دعاية المنظومة الطائفية في واقع المسلمين الجديد

Last Updated: 2024/06/09By

دعاية المنظومة الطائفية في واقع المسلمين الجديد

د. علي المؤمن

 

مركزية الدعاية في المنظومة الطائفية

تلعب وسائل الإعلام والدعاية الطائفية، الدور الأكثر وضوحاً في الفتنة والشقاق والصراع الطائفي؛ فهي الجزء الطافي من جيل الجليد لحراك المنظومة الطائفية، وهذا الدور ليس جديداً على الواقع الإسلامي، وليس ابن عصر الإعلام الحديث والمعلوماتية، بل هو قديم قدم وجود المنظومة الطائفية في الواقع الإسلامي؛ إذ كان يمارسه في التاريخ الإسلامي الرواة والمحدّثون الوضّاعون، والمؤرخون المحرّفون، وخطباء السلطة وشعراؤها(1). ورغم أن الدعاية الطائفية باتت تُمارس بوسائل متطورة جداً، تنسجم مع تطور العصر وأدواته، إلّا أن أهدافها لا تزال نفسها تقريباً، ويقف في مقدمتها تحريف حقائق المذاهب ورموزها، وتحويل الخلافات بين المسلمين الى صراعات سياسية ودموية، ودعم مخططات تمزيق نسيج المسلمين.

ويعبِّر الإعلام والدعاية الطائفيَّين اليوم عن حجم الغزو الطائفي الرهيب الذي تمارسه المنظومة الطائفية المعاصرة، ولاسيما تلك التي تختبئ وراء الشعارات الإسلامية، من أجل إخفاء حقيقة أهدافها، ومنها الإعلام الذي يمثل أنظمة سياسية ترفع شعارات إسلامية، وعلماء دين، وحركات إسلامية معروفة وشخصيات علمية حركية، وهي من حيث أدائها هذا الدور؛ إمّا أنها تجهل مآلات الفتنة الطائفية؛ فتساهم فيها دون وعي، أو أنها تمالئ الحكام لظرف مالي أو سياسي، أو أنها تعبّر عن حقيقة موقفها الطائفي.

ومن أبرز الأساليب التي تعمد إليها وسائل الدعاية والإعلام هذه، سواء تمثّلت في كتب أو صحافة أو منشورات أو إذاعة وتلفزيون وسينما، أو ندوات ومؤتمرات ومحاضرات، أو وسائل التواصل الاجتماعي، هو التحريف والتشويه والتغطية والاختلاق، عبر قلب صورة الواقع، أو اجترار الماضي والتجديد فيه، بحثاً عن أفكار تقليدية، يقف التكفير في مقدمتها؛ فخلال عقد الثمانينات من القرن الماضي، ثم في العقدين الأول والثاني من القرن الحالي، صدر في عدد من البلدان المسلمة، وخاصة السعودية والعراق وباكستان وأفغانستان ومصر، مئات البيانات والفتاوي التي كفّرت الشيعة، في أئمتهم ورموزهم وعقائدهم وفقههم وتاريخهم وتحركم السياسي وعلاقاتهم الاجتماعية، كما صدرت فتاوى مماثلة تكفر أهل السنة من قبل جماعات وهابية، مسلحة وغير مسلحة.

وقد بدأت موجة الدعاية الطائفية الجديدة، مع تأسيس الجمهورية الإسلامية في ايران في العام 1979، وبالتزامن معها، تصاعدت حملات تكفير الشيعة ومحاولات عزلهم عن باقي المسلمين، وتكرار المقولات التحريفية التاريخية. وكانت هذه الحملات الدعائية تنجح ــ غالباً ــ في تشويه صورة الشيعي في ذهن السني، أو العكس، بسبب قوة الدعاية الطائفية وحجم أدواتها الفاعلة، إضافة الى ظاهرة الجهل التراكمي لدى المسلمين بالحقائق العقدية والاجتماعية والسياسية لبعضهم، وعدم الاطلاع عليها من مصادرها الأصلية.

ظلت وسائل الدعاية الطائفية تركِّز ــ غالباً ــ على جملة من الموضوعات الجديدة، التي تستهدف الواقع الشيعي الجديد الذي تأسس بعد العام 1979، فضلاً عن الموضوعات القديمة المتراكمة، ومن أهمها الموضوعات تستهدف الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومشروعها الثقافي، وتجربة مشروعها في الوحدة الإسلامية، والجماعات الإسلامية الشيعية في العراق ولبنان والبحرين واليمن، وتجارب مشاركة الشيعة في الحكم. هذه الموضوعات تضعها وسائل الإعلام الطائفية إلى جانب هدف التكفير، لتشكيل محاور أساسية لحركتها وعملها، ومن أبرزها: اتهام الشيعة بالطائفية، واتهامهم بالإرهاب، وباضطهاد أهل السنّة، إضافة الى اتّهامهم بالانحراف الايديولوجي والتآمر السياسي، والتحالف مع خصوم الإسلام، وهي اتهامات تهدف الى قلب الصورة والمعادلة. وقد عملت وسائل الإعلام الغربية ــ هي الأخرى ــ على دعم وسائل الإعلام الطائفية في اتهاماتها المذكورة، بهدف تكريس الفتنة الطائفية وتمزيق الواقع الإسلامي برمته، وكذلك تشوية حقيقة النهوض الشيعي الجديد، وهو هدف تلتقي فيه مع الماكنة الدعائية الطائفية؛ حتى باتت كلمة (الشيعي) في عقد الثمانينات من القرن الماضي، ترادف توصيفات المتعصف والأصولي والمتمرد والإرهابي، وقد عبّر الصحفي الفرنسي “كريس كوجيرا” عن ذلك بقوله: «نحن نرى وراء كل شيعي إرهابياً مضاعفاً»(2)؛ فالتأكيد الغربي على أن الإرهاب الدولي مصدره (الأصوليون) الشيعة غالباً، يحاول أن يوحي بأن هذه الممارسات تقوم بها فئة صغيرة من المسلمين تثير الشغب، ولا تعبأ بالموت(3).

والملفت؛ أن الماكنة الإعلامية والدعائية الطائفية الجديدة، تعمل على تكريس حالة الجهل لدى مخاطبيها، وعلى خلط الأوراق بين السياسي والديني والاجتماعي؛ فلاتفرِّق بين مذاهب الشيعة المختلفة، ولاتفرِّق بين التشيع كمذهب إسلامي عقدي فقهي وهوية اجتماعية دينية من جهة، وسلوك الجمهورية الإسلامية الإيرانية كنظام سياسي، والجماعات الشيعية كقوى سياسية مشاركة في الحكم من جهة أخرى؛ فهي تتهم التشيع بمختلف التهم، نكاية بالجمهورية الإسلامية أو الجماعات الإسلامية أو المرجعية الدينية، أو أنها تسقط سلوكيات المسؤولين الشيعة والحكومات الشيعية على التشيع.

الشيعة ومسؤولية الإرهاب التكفيري

بعد ظهور المسميات الجديدة للجماعات الوهابية التكفيرية الإرهابية، كالقاعدة وأنصار الإسلام وانصار الشريعة وأنصار السنة وطالبان والشباب وبوكو حرام وداعش وغيرها، منذ ثمانيات القرن الماضي وحتى الآن، وما قامت به من إرهاب منظم وإبادة جماعية وتفجيرات واغتيالات، وانتهاك للأعراض، واستيلاء على الأموال والممتلكات والأراضي، وتشويه بشع لحقيقة الإسلام، وتقديم صورة متوحشة عن المسلمين، وإحداث فتنٍ كبرى بينهم، وتفتيت أمنهم الوطني، وتمزيق نسيجهم الاجتماعي، وتدمير اقتصادياتهم، وتحويل بلدانهم الى ساحات للصراعات المذهبية والطائفية والسياسية والإعلامية والمجتمعية، وضمان أمن الكيان الإسرائيلي، وإعطاء الغرب كل مسوغات احتلال بلاد المسلمين؛ اكتشف الطائفيون في البلدان العربية والإسلامية أن الشيعة وإيران يقفون وراء هذه الجماعات الوهابية التكفيرية، ووراء جميع أعمالها الإرهابية في العراق وسوريا وباكستان وأفغانستان والسعودية ولبنان وإيران والكويت. ولم يصدق أحد هذا الاكتشاف؛ ولايزال الجميع يسخرون من هذا الادعاء، ولاسيما الأوربيين والأمريكان، الذين يزعمون أنهم يعلمون بدقة تفاصيل جذور هذه الجماعات وأصولها الحديثة وكيفية نشوئها ودعمها وتمويلها ورعايتها وقادتها؛ إذ يجمعون على أنها صناعة وهابية سعودية بامتياز، وبرعاية أمريكية ودعم إسرائيلي.

ومن خلال دراسة التاريخ الإسلامي، والوضع في الحديث، وظاهرة التكفير، ومسارات نشوء الفرق والمذاهب والجماعات الإسلامية، وصولاً الى واقعنا الحالي؛ يتضح أن المدرسة الوهابية والتيارات الطائفية الأخرى، لاتزال تتبع المنهج الايديولوجي لمجدد الفكر التكفيري الشيخ أحمد إبن تيمية في تفسير التاريخ والنظرة الى الآخر المذهبي، وهو المنهج الأسطوري الذي يخترع الوقائع بناءً على القبليات العقيدية وحاجة المؤرخ والمحلل التاريخي والسياسي للحدث والواقعة اللتين يستدل بهما لإثبات معتقده وفكره ومذهبه الفقهي؛ وهو شبيه بالمنهج الفنتازي في تدوين الحديث الشريف، والذي سمح للمحدثين والرواة الكذَبة في العصرين الأموي والعباسي بوضع آلاف الأحاديث على رسول الله أو تحريف الصحيح من الأحاديث؛ لتسويغ سلوكيات السلطة السياسية أو تمرير ايديولوجيا سياسية أو مذهبية معينة.

هذه باختصار مفارقات الفنتازيا الذي يؤسس لها منهج احمد ابن تيمية؛ والتي تنتهي الى التصديق بأن الشيعة هم الذين افتعلوا السقيفة، واستغفلوا أبا بكر وعمر وعثمان، وقتلوا علياً والحسن والحسين وجميع أئمة أهل البيت، وهددوا معاوية ويزيد، وجنّدوا صلاح الدين الأيوبي، وعلّموا ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب مناهج التكفير والقتل، وأسسوا مملكة آل سعود، وأسسوا القاعدة والنصرة وداعش وأنصار الإسلام وانصار الشريعة وجماعة التكفير والهجرة وطالبان وبوكو حرام، ويسيطرون على المناهج الدراسية وهيئة كبار علماء المسلمين والمساجد والخطباء والهيئات والمؤسسات الدينية والأمنية في السعودية، وأخضعوا المخابرات السعودية والقطرية والتركية والأردنية لسيطرتهم، وأسسوا حلفاً طائفياً سنياً تركياً قطرياً سعودياً أردنياً؛ لمواجهة الهلال الشيعي الذي أسسوه أيضاً.

الشيعة والتطبيع مع (إسرائيل)

ظلت وسائل الدعاية العربية الطائفية، التي تمتلك معظمها السلطات الداعمة للإرهاب الفكري والمسلح، تعمل منذ عدة عقود على خلق معادلة غريبة، طرفاها الشيعة واليهود، أو التشيع والصهيونية؛ باعتبارهما العدوين اللدودين للأمة العربية!. وقد تركز الحديث عن هذه المعادلة وتبلورت صناعتها ونسجت حولها الحكايات والأساطير بعد العام 1979، أي بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران. ومن مخرجات هذه المعادلة وجود تحالف سري تاريخي بين الشيعة واليهود ضد المسلمين السنة، وتحالف سري معاصر بين الإيرانيين الشيعة والإسرائيليين الصهاينة ضد العرب.

وتمكنت هذه الحملات الدعائية المركزة والمنظمة، من خلق ظاهرة نفسية ضاغطة على المستويين الاجتماعي والسياسي؛ عنوانها: «شيعة فوبيا» أو «رهاب الشيعة»، وهو وجه آخر لظاهرة «إيران فوبيا». وعلى الرغم من أن جذور هذه الظاهرة النفسية الاجتماعية تعود الى عهد الدولة العثمانية؛ إلا أنها تطورت بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، وتبلورت كنظرية شبه متكاملة على يد منظري حزب البعث. ثم تحولت بالتدريج الى الصناعة السياسية والإعلامية الأكثر أهمية لنظام آل سعود؛ حتى أخذ القصف الإعلامي والمالي السعودي الهائل ينجح بالتدريج في تحويل الأنظار عن إسرائيل والصهاينة صوب إيران والشيعة؛ بل وإقناع كثير من الأنظمة العربية والمسلمة، ومعها أساطيل من المثقفين العرب القوميين والإسلاميين ووسائل إعلامهم ومراكزهم البحثية لتبني منهجية كون العدو الحقيقي للعرب هما: إيران والشيعة، ولابد للعرب من التحالف مع (إسرائيل) لضرب عدوهما المشترك.

ورغم أن هذا المزاعم هي نتاج منهجيات دعائية تستخف بالعقل العربي، أفرزتها أفكار نظام البعث العراقي والنظام السعودي في ثمانينات القرن الماضي، ولا تزال وسائل الإعلام العربية تلوكها وتعتاش عليها وتطورها وتضيف عليها؛ لكنها بقيت تؤثر في توجيه العقل العربي. ولهذا فنحن بحاجة الى مقاربة هذا المختلقات بمنهجية واقعية وبتجرد عن الانتماء المذهبي.

إن من الخطأ المنهجي والواقعي والديني والإنساني أن نضع أي شعب مسلم أو طائفة مسلمة في خانة التحالف مع الصهاينة أو اليهود، أو خانة المتآمرين على المسلمين، ومثال ذلك ما يتداوله الخطاب الديني الوهابي من اتهام للشيعة، والخطاب القومي العربي من اتهام للإيرانيين. ولعل حل هذه المفارقة يكمن في المعادلة الطائفية التي قلبت النظرة الى الفرس؛ فيوم كان الفرس يحكمون البلاط العباسي ويؤسسون المذاهب السنية ويؤلفون كتب الحديث والصحاح السنية؛ فإنهم كانوا بمثابة أساتذة للعرب وأئمتهم وأشقائهم، ولكن عندما تحوّل الفرس الى التشيع؛ فإن الدعاية الطائفية أصبحت تعد الفرس حلفاء لليهود. وهنا يكمن السر؛ فالموضوع ـــ إذاً ـــ ليس موضوع الفرس والإيرانيين؛ وإنما هو موضوع الشيعة؛ فالمستهدَف ليس الإيراني أو الفارسي بصفته القومية، بل المستهدف هو الشيعي قبل كل معيار آخر.

ولنحوِّل المعادلة باتجاه تركيا التي يعدّها الإسلاميون العرب أنموذجاً يحتذى به في عملية أسلمة الدولة والحكومة، ويعدّها القوميون العرب نصيرتهم في قضاياهم؛ في وقت تحتفظ تركيا بتحالفات استراتيجية معلنة مع الصهاينة وإسرائيل واليهود في المجالات العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية والثقافية والسياحية، وإن مؤسس جمهوريتها الذي ينحني أمامه الساسة الأتراك الحاليين؛ هو يهودي(4)، ولكن لم نسمع يوماً من الإعلام العربي والحكومات العربية أي إتهام لتركيا وحكومتها بالتحالف مع إسرائيل، ولا أحد يعترض على رئيس جمهورية تركيا ورئيس وزرائها وهم يعانقون بحرارة بالغة المسؤولين الإسرائيليين، لماذا؟، لأن تركيا دولة سنية وحكومتها حكومة سنية، ولكن؛ ماذا لو كانت تركيا دولة شيعية معادية لإسرائيل والصهيونية؟؛ حينها سيقوم المخيال الطائفي العربي بتحويل الأتراك تلقائيا الى أعداء للعرب والى حلفاء لليهود والصهاينة؛ وإن أصبحوا أشد المعادين لهم.

وعند المقارنة، في مجال التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، بين الأنظمة السنية من جهة، والأنظمة والجماعات الشيعية أو المحسوبة على الشيعة؛ سنجد أن كثيراً من الأنظمة السنية اعترفت بوجود (دولة إسرائيل)، وأن لدى بعضها علاقات ديبلوماسية علنية، والأخرى علاقات اقتصادية أو ثقافية أو تحالفات أمنية أو تنسيق أمني استراتيجي أو اتصالات خاصة، ومنها: مصر، الأردن، الإمارات المتحدة، البحرين، السودان، قطر، السعودية، المغرب، تركيا، مالي، النيجر، باكستان، إندونيسيا، مالي، جيبوتي، موريتانيا، جزر القمر، بروناي، بنغلادش. هذا عدا عن مئات الأحزاب السياسية والمؤسسات العامة والخاصة ومنظمات المجتمع المدني في البلدان الإسلامية السنية، التي تمتلك علاقات علنية أو خاصة مع الكيان الصهيوني ومؤسساته.

وفي المقابل؛ نرى العكس تماماً عند الأنظمة الشيعية أو المحسوبة على الشيعة وعلى محور المقاومة، وتحديداً إيران وسوريا والعراق واليمن، فضلاً عن الأحزاب الشيعية برمتها ودون أي استثناء، كحركة أمل وحزب الله في لبنان، وحزب الدعوة ومنظمة بدر والتيار الصدري وفصائل الحشد الشعبي وغيرها في العراق، وجماعة أنصار الله في اليمن، وجميع الأحزاب في إيران، وحركة الوفاق وغيرها في البحرين، وهكذا جميع الأحزاب والجماعات الشيعية الأخرى في باكستان وأفغانستان والهند ونيجيريا وآذربيجان وتركيا وغيرها.

وينطبق الأمر كذلك على المؤسسات الدينية، فالمرجعية الدينية الشيعية في النجف وقم وطهران، وجميع المؤسسات الدينية الشيعية في كل دول العالم، تعد أي اتصال وعلاقة علنية وسرية مع الكيان الصهيوني حرامٌ شرعاً وخيانة للإسلام والتشيع وجريمة ضد الإنسانية، وأن إسرائيل دولة وهمية قائمة على أراضي دولة أخرى بأسلوب الاغتصاب الاستيطاني، وأن مقاومتها وإزالتها واجب شرعي. ولذلك؛ كان موقف المرجعية الدينية الشيعية في النجف وقم عنيفاً جداً من خطوة نظام الشاه في إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني، وكانت هذه الخطوة أحد الأسباب الرئيسية لثورة المرجع الديني الشيعي الإمام الخميني، ومعه المؤسسة الدينية الشيعية برمتها، ضد شاه إيران والإطاحة به. وكانت الخطوة لهذه الثورة بعد انتصارها، قطع العلاقات مع إسرائيل وسحب الاعتراف بها، والاعتراف بفلسطين دولة شرعية وفتح سفارة لها في طهران، وبذلك كانت إيران الشيعية أول دول تقوم بهذه الخطوة في العالم.

في حين نرى أن المؤسسات الدينية السنية الرسمية ومرجعياتها ومشايخها في تركيا ومصر والبحرين والإمارات والسعودية والمغرب والسودان وموريتانيا والنيجر ومالي وغيرها؛ شرعنت للاعتراف بدولة إسرائيل وإقامة العلاقات معها، في إطار مبدأ الصلح والسلام، وهو أحد أكبر التزويرات الدينية والتزييفات الفقهية في تاريخ المذاهب السنية، لأن الصلح يكون مع عدو أو خصم وجوده شرعي، وليس مع عصابة يهودية اغتصبت أرضاً إسلامية وقتلت أهلها وأسست لنفسها كياناً وهمياً.

وهنا لابد من التأكيد على أن المتلبس بجريمة الاعتراف والتطبيع والخيانة هي الأنظمة وأحزابها وبعض مؤسساتها الدينية ومشايخها، وليس الشعوب المسلمة السنية أو المذاهب نفسها؛ لأن هذه الشعوب مغلوب على أمرها وتعاني هي الأخرى من استبداد الأنظمة التي تحكمها. وبالتالي؛ فإن أخذ المذاهب والشعوب بجريرة الأنظمة وبعض المشايخ؛ إنما هو خطأ منهجي أساس، قبل أن يكون مادة للتكذيب والتصديق.

دعاة طائفيون

الدعاة الطائفيون المعاصرون ينتمون إلى مختلف الاختصاصات: مفتون، مشايخ، كتّاب، إعلاميون، جامعيون وسياسيون، وينقسمون إلى: موظفين ينتسبون إدارياً إلى حكومة معينة، وموظفين ينتسبون إلى مصالحهم، سواء تمظهرت في مصالح مالية أو ميول نفسية أو فكرية، وتتنوع مهامهم بتنوع مواقعهم واختصاصاتهم، ولكنهم عموماً يشتركون في مهمة استدعاء الشبهات والاتهامات التاريخية التراكمية، وخلق شبهات واتهامات جديدة، تنسجم مع الواقع.

ولعل أبرز شبهة أو تهمة يركز عليها هؤلاء الطائفيون هي (الإرهاب الشيعي) و(الخطر الشيعي)، ولاسيما (الخطر) الذي يستهدف الحكومات السنية (المعتدلة) والمجتمعات السنية (المستقرة)، كما يقولون. وظل هؤلاء يتخذون من ذريعة الصعود الشيعي الجديد مدخلاً لمحاكمة الشيعة وتكفيرهم وتخوينهم، وهو الصعود الذي يتمثل برأيهم في ثلاث ركائز رئيسة: إيران بعد العام 1979 ولبنان بعد العام 1982 والعراق بعد العام 2003. وظل دعاة الطائفية من (المعممين) والمشتغلين في الحقول الدينية يستغلون منابر خطب الصلوات، والندوات والمؤتمرات والمحاضرات، والمناسبات والمواسم الدينية، كالحج، لإثارة الفتن والاضطرابات الطائفية بين المسلين، من خلال تكفير الشيعة وتكفير مراجع الشيعة ورموزهم الدينية والسياسية.

ومن أبرز دعاة الطائفية الفاعلين في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وما بعدهما، هم شيوخ الفرقة الوهابية في السعودية والبلدان الأخرى، ولاسيما أعضاء هيئة العلماء الحكومية، كعبد العزيز آل الشيخ وعبد الله آل الشيخ ومحمد البدر وعبد الله التركي ومحمد آل سليمان وعبد الوهاب أبو سليمان وعبد العزيز بن باز وأحمد مباركي وعبد الله الركبان وعبد الله المطلق وصالح اللحيدان وصالح الفوزان ومحمد آل الشيخ ومحمد العثيمين، وآخرون كعبد الله الجبرين وعايض القرني. وفي مصر برز عبد المنعم النمر وصلاح أبو اسماعيل ومحمد عمارة ومحمد حسين يعقوب، وفي الأردن كان ناصر الدين الألباني هو الأبرز، وفي الهند أبو الحسن الندوي، وفي باكستان إحسان إلهي ظهير، وفي العراق كان أغلب الشيوخ البعثيين أو المرتبطين وظيفياً ومعنوياً بالنظام البعثي، في مقدمة دعاة الفتنة الطائفية، أمثال بشار عواد معروف وعبد الملك السعدي، ومنهم من علا صوته بعد سقوط نظام البعث، أمثال رافع الرفاعي وحارث الضاري، وفي الكويت برز أحمد بزيع الياسين ووليد الطباطبائي وفهد عبد الله النفيس، وفي قطر الشيخ يوسف القرضاوي.

وإذا كان شيوخ الوهابيين وبعض الطائفيين غير الوهابيين، يمارسون التكفير والفتنة الطائفية دون غطاء ودون مسوغ أو مبرر واقعي، ويقولون أن الشيعة أكفر من اليهود والنصارى، وبأنهم حلفاء اليهود في التآمر على (الإسلام والمسلمين)؛ فإن آخرين من شيوخ الطائفية كانوا يستخدمون تكفير الإمام الخميني وغيره من الرموز الدينية الشيعية، غطاءً لتكفير الشيعة؛ فكانوا يذكرون آراء الإمام الخميني العقدية والفقهية في كتبه وفتاواه، وهي عقائد شيعية تقليدية معروفة، كالنص على الإمام علي وعصمة الأئمة والأمام المهدي وغيرها، ويقولون إنّ الخميني كافر، لأنه يقول بهذه الأقوال، وهي في الحقيقة أقوال الشيعة منذ 14 قرناً، ويجمع عليها علماؤهم.

يقول عبد العزيز بن باز (شيخ الوهابية الرسمي في السعودية) في إحدى فتاواه الكثيرة في تكفير الشيعة: ((الشيعة أقسام وأنواع، ذكرها بعضُهم اثنتين وعشرين نوعًا، لكن الباطنية منهم: كالجعفرية، والإمامية أتباع الخميني الإثنا عشرية، هؤلاء لا شكَّ في كفرهم؛ لأنهم رافضة، خصوصاً قادتهم وأئمتهم الذين يدعون إلى الشرك بالله وعبادة أهل البيت، ويغلون في عليٍّ، ويعبدونه من دون الله، وفي الحسن والحسين، ويرون أنهم يعلمون الغيب، وأنهم معصومون))(5). ويقول ناصر الدين الألباني: ((وقفتُ على الأقوال الخمسة التي نقلتموها عن كتب المسمى ب‍ـروح الله الخميني، راغبين مني بيانَ حكمي فيها، وفي قائلها، فأقول وبالله تعالى وحده أستعين: إنّ كلّ قول من تلك الأقوال الخمسة كفرٌ بواح، وشركٌ صراح، لمخالفته للقرآن الكريم، والسنة المطهرة، وإجماع الأمة، وما هو معلوم من الدين بالضرورة. ولذلك فكل من قال بها، معتقداً، ولو ببعض ما فيها، فهو مشرك كافر، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم))(6).

كما يقول عبد المنعم النمر (وزير الأوقاف المصري الأسبق): ((إن أهل السنة، بدءاً من أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى آخر مولود منهم، كفار عند الخميني. فهل بعد ذلك يصح أن نجد بيننا من يسمح له أو لأفكاره الخربة مكاناً في مجتمعاتنا))(7). أما بشار عواد معروف (الشيخ البعثي العراقي) الذي برز أيضاً في الفترة ذاتها؛ فإنه استطاع أن يوفق بين انتمائه البعثي والأفكار السلفية، فيقول: ((وما من شك في أن الأمة الإسلامية في هذه الأيام تتعرض لتشويه في عقيدتها تقوم به النحلة الفاجرة التي أفتى علماء الأمة الإسلامية – المؤتمنون على عقيدتها – بخروجها من الإسلام))(8). وكان أحمد بزيع الياسين (الرئيس السابق لبنك التمويل) أكثر وضوحاً حين قال: ((دولة كبيرة تستغلها طائفة منحرفة لترويج أفكارها المضلة، باذلة في سبيل ذلك المال والشهرة))(9).

وفي الهند أوجب الشيخ أبو الحسن الندوي على من أسماهم بعلماء الإسلام فضح الفكر الشيعي، بقوله: ((آن الوقت كي ينهض علماء الإسلام كل بواجبه في البراءة من هذه الضلالات، وكشف تلك الانحرافات، وفضح الغايات الفاسدة للخميني وأتباعه))(10)، ثم أثنى على موسى الموسوي(11)، لأنه اتهم التشيع بالانحراف والغلو، ودعا الشيعة لتبني الفكر السلفي(12)، وذلك بعد إعلان موسى الموسوي في مؤتمر رابطة العالم الإسلامي في مكة في العام 1987، عن تحوله من التشيع الى التسنن السلفي، بقوله: (( هناك أمور نسبتها كتب الغلاة إلى الأئمة وتبناها فقهاء المذهب الشيعي، وذكرتها كتب الأخبار الموثوقة عندهم مثل: «أصول الكافي» و«الوافي» و«وسائل الشيعة» و«الاستبصار»، ولعل من أهم مواضيع الغلو: العصمة، والعلم اللدني، والإلهام، والمعجزات والكرامات والإخبار بالغيب، وتقبيل الأضرحة))(13).

ولعل أهم نموذج معاصر للداعية الطائفي المتحوّل هو الشيخ يوسف القرضاوي، الفقيه الحركي السني، الذي كان كثير من الحركيين الإسلاميين الشيعة معجبون بأفكاره، منذ ستينات القرن الماضي، وشكّلت بعض كتاباته جزءاً من ثقافتهم الإسلامية العامة، في إطار انفتاح الإسلاميين الحركيين الشيعة، وخاصة مدرستي السيد محمد باقر الصدر والإمام الخميني، على كتابات المفكرين والكتّاب الإسلاميين الحركيين السنة، وخاصة المصريين منهم، كالشيخ حسن البنا وسيد قطب وعبد القادر عودة والشيخ محمد الغزالي والشيخ سيد سابق والشيخ يوسف القرضاوي وزغلول النجار وغيرهم(14).

ولكن؛ بعد سقوط نظام البعث الطائفي في العراق في العام 2003، ثم تبلور مؤشرات الصعود الشيعي في المنطقة؛ حدثت انعطافة نوعية في منهجية تفكير العلامة القرضاوي وخطابه وسلوكه، فتحول خلال سنوات معدودات من مفكر إسلامي حركي مجدد ومصلح ديني متميز، الى عنصر محوري في الفتنة الطائفية والتمييز المذهبي. وهنا تكمن المشكلة؛ فأن يقوم رجل بهذا المستوى بدور فتنوي طائفي، يؤدي الى تمزيق الأمة وتقطيع أوصالها، وصب الزيت على رماد النفور وحالة عدم الثقة بين المسلمين، وسفك الدماء وانتهاك الأعراض واستباحة الذمم، والدعوة الى الكراهية والتمييز الطائفي؛ لهو أمر يدعو الى الدراسة والتأمل والتحقيق؛ للوقوف على خلفيات هذا التحول وحيثياته وتبعاته؛ للحد من خطورتها وتحجيم آثارها.

واللافت للأمر؛ جرأة القرضاوي في الدعوة الى قتل قادة ايران وقادة حزب الله ورئيس وزراء العراق ــ آنذاك ــ نوري المالكي، وذلك في تصريح تلفزيوني في العام 2013؛ ففي معرض حديثه عن دعم ايران وحزب الله والمالكي للنظام السوري؛ أفتى بما نصّه: ((هؤلاء أول من يجب أن يقتلوا، وهؤلاء أول من يجب أن يحاسبوا))(15). هذه الجرأة لم يبلغ مداها غيره من أهل العلم، باستثناء شيوخ الوهابية وشيوخ البعث؛ فلو صدرت من واحد من هؤلاء؛ لما التفت إليها أحد. ولا تكمن خطورة هذه الدعوة في الإفتاء بقتل حكام أو قادة سياسيين وعسكريين أو صحافيين مرتدين، بل بقتل مراجع دين وفقهاء وقادة إسلاميين من ثلاثة بلدان؛ فالقرضاوي يعلم أن من بين قادة إيران، مراجع دين يعود بالتقليد اليهم عشرات الملايين من الشيعة في أصقاع الأرض، وكذلك فقهاء ومفكرين ورموز إسلامية، ويعلم أيضا أن من بين قادة حزب الله فقهاء وعلماء دين ومفكرين ورموز إسلامية أيضا، ويعلم كذلك أن نوري المالكي هو زعيم حزب إسلامي يضم أيضاً فقهاء ومفكرين ورموز إسلامية.

وعند التأمل في دعاوى وفتاوى واتهامات وشبهات دعاة الطائفية الجدد، تكفيريين أو غير تكفيريين، والمقارنة بينها وبين الموروث الطائفي التراكمي الذي يبلغ عمره 1370 عاماً؛ سنجد أنهم لم يأتوا بجديد، إلّا إسقاطاً للمفاهيم القديمة على المصاديق أو الوقائع الجديدة؛ فهم يرددون ما قاله المحدثون الوضّاعون وفقهاء التكفير والمؤرخون والقصّاصون والأدباء في العصور السابقة(16)، من مقولات تدخل في خانة التكفير والإخراج من الدين، لتسويغ سياسات الإلغاء والإقصاء والقمع.

كتب الدعاية الطائفية

خلال الفترة من العام 1979 وحتى الآن، شهدت البلدان العربية والمسلمة موجة هائلة من الكتب الطائفية، التي يكرِّس أغلبها خطاب التكفير والدعوة الى القتل والإقصاء، بأقلام دعاة الطائفية الجدد، وهي موجهة الى الجمهور السني عادة، لكي تضع أمامه حواجز صلبة، تحول دون انفتاحه على التشيع والشيعة، أو الإحساس بضرورة التقارب والتآلف والوحدة، وهي مهمة وظيفية قديمة، كما أشرنا سابقاً، ولا يقل عدد عناوين هذه الكتب عن (1000) عنوان كتاب، عدا عن الكتب التراثية الطائفية التي يعاد طبعها باستمرار. وقد رصد الكاتب المصري فهمي هويدي في الفترة من 1980 الى 1985 ما يقرب من (115) كتاباً جديداً باللغة العربية وحدها ((تهاجم الشيعة وتطعن في إيمانهم))(17). وغالباً ما توزع هذه الكتب مجاناً أو بأسعار زهيدة، وبملايين النسخ أحياناً، ويكتب على بعضها ((يوزع في سبيل الله)) أو ((يوزع مجاناً قربة لوجه الله)) أو ((طبع على نفقة بعض الصالحين ليوزع على الناس خلال الموسم المبارك بالمجّاني))(18).

ومن هذه الكتب: «ماضي الشيعة وحاضرها» لجابر نعمان الخضري، «الصراع بين الإسلام والوثنية» لعبد الله القميصي، طبعته الثانية في العام 1982، «الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الإثني عشرية» لمحب الدين الخطيب، ولا يزال يطبع ويوزع في المواسم الدينية في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ولاسيما موسم الحج مجاناً، «تبديد الظلام وتنبية النيام إلى خطر التشيع على المسلمين والإسلام»، لإبراهيم سلمان الجبهان (19)، «سراب في إيران» لأحمد الأفغاني(20)، «وجاء دور المجوس» لعبد الله الغريب(21)، «موقف الخميني من الشيعة والتشيع»، للمؤلف السابق نفسه، «لا مهدي ينتظر بعد الرسول محمد خير البشر» للشيخ عبد الله بن زايد آل محمود، «الشيعة وخرافة المهدي المنتظر»، «مفتريات الشيعة على معاوية والرد عليها»، «مطارق النور تبدد أوهام الشيعة»، «جواب أهل السنّة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية»، «صورتان متضادتان لنتائج جهود الرسول الأعظم الدعوية والتربية وسيرة الجيل المثالي الأول عند أهل السنّة والشيعة الإمامية»، للشيخ أبو الحسن على الندوي، «البينات في التصدي لعقيدة الرافضة وسمومهم وأصولهم وأساليبهم الخبيثة الماكرة» لمحمود الزغبي(22)، «بين الشيع والسنة: دراسة مقارنة في التفسير وأصوله» للدكتور السالوس(23)، «الخميني بين التطرف والاعتدال»، تأليف عبد الله محمد الغريب(24)، «الشيعة والسنة»، تأليف إحسان إلهي ظهير (25)، «الشيعة وتحريف القرآن» لمحمد مال الله(26)، «نصيحتي لكل شيعي»، «الفتنية الخمينية» للشيخ عبد القادر آزاد، «ماذا يجري لأهل السنّة في إيران؟» لمحمد بن صالح ضياء وآخرين، «موقف السنّة في إيران» لناصر الدين هاشمي، مفتريات الشيعة على الصحاب والرد عليها (خمسة كتب)، دراسات في الفكر الشيعي (عشر كتب)، كتاب «البدعة: تعريفها..انواعها..أحكامها» للشيخ صالح بن فوزان الفوزان، «الإكفار والتشهير: ضوابط ومحاذير» لعبد الله بن محمد الجوعي، مراجعة: الشيخ عبد الله بن جبرين (27)، «أحوال أهل السنة في إيران» لعبد الله محمد الغريب (28)، «التبرك المشروع والتبرك الممنوع» لعلي العليان، «الإرشاد إلى توحيد رب العباد» للشيخ عبد الرحمن بن حماد آل عمر، «الخميني وتزييف التاريخ» لمحمد مال الله(29)، «الشيعة وأهل البيت» لإحسان إلهي ظهير، «نقض كتاب الحكومة الإسلامية للخميني» للدكتور محمود الخالدي(30).

وتقف المملكة السعودية في مقدمة الدول العربية التي تطبع وتنشر وتوزع هذه الكتب، يليها العراق (في عهد النظام البعثي)، ثم مصر والأردن. أما على مستوى البلدان المسلمة؛ فإن باكستان تتقدم الدول التي تنشر فيها الكتب الطائفية. ولعل السعودية، تبعاً لتعاليم الفرقة الوهابية الحاكمة، تنفرد من بين البلدان العربية والمسلمة في تضمين مناهجها الدراسية، وخاصة في مواد التاريخ والتربية الدينية والعقائد والأدب، ونكتفي بعرض نموذج واحد على ذلك من كتاب التاريخ للصف الثاني الثانوي (الفرع الأدبي)؛ فقد جاء في الكتاب مانصّه: ((التشيع صار فيها مذهباً ومأوي يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد، ومن كان يريد إدخال تعاليم آبائه من يهودية ونصرانية ومجوسية وهندية))(31). ولنا أن نتصور هنا حالة الاستضعاف التي يعيشها الطالب الشيعي في السعودية وهو يقرأ هذا النص، ويُجبر على تقديم الامتحان به، في بلد يبلغ مواطنوه الشيعة 20 بالمائة من عدد السكان.

الإعلام الطائفي

بعد التطور الهائل في وسائل الدعاية والإعلام، وظهور القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة بعد عقد الثمانينات من القرن الماضي وحتى الآن؛ استثمرت المنظومة الطائفية هذه الوسائل بشكل غير مسبوق، واستثمرت عشرات مليارات الدولارات لتسليح حروبها الدعائية، وبات لهذه المنظومة مئات الصحف والمجلات والقنوات الفضائية والإذاعات، وآلاف المواقع الالكترونية، وجيوش الكترونية كبيرة، تمارس المهام الطائفية نفسها، وبات لغزواتها وحروبها تأثيراً أكبر حجماً وأشد نوعاً وأوسع جغرافية، وظلت تستمد خطابها الطائفي والتكفيري والإرهابي، وإثارتها للفتن وتأجيجها للعواطف، من الخطاب الموروث نفسه، الذي دوّنته الكتب الطائفية منذ قرون طويلة وحتى الآن، كما ذكرنا في الفقرة السابقة.

ولعل نموذج مجلة الفارق (الوهابية الصادرة في باكستان) يلخص هذه الحقيقة بكثير من الوضوح؛ إذ تقول المجلة في إحدى افتتاحياتها في العام 1987: (( إنّ حكومات العالم الإسلامي لو أخذتهم الغيرة على حرمات الله ومقدسات الإسلام؛ لأوقفوا زحوف النصرانية واليهودية والشيوعية والشيعة التي تكتسح العالم. والله إن خطر الشيعة زاحف نحوهم، ولا يوقفه إلّا أحفاد المغيرة بن شعبة وربعي بن عامر رضي الله عنهم، حاملي المصحف والسيف معاً))(32). فهذه المجلة تضع الشيعة في خندق واحد مع اليهودية والنصرانية والشيوعية، وتجعل الشيعة أشد خطراً منهم جميعاً، وتدعو الى قتلهم علانية، ودون أن تختبئ وراء الألفاظ والمعاني الموهمة، وهي محاكاة حرفية لفتوى عبد الله بن بن جبرين (عضو هيئة كبار العلماء الرسمية السعودية)، الذي عدّ في فتواه اليهود والنصاري والشيعة جزءاً من ملّة الكفر(33).

وقد ظل النظام السعودي، في مقدمة الأنظمة التي تمتلك هذا النوع من الوسائل الطائفية، دون منازع؛ ففضلاً عن صحافته وقنواته الفضائية وجيوشه الالكترونية المحلية؛ فإنه أسس لكارتلات إعلامية متطورة في خارج السعودية، وخاصة في بريطانيا والإمارات المتحدة ومصر وباكستان، كما أن المؤسسات الوهابية في كل دول العالم تمتلك وسائل إعلام خاصة بها، وبمختلف اللغات، وهي تمارس الخطاب السعودي نفسه. وإضافة الى النظام السعودي؛ فإن أنظمة عربية أخرى تمارس الدعاية الطائفية أيضاً، ولكن بوسائل غير رسمية غالباً. كما أن أغلب الجماعات الإسلامية (السنية) غير الوهابية، في البلدان العربية والمسلمة، كمصر والسودان والجزائر وتركيا وباكستان؛ تتبنى أحياناً الخطاب الطائفي، تحت تأثير الاختراق المالي والإعلامي السعودي.

وبين العام 1979 والعام 2023؛ فإن عدد صحافة المنظومة الطائفية ووسائل إعلامها، ارتفع ما يقرب من مائة ضعف، وهكذا ميزانيته، ولنا أن نتصور ذلك؛ حين نعرف أن عدد الصحف والمجلات العربية التي كانت تقوم بالدعاية الطائفية ــ بنحو من الأنحاء ــ خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي، لا يتجاوز الـ(150) جريدة ومجلة يومية وأُسبوعية وشهرية وفصلية، وأن معدل ترتيب صدور هذه الدوريات هو أسبوع لكل دورية، وأن معدل نشرها للمواد الطائفية (خبراً أو تعليقاً أو مقالاً) هو خمس مواد في العدد الواحد؛ فستكون النتيجة ثلاثة آلاف مادة صحفية طائفية شهرياً، باللغة العربية وحدها؛ فما بالك بعد مرور ثلاثة عقود، وظهور الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي.

هذه الأرقام التقريبية تختص بالحالات الاعتيادية، وليس في حالات الإنذار التي تقع في أعقاب حوادث معينة، كما كان يحصل ــ مثلاً ــ خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980ــ 1988)، أو بعد مجزرة الحجاج في مكة في العام 1987، ثم المرحلة التي أعقبت سقوط نظام البعث في العام 2003؛ ففي هذه الحالات تصل حمى الحرب الطائفية الى ذروتها، وتكون صحافة الأنظمة والجماعات ووسائل إعلامها، عبارة عن مرجل طائفي يغلي عل مدار الأربع وعشرين ساعة.

وبعد سقوط نظام البعث في العراق، وظهور الأزمة التاريخية الطائفية التي يعاني منها العراق، إلى السطح، بالصورة التي فاجأت العالم، ولكنها لم تفاجئ العراقيين من ضحايا الطائفية السياسية الذين عانوا من التمييز والإقصاء طيلة مئات السنين؛ فإن حملات الدعاية الطائفية عادت إلى حدّتها وقوّتها، كما كانت خلال فترة الحرب العراقية – الإيرانية، على أساس أنّ الدعاية الطائفية خفّت حدّتها بعد العام 1990، وتحديداً بعد غزو نظام صدام الكويت، بسبب انشغال وسائل إعلام حلفاء الأمس ببعضها. وقد استمر هذا الوضع حتى سقوط نظام البعث في العراق، ودخول الشيعة مشاركين في الحكم، ودعم ايران لهم؛ فعادت الماكينة الدعاية للمنظومة الطائفية إلى العمل بكل قوتها، مستثمرة القنوات الفضائية وعشرات الصحف والمجلات ومئات مواقع الإنترنيت، الحكومية وغير الحكومية، لمهاجمة الواقع السياسي والاجتماعي العراقي الجديد الذي أفرزه سقوط نظام البعث، والمتمثل في مشاركة للشيعة غير مسبوقة وجديدة في الواقع الوطني والإقليمي، وهي المشاركة التي ظلّت محرّمة على على الأكثرية السكانية الشيعية قرون طويلة(34)، في ظل دولة وحكومة تتلخصان في سلطة مطلقة لنخب تنتمي إلى مركب طائفي – قومي، ظل يتوارثها سنين طويلة؛ فكان التغيير السياسي في العراق خطاً أحمر بالنسبة للمنظومة الطائفية، والتي لم يكن يعنيها الاحتلال ومشروعه، لأنها كانت مشاركة فيه، وانطلق من أراضيها، بقدر ما هي حريصة على تقويض جهود الشيعة في الحصول على حقوقهم الإنسانية والسياسية والمذهبية، أسوة بإخوانهم السنة.

ودخلت الفنون، منذ تسعينات القرن الماضي، وخاصة السينما والدراما، ضمن وسائل الدعاية الطائفية؛ فظهرت عدد من المسلسلات الدرامية التاريخية والدينية والسياسية، التي تتناول بعض المفاهيم الدينية، أو تصوّر حياة الخلفاء والسلاطين المسلمين، وكذلك بعض الحقب التاريخية، ومنها حقب سياسية معاصرة وقائمة، وهي تمارس أبشع ألوان الدعاية الطائفية وتزوير التاريخ والحقائق، وجميعها تستمد موضوعاتها وخطابها من الكتب الطائفية وفتاوى التكفير، كما هو مع خطاب الصحابة ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الطائفية.

ولعل أكثر موضوع لفت انتباه المسلمين، سنة وشيعة، هو إنتاج السعودية مسلسلاً عن مؤسس العقيدة الأموية معاوية بن أبي سفيان في العام 2022، بكلفة (100) مليون دولار، ولعله أمر طبيعي، ككل ما يفعله النظام السعودي، منذ تأسيسه، لأنه بذلك ينسجم مع انتمائه الى الإرث الأُموي والتيمي؛ فمدن السعودية مليئة بالشوارع والمدارس والمؤسسات التي تحمل أسماء يزيد ومعاوية وأبو سفيان وأبو لهب والمغيرة والعاص والحجاج وعبد الرحمن بن ملجم، وكذا المناهج الدراسية التي تدافع بشراسة عن معاوية ويزيد وأمثالهما، وكذلك الفتاوى التي تكفر الشيعة، لاتزال حاضرة في كل مفاصل الدولة السعودية، وهذه كتب ابن تيمية الذي يعيب على الإمام علي والإمام الحسن والإمام الحسين سياساتهم  ويبرر لخصومهم وقتلتهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات

  1. أُنظر في هذا المجال: الشيخ عبدالحسين الأميني النجفي، الغدير في الكتاب والسنة والأدب، ج11، وأسد حيدر، الإمام الصادق على المذاهب الأربعة ج1، والشيخ أحمد بن على الطوسي، الاحتجاج، ج2، والسيد مرتضي العسكري، خمسون ومائة صحابي مختلق، وللعسكري نفسه، عبدالله بن سبأ وأساطيير أخري، والعسكري أيضاً، أحاديث أم المؤمنين عائشة، وعلي المؤمن، المسألة الطائفية في الإسلام، ف1و2، ومحمد بن حبان البستي، كتاب المجروحين من المحدّثين والضعفاء والمتروكين، والسيد جعفر مرتضي العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم (ص).
  2. صحيفة اللوموند (الفرنسية)، 19/4/1984، نقلاً عن: على المؤمن، سنوات الجمر، ص314.
  3. المصدر السابق.

4- كمال أتاتورك من يهود الدونمة. أُنظر: د. حسن إبراهيم حسن، يهود الدونمة.

5-مجموع فتاوى ومقالات عبد العزيز بن باز، المجلد الرابع، ص 439

6https://www.fnoor.com/main/articles.aspx?article_no=9966#.ZG4PrXZBxPY

7- معمم وسياسي شيعي إيراني، كان يقيم في العراق، وعلى علاقة وظيفية بنظام البعث>

8- كنت شخصياً معجباً بكتابات الشيخ يوسف القرضاوي، وخاصة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وقرأت بتأمل كثيراً من كتبه، ومنها “ملامح المجتمع المسلم”، “الاجتهاد في الشريعة الإسلامية”، “ثقافة الداعية”، “فقه الدولة الإسلامية”، “الإسلام والعلمانية”، “فقه الأولويات”، “الصحوة الإسلامية”، وغيرها من الكتب والدراسات التي لا أزال أحفظ كثيراً من مضامينها، فضلا عن استفادتي منها في دراساتي ورسائلي الجامعية. وتطور إعجابي بالقرضاوي، بعد أن بدأت بمراسلته خلال العام 1998 حين بدأنا بتأسيس “المركز الإسلامي للدراسات المستقبلية”، بدعم السيد محمد حسين فضل الله والشيخ مهدي العطار والشيخ محمد علي التسخيري، وعرضت على الشيخ القرضاوي فكرة المركز ومنهجيتنا في الدراسات المستقبلية الإسلامية، وطلبت رأيه ومشورته، كما طلبت أن يكون عضواً في الهيئة الاستشارية العلمية للمركز الى جانب ستة عشر عالماً ومفكراً من تسعة بلدان عربية وإسلامية. كانت فرحتي كبيرة؛ لأن وجود اسم الشيخ القرضاوي معنا هو مكسب علمي ومعنوي للمشروع. ومن يطلع على مجلة ((المستقبلية)) العلمية المحكمة، التي أصدرنا عددها الأول في العام 1999؛ سيجد اسم الشيخ القرضاوي مثبتاً ضمن الهيئة العلمية للمركز.

9- يوسف القرضاوي، برنامج الشريعة والحياة، قناة الجزيرة، 3 / 3/ 2013

10- فهمي هويدي، فكرة الصراع العربي-الفارسي لا أصل لها في الحقيقة والتاريخ، صحيفة تشرين السورية، 16/8/1989.

11- العبارة الأخيرة مثبتة على غلاف كتاب الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الإثني عشرية، لمحب الدين الخطيب، طبعه عام 1982.

12- الكتاب مطبوع في الرياض، وهو من أسوء الكتب التكفيرية؛ إذ أفتى كاتبه بأن التشيع ((كفر صريح))، ووصف أئمة أهل البيت بـ ((أئمة الزيغ والضلالة))، وطعن في الإمام على في ثلاثة مواضع، واتّهم الإمام جعفر الصادق بالزندقة والإلحاد والدجل والكذب والزيف والارتباط بالماسونية والجمعيات السرية. أنظر: الصفحات 9، 10، 26، 161، 176، 192، 203 ، 328 و392

13-اسم المؤلف الحقيقي عوض المنصور، وسبق لجماعة الأخوان المسلمين في الأردن أن فصلته أكثر من مرة، لإثارته الفتنة بين شباب الجماعة في أمريكا. ومرة قام بتزوير وثيقة أرسلها لمجلة الدعوة في القاهرة على أنها وثيقة أعدّتها السفارة الأمريكية ضد الجماعة، وبعد أن قامت المجلة بنشر الوثيقة دون أن تعلم بحقيقة الأمر، تبين زيفها. وفي كتاب «سراب في إيران» يورد عوض منصور أدلّة كفر الإمام الخميني الصريح وهي: الطعن في ممارسات معاوية وهارون الرشيد، امتداح الشيخ نصير الدين الطوسي، الإيمان بمبدأ التقية، الإيمان بعصمة الأئمة الأثني عشر، وأنهم سادة الخلق بعد النبي، الاعتقاد بوجود المهدي المنتظر وغيبته، ثم ظهوره ونشره للعدل في الأرض، الاعتقاد بأن الفقهاء (نواب الإمام) لا يحق لهم الابتداء في الجهاد في عصر الغيبة، اعتبار عيد الغدير من أعياد المسلمين، لديه آراء فقهية تخالف أهل السنّة، خاصة في موضوعي الصلاة والنكاح.

14- الاسم الحقيقي للكاتب: محمد سعد ناصح، وهو فلسطيني كان يسكن الكويت. صدر الكتاب في مصر عام 1981. يقول مؤلفه بأن الشيعة يسعون لإعادة مجد كسري، ونارمزدا. أنظر: ص 35- 44.

15- هو رد على كتاب «المراجعات» للسيد عبد الحسين شرف الدين. يقول كاتبه متسائلاً: ((هل يستجيب الشيعة لله ولرسوله، فيعودون إلى الإسلام ويتركون الشرك والكفر؟؟… هيهات أن يفعلوا ذلك)).

16- يقول المؤلف في كتابه: «إن عقيدة الشيعة عقيدة ضالة؛ لأنها أفسدت أصول الفقه الإسلامي».

17- يقول مؤلفه: «أما الإمامية الاثنا عشرية الجعفرية… فلا نشك بكفرهم ويعدهم عن الإسلام».

18- مطبوع في باكستان، ويكرّر فيه المؤلف مقولة الأصول اليهودية للشيعة: ((إن اليهود كوّنوا الطائفة الشيعية لإلحاق الضرر بالإسلام وتشويهه، بعدما هالهم انتصار المسلمين، وسمي اليهود أنفسهم شيعة علي)).

19- يكرر فيه المؤلف مقولة الأصل اليهودي للفكر الشيعي، ويقول: ((عند الشيعة من يرمي الله بالجهل فله أجر عظيم)).

20- عبد الله بن جبرين عضو هيئة كبار العلماء في السعودية، وهي المؤسسة الدينية الوهابية الرسمية في السعودية، وبن جبرين صاحب الرقم القياسي في فتاوى تكفير الشيعة وحرمة التعامل معهم.

21- وهو الجزء الثالث من سلسلة «وجاء دور المجوس» طُبع في مصر.

22- يقول فيه المؤلف بأن «التاريخ الشيعي أشد سواداً من العمامة التي يضعها الخميني على رأسه».

23- يقول فيه المؤلف بأن المخابرات الأمريكية هي التي كتبت كتاب «الحكومة الإسلامية» والخميني وضع اسمه عليه بطلب منها.

24- أنظر: علي المؤمن، سنوات الجمر، ملحق رقم 1.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment