خطاب الأدب الإسلامي بين الانتماء والانفتاح

Last Updated: 2024/06/09By

خطاب الأدب الإسلامي بين الانتماء والانفتاح

د. علي المؤمن

 

    هل تكمن إشكالية الأدب الإسلامي في إنتاجه؟ أو في انتمائه وانفتاحه؟ أو في أصل التسمية؟. ولا شك أن تحديد مكمن الإشكالية، سيضعنا على بداية الطريق، ويوضح اتجاه الموضوع. ولعل أصل الإشكالية ليس في الانتماء أو الانفتاح؛ إذ ليس هناك تعارض بين انتماء الأديب الإسلامي وانفتاحه، بل تكمن الإشكالية في المساحة التي يتحرك فيها الأديب الإسلامي بين انتمائه للايديولوجية الإسلامية التي يتبناها، وانفتاحه على الآخر، لأن الانفتاح في أطره المتوازنة لا يلغي الانتماء.

تحديد المفاهيم

حيال اصطلاح «الأديب الإسلامي»، تقفز إلى الأذهان الثنائية السائدة: أديب مسلم أم أديب إسلامي؟. ومرد الجدل هو «المسلم» الذي ينتسب إلى الإسلام بالاسم، و«الإسلامي» الذي يتبنى الإسلام مشروعاً لقيادة الحياة، وهو جدل قديم، تعرّض له حتى الكتّاب الغربيون والمستشرقون. ولا شك أن بين الاثنين اختلافاً مفهومياً واضحاً؛ فقيد «الإسلامي» إلى جانب «الأديب» له دلالات عقدية وفكرية؛ فـ«الإسلامي» إطار يحدد اتجاه الأديب ورؤيته للحياة والكون، ويضع لإنتاجه الأدبي أسساً وقواعد مضمونية وشكلية نابعة من أصل العقيدة الإسلامية.

أما المعني بالانفتاح والانتماء؛ فهو الأديب الإسلامي، وليس الأدب الإسلامي، لأن الأدب الإسلامي هو المدرسة وهو الانتماء، وما على الأديب إلّا أن يحدد موقفه من هذا الانتماء، وموقفه من المدارس الأخرى. وتبقى جدلية المعيار في تحديد الانتماء؛ فمن ينتمي إلى من؟ الأديب إلى الأدب؟ أم الأدب إلى الأديب؟

في المدارس الأدبية الوضعية، تنتمي المدرسة إلى الأديب الذي أسسها وصنعها، ثم ينتمي الأتباع الأدباء إلى المدرسة تحت مسمى مؤسسها، ولكن في المدرسة الإسلامية، لا يصنع الأديب النظرية وحده؛ لأن فيها أبعاداً واسعة: عقدية وشرعية وفكرية وفنية، لا يدخل كثير منها في اختصاص الأديب؛ فالنظرية الأدبية الإسلامية يتظافر على تأسيسها وتحديد معالمها ومساراتها المختلفة كل من الفقيه والمفكر والأديب معاً. وفي النتيجة يكون الأدب الإسلامي هو معيار الانتماء والالتزام، وليس الأديب؛ فإذا التزم الأخير في إنتاجه الأدبي بنظرية الأدب الإسلامي، فإنه يكون أديباً إسلامياً، ولا يكفي التزامه النظري والسلوكي العام بالإسلام وأحكامه.

وهنا تطرح التصورات التالية حول ماهية الأدب الإسلامي:

  • الأدب الإسلامي هو الذي يكون منتجه إسلامياً، أي الأديب نفسه.
  • الأدب الإسلامي هو الذي يحتوي على تعبيرات ومظاهر إسلامية، أو تعابير ومظاهر تتوافق مع التصور الإسلامي، وهو ما يعبِّر عن الجانب الشكلي في الأدب.
  • الأدب الإسلامي هو الذي يكون ذا مضامين إسلامية أو مضامين تلتقي بالتصور الإسلامي، وهو ما يعبِّر عن جوهر الانتاج الأدبي ومضامينه.
  • الأدب الإسلامي هو الذي يخدم أهدافاً إسلامية، وهو جانب التأثير.

ولعل أغلب أصحاب الاختصاص يذهبون إلى أن التصور الرابع هو المعيار، مع الالتزام بالأساسين الثاني والثالث دون الأول. وهذا يعني أن الأدب الإسلامي هو الأسلوب الأدبي – الفني الذي ينطوي على أهداف إسلامية، ويعبر عنها، ويؤدي دوره المطلوب في إطار عملية التأثير على العقول والضمائر والمشاعر. كما يعني أن الانتساب الديني للأديب لا أثر له هنا؛ فقد يكون الأديب غير مسلم، ولكن له نتاجات أدبية إسلاميةً، كجورج جرداق وبولس سلامة وعبد المسيح الأنطاكي؛ فهؤلاء نصارى، ولكن بعض نتاجاتهم تمثّل أدباً إسلامياً يتمتع بالميزات والمعايير الدينية من حيث الشكل والمضمون والتأثير. وعلى العكس من ذلك حينما يصدر عن الأديب، أدبٌ لا يخضع للشروط الشرعية والعقائدية؛ فذلك أدب غير إسلامي، حتى إذا كان منتجه ينتمي انتماءً عقائدياً وسلوكياً متكاملاً إلى الإسلام.

و«الانتماء» هنا على نوعين:

  • انتماء الأديب، أي أن يكون الأديب مؤمناً بالإسلام نهجاً يقود الحياة.
  • انتماء الأدب، أي أن يكون الإنتاج الأدبي ملتزماً بنظرية الأدب الإسلامي بصيغها العقدية والشرعية.

وهنا نعود إلى القول بأن ملاك التصنيف إلى أدب إسلامي أو غير إسلامي ليس شخص الأديب، إنما النتاج الأدبي نفسه؛ فيكون المراد بالانتماء هو الثاني، أي انتماء النتاج الأدبي، مع أخذ انتماء الأديب أيضاً بنظر الاعتبار، لمدخليته النفسية في تقبّل المتلقّي للنتاج الأدبي، ولا سيما في مجال التأثير وتحقيق الأهداف، فربما يجد بعض المتلقين صعوبة في تلقي أدب إسلامي من أديب ليس ملتزماً.

ولعل «الانتماء» و«الالتزام» وجهان لعملة واحدة؛ فلا فارق بينهما في الجانب الاصطلاحي، ولكن من الناحية المفهومية ربما يعني الانتماء انتماء الأديب للنظرية الإسلامية بالكامل، وأنه أصبح جزءاً منها، في حين أن الالتزام قد يعني التزام الأديب بالنظرية؛ لظرف معيّن، دون أن ينتمي إليها ويندك بها. وهذا الرأي على ما فيه من تفصيلات؛ فإنه لا يعطي خصوصية للانتماء على حساب الالتزام.

أما «الانفتاح»، فالمراد منه انفتاح الأديب الإسلامي على المدارس الأدبية الأخرى، أي استثمارها والاستفادة من أساليبها المضمونية والشكلية وطرقها في التأثير، وهو انفتاح نسبي وليس مطلقاً، أي انفتاح خاضع لمعايير وضوابط محددة؛ فالمطلق يعني أن الأديب لا يلتزم بأية محددات وضوابط يمليها التصور الإسلامي على نتاجه الأدبي. وتفرض هذه النسبية وجود مساحة أو بينية معيّنة تصل انتماء الأديب بانفتاحه، وتقرن الانفتاح بالانتماء؛ فيكون الأديب منتمياً ومنفتحاً في الوقت نفسه، بهدف تأصيل النتاج الأدبي من جانب، وتحسين نوعه من جانب آخر. وحين يتجه الأديب نحو الانفتاح؛ فإن أول مقدّمة تواجهه تتمثل في فهم التيّارات والمدارس الأدبية الأخرى، فهماً دقيقاً وواعياً ومعيارياً، ليعي ما يأخذ وما يريد.

الأدب.. لمن؟

المقدمة الأخرى ذات العلاقة بإشكالية الإدب الإسلامي والأديب الإسلامي، هي قضية الأدب نفسه. ولا نهدف هنا الى تكرار المقولات والتساؤلات التي بقيت محل حوار ونقاش بين مختلف الاتجاهات: لمن الأدب أو الفن؟ للإنسان، للحياة، للأدب أو الفن، أم لشيء آخر؟ فهذه التساؤلات أُشبعت بحثاً، وأجاب عنها كل اتجاه، على وفق تصوره للحياة، بمن فيهم أصحاب النظرية الإسلامية، ولكن نشير إلى بعض الملاحظات التي تقف على هامش هذه الإشكالية.

هناك نمط من المدارس الأدبية الوضعية، تحدد اتجاهها من خلال رؤيتها للأديب وعلاقاته وهدفيته؛ فمدرسة الأدب للإنسان تؤكد فردانية الإنسان وإنسانيته الأرضية، وكذلك مدرسة الأدب للأدب، التي تعتقد بعدم وجود أية علاقة بين المعتقد والأخلاق والخير والشر من جهة والأدب من جهة أخرى، إذ أن الأدب هنا غاية وهدف بذاته وليس وسيلة للتعبير عن ذات الأديب، بوصفه إنساناً وحساساً ومنفعلاً، ولا عن إنسانية الإنسان ومشاعره. وبالتالي؛ فإن هذه المدارس الوضعية تعدّ الأدب – كما يذهب زكريا إبراهيم – مجرد مهارة فنية في تصوير الجمال وإرضاء الحس الباطني لدى الإنسان، دون وجود هدف معيّن أو منفعة أخرى. سوى المتعة الجمالية(1). أي أنه «صياغة فنية لتجربة بشرية»(2). وبهذا فهو ينظر الى الأدب كقضية وجدانية صرفة لا مدخلية للانتماء الفكري فيها. وهذا ما يدفع للحديث عن مفهوم الأدب المنتمي والأدب المؤدلج والأدب المستقل والثقافة المستقلة.

إن قضية الأدب – عموماً – هي جزء من قضية الثقافة بمعناها الواسع، وتحديداً الثقافة المجتمعية؛ إذ أن محتوى الأدب وشكله تفرضانه البيئة الثقافية للمجتمع عادة، أي أنه نابع من ثقافة المجتمع وبيئة الأديب، وبالنتيجة يدخل في المضمون الثقافي. وتشكك أغلب الاتجاهات النقدية في إمكانية وجود أدب مستقل أو أدب محض يعمل للأدب فقط، باعتباره مجرد إبداع، ولحظة وحي مجردة وتجربة وجدانية صرفة خالية من أي موقف فكري، أي أنه تداع ذهني ونفسي ذاتي لا يتدخل فيه أي عنصر خارجي، وخاصة الأيديولوجيا. قد تكون هناك اتجاهات تجعل الأدب قضية مستقلة وحرة للغاية بعيداً عن أي التزام أو انتماء، وتطلق على نفسها مدرسة الأدب للأدب أو الفن للفن، بيد أن المنسوبين لهذه المدرسة هم ملتزمون ومنتمون أيضاً؛ فهم منتمون لمدرستهم التي تشَكل – هي الأخرى – تصوراً معيناً للحياة، وبالتالي فهي آيديولوجيا من نوع آخر.

وربما يعتبر بعضهم أن العمل الأدبي لا علاقة له بسلوك الإنسان الأدبي وآيديولوجيته؛ لأن السلوك والأيديولوجيا عمليتان خاضعتان لحسابات كامنة في شعور الإنسان، أي خارج تداعياته الذهنية ولحظات انفعالاته النفسية، وبالتالي؛ يكون السلوك الخارجي للإنسان، أي فكره وعمله، خاضعاً لمنطق الحظر والمنع آيديولجياً، أما الإنتاج الأدبي فهو لحظة انفعال نفسي لا علاقة لها بأي منطق خارجها، وبالتالي؛ فهي لا تخضع لذلك المنطق. وهذا خلاف ما أثبتته حقائق الأدب والإنسان؛ فكل الأدباء ملتزمون ومنتمون، ولا وجود لأديب غير منتم وغير ملتزم، حتى في المفهوم غير الإسلامي للانتماء والالتزام.

ويعرف الروائي الأميركي «نورمان مولر» الالتزام بأنه «بمثابة طوق النجاة في خضم القيم المتصادمة في عالم اليوم.. صداماً أفضى إلى الفوضى»(3)؛ فالالتزام – حسب مولر – هو الارتباط بشيء خارج الذات والعمل في إطار ضوابطه، لتجنّب العبث والفوضى، فعدم الالتزام والانتماء يعني الفوضى والعبث؛ بل إن العبث تحوّل أيضاً إلى مدرسة أدبية شهيرة. وإذا كان الأدب جزءاً من قضية الثقافة – كما تقدّم – فهل هناك ثقافة لا منتمية أو فكر لا منتم أو تيار لا منتم؟ الواقع أن الثقافة اللامنتمية خرافة، لأنها هي الانتماء، كالانتماء للمجتمع أو لتيار اجتماعي. وإذا صحّ وجود ثقافة غير منتمية؛ فقد صحّ أيضاً وجود أدب غير منتم وغير مؤدلج، وعلوم إنسانية واجتماعية غير مؤدلجة، وفن غير مؤدلج، وصولاً إلى الرياضة والموسيقى. ومهما كان الأديب متمرداً على ثقافة مجتمعه أو بيئته الخاصة؛ فإن هذه الثقافة تلقي بظلالها عليه، ويكون نتاجه متأثراً سلباً أو إيجاباً بهذه الثقافة.

وحتى طبقة «الانتلجنتسيا» التي تحاول أن تطرح نفسها طبقة غير منتمية، وأنها تتكوّن من أفراد غير منتمين؛ فهي منتمية أيضاً، أي منتمية لمفهوم الانتلجنتسيا نفسه؛ إذ تحوّلت بدورها إلى تيار فكري واجتماعي، قاعدته النقد من أجل النقد؛ بهدف التغيير وإيجاد التحول في المجتمع. ورغم أن النظرية الثقافية الإسلامية والنظام الاجتماعي الإسلامي لايمنعان تشكيل طبقة «انتلجنتسيا إسلامية»، بينهم أدباء ومثقفون إسلاميون، إلّا أن المثقف الإسلامي يبقى منتمياً وعضوياً بشكل تلقائي، لأن أهدافه في الحياة تنزع إلى التغيير والبناء في إطار التصور الإسلامي، وليس إلى النقد المجرد، بعيداً عن أي انتماء بمعناه العام والخاص.

علاقة الأدب بالعقيدة والإنسان

في النظرية الإسلامية لا معنى لاستقلال الثقافة والأدب والفن عن العقيدة؛ فالعقيدة الإسلامية هي المنطلق الذي يحدد للمثقـف والفنان والأديب أهدافهم المراد تحقيقها من الإنسان، بوصفه خليفة الله على أرضه، وهي أهداف معرفة الله والدعوة إليه والى دينه، وإعمار الأرض وخدمة خلق الله. ووفق ذلك؛ يستعصي على المسلم العقائدي في فكره وسلوكه، أن يكون غير عقائدي في نتاجه، مهما كان نوع هذا النتاج: فنياً أو أدبياً أو ثقافياً أو فكرياً.

كما أن المنهج الإسلامي في النقد الأدبي، يلتزم  ــ هو الآخر ـــ بمعايير النظرية الإسلامية، من حيث دلالات المادة الأدبية ومضامينها، وليس الجانب الفني فيها وحسب، وهو الجانب الذي يُعنى بدراسة النص وصوره ودلالاته الفنية دراسةً علمية محضة، في حين أن خضوع الإنتاج الأدبي الى المعيار العقدي في الدلالة والمضمون؛ فإن النقد الأدبي يكون عندها عقدياً أيضاً.

ونستخلص من ذلك أن الأدب لا يقف على الحياد بين الدين واللا دين، بل يفرض التصور الإسلامي أن يكون الأدب الإسلامي خاضعاً له، شكلاً ومضموناً وهدفاً، إلى الحد الذي يتحوّل فيه الأدب الإسلامي إلى وسيلة لتحقيق هدف يلتقي مع الدين. وككل القضايا التي للدين رأي فيها، فإن الدين يتدخل في مضمون الإنتاج الأدبي وشكله وتأثيراته، ولا يترك للأديب حرية التعبير المطلق عن كوامنه النفسية، لأن الإنسان مسؤول عن استخدام حواسه {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا}(4)، وإنه سيحاسب عليها: و{قفوهم إنهم مسؤولون}(5)، ويكون لكل كلمة مدخلية في احتساب الأجر والثواب، وبالتالي؛ لايمكن للفنان والشاعر والأديب أن يستثنى نفسه من هذه المسؤولية، بحجة أن ما يقوله صادر من لحظة انفعال وجدانية، وأنها مجرد تعبيرات وصور جمالية فنية، أي مجرد تعبيرات هدفها التصوير الفني وحسب، فلا تدخل – حينئذ – في إطار المنع والحظر الشرعي والعقيدي.

ولا شك أن مدرسة الأدب الإسلامي هي مدرسة الإنسان، ولكنه ليس مطلق الإنسان، بل إنه الإنسان الذي يلتقي بمثل السماء، وليس الإنسان الأرضي المادي وحسب. وبكلمة أخرى؛ فإن الأدب الإسلامي لا يغرق في هموم الإنسان ومعاناته ويؤكد إنسانيته الأرضية وحسب، بل إنه يهدف إلى منح الإنسان إنسانيته(6)، ولذلك؛ فإن أي نتاج أدبي يدعو الى الحق والفضيلة ومكارم الأخلاق والعفة والخير والمحبة والجمال والعدل والعاطفة الصادقة؛ فإنه يصب في الهدف الإسلامي نفسه، مع مراعاة الأسلوب والتعبير بطبيعة الحال، كما إن كل ما يخدم قضايا الإنسان الحقة والإنسانية؛ فهو أدب ملتزم ويلتقي مع الإسلام، بل يعتبره كثير من الفقهاء والمفكرين أدباً وفناً دينياً؛ فكل فن «يتبنى إنسانية الإنسان ومثله التي أقرّها الله سبحانه وتعالى فهو فن ديني، حتى لو أن مبدعيه ليسوا مسلمين وليسوا ملتزمين بالتدين»(7)، وبالتالي؛ فإن كثيراً من نتاجات أدباء غير مسلمين تعد أدباً خاضعاً لمعايير النظرية الإسلامية في الأدب(8).

الانفتاح على مدارس الأدب العالمي

تقود عالمية الإسلام، عقيدة وخطاباً وأهدافاً، الى ضرورة أن يكون الأدب الإسلامي عالمياً وإنسانياً من جهة، وأن ينفتح على المدارس الأدبية العالمية الأخرى، للاستفادة من أدواتها وتقنياتها من جهة أخرى، كما ذكرنا، لأن الإسلام يخاطب الناس كافة، فضلاً عن أن النزعة الإنسانية المتفردة فيه، ينصف حتى غير المسلم، ويدافع عن قضاياه الحقة؛ فالناس من وجهة نظر الإسلام «صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق»(9)، كما يقول الإمام علي(ع)، أي أن توصيفات مثل: الأدب الموجّه، الأدب الهادف، الأدب الإنساني، الأدب الملتزم؛ كلها تحكي عن مضمون واحد يصبّ في خدمة الإنسان.. الخليفة وقضاياه، وبالتالي تخدم الهدف الديني.

والحديث عن الأدب الإسلامي ليس حديثاً عن مدرسة أدبية محضة، أو مدرسة أدبية وضعية مؤدلجة، في مقابل المدارس الأدبية المعروفة عالمياً، كالكلاسيكية والرومانسية والواقعية والوجودية والاشتراكية وغيرها؛ فالأدب الإسلامي هو تعبير عن التصور الإسلامي للأدب، وهو ما يعني خضوع الأديب الإسلامي لجملة من الضوابط العقيدية والشرعية التي أفرزها ذلك التصور، ولا سيما إذا أراد الأديب التحرك في مساحات أوسع وتوظيف أدوات وآليات أدبية جديدة، أو بتعبير آخر الانفتاح عليها.

فالمدرسة الكلاسيكية – مثلاً – فيها مجالات مضمونية واسعة يستثمرها الأديب الإسلامي، وكذلك حيّز محدود من المدرسة الرومانسية، التي تجنح في خيالها وتبالغ في العواطف إلى حد تسويغ كل الصور العاطفية المثيرة، وحيز من المدرسة الواقعية التي لا ترى أي شيء آخر غير الواقع والحدث، كالمبادئ والقوانين، وفي الوقت نفسه ترى أن ذلك الواقع هو واقع شرير في حقيقته، وكذلك المدرسة الرمزية التي تتميز بغموض المعاني والدلالات وغموض الصور التي ترسمها إذ إنها تتعامل مع اللاوعي والوجود الذهني فقط، وربما تقترب منها المدرسة السريالية، التي تتعامل مع الوعي الباطن وتداعياته.

والاستفادة من بعض مناهج وعناصر هذه المدارس، يكون في الحدود التي يحافظ فيها الأديب على انتمائه، ولا سيما أنها اتجاهات تحتوي على آليات وأدوات يغلب عليها الطابع الفني، على العكس من المدارس الأدبية المؤدلجة والفلسفية، كالوجودية والواقعية الاشتراكية، التي تتقاطع أساساً مع المدرسة الإسلامية(10)؛ فالأديب الإسلامي يسعى لوعي عقيدته وضوابطها وأحكامها، ثم دراسة المدارس الأدبية على مختلف أشكالها وأنماطها دراسة تفصيلية متأنية، وإخضاع ما يمكن أخذه من هذه المدارس إلى معيار العقيدة وضوابطها.

ويقود اختلاف المدارس الأدبية التي تعبّر عن نفسها بالمدارس الأدبية العالمية، للتساؤل عن وجود ما يسمى بـ«الأدب العالمي». الواقع أن معرفة حقل الأدب وقضيته وموضوعه ومجالاته، ثم الإجابة في ضوء ذلك على وجود «أدب عالمي» أو عدمه سيفرض في الوقت نفسه وجود «ثقافة عالمية».

والأدب العالمي – في الحقيقة – ليس أدب المدارس التي سبق الحديث عنها؛ فالأدب تصنعه الثقافة والوجدان معاً، ولكل مجتمع خصوصياته الثقافية (الدينية والقومية والمحلية). فالواقع يؤكد وجود أدب الشعوب وأدب الديانات، أما الأدب الإنساني العام فهو يخضع لمقولة العام المشترك الذي يهم كل البشر، ويدخل في إطار تأثيرات بيئة الأديب؛ فهل يمكن تسمية الإنتاج الأدبي للمتنبي وحافظ والخيام وشكسبير وموليير وطاغور وهمنغواي وسيغور ومحمد إقبال وتولستوي والجواهري، أدباً عالمياً؟. إنه أدب إنساني لا شك، ولكنه ليس نتاجاً أدبياً عالمياً، لأنه – بصرف النظر عن المدرسة التي ينتمي إليها – يمثّل نتاج بيئة الأديب وصوره المحلية، رغم كون اهتماماته إنسانية، فهو – إذن – أدب الشعوب. ثم إن صح أن أدب هؤلاء أو غيرهم أدب عالمي، فلماذا هم دون سواهم؟! وهل الشهرة أو الترجمة للغات الأخرى هي معيار العالمية؟

ولفهم حجم ومضمون المساحة التي يتحرك فيها الأديب الإسلامي بين انتمائه وانفتاحه، لا بد من معرفة طبيعة الخطوط الفاصلة بين الاتجاهات الأدبية بعد إخضاعها لمقياس نظرية الأدب الإسلامي. فعلى وفق هذا القياس، فإن التقسيم الأقرب للواقع، الذي تحدده تلك الخطوط، هو التقسيم الثلاثي الذي يتبناه بعض أساتذة الأدب الإسلامي(11):

  • الأدب الإسلامي المحض، الذي يكون منتجه إسلامياً، والنتاج إسلامياً، أي يحتوي على خصائص النظرية الأدبية الإسلامية شكلاً ومضموناً.
  • الأدب الإنساني، الذي يلتقي – شكلاً ومضموناً – الأدب الإسلامي، رغم أن منتجيه غير مسلمين أو إسلاميين.
  • الأدب الذي يتعارض مع نظرية الأدب الإسلامي، شكلاً ومضموناً.

ومن ثنايا هذا التقسيم يمكن استخراج تقسيم آخر يخضع – هذه المرة – لمقياس الحكم الشرعي، آخذين بنظر الاعتبار أن الأدب في الإسلام وسيلة من وسائل التبليغ والدعوة والإرشاد، وليس هدفاً بذاته، كما أنه ليس وسيلة دنيوية صرفة:

  • الأدب الذي يدخل في إطار (المستحب)، والذي يخضع لضوابط الإسلام شكلاً ومضموناً وهدفاً وتأثيراً، ويستوجب الثواب.
  • الأدب الذي يدخل في إطار (المباح)، والذي تستوعبه الضوابط الإسلامية شكلاً، ولكنه لا يحمل همّاً وهدفاً إسلامياً أو إنسانياً، ولا يستوجب ثواباً ولا عقاباً. وهنا يخشى من بعض المتخصصين من تحوّل هذا اللون من الأدب إلى نوع من اللغو واللهو والعبث، على اعتبار أنه أدب غير هادف(12). فينتقل حينها من حوزة المباحات إلى حوزة المكروهات، أي أن التصوير الأدبي يكون حينها مباحاً، ولكنه يدخل في مجال اللهو والعبث، وذلك منهي عنه.
  • الأدب الحرام، وهو أدب الضلال الذي يقع خارج دائرة الضوابط الإسلامية، شكلاً ومضموناً وهدفاً وتأثيراً.

ونستخلص من ذلك، أن مدرسة الأدب الإسلامي هي مدرسة الأدب للمعتقد، مع عدم إغفال شأن الإنسان وشأن الحياة، بل وعدم إغفال شأن الأدب نفسه وصوره الجمالية، ولكن يبقى المعتقد مصباً للمضمون. أما منبع الأدب الإسلامي، فهو التصور الإسلامي التوحيدي للكون، أي أنه التعبير الفني الخاضع للتصور الإسلامي للكون والإنسان والطبيعة(13).

توظيف العناصر الفنية في الأدب

يرتبط الأدب بمشاعر الإنسان ووجدانه وكوامنه النفسية، ومن الصعب إخضاعه للعلم والمنطق ولمناهجهما وتفاسيرهما وضوابطهما، ولكن في الوقت نفسه، يخضع الأدب لرادع أحكام الشريعة وضابطها، دون أن يتقاطع ذلك مع كون الأدب مرتبطاً بمشاعر الإنسان ولحظاته الإبداعية؛ فعقائدية الأدب الإسلامي لا تلغي اهتماماته بالعناصر الفنية، فهي مهمة جداً في الأدب عموماً ولكن الأهم منها المضمون والهدف. فالتخيّل والتغزّل والتشبيب والخمريات، كعناصر فنية مستخدمة في المدارس الأدبية الوضعية، لا يمكن للأديب الإسلامي أن يطلق العنان لقريحته في استخدامها، بل يوَظفها لخدمة أدبه، في الحدود والضرورات التي تمليها نظرية الأدب الإسلامي، ومن ذلك التوقف عند تصوير مشاهد الحب مع الجنس الآخر – مثلاً – وتصوير المرأة ومفاتنها والعلاقة بها، أو تصوير النشوة وحالة السكر وغيرها.

وقد يعتقد بعضهم أن من غير الممكن صنع الصورة الأدبية العذبة دون المبالغة في استخدام عناصر فنية كالخيال والعاطفة وغيرهما، والتي قد تصل إلى أنواع من الكذب والتهمة والقذف والنفاق والمجون، وكل ما يؤدي إلى الإثارة العاطفية المحرّمة، ولكن نظرية الأدب الإسلامي لا تسمح بما يؤدي إلى الاصطدام بالشريعة فيما هو غير مشروع من الصور؛ لأن الأدب – كما تقدم – غير مستقلّ عن العقيدة والشريعة كما سبق. وعلى العكس من تلك المضامين والصور غير المشروعة التي تسمح المدارس الأدبية الأخرى بصنعها، والتي تفسد الذهن والنفس والروح؛ فإن الأدب الإسلامي يهدف إلى إصلاحها وتهذيبها، وإلى المساهمة في توجيه الحياة الوجهة الصحيحة، وبنائها على الأسس الإنسانية والشرعية، في حين أن الحياة – كما هي – هي التي توجِّه المدارس الأخرى وتبنيها.

والأدب – كغيره من ألوان الإبداع – تكمن قيمته في تحقيق هدف وجود الإنسان على الأرض، وهي الغاية النهائية للأدب الإسلامي؛ فهو إبداع لهدف وليس إبداعاً للإبداع؛ لأنه يحمل الرسالة  إلى كل بني الإنسان. وقيمة الأدب في الإسلام في هدفه وتأثيره، وليس في مقدار الإبداع الذي يحتويه، وتُقاس قيمته بمعيار التأثير، وليس بمعيار الإبداع المجرّد؛ فبهذا التجريد يفقد الأدب قيمته الحقيقية(14)، ولا يبقى سوى عبارات خاوية أو خطوط صماء(15). وكما يعطي الإسلام قيمة لحياة الإنسان؛ فإنه يعطي الأدب قيمة أيضاً.

ويمكن بسهولة استنباط الموقف الإسلامي الأصيل حيال الأدب، من خلال تعامل أهل البيت(ع) معه، ومنه – مثلاً – الشعر المنسوب للإمام علي ولأهل البيت(ع) وعموم خطبهم وكلماتهم المجموعة في نهج البلاغة والصحيفة السجادية وغيرهما؛ إذ إنهم تعاملوا مع الأدب كوسيلة تبليغية، لخدمة الأهداف العقائدية، فشكّل أدبهم أرفع أدب إسلامي.

وهذا لا يعني أن الأدب الإسلامي هو أدب الخطاب المباشر، والوعظ والإرشاد فقط، أو الذي يستخدم الأساليب والألفاظ والتعبيرات العقائدية والفكرية، إلى المستوى الذي يدفع بعضهم للإدعاء بأنه يستمع لخطبة وعظية أو درس عقائدي أو أنه في جلسة ذكر.

بالطبع، لا يتطلب الأدب الإسلامي ذلك دائماً، بل إنه يعتمد الخطاب غير المباشر أيضاً، والتوجيه الذي يستبطن مفهوماً قرآنياً أو حديثاً. وعموماً فإن تحديد الأسلوب الفني، المباشر وغير المباشر، يخضع لطبيعة مخاطب الأديب أو الحالة التي يريد الأديب التعبير عنها أو الواقع الاجتماعي الذي يعيشه. كما إن الإسلام من الأديب أن يكون مفكراً أو فيلسوفاً أو صوفياً، ولا يريد إخراجه من عفويته، وحرمانه متعة اللحظة الإبداعية، وقولبة إبداعه، وتعقيد فكره ولفظه وأدائه، واضطهاد أحاسيسه، وتحنيط ذوقه الفني، كما قد يقول بعضهم(16)، بل على العكس، ففي الوقت الذي تؤمّن نظرية الأدب الإسلامي للأديب استخدام جميع العناصر الفنية المباحة، فإنها تعطي لأدبه قيمة معنوية، وتضعه أمام مسؤوليته الربانية ورسالته الإنسانية، وتجعل لفنه رسالة وهدفاً، كما نتركه لفطرته السليمة وعفويته ولحظاته الإبداعية ووجدانه الواعي وضميره الحي وفكره المنفتح وأدائه الرفيع ولفظه الجميل وأحاسيسه الجياشة وذوقه الفني.

ويكرس الإسلام ما تفرزه هذه الفطرة السليمة، ويطلب من الأديب – عبرها – أن يتعفف في لفظه وفي دلالات نتاجه الأدبي: أن لا يكذب، لا يقذف، لا يتهم، لا يعبث، أن يتوازن في عواطفه. وفيما لو أصرّ الأديب على التيه والضياع والعبث، فسيكون – حينها – أمام مفترق طرق: إما أن يحتفظ بأدبه لنفسه، وحينها يفقد دوره الحقيقي، أو يصرّ على العبث وإضلال الآخرين، وحينها سيقف أمام مسؤوليته الاجتماعية والإنسانية، وفي النهاية أمام مسؤوليته الشرعية؛ لأن المسؤولية بكل أنواعها لا تعرف (الحرية المطلقة).

ومما سبق يمكن الوقوف على أهم خصائص نظرية الأدب الإسلامي؛ فهو عقدي المصب والهدف والمسؤولية، ومنتمٍ في مضامينه وأساليبه المنسجمة بعضها مع بعض، إنساني وعالمي في نوعية الخطاب ومساحته، وفي الوقت نفسه، يولي العناصر الجمالية الفنية اهتماماً بالغاً.

وتبقى بلورة نظرية الأدب الإسلامي بصيغة متكاملة، همّاً إسلامياً يتحسسه جميع المعنيين، ولا سيما الأدباء الإسلاميون، وهي مهمة كبيرة وشاقة يفترض أن يشترك فيها الفقهاء والمفكرون والأدباء والمثقفون معاً. ولعل عقد مؤتمر عالمي للأدب الإسلامي، للحوار في هذا الموضوع، هو أمر مهم جداً. حينها يمكن أدراج موضوع الأدب الإسلامي أو النظرية الأدبية الإسلامية في كتب الأدب، سواء المدرسية أو العامة، إلى جانب المذاهب الأدبية الأخرى المعروفة عالمياً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات

(1) زكريا إبراهيم، مشكلة الفن، نقلاً عن: نجيب الكيلاني، الإسلامية والمذاهب الأدبية ص 34.

(2) نجيب الكيلاني، الإسلامية والمذاهب الأدبية، ص 9.

(3) المصدر السابق، ص 39.

(4) سورة الإسراء، الآية 36.

(5) سورة الصافات، الآية 24.

(6) انظر: د. محمود البستاني، الإسلام والفن، ص 10.

(7) صحيفة كيهان العربي، 14/5/1986.

(8) انظر: محمد قطب، منهج الفن الإسلامي، ففي كتابه هذا أورد نماذج لنصوص أدبية للشاعر الهندي طاغور وغيره من الأدباء غير المسلمين، واعتبر أنها تلتقي بمفهوم الفن الإسلامي.

(9) من عهد الإمام علي(ع) لمالك الأشتر، نهج البلاغة، ص 427.

(10) الإسلام والفن، ص 54 – 58.

(11) د. أحمد ساعي، الواقعية في الأدب والنقد ص 42، نقلاً عن: د. عبود شراد، مجالات الأدب الإسلامي، مجلة التوحيد، العدد 44، كانون الأول 1989، ص 54.

(12) د. محمود البستاني، الإسلام والفن، ص 7 – 14.

(13) سيد قطب، النقد الأدبي، نقلاً عن: د. أحمد محمد البدوي، قضية الأدب الإسلامي عند سيد قطب، مجلة التوحيد، العدد 19، تشرين الثاني 1985، ص 97.

(14) الأدب والفن في التصور الإسلامي، ص 82، من كلمة الإمام الخميني في المؤتمر الثالث للشعر والأدب الجامعي المنعقد عام 1986.

(15) سيد قطب، في التاريخ فكرة ومنهاج، ص 11 – 12، نقلاً عن: د. أحمد محمد البدوي، مجلة التوحيد، العدد 19، ص 96 (مصدر سابق).

(16) وهم النقاد غير الإسلاميين الذين يتهمون الأدب الإسلامي بأنه أدب المباشرة والوعظ والصورة المقولبة والذوق المحنَط. وهذا الاتهام في الواقع فيه الكثير من عدم الموضوعية؛ لأن نظرية الأدب الإسلامي في الوقت الذي تدعو فيه إلى الالتزام والهدف والرسالية، فإنها تترك للأديب حرية استخدام جميع العناصر الفنية، وتدعوه للإبداع في الصورة واللفظ والأداء.

 

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment