تتحول الى واقع منتج يقوم على قاعدتي التعايش والتحالف.

وتنسحب هذه الرؤية الواقعية أيضاً على مفهوم الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب الإسلامية ووحدة أتباعها، وهي رؤية تتعارض مع الرؤية المثالية الشعاراتية، سواء على مستوى الوطن الواحد أو عموم الأمة الإسلامية(7). أما الرؤية الواقعية لقضية وحدة المسلمين، هي رؤية إنسانية، تقوم أيضاً على قاعدتي التعايش الميداني والشراكة الواقعية بين المسلمين الشيعة والسنة، كما هو الحال مع الوحدة الوطنية، وذلك بهدف التكافؤ الكامل، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل عقدياً وفكرياً وسياسياً وإعلامياً واجتماعياً، والعمل المشترك على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية المشتركة، سواء على مستوى الأوطان أو على مستوى الأمة الإسلامية بشكل عام، واحتفاظ كل طرف بمتبنياته ومعتقداته، وأن تكون هناك رغبة حقيقية مشتركة من الطرفين الشيعي والسني لتنفيذ مشروع التعايش والتحالف، وليس رغبة من طرف واحد، في حين يقابلها الطرف الآخر بسياسة التمنع والتكبر، وعدم الاعتراف بالآخر، والإصرار على تهميشه ومحاربته سياسياً وإعلامياً وثقافياً.

ولعل أقرب صيغة لهذا التعايش والتحالف هو الصيغة الأوروبية الواقعية، كما أشرنا سابقاً، ولا أقصد هنا منظمة (الإتحاد الأوروبي)، بل أقصد صيغة التعايش والتحالف المجتمعي المسيحي الأوروبي التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والتي أنتجت الإتحاد الأوربي فيما بعد؛ فالأوربيون المسيحيون تتقاسمهم أيضاً مذاهب دينية وكنائس متصارعة ومتحاربة لمئات السنين، كاثوليكية وبروتستانتية وارثذوكسية وانجليكانية وغيرها، وتتقاسمهم تيارات سياسية متنوعة، وأطماع استعمارية، وايديولوجيات نازية وفاشية وماركسية وعنصرية وليبرالية، لكنهم توصلوا، بعد حروب داخلية وخارجية طويلة قضت على عشرات الملايين منهم، ودمّرت بلدانهم، الى صيغة التعايش والتحالف، ليحققوا لأنفسهم أفضل المكاسب السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والاستعمارية.

وأختصر رؤيتي في وحدة المسلمين بكلمتين فقط، هما: (التعايش) و(الشراكة)، انطلاقاً من المشتركات الواقعية في المجالات العقدية والإقليمية والوطنية، والتي تفرض التعايش الاجتماعي والسياسي والمذهبي، والمساواة في الحقوق والحريات، والمواطنة المتكافئة، والشراكة في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية. وهذه الصيغة التعايشية التحالفية النابعة من الواقع وتفاصيله؛ تأخذ بالاعتبار خصوصيات المسلمين العقدية والمذهبية، وتتجاوز الشعارات المثالية غير الواقعية من جهة، والخطاب الطائفي الانعزالي من جهة أُخرى؛ ستجلب للمسلمين مصالح نوعية، وستدرأ عنهم قرون من الصراعات والمفاسد.

التعايش بين المسلمين في بعده السياسي والقومي

يحظى البعد السياسي والقومي بأهمية خاصة في مشروع الوحدة الإسلامية، ولعله من أهم أبعادها، لأن الخلاف بين المسلمين منذ مئات السنين، كان في أغلبه مطبوعاً بطابع سياسي، أو يحمل خلفيات وجذور سياسية. وتسليط الضوء على هذا البعد كعامل من عوامل الخلاف التاريخي، ثم دراسته كإطار لاستمرار الخلاف، وأخيراً كمعوِّق لتحقيق التقارب والوحدة بين المسلمين؛ سيكون مقدمة لمحاولة وعي خطورته الكبرى والسعي المشترك لتفكيكه.

على المستوى التاريخي؛ نستعيد بعض ما ذكرناه في الفصل الثاني من الكتاب، بشأن مسارات الخلاف بين المسلمين، وخاصة المسار السياسي. لقد حدث الانشقاق الأول بين المسلمين بعد وفاة رسول الله، وكان يدور حول موضوعة خلافة الرسول، من الناحيتين المفهومية والمصداقية، أي كان هناك خلاف حول مفهوم الخلافة ومصداقها. والخلافة تعني رئاسة الدولة وقيادة الأمة، أي محور الفقه السياسي؛ فكان شيعة الإمام علي يقولون بالنص الإلهي على الإمام في إطار مبدأ الإمامة، كما ورد عن رسول الله في كثير من الأحاديث الثابتة. وقال جماعة أخرى من المسلمين (السنة فيما بعد) بالتعيين البشري في إطار نظرية الخلافة. وكان هذا الخلاف بالنسبة للشيعة ذا بعد عقدي، لأنّ فيه مخالفة لنص رسول الله، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلّا وحي يوحى(8)، أي أنّ إصرارهم على خلافة الإمام علي لم تكن مجرد رغبة في تقديمه على باقي الصحابة، بل لأن توليته أمور المسلمين يحظى بنص تشريعي، وبالتالي؛ فالإمامة هي تشريع ديني وليس موقع سياسي. أما بالنسبة الى السنة؛ فهو خلاف سياسي، لأن تقديم الخلفاء الثلاث على الإمام علي كان فيه مصلحة سياسية للأمة. ثم كان هناك خلاف بين المدرستين الشيعية والسنية حول تفسير بعض الأحداث والممارسات، ولا سيما الدور السياسي للشيعة منذ عهد الإمام علي، ثم انحراف الخلافة عن مسار أئمة أهل البيت، وصولاً الى نظرة كلٍّ من الشيعة والسنة إلى الخلفاء والسلاطين الأمويين والعباسيين والأيوبيين والعثمانيين.

وإضافة إلى هذا النوع من الخلاف السياسي؛ فإنّ بعداً آخر للخلاف دخل في عهد الدولة الأموية، هو البعد القومي؛ إذ استعاد الأمويون من العصر الجاهلي، النزعة القومية العنصرية والتعصب القبلي والاحتكار العائلي للسلطة. وبرز هذا البعد بشكل آخر وأكثر تعقيداً في عهد الدولة العباسية، ثم في الدول القومية والقبلية والعائلية التي أعقبتها. وفي هذه العصور كان الصراع بين المسلمين في جانب منه صراعاً سياسياً وقومياً، وتكمله الخلافات والصراعات المذهبية.

وبعد بروز ظاهرة الدولة القومية أو الوطنية في أوروبا، ثم انتقال أفكارها إلى العالم الإسلامي خلال القرن التاسع عشر الميلادي، وما أعقبه من تقسيمات الجغرافية السياسية في أعقاب انهيار الدولة العثمانية؛ فقد توزع المسلمون على عشرات الدول التي تأسست على قاعدة الحكم القومي أو الوطني، وفي ظل الهيمنة الأوروبية، وخاصة البريطانية والفرنسية، وفي كل دولة مسلمة قام نظام سياسي مختلف. وقاد هذا الواقع الى تضارب في المصالح وصراعات سياسية وقومية مع الدول المسلمة المجاورة، وصراعات قومية ومذهبية وفكرية داخل البلد الواحد، هذه القوميات التي ظلت متصالحة غالباً في ظل تعاليم الإسلام، أو أنها يجب أن تكون كذلك، لولا النزعات القومية الإمبراطورية التي أسست لها الدولة الأُموية وسارت عليها أغلب الدول المسلمة. وظل الاستكبار العالمي يغذي هذه الصراعات ويؤججها ليضمن مصالحه، وأخذت الدوائر تضيق بالمسلمين، وتتحول إلى دوائر أصغر فأصغر.

ورغم أن الإسلام لا يرفض وجود القبيلة والقومية والوطنية، ولا يرفض خصوصياتها الجينالوجية واللغوية والاجتماعية، وكينونتها الإنثروبولوجية والتاريخية، ولا يعارض الميل العاطفي للمسلم نحو قومه وموطنه، وانتمائه لها، لكنه يرفض رفضاً باتاً تحوّل القومية والوطنية إلى عصبية وإلى دين ومذهب وايديولوجيا، تدعو للتميّز العرقي، وتفضَّل عرقية أو قومية مسلمة على آخرى، وتدعو الى الانفصال عن الرابطة الإسلامية، أو تحجيمها وتهميشها، بحجة أن الرابطة القومية هي الأساس وهي محور وحدة الجماعة البشرية، وتعد الرابطة الإسلامية ثانوية وغير ذات أهمية في تكوين الأُمة، لأن الأمة من وجهة نظر الفكر الشوفيني القومي تقوم على أساس وحدة العرق، وأنها أمة العرق والقومية.

في حين ينص الإسلام على أن الرابطة العقدية هي الأساس وهي محور وحدة الجماعة البشرية، وهي قاعدة تكوين الأمة؛ فالأُمة من منظار الإسلام هي أمة الدين أو أمة الإسلام، وليس أمة القومية أو الوطنية ((وإن هذه أمتكم أمة واحدة))(9)؛ فالأمة هنا هي أمة الإسلام حصراً، ولا يوجد مفهوم آخر للأُمة غيرها، وأي مفهوم آخر يطرح في هذا المجال؛ فهو مفهوم وضعي باطل. ومن هذا المنظار؛ لا يفرِّق الإسلام بين مسلم ومسلم وآخر على أساس العرق والقومية واللون والموطن، إلّا بالتقوى والالتزام الديني؛ فالمعيار الوحيد في التفرقة بين مسلم وآخر هو معيار التمسك بالإسلام وتعاليمه ((وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم))(10). وبالتالي؛ لا يمكن أن يكون تعدد القوميات والأوطان والمذاهب الكلامية والفقهية والثقافات المجتمعية في إطار الإسلام؛ مدعاةً للفرقة والاختلاف والتناحر، بل قاعدة للتكامل والتعاضد والتعاون، على أساس البر والتقوى والعمل الصالح، كما هو خطاب القرآن ((وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان))(11).

وإذا كان وجود هذا الكم الكبير من الدول المسلمة الوطنية، والتعدد في أنظمتها السياسية، ووجود إلزامات القوانين الدستورية والمحلية والقانون الدولي؛ أمراً واقعاً، وهو كذلك بالفعل؛ فإن الواجب الإسلامي يدعو المسلمين الى تطويع هذا الأمر الواقع، ومعالجته معالجة واقعية أيضاً، مستعينين برابطة الإسلام وتعاليمه، كي لا يتحول إلى صراعات سياسية وقومية ونزاعات عسكرية وتنافس اقتصادي غير شريف، وهو ما ظل يحصل منذ أكثر من قرن من الزمان، أي منذ فرض الاحتلال الأوروبي على المسلمين، أسلوب الدولة المحلية ذات النزعة القومية والوطنية السلبية، المتعارضة مع القواعد الشرعية.

جوانب وحدة التعايش والشراكة بين المسلمين

أعتقد أن مظهري التعايش والشراكة، اللذين يفضيان الى التعاون والتكافل بين المسلمين، هما أحد أكثر مصاديق وحدة الأمة الإسلامية واقعيةً في الوقت الحاضر. ولذلك؛ لا أرى تعارضاً مفهومياً أو شرعياً بين مفهوم الأُمة ووحدتها، ومفهومي التعايش والشراكة بين المسلمين على أساس تعاليم الإسلام.

وهناك أربع مقدمات واجبة لعملية التأليف بين أبناء الأُمة وتعايشهم وشراكتهم:

  • الإذعان بوجود الخلاف بين المسلمين، على كل مستوياته، في حدود حقيقته، دون مبالغة أو تقليل، ودون أي تجاوز للواقع المتجذر لوجود المذاهب العقدية والفقهية، واستحالة إلغائها أو إلغاء بعضها.
  • الإيمان بأن الاتحاد بين المسلمين على أساس التعايش والشراكة والتعاون، هو ضرورة شرعية وواقعية، والإحساس الحقيقي بالحاجة الماسة إليه، على المدى البعيد والقريب، بما يحقق المصالح المشتركة والمصير المشترك بين المسلمين.
  • الإيمان بأن هدف الوحدة ليس هدفاً سياسياً أو تكتيكياً، من أجل تحقيق مصالح السياسية للحكام أو الأنظمة أو التحالفات الإقليمية، أو في حدود صراع دولي، أو لمقابلة وضع سياسي معين، بل هو هدف استراتيجي ثابت.
  • إن الوحدة لا تحقق أهدافها في أجواء مصلحة إسلامية مرحلية، وإن كان هذا هدفاً إسلامياً مشروعاً، ولكن الوحدة الحقيقية – كما قلنا – ذات أهداف واسعة وعميقة، تفرضها الشريعة الإسلامية.

ولعل الذهن، خلال الحديث عن وحدة المسلمين، ينصرف ــ غالباً ــ إلى بُعدها المذهبي فقط، وإن كان هذا البعد أساسياً وفي غاية الأهمية، ولكن الوحدة هي عملية شاملة، تشتمل على جميع أبعاد النظرية والواقع، بدءاً بالعقيدة والفقه والموروث الديني والتاريخ، وانتهاءً بالقانون والسياسة والاجتماع والاقتصاد والعلوم والتعليم والثقافة والإعلام. أما وسائلها؛ فهي سلسلة من الخطوط والتفاعلات العميقة والآليات، تبدأ بالمقدمات الأربع المذكورة، وتمر عبر حسن ظن المسلم بأخيه المسلم من المذهب الآخر، والتعارف والحوار والتفاهم، والشعور بالمصير المشترك، وممارسة التضامن في مواجهة الأعداء الداخليين والخارجيين، بمختلف أشكالهم ومواقعهم، وتنتهي بالتقارب والشراكة على كل الصعد.

ووفقاً لذلك؛ فإن هناك خمسة جوانب أساسية لعملية وحدة التعايش والشراكة بين المسلمين، وهي جوانب تكمل بعضها الآخر، وتتداخل فيما بينها وتتخادم بفاعلية، برغم استقلال كل منها في مهمته وموضوعه، وهي:

  • الجانب النفسي: ومهمته الغوص في عمق الفاصلة النفسية بين المسلمين، من أجل ردمها نسبياً، عبر مراجعة المسلمين نفوسهم والتبصر فيما يعلق بها من ضغائن وأحقاد وحساسيات، لا يعرف أغلبهم أسبابها، تجاه المسلمين من الفرق العقدية والمذاهب الفقهية الأخرى، والعمل على تنزيهها، وخلق حالة حسن الظن بهم، والحب لهم، والتعاطف مع قضاياهم، والشعور بضرورة التضامن، ووعي حقيقة المصير المشترك، بشكل يهيمن على النفس ويتملكها.
  • الجانب الإعلامي، وتتمثل مهمته في خلق حالة نفور ومواجهة لدى المسلمين ضد أي خطاب فتنة وفرقة، سواء كان مصدرها داخلياً أو خارجياً، وبناء حالة وعي إسلامي ووطني رصين وعميق وأصيل وحقيقي بضرورة وحدة المسلمين وتعايشهم وتشاركهم، عنوانها «الرأي العام الإسلامي الوحدوي» و«ثقافة الوحدة الإسلامية»، التي يجب إشاعتها وترسيخها في عقول المسلمين وضمائرهم، لكي لا تبقى مهمة التقريب ودعوات الوحدة والشراكة محصورة في علماء المسلمين أو الحكام، ولكي تكون الأمة قاعدة الوحدة ودرعها، ومنطلق ممارسة الضغط على المؤسسات الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية، لدفعها باتجاه تحقيق الأهداف العملية لوحدة المسلمين.
  • الجانب الاجتماعي، ويتمثل في تعوّد المجتمع على مختلف الممارسات الوحدوية، وفي مقدمتها الرفض العملي لأي خطاب اجتماعي يفرق المسلمين ويخلق الفتن فيهم، وخلق حالة التكافؤ في الحقوق والواجبات، والشراكة والتعاون والتكافل، وهي جميعاً عصب وحدة المجتمع واندماج شرائحه ببعضها بشكل متكافئ وليس قسري. وبغية استمرار هذه الممارسات العملية؛ ينبغي أن الوازع والدافع وصمام الأمان؛ غاية تحقيق «المجتمع الصالح».
  • الجانب السياسي، ويستند الى قاعدة فرز القيادات السياسية القوية الأمينة المعتدلة غير الطائفية، والتي تمثل نموذجاً واقعياً ملموساً لرمزية وحدة الأمة، وتتعهد بخلق واقع الشراكة والتعايش والتكافؤ السياسي والقانوني والاجتماعي والاقتصادي بين المسلمين، سنة وشيعة، سواء على مستوى البلد الواحد، أو حيال المسلمين في البلدان الأخرى، كما تدعم ــ بكل السبل ــ مشاريع الوحدة والتقريب في أبعادها الدينية والثقافية والتعليمية والإعلامية، وتمارس الدفاع عن جميع الشعوب المسلمة، دون تمييز طائفي وقومي، وتتعاون مع البلدان والمؤسسات الإسلامية الأُخر للوقوف بوجه خصوم الأُمة الداخليين والخارجيين.
  • الجانب العلمي، وهدفه تحويل الخلافات الفقهية والفكرية بين المذاهب الإسلامية إلى نقاط قوة، بدل أن تكون نقاط صراع وضعف، وهو ما يتأتى معظمه عبر الحوار المكثف بين علماء الأمة ومفكريها ومثقفيها وأكاديمييها. وبالنظر لأهمية هذا الجانب سنفرد له عنواناً مستقلاً.

الجانب العلمي في عملية وحدة الأُمة

يحظى الجانب العلمي بأهمية خاصة؛ إذ وكان ولا يزال محور عناية كثير من نخب الأمة الدينية والفكرية والثقافية، ومؤسساتها العلمية، وهو – دون شك – يقع في دائرة اختصاصهم. ويبدأ الجانب العلمي مهمته ودوره بحسن الظن وتبادل الاحترام بين نخب المذاهب والتيارات الإسلامية، والإحساس بالحاجة الحقيقية للتقارب. ولعل أبرز الخطوات التي تتخللها عملية التفاعل المنتج بين هذه النخب، والتي تمثل ضمانة نجاحها ورصانتها، هي:

1- التعارف:

يتلخص هدف التعارف في وعي حدود معينة من حقائق الأطراف الأخرى، إن لم نقل جميعها، ويتمثل في دراسة المذاهب والفرق والمشارب بعناية وعمق وتجرد، من مصادرها نفسها، وعدم استقائها من كتابات الآخرين وتحليلاتهم، سواء كانوا مستشرقين أو مسلمين لا يكتبون بموضوعية، وخاصة الكتابات التاريخية المتخمة بالخطاب الطائفي ودعوات الإقصاء والعزل والتكفير والترهيب، ليكون ذلك الوعي حجة على كل طرف. وإحدى آليات التعارف هنا، تقديم كل طرف الى الأطراف الأخرى، مجموعة من المؤلفات العلمية الرصينة التي تعبِّر عن حقيقة عقائد مذهبه واتجاهاته الفقهية. وفي السياق نفسه، ينبغي إخراج مؤلفات منهجية تعالج الموضوعات الخلافية، على المستويات كافة. وهناك نماذج معروفة من الكتب، خاصة في المجال الفقهي، تمثل خطوات علمية واعية في طريق التعارف، ولعل من أبرزها كتاب «الخلاف» للشيخ الطوسي(12)، الذي ألفه قبل نحو ألف عام، إضافة إلى الموسوعات والمؤلفات المعاصرة، ك«الفقه على المذاهب الأربعة» للشيخ عبد الرحمن أبو زهرة(13)، و«الفقه على المذاهب الخمسة» للشيخ محمد جواد مغنية (14)، و«الأحاديث المشتركة» للشيخ محمد علي التسخيري(15)، وكثير من إصدارت المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.

2- الحوار:

ويقصد به الحوار العلمي الرصين الهادئ، بين النخب العلمية والفكرية والأكاديمية والثقافية الواعية، والتي تمتلك مشاعر حسن الظن والاحترام، والموضوعية والاعتدال وعدم التعصب في التفكير، والمعروفة في تجنّبها المواقف المبيّتة والأحكام الجاهزة، والتي تفسد كل شيء. وحين يحاور رسول الله(ص) أهل الكتاب بقوله: «قل يا أهلَ الكتابِ تَعالَوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم»(16)، أي الاتفاق على حد معين من مباني الحوار الموضوعي؛ فمن الأولى بالمسلمين أن يجري حوارهم وفق هذه القاعدة القرآنية. كما أن الرسول(ص) في قوله لنصارى نجران: «وإنا أو إيّاكم لعلى هُدىً أو في ضلال مُبين» (17)؛ فإنه يريد بذلك، التجرد والاستعداد للوصول إلى الحقيقة مهما كانت، برغم أنه على يقين كامل بصحة معتقداته.

وتدخل القواعد العلمية المتعارفة، في صلب الحوار أيضاً، كتقيد كل طرف بمصادره، سواء بالحقائق التي يعتقدها الطرف الآخر، أو الحقائق الموجودة في تلك المصادر وينتفع منها الطرف المقابل، أو اعتبار بعض الحقائق المشتركة مقدمات للوصول إلى حقائق كلية مختلف فيها، وكذلك عدم فرض أي طرف الآراء الشاذة والمنفردة لدى بعض علماء المذهب على الطرف الآخر، لأنها تخالف الإجماع وليست حجة.

3- المراجعة الذاتية:

وتعني استعداد كل فريق لمراجعة مبانيه العلمية ومواقفه العقدية والفقهية والتاريخية، بالتجرد والموضوعية والقواعد نفسها المذكورة في مبدأ الحوار. والهدف من ذلك؛ التعرف على إمكانية إعادة النظر في بعض القناعات الموروثة التي ساهمت كثيراً في الفرقة والصراعات بين المسلمين. ولعل مقدمة ذلك؛ وضع كل الأشياء التي تعدها المذاهب جزءاً من مطلقاتها ومقدساتها، عدا القرآن وصحيح السنة، على طاولة المراجعة والنقاش، والقبول باحتمالات وجود أخطاء أو شطط، ولو بشكل نسبي، في هذه المطلقات والمقدسات، وكذلك القبول باحتمالات أن بعض أفكار الطرف المقابلة، هي صحيحة، ولو نسبياً. ومن خلال ذلك؛ يمكن تحقيق نتيجة أساس؛ فإما تترسخ القناعات، وذلك مثمر للحوار والتقارب، لأن كل طرف سيتعبّأ بالمزيد من الحجج والأدلة العلمية القاطعة التي قد تقنع الطرف الآخر، وإما أن يفقد كل طرف الثقة ببعض أفكاره وآرائه ومواقفه، وهو ما سيقود الى مزيد من المراجعة والتقارب.

4- التقارب:

ويعني الاتفاق على نقاط مشتركة بين مختلف الأطراف، وهي النتيجة الواقعية لدور الجانب العلمي، أو إنها الشكل العلمي لعملية الوحدة؛ فقد تعارف علماء الدين الإسلامي، منذ أربعينات القرن الماضي، على تسمية الجانب العلمي لمشروع وحدة الأّمة بالتقريب بين المذاهب الإسلامية. وتستند عملية التقريب الى الوسائل والآليات التالية:

  • انفتاح النخب العلمية ـ الدينية والفكرية والأكاديمية والثقافية للمذاهب الإسلامية على بعضها، والتحاور فيما بينها على أسس منهجية، وفي أجواء رصينة وهادئة، وتفهّم الآراء والمواقف الكلامية والفقهية والتاريخية للفرق والمذاهب من مصادرها نفسها، وليس من مصادر الآخرين، ولاسيما خصومها، بهدف حصول الوعي المعرفي بالآخر، وإزالة بعض أنواع اللبس المعقد.
  • إيجاد مساحات مشتركة للقاء العقدي والفقهي والتفسيري والروائي بين المذاهب الإسلامية، وهي كبيرة وأساسية، وتتصاغر أمامها مساحات الافتراق، ولا سيما في الجانب الفقهي، حيث تصل مساحات الاشتراك بين السنة والشيعة إلى حوالي 70 بالمائة من مجموع المسائل الفقهية، بل أن المشتركات الفقهية أحياناً بين بعض المذاهب الإسلامية مع مذهب آل البيت، هي أكثر من مشتركات هذا المذهب مع مذهب سني آخر.
  • احترام مساحات الاختلاف، بكل مجالاته، العقدية والفقهية والثقافية والسياسية، والإقرار بأنها أمر طبيعي، وينبغي تدجينها والحيلولة دون تحولها الى فتن وصراعات سياسية وإعلامية ومجتمعية، وخاصة مع وجود الواقع الرخو والساخن الذي يعيشه المسلمون.
  • تجاوز الخطاب الطائفي ولغة التشكيك والعداء والتنافر، وهي لغة يلعب العامل النفسي التاريخي الدور الأساس في الإبقاء عليها، واستبدالها بلغة التعاطف والتواد والتراحم، ونقلها الى الجمهور أيضاً، لأنّ أغلب الجمهور المتدين سيتأثر بلغة علماء الدين شكلاً ومضموناً.
  • التفكير في واقع الأمة الإسلامية ومصيرها ومستقبلها، والتحديات العقدية والثقافية والسياسية والاقتصادية المشتركة التي تواجهها، بهدف تفعيل آليات التكامل والتكافل والتعاون التي يدعو إليها الإسلام.

والتقريب العلمي الذي يعمل علماء الإسلام الى تحقيقه، لا يعني تذويب المذاهب الإسلامية وابتداع مذهب جديد واحد يقوم على أنقاضها، ولا يعني تغليب مذهب على آخر، ولا محاولة التسلل إلى أحد المذاهب بهدف الإخلال في استقراره، كما أشرنا سابقاً في أكثر من موضع. إضافة الى أنّ التقريب بين المذاهب الإسلامية لا يعني إغلاق البحث الكلامي والعقائدي، الذي ينتج عنه الإقرار بصحة قسم من الأفكار، أو عدم صحته، ولا يعني أيضاً إغلاق البحث التاريخي والعبور على التاريخ الإسلامي وأحداثه وسياقاته وعبره. وليس من أهداف التقريب أيضاً، التشكيك بأحقية أي مذهب إسلامي أو إقامة الدعاوى ضده بهدف إخراجه عن الملة والدين.

ويلجأ أغلب التكفيريين الى اختزال أمة الإسلام بمذهبه ومدرسته العقدية؛ فيعدٌّ مدرسةَ السنة ــ مثلاً ـ هم الأُمة حصراً، وأن من يختلف مع السنة من أتباع المذاهب الأُخرى هو ملحق بالأُمة أو خارجها، وهو يحمل صفة الإسلام إسمياً لا أكثر. وهناك فريق من الشيعة يتبنى الموقف نفسه؛ فيعد مدرسة آل البيت هي أمة الإسلام حصراً، بينما هناك من الفريقين من يرى أنّ الشيعة أمة والسنة أمة، ولكل منهما خصائصهما العقدية والفقهية وكينوناتهما التاريخية والاجتماعية، التي تمنعهما من اللقاء أو التفاعل أو الاندماج الإنساني الديني. والحال؛ أن أيّاً من أتباع الفرق والمذاهب الإسلامية، لا يمكنه، عقدياً وفقهياً، إثبات مقولة حصر مفهوم الأمة أو تعددية الأمة؛ فهي مقولات تعبِّر عن ألوان مقيتة من التطرف والتعصب والانفعال، والانسياق وراء مدارس التكفير، لأن المذاهب الإسلامية، في بعديها العقدي والفقهي، هي نتاج عملية الاجتهاد، وعن فهم علماء المسلمين للثوابت والأصول المقدسة ومقاصد الإسلام ونظامه التشريعي.

والملفت للنظر أن أمثال هؤلاء لا يدركون بأنّ دعوةُ الإسلام أصحابَ الاختصاص الى التفقه والاجتهاد؛ تقود تلقائياً الى التعددية العقدية والمذهبية، وهي التي آلت الى نشوء علوم القرآن والكلام والفقه وأصوله والدراية والرجال، وبالتالي؛ فإن وجود المذاهب العقدية والفقهية في داخل الإطار الأُمة الواحدة، أمر بديهي تماماً. مع الأخذ بالاعتبار الاختلاف بين المدرستين السنية والشيعية في تحديد الأصول المقدسة وعناوينها؛ فمؤسسي الفرق والمذاهب الإسلامية السنية، كأنس وواصل والأشعري ومالك وأبي حنيفة والظاهري والثوري والشافعي وابن حنبل؛ هم علماء مجتهدون، أسسوا آراءهم الفقهية والعقدية وفق فهمهم للقرآن والموروث الروائي النبوي والصحابي أو وفق الرأي والاستحسان والقياس، ولذلك؛ يمكن لأي فقيه سني أو عالم سني أن يأخذ بآرائهم أو يكون له رأيه الفقهي والعقدي الخاص به. أما عند الشيعة؛ فإن أئمة آل البيت ليسوا علماء مجتهدين، إنّما هم امتداد لسنة النبي وجزء منها، وأقوالهم هي نص مقدس وليس اجتهاداً، ولا يمكن لأي فقيه شيعي أن يجتهد في مقابل أقوالهم العقدية والفقهية.

الشيعة؛ إشكالية معرفية لدى النخب السنة

في إطار عملية التعارف والاكتشاف والبحث عن الحقيقة، والتي هي إحدى مقدمات عملية الوحدة والتعايش والشراكة؛ يبدو أن مهمة النخب السنية شاقة في هذا المجال؛ فهي تعاني من شحة بالوعي والمعرفة بمدرسة آل البيت ممثلة بالمذهب الشيعي، ولعل هذا هو من أبرز أسباب تكريس المسافة النفسية والعقلية التراكمية تجاه الشيعة. ولكن في المقابل؛ لم تكن النخب الإسلامية الشيعية الثقافية والحركية يوماً؛ تعدّ فكر الشخصيات الإسلامية السنية العلمية والحركية فكرا سنياً؛ بل تنظر إليه كفكرٍ إسلامي عام وثقافة إسلامية مشتركة، فضلاً عن العمق المعرفي للنخب الشيعية بالمذاهب السنية وغيرها من مذاهب المسلمين، وبتاريخ الخلاف وأسبابه ومحاوره. ولا يقتصر ذلك على النخب الشيعية المتعلمة، بل ربما هو مظهر شيعي عام، كرسته حالة دفاع الشيعي عن وجوده المذهبي وهويته الاجتماعية الدينية تجاه القمع والإلغاء والتهميش والتكفير.

وتخلق إشكالية ضعف معرفة النخب السنية بمدرسة آل البيت ومذهبها العقدي والفقهي، حالة استغراب لدى الشيعة، بسبب انكفاء تلك النخب عن مطالعة مؤلفات وأفكار المفكرين الإسلاميين الشيعة أو عدم التفاعل معها؛ فنادراً ما توجد وفرة من الكتب الشيعية في المكتبات الخاصة للنخب الإسلامية السنية، بينما تتوافر الكتب السنية بكثرة في المكتبات الخاصة للنخب الشيعية، والحال أن حركة التأليف والنشر في الوسط العلمي والثقافي الإسلامي الشيعي كبيرة جداً، سواء باللغة العربية أو اللغات الأخرى، وبآلاف العناوين سنوياً، رغم القيود التي تفرضها أغلب أنظمة الدول العربية على الكتاب الشيعي، مقابل سماحها لكتب الإلحاد والانحراف الفكري والأخلاقي والغزو الثقافي. ولكن هذا لا يمنع من سهولة مطالعة أي كتاب شيعي سابقاً والآن، أي أن القيود السياسية على حركة الكتاب الشيعي ليس عائقاً أو حجة.

واطّلاع الإسلاميين السنة على المذهب الشيعي وعقائده وفقهه وفكره وتاريخه واجتماعه، من كتبه التي يجمع عليها رجال المذهب، وكذا ضرورة أن يتعرفوا على نتاجات الفقهاء والمفكرين والباحثين الإسلاميين الشيعة؛ هو مدخل التعرف والتعارف، أي المدخل المعرفي للتعارف الحقيقي والصحيح، الذي يحول دون الجهل بحقائق الآخر وما يتبعه من ممارسات التجهيل لعامة الناس، والإصرار على بقاء قواعد الفرز الطائفي والفتنة المذهبية.

والحقيقة أن عدم اطلاع النخب السنية على الكتب الإسلامية الشيعية؛ سيبقى عائقاً معرفياً أساسياً يحول دون رفع الشبهات والشكوك، ولعله السبب الأساس في حالة عدم الوعي المتعمد وغير المتعمد لدى مفكري السنة وعلمائهم ومثقفيهم وكتّابهم بعقائد الشيعة وفقههم وفكرهم واتجاهاتهم الحركية؛ الأمر الذي يؤدي قسراً الى تفسيرات طائفية لدى هؤلاء في كل تحرك أو حدث يكون طرفه شيعي. والمشكلة أنّ ممارسات التجهيل لعامة الناس يقوم بها من يعدّون من أهل العلم والفكر والثقافة الحركية، وإلّا كيف نفسر إصرار كثير ممن يعد نفسه من أهل العلم بأن الشيعة مجوساً، وأنهم مذهب يهودي وطائفة ماسونية وغيرها من التخاريف؟، بل ويبذلون جهوداً خاسرة مضنية لإثبات ذلك من كتب المشايخ السلف من أعداء الشيعة، وبالتالي يحكمون على الشيعة بالكفر والشرك والزندقة عقائدياً، والخيانة والعمالة سياسياً؛ وبأنهم مهدورو الدم عملياً، دون اطلاع وتدقيق وتمحيص، وهو ما ينطبق عليه المأثور: ((الإنسان عدو ما يجهل))(18).

وعندما تطلع النخبة السنية على الموروث الشيعي العقدي والروائي، ستقف على تأكيدات مدرسة آل البيت على القواعد الأساسية التي أمر الإسلام أتباعه بالتمسك بها في مجال تحقيق هدف «الأمة الواحدة»، كـ«الجسد الواحد» و«الاعتصام بحبل اللَّه» و«عدم التفرق» و«الاهتمام بأمور المسلمين» وغيرها، وهي قواعد أظهر من خلالها الإسلام حزماً واضحاً، للحؤول دون أي شكل من أشكال التشرذم والتجزئة. وفي الوقت نفسه تكييف النظرة الى الخلافات، على أساس الاحترام المتبادل والقبول بالآخر المذهبي كما هو، لأنّ الإسلام لا يرفض ألوان الاختلاف الإيجابي، وهو ما عبّرت عنه سلوكيات مضيئة للصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الإسلامية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إحالات الفصل العاشر

(2) نشرت مجلة التوحيد (القاهرية) في عددها السابع للسنة الثلاثين (2001)، مقالاً بعنوان «لا يا دعاة التقريب»، بقلم الدكتور علي بن السيد الوصيفي، دعت فيه الى الوقوف بوجه أي مسعى لوحدة الأمة الإسلامية والتقريب بين مذاهبها، مستهدفة بذلك استهدافاً مباشراً الاجتماع التقريبي الخاص الذي عُقد في القاهرة، بحضور علماء ومثقفين من إيران ومصر ولبنان وعمان، وفي مقدمهم: شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي الذي كان يترأس الجانب السني، والشيخ محمد علي التسخيري الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، الذي كان يترأس الجانب الشيعي. وكان من أبرز الحضور مفتي الجمهورية المصرية الشيخ نصر فريد واصل ووزير الأوقاف المصري الدكتور حمدي زقزوق والفقيه الإيراني الشيخ واعظ زاده خراساني ومدير عام المجلس الشيعي في لبنان ومفتي عمان الشيخ… أنظر: ملحق الكتاب. وكان كاتب هذه السطور حاضراً في الاجتماع مع الجانب الشيعي، وقدّمتُ ورقة بحثية فيها. كما كتبت رداً على مقال مجلة التوحيد، نشرته في مجلة رسالة التقريب.

(5) نموذج هؤلاء الباحث المصري بسام الشكعة في كتابه «إسلام بلا مذاهب»

(7) في كثير من المناسبات والندوات والمؤتمرات؛ كنت أطرح موضوع العبور على الرؤية المثالية في موضوع الوحدة الإسلامية، ومحاولة إيجاد بديل واقعي منتج له مصطلح الوحدة الإسلامية، حتى حين كنت مستشاراً للعلامة الشيخ محمد علي التسخيري رئيس مجمع التقريب بين المذاهب وأهم رمز لمشروع الوحدة الإسلامية خلال أربعة عقود، ولطالما كان هذا الموضوع محور تداول مع سماحته (رحمه الله) خلال أسفارنا ومشاركاتنا في المؤتمرات الإسلامية العالمية، أو عند مراجعة سياسات مجلة رسالة التقريب التي ترأست تحريرها لفترة. وقد طرحتُ هذه الرؤية، بكل وضوح، في كلمتي في الاجتماع السني الشيعي الخاص في القاهرة في العام 2000، بحضور شيخ الأزهر ومفتي مصر ووزير الأوقاف المصري ومفتي عمان وغيرهم من قادة المذاهب الإسلامية. وكانت الكلمة تؤكد معاني وحدة الواقع، المتمثلة بالتعارف والتقارب والتعايش والشراكة والتحالف، خلافاً لشعار الوحدة الإسلامية غير الواقعي.

 

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment