رؤية إسلامية في استشراف المستقبل في حوار مع علي المؤمن

Last Updated: 2024/06/22By

رؤية إسلامية في استشراف المستقبل في حوار مع علي المؤمن

                                   حاوره: معروف عبد المجيد

(إعلامي من مصر)

إذاعة طهران، 1999 م

في برنامجه الاُسبوعي الإذاعي (تيارات فكرية) قدّم الأديب والإعلامي المصري معروف عبد المجيد، هذه السلسلة من الحوارات، حول مشروع علي المؤمن الفكري الخـاص بالدراسـات المستقبـلية وأسـلمتهـا، والتأسيس لمنهجية (المستقبلية الإسلامية) وقواعدها ومعالمها ومخرجاتها.

خلفيات الاهتمام بالمستقبل

    الإذاعة: ثمة أفكار تتردد في نطاق الساحة الثقافية، تحمل طابع التشاؤم حيال المستقبل الإسلامي، مما يشكل عائقاً ربما أمام عملية تكوين وعي بهذا المستقبل تعتمد الأُسس العلمية التي تهدف إلى بنائه بتواصل، وينبغي أن تتحرك بروح متفائلة ومتفتحة، سيما وأنّ الموضع يرتبط بحقل آخذ بالتشكل حديثاً في وسطنا الإسلامي. ما هو رأيكم في هذا المجال؟

    علي المؤمن: أعتقد أننا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أصبح لدينا لون جديد من الرؤية للمستقبل ولعملية النهوض الإسلامي عموماً. ويبدو أنّ النظرة التشاؤمية لا تتسم بالموضوعية، وتجانب الحقيقة، كما أنّ التفاؤل المفرط ليس بموضوعي أيضاً. وتبقى الرؤية المتوازنة التي تتحرك في دائرة النظرة العلمية التي تعتمد الأرقام، هي الأقرب للواقع ومعطياته.

إنّ مرحلتنا اليوم كمسلمين تختلف عن ظروف مطلع القرن العشرين. كما تختلف عن المرحلة التي يمر بها الغرب أو منظومة الشمال الآن. فمنظومة الشمال سبق وأن دخلت هذا العصر بقوة خلال القرنين الأخيرين، وبعد الحرب العالمية الأُولى راح الغرب يزداد تشبثاً بالعصر ومعطياته، حينها قرر ـ والقرار لم يكن سياسياً فقط، بل عبر جهود وتوجهات مراكز ومؤسسات بحث علمية خاصة وحكومية ـ أن يولي اهتماماً للتطلع إلى المستقبل واستشرافه والتخطيط له، وذلك في إطار توظيف الإنجازات التي حققوها، وتحويلها إلى قوة محركة ودينامية تنطلق بدول منظومة الشمال إلى المستقبل.

في تلك المرحلة كنا نحن منشغلين بمحاولة التخلص من آثار الاستعمار، والتخلف والماضي وبعض الموروثات التي تمثل معوقات للنهضة، في محاولة متعثرة وبطيئة لدخول العصر. أمّا الآن وبعد مرور أكثر من ثمانية عقود على تلك المحاولات، أعتقد أننا أصبحنا نعيش العصر، بمعنى أننا امتلكنا الوعي بالحاضر ومعطياته، وهو ما يشابه المرحلة الغربية بداية القرن، وعلينا الآن أن نتقدم خطوة أُخرى لنعي المستقبل ونستدعيه، وهذا ما تقرره الرؤية المتوازنة لمرحلتنا.

لقد تجاوز الغرب مرحلة الوعي بالمستقبل ومرحلة التعريف بالدراسات المستقبلية والدعوة إليها، تجاوزها إلى إقرار هذا الحقل في المواد الدراسية في الجامعات، وتحويلها إلى مراكز أبحاث تستخدم في عملية التحكم بالمستقبل، أي أنّ منظومة الشمال تعيش الآن المستقبل. في حين أنّ المسلمين يعيشون الآن العصر بشكل أو بآخر. ولذا يلزمنا أن نتقدم خطوة أُخرى إلى الأمام، من خلال وعي خطورة الدراسات المستقبلية وأهميتها وحقيقة أنّها تشكل رهان الأُمّة المصيري.

    الإذاعة: رغم ما حققه الغرب من تقدم في هذه الدائرة، إلّا أنّ رؤيته للمستقبل ظلت محكومة إلى حدّ كبير بالطابع المادي، بحيث ظهر ذلك في خطابه أيضاً، لكن الأمر يختلف فيما يرتبط بالرؤية والخطاب الإسلاميين؛ لأنّه يعتمد تصورات عقائدية وفكرية، يجد الجانب الروحي فيها موقعاً مهماً، ترى كيف يمكن أن نوظف ذلك لتحقيق الدور المناسب إزاء تحديات المستقبل؟

    علي المؤمن: الرؤية الغربية للمستقبل تستبطن خصائص البيئة الغربية التي أفرزت هذه المناهج والنظريات، تلك البيئة المنفصلة ـ في معظم قواعدها وأهدافها ـ عن السماء والغيب، إذ تسعى هذه الرؤية في إطار مرجعية مفتوحة إلى بناء المستقبل المادي الدنيوي الذي لا يرتبط بأهداف أُخروية. أمّا الرؤية الإسلامية، أو (المستقبلية الإسلامية)، كما نحاول أن نعبّر عن هذا المنهج، فهي تختلف جذرياً عن الرؤية الغربية، على مستوى المصادر والأُطر والمداخل المعرفية والأهداف، فنحن من خلال (المستقبلية الإسلامية) نطرح مجموعة قواعد أساسية تشكل النظرة الإسلامية للمستقبل، وتوظف معطيات الفكر والخطاب الإسلامي لتتجاوز اللحاظ الأُحادي الناقص للمنهج الغربي.

    الإذاعة: ما هي أبرز الأُسس التي تلحظونها في هذا السياق؟

    علي المؤمن: الأساس الأول هو أنّ رؤيتنا للمستقبل ـ كإسلاميين ـ تتحرك في إطار النظرة الكونية التوحيدية، التي تقرر أنّ الله سبحانه وتعالى هو المبدأ وهو المنتهى {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}، وهو ما يفرض أن يتم بناء المستقبل في إطار ما يريده الله سبحانه من استخلاف للإنسان وإعمار للأرض، وفي ضوء ضوابط ومحددات موقع الإنسان كخليفة لله تعالى في هذه الأرض، أي أنّ العملية الإسلامية في البناء النهضوي المستقبلي هي عملية كدح لتحقيق أهداف الرب الرحيم ولقائه.

الأساس الثاني يرتبط بمصادر التنظير والمرجعيات العلمية للمستقبلية الإسلامية، وهو ما يمثل جانباً مهماً من الاختلاف مع الرؤية الغربية، إذ نعتمد نحن على مصادرنا المقدسة: القرآن الكريم والصحيح من السنة الشريفة. فضلاً عن الاستفادة من تراثنا الإسلامي المعرفي في هذا المجال.

فالقرآن الكريم طرح رؤية واضحة جداً للمستقبل، من خلال الحديث عن السنن الإلهية التاريخية {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.

ومن خلال حث المسلمين على الاستعداد للمستقبل والاهتمام به والنظر للغد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}، والاستعداد {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، هذا الاستعداد هو نفسه استعداد للمستقبل، إضافة إلى الحديث عن الوعود الإلهية التي لا بدّ أن تحدث في المستقبل، كـ{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} وغيرها، كلها آيات حول المستقبل، وهي تشكل مصدراً أساسياً لتشكيل نظرية إسلامية.

إضافة إلى السنة الشريفة، فلدينا الكثير من القواعد التي تستند إليها نظرية (المستقبلية الإسلامية)، فسيرة النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، تؤكد أنّه كان يخطط باستمرار للمستقبل ويُعدّ البرامج للمستقبل ويستشرفه ويستشير أصحابه، من خلال الكثير من الأحداث التي مرت، ليس من منطلق النظرة الغيبية للمستقبل وحسب، بل عبر النظرة الواقعية له أيضاً، وبكلمة أدق: النظرة الواقعية المؤطرة بالغيب.

مثلاً عندما كان المسلمون يحفرون الخندق حول المدينة، كانت الشرارة تنطلق بعد ارتطام الفأس بالصخر فيكبر الرسول(ص) ويكبر بعده المسلمون، ويقول لهم لقد رأيت ملك فارس والروم واليمن وقد خضع للمسلمين، هذا في وقت كان الرسول مهدداً هو وأصحابه والمدينة مهددة أمام زحف المشركين. وكذلك خلال هجرته إلى المدينة حين وعد سراقة بأساور كسرى مقابل أن يتركه ليواصل هجرته، مما يدل على الرؤية المستقبلية العميقة التي كان الرسول(ص) يطرحها للمسلمين؛ كي يستثمروها في اكتشاف غدهم وبنائه.

    الإذاعة: السائد حول النظرة النبوية للمستقبل أنّها نظرة غيبية، يعني منبثقة عن العلم الإلهي للرسول(ص)، فكيف لنا أن نفكك بين الاثنتين.. بين النظرة الغيبية والنظرة الاستشرافية القائمة على الواقع المباشر؟

    علي المؤمن: طبعاً نظرة الرسول(ص) للمستقبل لا تخرج في خطوطها العامة عن دائرة الغيب، فهو هنا {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، ولكن في تفاصيل الواقع فإنّه كان يرسم للمسلمين نهجاً وخطاً يتبعوه أيضاً في رؤيتهم للتبصر بالمستقبل والإمساك به، هذا ما نفهمه من ظواهر الأُمور. فخلال الغزوات والحروب ـ مثلاً ـ وغيرها من الأحداث كان الرسول (ص) يستشرف المستقبل ويستعد له ويخطط لتفاصيله، بالأُسلوب والطريقة التي تكون واضحة ومفهومة عند المسلمين أيضاً، هذه القواعد التي وضعها الرسول (ص)؛ لكي يستفيد منها المسلمون في عصره، وهي قواعد أيضاً توجه نظرتنا إلى المستقبل ونظرة كل المسلمين في كل زمان. بلا شك أنّ الرسول في رؤيته يستبطن كل ما له علاقة بالغيب ومعرفته وإخبار الباري سبحانه وتعالى له، ولكن على مستوى معارفنا وما يمكن أن ندركه من تعامل الرسول مع هذه الأحداث، فإننا ننظر إلى ذلك من زاوية كونها أُموراً استشرف الرسول من خلالها المستقبل بمنهج يعتمد على التخطيط والبرمجة الهادفة. فصلح الحديبية ـ مثلاً ـ كان من أروع الأحداث التي تكشف عن تخطيط الرسول (ص) للمستقبل وعمق استشرافه له.

كذلك استشهاد الإمام الحسين (ع) وثورته، أنا أعتقد أنّ الإمام الحسين كان يفكر بالمستقبل أكثر مما يفكر بالحاضر وما تؤول إليه الأُمور بعد استشهاده وخلال واقعة كربلاء، كان (ع) يفكر لمئات من السنين القادمة، وللبرنامج الإسلامي المستقبلي. فالإمام الحسين من خلال ثورته ومحاولاته الإصلاحية ومحاولاته الثورية ومحاولاته لإسقاط السلطة أو انتزاع الشرعية منها، كان يفكر بمستقبل التعامل مع كل الحكومات الظالمة على مر العصور، أي أنّ الحسين(ع) استشرف المستقبل الإسلامي ومستقبل حكومة المسلمين، وقام بعمل لبناء مستقبل الأجيال القادمة.

    الإذاعة: تحدّثتم عن أساسين من الأُسس التي يُعتمد عليها في صياغة النظرية الإسلامية المستقبلية، هما النظرة الكونية التوحيدية ومصادر التنظير، هل هناك أُسس أُخرى؟

    علي المؤمن: نعم، الأساس الثالث هو أهداف وغايات النظرية الإسلامية، فأهداف المناهج الوضعية تتلخص في عملية البناء الدنيوي المنفصل عن العلاقة بالبناء الأُخروي، أي أنّ هذه المناهج تبني الدنيا للدنيا، في حين أنّ (المستقبلية الإسلامية) تحدد نفسها في جملة الأهداف التي رسمها الباري تعالى لحاضر الإنسان وغده، هذه الأهداف تتمثل في بناء الدنيا للآخرة، ولا نقصد بذلك ترك الدنيا وبنائها، وإنّما نقصد بناء الدنيا وإعمارها بمعنى تعبيد الطريق للآخرة، سواء كان هذا البناء معنوياً وروحياً أم مادياً؛ لأن القيام بدور الاستخلاف على أفضل وجه كما أراده سبحانه وتعالى والتمهيد لعصر العدل يتم في إطارين مادي وروحي، وحتى الإطار المادي.

اُسس منهجية المستقبلية الإسلامية

    الإذاعة: ونحن نتحدث حول النظرية الإسلامية المستقبلية أو (المستقبلية الإسلامية) كما تطرحونها، نجد أنّ ثمة إشكالية نظرية فيما يرتبط بكيفية توظيف مصادر التنظير الإسلامي ودلالاتها، على أساس من تنوع غايات التنظير، حيث إنّ هناك تبايناً بين مستويات التنظير الفقهي والعقائدي ذي الطابع الفلسفي، وكذلك في المعرفة الفلسفية والاجتماعية وسواها. السؤال هنا حول مدى صحة توظيف مناهج أُصول الفقه وسواه من الحقول القانونية والاعتبارية في مجالات تتوخى غايات ذات طابع حقيقي كما هو الشأن ـ مثلاً ـ في الدراسات المستقبلية؟

    علي المؤمن: هذه الإثارة ترتبط بمجمل العلوم، على اعتبار أنّ حقل المستقبليات حقل شامل واسع وتتنوع مداخله العلمية ومناهجه البحثية، لذا فإنّ الدراسات المستقبلية لا تخص علماً معيناً ولا تخص حقلاً معرفياً معيناً، بل تشتمل على جميع الحقول ذات العلاقة ببناء الحياة.

ومن هنا فنحن ننظر مرّة إلى حقل المستقبليات كوحدة واحدة وإطار واحد ونظرية واحدة، فلا بدّ أن توظف مناهج هذه العلوم على تنوع مناهجها في إطار منهج مركب، ونستنبط الإطار العام أو المنهج العام أو النظرية العامة لحقل المستقبليات، ومرة أُخرى نأخذ حقلاً أو فرعاً معيناً من المستقبليات، سواء كان فرعاً اجتماعياً أو سياسياً أو اقتصادياً، حينها يجب أن نعتمد المنهج الخاص لذلك العلم، على اعتبار أنّ المستقبليات تتفاعل مع أكثر من علم، ويستخدم فيها أكثر من منهج بحثي، بل وجدتُ علماء المستقبليات يشيرون إلى مناهج مركبة في عملية البحث، تلفق بين المنهج التجريبي والمنهج التاريخي والمنهج الفلسفي والمناهج التي تدخل في صياغة العلوم البحتة والتطبيقية، ومن خلال المنهج المركب نستطيع أن نستنبط منهجاً يقدم معالجات مناسبة لقضايا ومسائل هذا الحقل المعرفي المركب.

    الإذاعة: لي سؤال حول علم الفقه بالذات في هذا الموضوع؛ لأنّه ينظم شؤون الحياة، نجد أنّ الفقه الآن لم يتجاوز المسائل المستحدثة كما تسمى، وهذه المسائل مع أنّها تناولت ظواهر علمية كالاستنساخ مثلاً أو كيفية الصلاة على بعض الكواكب في الفضاء أو كيفية التعامل مع قضايا الإرث مثلاً في إطار تطبيقات الاستنساخ الجيني، غير أنّ هذه الأشياء ليست مستقبلية بقدر ما هي حاضرة. فنتساءل: هل يصح للفقه أساساً أن يتناول مسائل مستقبلية غيبية ويضع لنا أحكاماً فقهية، يُعتمد عليها كتكليف شرعي أم لا؟

    علي المؤمن: إذا نظرنا إلى حقيقة الفقه، سنرى أنّه يهدف إلى إخضاع الواقع للشريعة، بمعنى استيعاب جميع مجالات الحياة وإخضاعها للشريعة وإخضاعها لأُصول الإسلام، هذه وظيفة الفقه، التي تتناول قضايا الحاضر والمستقبل. وتناول الفقه لقضايا المستقبل ليس تجاوزاً للحاضر، ولا يعني وضع فرضيات وهمية، بل يعني استعداد الفقه للمستقبل، مثلاً تناول بعض قضايا المستقبل ـ كالتي أشرتم إليها ـ مثل الاستنساخ أو مسائل علم الجينيتيك أو البايولوجيا أو الانفورماتيك والفضاء والطب والاتصالات والتنمية والسكان وغيرها، هذه الحقول وضع متخصصوها مجموعة خطط للمستقبل، وفتحوا باب البحث على مصراعيه، طبعاً في بعضها فتحوا هذه الأبواب دون محددات أخلاقية أو محددات إنسانية، ليس فقط أنّهم تجاوزوا السماء وتجاوزوا التعاليم الإلهية، بل تجاوزوا حتى التعاليم الإنسانية الوضعية نفسها، وفي المستقبل مثلاً بعد 20 سنة أو 25 سنة سيقطف الإنسان ثمار هذه الخطط. وبعد 25 سنة ـ مثلاً ـ قد نجد أنّ الحياة مختلفة تماماً من خلال ما يقوم به علماء الحقول العلمية وغيرها.

الفقه يجب أن يستعد أيضاً لما بعد 25 سنة، أي للمعادلات التي سيفرزها علم الأحياء أو علم الهندسة الوراثية ـ مثلاً ـ والتي يحضِّر لها الآن علماء هذه الحقول وستظهر نتائجها بمرور الزمن، وعلى الفقه أن يجد لها حلولاً أو تكييفات أيضاً. وهذا يستدعي اطلاعاً كاملاً بالنسبة للفقهاء على التطورات اليومية التي تحدث، لكيلا نُصدم في المستقبل، ولكيلا يصيبنا الذهول من مضامين المستقبل وأشكاله. وهنا يقول الباحث المستقبلي “آلفين توفلر”: إنّ الإنسان الغربي يعيش في خضم التقدم التكنولوجي، إلّا أنّ عجلة التطور السريعة والمتغيرات الهائلة جداً التي يعيشها الإنسان ستعرِّض الإنسان الغربي إلى صدمة في المستقبل. هذا ما يحذر منه الغربيون، فكيف بنا نحن؟!

    الإذاعة: هل توجد خلفية ايديولوجية لهذا التطور؟

    علي المؤمن: المجتمع الذي لا يلاحق هذه التطورات ولا يلاحق هذه المتغيرات السريعة سيسحق مستقبلاً بعجلات هذا التطور؛ لأن تلك العجلات ستسحق أي مجتمع لا يلاحق ما يستجد من عملية التطور التكنولوجي الهائلة جداً، ولا أعني بالتكنولوجيا الصناعة فقط، بل على مستوى العلوم الحديثة، كعلوم الفضاء، المعلوماتية، الاتصالات والإعلام، المواصلات، الهندسة الوراثية، علم الأحياء، الطب، كل هذه العلوم تخطط للسعي إلى تطور مستقبلي، وإذا لاحظنا تطورات هذه العلوم وما تفرزها من معارف، فإنّها ستصدمنا بالمستقبل، وأرجو أن لا يعتبر البعض أني أتكلم بتشاؤم، فإذا لم تستوعب ميادين الفكر الإسلامي هذه المتغيرات، بمعنى عدم التحضير لما تفرزه هذه العلوم في المستقبل، فيسبب ذلك صدمة كبرى للأجيال القادمة، وستتساءل كثيراً عن حقيقة قابلية الشريعة على استيعاب متطلبات المستقبل؛ لأننا سنواجه فجأة بوجود تحول كبير جداً، مثلاً في علم الجينيتيك سنرى ربما الكثير من المجتمعات في الغرب تتجاوز عملية التناسل المتعارف، بعد إيجاد مكاتب وبنوك لعملية التناسل، فتأتي المرأة لتختار طفلاً لها، تختار لون عيونه أو لون البشرة، والميول النفسية والعلمية، الطول، الوزن، كل هذه الأُمور ستتحقق في المستقبل من خلال اختيار الإنسان للطفل الذي يريده، حتى على مستوى الميول.

نعم؛ سيكون للشخص تحقيق رغبته في أن يكون طفله ذا ميول فلسفية مثلاً، ذا ميول علمية، ذا ميول طبية، ذا ميول هندسية وكذا اختيار المشاعر كحالة الحب والبغض، وربما يعتبر البعض أنّ هذا تدخل في مشيئة الله سبحانه وتعالى، ولكن هذا علم، وإن كان علماً يحتمل أن تلابسه تطبيقات غير أخلاقية؛ لأنّه فتح الباب على مصراعيه للبحث دونما ضوابط.

 

    الإذاعة: لماذا تعتبر التعامل مع الواقع العلمي في العلوم التطبيقية أمراً غير أخلاقي؟

    علي المؤمن: أنا لا أعني ذلك في جميع مستويات استثماره وتوظيفاته، ولا أقول أنّ علوم الهندسة الوراثية أو البايولوجيا أو حتى غزو الفضاء أو وسائل الاتصال أو المعلوماتية علوم لا أخلاقية، ولكن أعني الحذر من فتح الباب على مصراعيه، وأن يكون هدف العلم ذاتياً (العلم للعلم) ولا يكون علماً غائياً يعنى بتحقيق غاية معينة هدفها إسعاد الإنسان وتحقيق المجتمع الأفضل. وهذا هو مظنة لوقوع ممارسات غير خاضعة للأخلاق.

فمثلاً إذا اختارت الأُم أو الأب ابنته أو ابنه بالتبني بهذا الشكل الفلاني أو المضمون الفلاني، أنا أعتقد أنّ هذا ممكن من ناحية الشكل، ولكن أنا أتحدث عن التجاوز العلمي للفطرة، فقد خلق الله سبحانه وتعالى الرجل وخلق المرأة وجعل التناسل والتكاثر وحدد المسار الطبيعي لهما، ولكن أن تكون هناك مختبرات وبنوك وانتقاء بويضة من امرأة أجنبية وحيمن من رجل أجنبي، ويأتي إنسان آخر غير هذا الرجل وغير تلك المرأة ويختار طفلاً معيناً له مواصفات معينة، ويتدخلون في اختيار جيناته، هذه العملية اللاأخلاقية هي التي تتجاوز تعاليم السماء، وهي التي تتجاوز حتى القيم الأرضية.

فهذا الطفل ابن من؟! هل هو ابن المرأة صاحبة البيضة، أم ابن الرجل صاحب الحيمن، أو ابن هذا الذي ساهم في عملية بنائه وتكوينه، أم الذي تبناه؟!

هنا يأتي دور الفقه ليقول كلمة الفصل. ولا نتصور أنّ هذه العملية ستكون بمنأى عن مجتمعاتنا الإسلامية، لا يمكن هذا، وإذا لم نرض بمفهوم القرية العالمية الواحدة، فيجب أن نتحدث مستقبلاً عن البيت العالمي الواحد الذي طرحناه في إطار بحث أهمية المستقبلية الإسلامية؛ البيت الواحد الذي تكون الشعوب كلها داخله، ولن تكون بمنأى عن أي تأثير لعملية استيعاب هذه المتغيرات وملاحقة هذه التطورات والاطلاع عليها. حتى عملية الاستنساخ لا بدّ من بحثها بشكل متأنٍ دقيق؛ لأن الكثير من علماء البايولوجيا يعتبرون الاستنساخ خيار البشرية في المستقبل، وهذا خطير جداً.

وأكرر هذه الكلمة: نحن لن نكون بمعزل عن هذا التطور. أتذكر في نهاية السبعينات أنّهم كانوا يتحدثون عن أطفال الأنابيب، فكثيرون قالوا إننا سنكون بمعزل عنها، ولكن سرعان ما راحت مجتمعاتنا تستفيد من هذه التقنية الطبية، فاضطر الفقه لأن يتجاوب معها ويبحثها. أنا أدعو لأن نسبق الأحداث ونستبق الزمن لنعالج حاضرنا.. نعالج مستقبلنا، لكيلا نصدم من خلال الاطلاع، ومن خلال استيعاب الفقه والفكر الإسلامي لهذه الأُمور.

    الإذاعة: إذن، يمكن أن نقول إنّ الفقه يقف الآن على مفترق طرق، بصفته مسؤولاً عن تنظيم شؤون الحياة، ومعالجة مستجدات الواقع كالظواهر والتقنيات العلمية التي يتواصل استحداثها، كظاهرة الاستنساخ الجيني، مما يوجب على علم الفقه أن يتحلى بالواقعية، إذ قد تؤدي الرؤية غير الواقعية للأشياء إلى إصدار أحكام تحريمية بشأنها. ترى هل هناك معايير تحفظ للرؤية الفقهية توازنها، وتوجِد آلية تفاعل معتدل بين الرأي الفقهي وواقع العلوم الطبيعية على مستويات إنجازاتها المختلفة؟

    علي المؤمن: هذا الموضوع طويل وعميق ومتشعب، أُشير إلى بعض المفردات التي لها علاقة بالتحول في الفقه الحاصل حالياً، مثلاً على مستوى الجمهورية الإسلامية تم تشكيل مجموعة لجان فقهية على مستوى الحوزة العلمية في قم أو على مستوى بعض المؤسسات الفكرية والفقهية، تم تأسيس لجان لمتابعة بعض هذه المستجدات، ونعتقد أنّ هذه خطوة رائدة ومتقدمة أيضاً. وحتى خارج الجمهورية الإسلامية هناك مجهود عام متمثل بمجمع الفقه الإسلامي في جدة التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي. هذا المجمع فيه خبراء من حوالي 49 دولة إسلامية، الهم الأكبر لهذا المجمع هو ملاحقة التطورات وبحث المستجدات في المعارف والعلوم الإنسانية والتطبيقية، فبحثوا في مختلف الموضوعات مثلاً في موضوع المعلوماتية وموضوع الاستنساخ وزرع الأعضاء وغيرها من الأُمور ذات العلاقة بالتطور العلمي.

    الإذاعة: هناك موضوعات لعلها لم تبحث بعد، مثل موضوع الزواج عن طريق الانترنيت.

    علي المؤمن: هذه الأُمور نوقشت أيضاً بواسطة الهاتف (التلفون)، إذ تؤخذ الموافقة من الزوج أو الزوجة ويتم العقد من قبل وكيل الطرفين من خلال الهاتف، أيضاً طرحت الخطبة والعقد عبر الانترنيت، والشاهد يتوفر على الانترنيت أيضاً. وليس المهم هنا أن يقال إنّ هذا حلال وهذا حرام، بل المهم عملية استيعاب الفكرة نفسها، لكيلا نصدم الأجيال، ولكي نثبت للأجيال القادمة أنّ الشريعة قادرة فعلاً على استيعاب الواقع وسرعة متغيراته، وأنّ الإسلام يستوعب كل متطلبات الحاضر والمستقبل. ولكن يجب أن يكون هذا الأمر عملياً من خلال مبادرات مفكرينا وجهود فقهائنا وعلماء الشريعة، وهذا طبعاً منوط بالاتجاه التأسيسي الكفيل بملء الفراغات الموجودة في الواقع أو التي ستستجد في المستقبل.

الحاجة إلى دراسة المستقبل

    الإذاعة: لا زلنا نتحدث حول الماضي ونعيش الحاضر، الذي لم نستوعبه بعد بالشكل الكافي، فما هي الحاجة ـ إذاً ـ إلى دراسة المستقبل؟ وما هي الحاجة، أساساً، إلى أن يكون هناك حقل علمي باسم الدراسات المستقبلية؟

    علي المؤمن: يبدو أنّ الحاجة إلى دراسة المستقبل حاجة فطرية للإنسان، فمنذ أن وجد على الأرض، ظل المستقبل بالنسبة إليه هاجساً يرافقه في رحلة الحياة، لما ينطوي عليه من رهان مصيري على البقاء والاستمرار. وظل هذا الرهان يستبطن مشاعر متناقضة من الأمل والطموح والخوف والتشاؤم، ومن أجل مواجهة هذه المشاعر عمد الإنسان إلى محاولة اكتشاف المستقبل بمناهج ابتكرها، بدءاً بالتأمل والتنجيم وانتهاءً بالتنبؤ والعِرَافة.

والأديان السماوية الأُولى، كانت ـ عموماً ـ تسعى لصرف أنظار الإنسان عن المناهج الخرافية في معرفة المستقبل، فوضعت له منهجاً يربط المستقبل بالغيب. إذن، فالحاجة إلى دراسة المستقبل حاجة قديمة بدأت منذ بدء حياة الإنسان على هذا الكوكب، فبدأ الإنسان يحاول استشراف المستقبل من أجل مواجهة ما سيحدث فيه، أو مواجهة الصدمات التي ستحدث له في المستقبل، فحاول اكتشاف هذا المستقبل والاستعداد له من أجل أن يؤمّن حياته المستقبلية ويضمن بقاءه واستمراره. هذه الحاجة الفطرية استمرت أيضاً، واستمر معها اكتشاف المزيد من المناهج لمعرفة أفضل الطرق للمستقبل.

وللمستقبل علاقة وثيقة بالماضي، وعلاقة وثيقة بالحاضر، فدراسة المستقبل التي هي دراسة لمطلقات الماضي، ودراسة للواقع المعاش (الحاضر)، ليست منفصلة بتاتاً عن دراسة الماضي، حتى إنّ معظم المناهج الحديثة في الدراسات المستقبلية، أي المناهج العلمية التي لا تدرس المستقبل بشكل مفرغ ومجرد، تقول إنّ من أجل معرفة أفضل للتاريخ، ومن أجل معرفة أفضل للحاضر لا بدّ من دراسة المستقبل، وعد المستقبل جزءاً من التاريخ، الذي هو تاريخ المستقبل، وعدَّ بعضهم استشراف المستقبل عملية تأريخ للمستقبل أو (تاريخ المستقبل)، فالحاجة إذاً حاجة مصيرية، ولها علاقة بمصير الإنسان، وهي رهان للتحكم بالمستقبل والاستعداد له، وتنطلق من فهم أفضل لحقائق التاريخ، والاعتبار بما جرى فيه، ومحاولة اكتشاف فلسفته، من أجل معرفة أسباب أُفول وانحطاط المدنيات والحضارات.

    الإذاعة: كما أوضحتم الآن، يبدو أنّ الكثير من العلوم هي في الواقع وليدة الماضي، بل نشأت مع نشأة الخلق، مثلاً علم النقد الأدبي والفني يعود إلى عصور متقدمة جداً من التاريخ، ولكن عندما صار النقد علماً وأصبحت له مناهج، استغرق هذا وقتاً طويلاً. بالنسبة لعلم دراسات المستقبل أو المستقبليات، متى تبلور في الواقع؟ ومتى أصبحت له دراسات مؤسساتية؟ ومتى أصبحت له أقسام أكاديمية في الجامعات وفي الأكاديميات المختلفة؟

    علي المؤمن: حقيقة الأمر أنّ تسمية هذا الحقل من الدراسات بـ(العلم) ظلت هذه التسمية محور جدل ونقاش بين علماء المستقبل وخبراء الدراسات المستقبلية، فهناك من يدعو إلى تسمية هذا الحقل بالعلم (Futurology)، وهناك من يدعو إلى تسميته بالمستقبلية (Futurism)، أو الدراسات المستقبلية، أو دراسات المستقبل (Future studies). عموماً هناك إشكالية حول هذه التسمية، ولكن بشكل عام فإنّ هذه الدراسات قد تبلورت في مجموعة حقول ومجموعة علوم، وتدرّس في الجامعات، وهناك مؤسسات كبرى متخصصة في هذا المجال، بل إنّ معظم المؤسسات ـ حتى المؤسسات الاقتصادية ومراكز البحوث ـ أصبحت تهتم اهتماماً كبيراً بهذا الحقل، وتعتبره رهان التحكم بالمستقبل في كل المجالات، بل وتعتبره نقطة و(محوراً) للسيطرة، أو آلية لها في المستقبل في كل المجالات، فالمناهج والأدوات العلمية المستخدمة في عملية الاستشراف الحديثة التي أعقبت المناهج الابتدائية كما نسميها، كالتنبؤ مثلاً والتوقّع والتنجيم والتكهّن، ظهرت في الواقع بشكلها الحديث بعد عصر النهضة الأُوروبية، وإن كان العلماء المسلمون من السلف حاولوا أن يؤسسوا لهذا العلم بشكل أو بآخر، يعني ليس بصيغته المنهجية العلمية الحالية، ولكن يمكن القول: إنّ تأسيس هذا العلم يعود إلى عصور قديمة، والذي كان له فضل استنباطه هم مجموعة من العلماء المسلمين، كابن خلدون في مقدمته المعروفة، الذي تحدث فيها بشكل علمي عن المستقبل، وساهم في بلورة حقل واسع في هذا المجال، وأصّل لمعادلات تختص بدراسة المستقبل، وعلاقة المستقبل بالماضي والحاضر، أي أنّ آراءه في موضوع أُفول الحضارات والمدنيات وصعودهما وعلل ذلك وغيرها من الآراء التي تدخل في إطار فلسفة التاريخ، لها علاقة وثيقة بفلسفة الدراسات المستقبلية.

أمّا التأسيس الحديث فيمكن القول: إنّه جاء في بدايته بعد عصر النهضة الأُوروبية، أي في حدود القرن الثامن عشر الميلادي، وابتدأ بمجموعة من الروايات الخيالية، فقد بدأ هذا الحقل في أُوروبا بداية أدبية، وروايات الخيال العملي التي بدأت في تلك الفترة، وكان معظمها يدور خارج إطار المناهج العلمية الحديثة المتعارفة، وتدور حول الخيال والسيناريوهات والتنبؤات.

وبشكل عام فإنّ المناهج الحديثة والأدوات العلمية المستخدمة في عملية الاستشراف كما ذكرنا تستبعد جميع الوسائل التي تنظر للمستقبل نظرة خرافية، خاصة بعد التحديات التي واجهتها البشرية، من التغيرات المتوالدة والاكتشافات والاختراعات الكبرى في تلك الفترة، ابتداءً من اختراع محركات البخار والديزل ونحو ذلك…، فمجمل العلوم التكنولوجية، والمتغيرات الاجتماعية والعلمية السريعة ظلت تشكل تحدياً كبيراً للبشرية، فبات واجباً على العلماء في تلك الفترة أن يؤسسوا لحقل يستطيعون من خلاله المحافظة على الانجازات القائمة ومحاولة تطويرها، ومحاولة معرفة واقع هذه التحديات في المستقبل، فبرزت مجموعة من الدراسات، ولا سيما خلال القرن التاسع عشر، تؤسس بشكل ابتدائي لهذا الحقل.

ولكن يمكن القول: إنّ التأسيس الحقيقي للدراسات المستقبلية كان في بداية القرن العشرين، وتحديداً في عام 1902م حين صدرت بعض الدراسات في الغرب حول (اليوتوبيا)، في محاولة للحديث عن مجتمع مثالي في المستقبل، ومحاولة رسم الخطوط العامة لهذا المجتمع المثالي، وكيفية الوصول إلى هذا المجتمع، ثم تطورت هذه الدراسات من (اليوتوبيا) إلى محاولة دراسة المستقبل دراسة واقعية، أي ليس مجرد الحديث عن مجتمع مثالي في المستقبل يشبه ما كتب الفلاسفة من قبل، مثل جمهورية أفلاطون أو المدينة الفاضلة للفارابي، وما جاء بعدها من روايات وآراء ذات علاقة ببناء المجتمع الأفضل أو الأمثل، ثم أصبحت الدراسات ذات طابع علمي بعد كارثة الحرب العالمية الأُولى والصدمات الهائلة التي واجهتها البشرية ولا سيما في الغرب. فبرز هذا الحقل منذ بدايته بهدف السيطرة والتحكم بالمستقبل. وقد بدأت القوى الاستعمارية في ذلك الوقت، ولا سيما فرنسا وبريطانيا، عملية التأسيس لهذا الحقل من الدراسات، من أجل الاستمرار في سيطرتها على مستعمراتها، ومن أجل بناء مستقبل أفضل للواقع.

    الإذاعة: إذن، هناك خبرة إنسانية متراكمة تقريباً في مجال علم المستقبل أو المستقبليات كما أشرتم، ولا يعرفها إلّا القليل، فما هي محصلة هذه الخبرات ومعطياتها حتى الآن؟

    علي المؤمن: الخبرة الإنسانية في هذا الحقل أصبحت واسعة جداً، فالمؤسسات التي لها علاقة بهذا الموضوع انتشرت في كل زاوية من زوايا الحياة، في كل مصنع، وفي كل شركة ومؤسسة ووزارة، ولدى الأحزاب السياسية، والتجمعات الاقتصادية، ومراكز البحوث الاجتماعية والإنسانية، ومراكز بحوث العلوم التطبيقية، وفي الجامعات. وأصبحت هذه المؤسسات بشكل عام تراهن على هذا الحقل من الدراسات. وأُشير هنا إلى نموذج واحد، ففي السويد ـ مثلاً ـ تم تشكيل أمانة وزارية عام 1973م، في عضويتها مجموعة من الوزراء ومجموعة كبيرة من الخبراء، سميت (أمانة الدراسات المستقبلية)، أو (أمانة المستقبل)، وهي تابعة لرئاسة الوزراء، ومهمتها القيام بمحاولة استشراف المستقبل والقيام بالدراسات المستقبلية، وهي في الحقيقة ليست وزارة وإنّما لجنة وزارية، وقد طرحت ـ آنذاك ـ فكرة تحويل هذه الأمانة إلى وزارة، ولكن ارتأت الحكومة السويدية توسيع المشروع ليضم مجموعة من الوزارات مثل الاقتصاد، والبحث العلمي والتعليم العالي، والتخطيط. وأذكر مثالاً آخر أيضاً على اهتمام الغرب الواسع جداً بالدراسات المستقبلية، فقد خصصت شركة (مرسيدس) للسيارات ميزانية سنوية، بلغت عام 2000م قرابة عشرة ملايين مارك لبحوث المستقبل والدراسات المستقبلية، ووظفت عدداً كبيراً جداً من الشباب من أجل محاولة اكتشاف المستقبل، فيما يرتبط بالمجال السياسي والاقتصادي ومختلف مجالات الحياة، وقد قدموا خططاً لما بعد 25 عاماً، من أجل إيجاد موقع أفضل لهذه الشركة في المستقبل. ويعرف الجميع أنّ مرسيدس بنز هي شركة سيارات وقد دفعها اهتمامها في التحكم بالمستقبل إلى استثمار هذا الحقل بشكل واسع، فكيف ـ إذاً ـ بمراكز البحوث الاجتماعية وعلماء الطبيعيات وفلاسفة التاريخ.

حالياً هناك حوالي أكثر من (1000) مؤسسة في الولايات المتحدة الأمريكية تعنى بدراسة المستقبل، وقد عقدت الكثير من المؤتمرات والندوات الدولية في هذا الحقل. ولا توجد مؤسسة أو شركة أو مصنع أو مركز بحوث إلّا وكان فيه حيز كبير يهتم بالدراسات المستقبلية. مثلاً هناك جمعية تسمى (جمعية مستقبل العالم)، هذه الجمعية فيها في الوقت الحاضر ما يقرب من (80) ألف عضو بين خبير وعالم وباحث، منتشرين في مختلف دول العالم، وفيها ما يقرب من (80) فرعاً في مختلف أنحاء العالم، فهي جمعية فاعلة جداً، إضافة إلى مئات مراكز الأبحاث الأُخر المتخصصة.

    الإذاعة: لا يُستبعد أن يكون مشروع العولمة هو من نتاج هذه الأبحاث حول المستقبل إن لم نكن مخطئين في هذا الاستنتاج؟

    علي المؤمن: دون ما شك فإنّ العولمة وغيرها من المنظومات الفكرية والتطبيقية الواردة من الغرب، هدفها السيطرة، وبما أنّ هذا الحقل من الدراسات في الغرب هدفه التحكم والسيطرة بالمستقبل، فإنّ العولمة هي آلية وأداة من أدوات السيطرة أيضاً، وإذا سنحت الفرصة في المستقبل نستطيع أن نشرح هذه المفردة بشكل أكبر إن شاء الله.

منهجية المستقبلية الإسلامية

    الإذاعة: منذ أن جاء الإسلام، ومنذ اللحظات الأُولى لبث تعاليمه، أعلن أنّه دين عالمي، ونجد أنّ السورة الأُولى من القرآن الكريم تؤكد هذه النقطة وأنّ الإسلام هو أولاً دين خاتم، وثانياً دين لا يقتصر على قبيلة أو عشيرة أو منطقة معينة، بل هو للناس كافة. ومن هنا أخذ الإسلام على عاتقه مسؤولية الاهتمام بالمستقبل، وبالتالي كان لا بدّ من وضع نظريات، وطرح آليات تبني المستقبل، وتؤسس لحضارة قادمة عالمية. نود أن نتعرف: أولاً، على طبيعة دراسة المستقبل الإسلامي، وموقعها من الدراسات المستقبلية، كاتجاه عالمي؟

    علي المؤمن: الإسلام دين عالمي، دين لكل البشرية، وهو دين العلم ودين المعرفة العلمية أيضاً؛ فقد جاء الإسلام، والبشرية تعيش في حالة من الذهول حيال المستقبل، حالة من الإبهام والخوف من المستقبل. وكانت البشرية قد أسست لنفسها مناهج فيها الكثير من التشاؤم حيال المستقبل، كمناهج التنجيم والتكهّن وغيرهما. في حين جاء الإسلام، الدين الخاتم، ليفيض على البشرية بنعمة التكامل في النظرية والعمل، وليمنح الإنسان رؤية صادقة في استشراف المستقبل، ويدفعه نحوها في إطار بناء مستقبل مشرق للبشرية، والكدح لملاقات الرب الرحيم.

فلذا، نجد أنّ النظرية الإسلامية في هذا المجال تختلف كثيراً عن المناهج التي سبقت الإسلام، وحاول الإسلام أن يحول دون استمرار البشرية في ممارسة تلك المناهج. بل إنّ النظرية الإسلامية تختلف عن المناهج الوضعية الحديثة أيضاً، فيما يتعلق بوجود مستقبل واضح للإسلام، ووجود وعود إلهية واضحة، ووجود مناهج ومعادلات ذكرها القرآن الكريم وذكرتها السنّة الشريفة، فيما يتعلق بسهولة اكتشاف المستقبل. ويمكن للنظرية الإسلامية استشراف المستقبل استشرافاً لصيقاً بالواقع أكثر من المناهج الوضعية الحديثة، أو المناهج القديمة.

وكما تعرفون فإنّ هنالك العديد من التحديات الكبرى التي تواجه البشرية على مستوى الفكر والواقع، وتسارع الأحداث، وتراكم المتغيرات، والطفرات المتلاحقة في مجالات العلم والتكنولوجيا، ورغبة التفوق من المستعمرين، سواء من ذوي الاستعمار السياسي، أو الاستعمار الثقافي أو الاستعمار الفكري أو حتى الاستعمار المنهجي، في مصادرة كل شيء في المستقبل.

إنّ هذه التحديات بالنسبة للمسلمين ستأخذ بعداً أعظم، وستأخذ شكلاً آخر مختلفاً خلال العقود التي ستتوسط القرن الخامس عشر الهجري، والعقود الأُولى من القرن الواحد والعشرين. وقد ذكرنا في خطة عمل المركز بأنّ ضغوط هذه التحديات الحادة سوف لن تتجاوز المتخلفين والمتفرجين، بل، للأسف، ستسحقهم بعجلاتها الرهيبة، أو تمسخ هويتهم، أو تتركهم، في أفضل الحالات، يعيشون ذهولاً مستمراً مما يحدث. ويعبّر هذا عن حالة مأساوية لا زلنا نعيشها، وهي لا تلتقي مع حث الإسلام على الاهتمام بالمستقبل والاستعداد له، بما أعطانا من المعادلات والمناهج التي نستطيع من خلالها ضمان مستقبل علمي زاهر.

 

    الإذاعة: على وفق الواقع، يبدو أنّ دراسات المستقبل الإسلامي ما زالت وليدة، وما زالت متواضعة، إذا قيست وقورنت بخبرات (الآخر) في هذا المجال. رغم أنّ الإسلام، كما أوضحتم، والقرآن الكريم، وضعا وأسسا لنظرية دراسة المستقبل منذ قرون طويلة. والآن فالمركز الإسلامي للدراسات المستقبلية الذي تحملون على كاهلكم عبء إدارته، يمثل خطوة ريادية في هذا المجال، ويهمنا أن نتعرف على هيكلية هذا المركز، وآلياته وأُسلوب عمله، وأهدافه التي أُسس من أجلها؟

    علي المؤمن: في واقع الأمر، إنّ تأسيس المركز يأتي محاولة لملء الفراغ القائم في مجال الدراسات المستقبلية، والإسهام بتأسيس حقل دراسات إسلامي في هذا المجال، إذ إنّ الخبرة الإسلامية ما زالت، على مستوى النظرية والتطبيق، متواضعة عموماً، وقد سبق تأسيس هذا المركز محاولات جادة، إذ تأسست بعض المراكز في مصر والجزائر وفي اليمن وفي إيران أيضاً، وفي لبنان هناك بعض المبادرات الفردية لبعض المراكز التي قامت بدور في هذا المجال، ولكن وبشكل عام فإنّ الخبرة الإسلامية لا زالت متواضعة.

وتأسيساً على ذلك استشعرنا ضرورة الحديث عن القيام بمشروع متخصص يمارس مهمة البحث في حقل الدراسات المستقبلية بشكل عام، والمستقبلية الإسلامية بشكل خاص. فمشروعنا هذا يستشعر المسؤولية ويدرك أهمية الموقع المصيري الذي تحظى به علوم المستقبليات والدراسات المستقبلية، خاصة في الوقت الحاضر، إذ إنّ قطاعات واسعة من البشرية أصبحت تفكر بعقلية الألفية الثالثة للميلاد، فيما نرى قطاعات واسعة من المسلمين لا زالت تفكر بعقلية الماضي، بل وتعيش الماضي بكل تفاصيله، في حين أنّ الماضي يجب أن يكون منطلقاً للمستقبل، بل يجب أن يكون المستقبل امتداداً للماضي، ولا يعني هذا الاقتصار على أن نعيش التاريخ ونتحدث عنه، بل ننطلق منه لضمان أفضل مستقبل إسلامي لنا ولعموم البشرية.

    الإذاعة: يبدو أنّ هناك إشكالية في استعمال مصطلح (المستقبلية)، فمصطلح (Futurology) يختلف عن مصطلح (Futurism) في التسمية، فأي التسميتين اخترتم؟

    علي المؤمن: في الحقيقة أنّ تسمية (Futurism) تعني (المستقبلية)، أي النزعة المستقبلية، والمراد منها النزوع لدراسة المستقبل ومحاولة اكتشافه، يعني هو نزوع مستقبلي يخضع لمعادلات ومناهج لها علاقة باكتشاف المستقبل، ولكنه ليس علماً. وهذه التسميات ظلت محل نقاش وحوار بين الخبراء المتخصصين في الدراسات المستقبلية. وفي وسطنا الإسلامي هناك مجموعة من الخبراء والمهتمين تداولوا هذا الموضوع وناقشوه. وأعتقد بشكل عام أنّ مصطلح المستقبلية أو (Islamic Futurism) هو أقرب تسمية لهذا الحقل؛ لعدة اعتبارات عقائدية وعلمية.

بشكل عام فإنّ مركزنا هو مشروع تأسيسي، وفكرة إستراتيجية، هدفها بشكل مجمل خلق وعي إسلامي بالمستقبل، ومحاولة استفزاز للواقع، ففي إطار هذا المركز نحاول استفزاز العناصر الفاعلة في مجتمعنا، من باحثين ومفكرين، بغية دفعهم للاهتمام بالمستقبل من خلال مختلف الوسائل التي سنقوم باستخدامها إن شاء الله.

وقد انبثق المركز في الأشهر الأخيرة من عام 1999 م، رغم كونه فكرة قديمة تعود إلى عدة سنوات سابقة. وقد كتبنا في عدة مناسبات حول هذا الموضوع، وبالأخص في مجلة التوحيد عندما كنت أترأس تحريرها، كتبت افتتاحيات، ودعوت للاهتمام بهذا الحقل. إنّ مركزنا، بالرغم من كل التحضيرات التي تمت له، لا يزعم أنّ مشروعه قادر لوحده على تحقيق الأهداف التي رسمتها ورقة العمل أو النظام الداخلي، أو تحديد جدول زمني لتنفيذها.

عموماً؛ فنحن وفي جوابنا لكل الإخوة الذين كانت لديهم أسئلة حول المشروع وخطته، رفعنا شعار أنّ هذا المركز هو نداء في فضاء المعرفة الإسلامية، وصرخة نطلقها في فضاء الفكر الإسلامي، ويبقى أنّ تنفيذ أهدافه وورقة عمله، هي مهمة كل الذين بإمكانهم المساهمة في ذلك. فنحن لا نشترط إزاء تنفيذ ورقة العمل أن تكون في إطار المركز، بل هي لكل المؤسسات والعاملين الذين بإمكانهم أن يقوموا بدور في هذا المجال، من خلالهم ومن خلال المركز أن نساهم في تأسيس منهجية إسلامية في دراسة المستقبل، والتي أطلقنا عليها (المستقبلية الإسلامية).

    الإذاعة: إذن، هذا المركز ـ في الواقع ـ يحمل على عاتقه مسؤولية كبرى تجاه المستقبل الإسلامي. وانطلاقاً من هذه الخطورة ومن هذه الأهمية، ما هي الأهداف الأساسية التي وضعها المركز نصب عينيه في ورقة العمل؟

    علي المؤمن: أُعيد القول بأنّ هذا المركز لا يستطيع بمفرده القيام بكل ما طرحه من أفكار، أو تحقيق أهدافه أو تطبيق ورقة العمل نفسها، وأُكرر أنّ المشروع نداء في فضاء المعرفة الإسلامية، وصرخة في أجواء الفكر الإسلامي، ومن خلاله ندعو الجميع للتعرف على خطورة حقل الدراسات المستقبلية وأهميتها، وعموماً وضعنا مجموعة من الأهداف لهذا المركز، تتلخص فيما يلي:

أولاً: نشر الوعي بالمستقبل وقضاياه في الوسط الإسلامي، ولا سيما على مستوى الشرائح المثقفة، والسعي لتحويل هذا الوعي إلى رأي عام يجد له صدى في وسائل الإعلام والمؤسسات البحثية والثقافية.

ثانياً: المساهمة في بلورة نظرية إسلامية في دراسة المستقبل، تعتمد المصادر الإسلامية المقدسة والمعارف الإسلامية في مناهجها وبنائها، والتعرف على الخبرة البشرية في هذا المجال بعد دراسة مبادئ النظريات المستقبلية ومناهجها وأنماطها ونماذجها فيما يتعلق بالخبرة الإنسانية كرصيد معرفي. إذ يمكن الاستفادة من العامل المشترك فيه، أي المساحات التي لا تتقاطع مع النظرية الإسلامية.

ثالثاً: العمل على إعداد الطاقات والقابليات في مجال الكتابة والبحث في حقل الدراسات المستقبلية، ودفعها باتجاه الممارسة الدائمة من النشاط البحثي في هذا الحقل.

رابعاً: المساهمة في استشراف المستقبل الإسلامي على المستوى التطبيقي، وفي المجالات ذات الصلة كافة: التنموية ـ الثقافية ـ السياسية ـ الاقتصادية ـ العسكرية ـ الإستراتيجية ـ الاجتماعية. على مختلف المستويات الإقليمية والعالمية، من خلال طرح الرؤى والأفكار والبحوث في المجالات المذكورة.

خامساً: المساهمة في معالجة القضايا الإشكالية والملحة في الفكر والواقع الإسلامي المعاصر، بغية الانطلاق منها ودفعها نحو بناء فكر إسلامي مستقبلي. وقد عمدنا إلى وضع بعض الوسائل في هذا المجال من أجل تحقيق هذه الأهداف، من جملتها وضع دراسات تعالج قضايا الفكر الإسلامي المعاصر والمستقبلي، وقضايا المستقبل الإسلامي بشكل عام على مستوى النظرية والاستشراف التطبيقي، ونشر هذه الدراسات في المجلات والكتب التي يصدرها المركز، مثل «مجلة المستقبلية»، ونشرة «اتجاهات مستقبلية»، وكتاب المستقبل الشهري، إضافة إلى مجموعة من الإصدارات من الكتب المنوعة. وحث العلماء والمفكرين والباحثين والكتاب، من خلال الاستكتاب، للمساهمة في دراسة قضايا المستقبل الإسلامي وتبنيها بالوسائل التي يقترحها المركز. وكذلك إقامة الندوات والحلقات والدورات التدريبية، وغيرها من الوسائل.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment