حلقة نقاش علي المؤمن وعبد الحسين شعبان 1

Last Updated: 2024/06/21By

العراق: من إرث الماضي الى تحديات المستقبل

حلقة نقاشية بمشاركة:

الدكتور عبد الحسين شعبان، والدكتور علي المؤمن

وكالة شرق برس، بيروت، 3/ 11/2007

أقامت وكالة “شرق برس” في لبنان حلقة نقاش بعنوان “العراق وتحديات المستقبل”، تحدث فيها الباحث والأكاديمي العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان، والباحث العراقي الدكتور علي المؤمن. وحضر الحلقة طواقم التحرير في مديريات الدراسات والصحافة والعلاقات الإعلامية في مركز القناة للتنمية الإعلامية في بيروت. وأدار الحلقة الزميل محمد عبيد، مدير “دائرة الإشراف والتخطيط”.

في البداية، لفت عبيد إلى أن “الأمل بأن يكون ما في العراق قد طوي، ليأخذ العراق دوره على مستوى الساحة العربية والإسلامية، لما لهذا البلد من تاريخ عريق يمتد إلى آلاف السنين. وأمل أن يكون هناك “شكل ما من الوحدة العراقية من المصالحة الوطنية كي نكون فعلاً على أبواب مستقبل جديد للعراق”. واشار عبيد إلى أن القضية “ليست سهلة يمكن التنظير بها كثيراً؛ لكن الوقائع التي طرأت على العراق منذ الغزو الأميركي له في العام 2003 حتى اليوم، أظهرت الكثير. فهي ساحة تصارع، بدل أن تكون ساحة تلاقي على المستوى الداخلي أو الإقليمي”.

وتابع الزميل عبيد “تحديات المستقبل، لا شك انها أمام العراقيين كبيرة وكثيرة، فنستمع إلى الباحث الدكتور عبد الحسين شعبان إلى رؤيته حول بعضٍ منها، وإلى الباحث الدكتور علي المؤمن، أيضاً إلى رؤيته وتطلعاته بالنسبة لعراق المستقبل”.

مداخلة الدكتور عبد الحسين شعبان

“عندما نتحدث عن التحديات لا يمكن أن نغض الطرف عن الماضي أيضاً. بلا أدنى شك، الحافز هو امتداد للماضي بشكل مختلف، نحن هنا لا نؤرخ للحظة الراهنة، إذا جاز لي التقدير أن أقول، وهو، هذا شغل الإعلاميين على حد تعبير “بيركامو”؛ الذي اعتبر الإعلامي والصحافي مؤرخ للحظة. ولكن نتحدث كباحثين معنيين بتفكيك ومناقشة الأفكار، سواء بصورتها الماضوية، إذا جاز له التعبير، أو بصورتها الراهنة، مستفيدين من تقديم رؤية إستشراقية للمستقبل.

أخطر تحدي يواجهه العراق هو التحدي الراهن، ما يتعلق بسؤال كان قد طرحه “إبراهام فاولر”، من مؤسسة “راند” الأميركية؛ قبل نيَّف وعقد ونصف من الزمان، “هل سيبقى العراق موحداً لغاية العام 2002؟.

كان قد طرح هذا التساؤل المريب، ولكن الذي يحمل في جنباته مشروع سياسي أيضا، هل سيبقى العراق موحداً لغاية عام 2003؟”، مشيراً إلى أن سؤال فاولر “تجري الإجابات عليه حالياً بطرائق وبوسائل مختلفة.

ولعلي أذهب أبعد من ذلك عندما أقول أن مفكراً مثل هنري كسنجر كان قد طرح هذا السؤال قبل أن يصبح مستشاراً للأمن القومي ووزيراً للخارجية، عندما عمل في “تروست” الأدمغة، أو “مجمّع العقول” أو “تروست الأدمغة”، عندما دعا ليس فقط العراق وإنما بلدان الشرق الأوسط أو رؤيته لبلدان الشرق الأوسط، وما ينبغي أن تكون عليه هذا البلدان؛ دعا لدويلات، لمناطقيات، لدوقيات، لكانتونات آحادية الهوية، سواءً كانت الهوية دينية، هوية عرقية، هوية مذهبية، هوية طائفية، هوية ذات بعد مناطقي؛ جيو استراتيجي.

وأستكمِل هذا الموقف زبيجينيو بريجنسكي خصوصاً في كتابه “أميركا والعصر التكناتوني”، الذي صدر عام 1970. وهما اللذان أسسا، إذا جاز لي التعبير أن أقول، فكرة تحويل مناطق الشرق الأوسط. ولا أريد هنا أن أتحدث أنا أو أُوغل في الحديث عن الرؤية الإسرائيلية ـ أصلاً ـ الصهيونية، لموضوع تقسيم بلدان الشرق الأوسط إلى دوقيات وكانتونات. ولكن عندما تتحدث مؤسسات أبحاث كبيرة، ومجمع عقول؛ يوازي المجتمع الصناعي، الحربي أم العسكري، منذ عهد كينيدي، يعني في أول الستينات إلى الآن، وكأننا الآن أمام حصاد من نوع آخر، عندما يأتي جوزيف بايدن ويطرح موضوع تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق سميت بين قويسات، فيديراليات؛ ولكنها في واقع الأمر تتجاوز فكرة الفيديرالية وهي نظام معروف في الفقه الدولي وفي الفقه الدستوري.

إنني أريد أن أقول أن الفيدرالية، لكي لا يُساء الفهم، وأنا حريص على تبيان هذه القضية، لأنني كنت ما أزال، وسأبقى ربما من دعاة تطبيق مبدأ الفيدرالية كمبدأ نظري عام، آخذين بنظر الاعتبار ظروف البلدان كلٌ حسب شؤونه واختصاصاته، ودرجة تنوع ديموغرافيته ومذاهبه وأديانه وتكويناته، أقول إن الفيدرالية هي نظام متطوِّر، وهي نظام عصري، هذا النظام العصري يطبق حاليا بنحو 25 بلد في العالم وأن أكثر من 40 في المئة، ربما 43 في المئة من سكان العالم، هم منضوون تحت إطار النظام الفيدرالي.َ

النظام الفيدرالي؛ بالمفهوم الذي أؤمن به أنا، لا علاقة له بمشروع جوزيف بايدن أو بمشاريع التقسيم التي تنتظر العراق. هذا شيء وهذا شيء. وأريد أن أقول أن مشروع النظام الفيدرالي لا علاقة له بالدستور العراقي الحالي، أي الدستور الدائم الذي تم الاستفتاء عليه يوم 15 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2005، والذي أجريت الانتخابات على أساسه في 15 ديسمبر عام 2005 وجاءت حكومة المالكي طبقاً للقواعد الدستورية التي جرى تكريسها في الدستور.

لماذا الدستور لا علاقة له بالفيدرالية؟ هناك ضوابط وقواعد “rules” عامة، للنظام الفيدرالي، وهذه القواعد لا تنطبق على الدستور العراقي. الدستور العراقي ينحى منحاً بعيداً عن هذه القواعد. أكثر حتى من النظام الكونفيدرالي، وليس النظام الفيدرالي، بل هو في واقع الأمر نظام تقسيمي أو يمهد لعملية التقسيم، أولياً؛ ويضع لمساتها ويضع خطوطها العريضة، وإذا ما تكرست بعض الحقوق والامتيازات خصوصاً لأمراء الطوائف في العراق، فالأمر، لا محالة، سيؤدي إلى التقسيم، خصوصاً إذا ما تكرست المصالح والامتيازات التي يريدها أمراء الطوائف والتي يمكن أن تؤدي إلى شيء آخر غير وجود الدولة العراقية الحالية.

إن دعاة التقسيم يقولون إن الدولة المركزية ونموذجها (نظام صدام حسين) ستؤدي إلى الديكتاتورية والاستعداد لا محالة، وبالتالي لا بد من تفكيك الدولة المركزية. ويضيفون الآن أنه سواءً كان جوزيف بايدن، أو بعض أمراء الطوائف، يقولون لكي نفك الدولة المركزية أو لكي نقضي على الإرهاب لا بد من تفكيك الدولة المركزية وجعلها تحت يافطة فيدراليات، بين قويسات، أو كانتونات، أو طوائفيات أو دوقيات أو مناطقيات أو سمِّها ما شئت، إلا أن تقول نظاماً فيدرالياً بالصيغة التي عرضتها.

ومثلما كانوا يقولون في السابق، القضاء على الديكتاتورية يتطلب تفكيك الدولة المركزية، أي تحويل بعض صلاحيات الدولة المركزية إلى الأقاليم.

الصلاحيات وفق النظام الفيديرالي

الوظائف الرئيسة للنظام الفيدرالي، فالقضية الأولى أو المسألة الأولى لأي نظام فيدرالي في العالم سواءً كانت الصلاحيات واسعة أو ضيقة، أنه لا بد أن تخضع القوات المسلحة بالكامل للدول الاتحادية أي للدولة المركزية.

وفي النظام الفيدرالي العراقي، لا يمكن للدولة الإتحادية أن تحرك جندياً واحداً في الأقاليم إلا بموافقة إدارات الأقاليم، وإذا لم توافق إدارات الأقاليم ليس من حقها أن تحرك جندياً واحداً، وإذا ما عرفنا في الدستور الراهن، أنَّ فيما إذا حصل نوعاً من التعارض بين الدستور الاتحادي، ودساتير الأقاليم، والدستور الاتحادي المركزي سيخضع للقانون الإقليمي، أي المحلي، أي لقانون الأقاليم طبقاً للدستور السائد.

والعلاقات الخارجية والدبلوماسية والدولية، تكون بيد الدولة الاتحادية. فالدستور الدائم الحالي يعطي لكل إقليم الحق في فتح فروع له في السفارات والممثليات الدبلوماسية العراقية لمتابعة القضايا الإنمائية والثقافية والاجتماعية. فإذا، هذا لا علاقة له بطبيعة النظام الفيدرالي.

المالية، والخطط المركزية والعملة وكل ما له علاقة بالواردات الرئيسية، من صلاحيات السلطة الاتحادية في النظام الفيدرالي. في نظامنا العراقي الراهن، يقول “النفط والغاز ملك الشعب”، وهذا صحيح ولكن في الحقول المستخرجة. وإذا ما عرفنا أن معبر الحقول في العراق غير المستخرجة، فستكون هذه الصلاحيات حصرياً بيد سلطات الأقاليم، وسلطات الأقاليم ستباشر بالتنفيذ لما تريد، وفعلياً، باشرت سلطات الأقاليم، خصوصاً سلطة إقليم كردستان بعقد أربع عقود نفط، انطلاقاً من صلاحياتها في الدستور. وستكر السبحة، لاحقاً، لأشياء غير منظورة. دعني أذكر مثلاً مهما؛ لنفترض أن السماوة أصبحت إقليماً، ولهذا الإقليم دستور خاص بها، وأن الحلة إقليم آخر، وأن الديوانية إقليم ثالث وأن بغداد إقليم بالطبع أو أكثر من إقليم وأن الرمادي إقليم أيضاً، أو جزء من الرمادي مدينة من مدن الرمادي…، وأردت أن تأتي ببضاعة من الشام لنقل إلى إقليم السماوة.

هذا افتراض، ولكن عملياً، في القانون هكذا يفسرون. سواءٌ عن طريق الجو، أو عن طريق البر، أو إذا كان هناك سكك حديدية. من حق الحلة، ولديها عداوة، على افتراض، مع السماوة أن لا تقبل مرور هذه البضاعة عبر أراضيها وقانونها المحلي يؤكد ذلك، أو أن لا تمر الطائرات فوق السماء الإقليمية للحلة أو بغداد أو الرمادي. ولا نريد أن أقول العراق كله صغير، فما بالك شركات مصغرة تكاد تكون مجهرية إزاء الكارتيلات والاحتكارات العالمية الكبرى، تتفاوض حول استخراج النفط وحول مستقبل الثروة المعدنية وغيرها لأقاليمنا المصغرة التجزيئية التقسيمية، ذات الصفة المجهرية، التي لا ترى ربما بالعين المجردة.

إن هذه قضية ذات بُعد خطير فيما يتعلق بمستقبل الدولة العراقية. لذلك، ما يجري الحديث أحياناً عن التقسيم، لم يَعُدْ هذا التقسيم هو موضوع تقديس أو تدنيس. العراق لم يعد موضوع مقدساً أو مدنساً. فالأمر دخل حيز التنفيذ. والموضوع لم يعد بين التشطير والتأطير. تجاوزنا مرحلة التفسير، انتقلنا من التنظير إلى التشطير، لم تعد القضية بين التأييد أو التنديد، الأمر يتجاوز ذلك.

هناك دعوة، أقرها البرلمان لإقامة أقاليم الجنوب، على سبيل المثال، وحظيت الدعوى بأغلبية في البرلمان. ولكن بسبب الظروف وبسبب معارضة شعبية أيضاً، والبرلمان مهما حصل على أصوات في الانتخابات في ظروف معينة لوجود الاحتلال 35 عام من الاستبداد والديكتاتورية، والقمع الفكري والسياسي والبوليسي المنفلت من عقاله، ليس عبثاً أن ينتقل الناس إلى النقاء أحياناً، ولكن في لحظة من لحظات تزييف الوعي، في موضوع ظرفي، مؤقت استغلت أسماء كثيرة فيه، ابتداءً من المرجعية، ووسائل الترغيب والترهيب. ودعم خارجي بما فيه إقليمي قد يكون لإيران دور فيه، إلى وسائل أخرى ونقائص وثغرات وعيوب احتواها القانون الانتخابي نفسه.

دور المرجعية

المرجعية تتحمل مسؤولية أيضاً، فيما وصلت إليه البلاد، موقفها كان عائماً، أو أصبح عائماً بعد أن كان منحازاً. وإذا كان للمرجعية دور وتستطيع، يُقال أن لها دور وتستطيع، لماذا إذاً لا توقف حمامات الدم؟ أين هي مسؤوليتها أيضاً؟ أما أن تتدخل في السياسة فتتخلى عن كونها مرجعية، أو تبقى مرجعية وتترك السياسة للسياسيين.

لكن مكان رجال الدين، وأقولها هنا علناً وصراحةً، الجوامع والمساجد والحسينيات والكنائس ودور العبادة. أما أن يتدخلوا في الرياضة والسياحة والسفر والتجارة والانحياز إلى هذا الفريق أو ذاك، فهذا ليس شأنهم، ليس شأن رجال الدين، سيكونون طرف سيتخلون عن مرجعيتهم إذاً.

عند ذاك، عندما يكونون طرف سيخضعون للخطأ والصواب إذاً، وسيكونون مسؤولين بهذا المعنى. ولذلك أنا أعتقد أن المرجع في النجف نأى بنفسه وإن كان بوقتٍ متأخر من الانخراط في العمل اليومي الدائم. في البداية. السيد السيستاني طرح أربع قضايا صحيحة: ان الاحتلال لا بد أن ينتهي، أن العراق لا بد أن يقوم على أساس وحدة وطنية وتعايش. هذه مسألة صحيحة. وعدم التشجيع على العنف، وهذه مسألة سليمة.

الدستور العراقي وواقع الحال

في الأساس، دستور للعراقيين بيد العراقيين، يكتبه العراقيون. وفي باب الحقوق والحريات، الدستور العراقي من أحسن الدساتير العربية. في ميادين استقلال القضاء، كان جيداً في قضايا حقوق الإنسان، وتأكيد هذه المبادئ، كان عصرياً. في الموقف من المرأة كان إيجابياً، لأنه أعطى “كوتا” 25 في المئة للنساء ليكونوا ضمن إطار أي عملية. لكن هذا الذي قُدِّم بيد سُحب باليد الأخرى، بما فيه تثبيت بعض النصوص باسم الإسلام، تسيء إلى الإسلام بالتقدير وإذا كان الاتجاه طائفي فتسيء إلى الطائفة.

ما كتب في مقدمة الدستور، وأنا أدعوكم لمراجعة هذا الدستور يسئ تماماً إلى العراق والعراقيين وإلى الطائفية. وقلت وأقول، بصريح العبارة، أن رجل الدولة هو غير رجل الحسينية. أنا أعرف قراء منابر حسينية، أكابر وعلماء وأفاضل وأعرف علماء ورجال دين أفاضل، ولكن الدستور كُتِبَ بلغة سياسية متدنية. وما أقوله ليس من باب التجريح بأحد. أقوله من موقعي كباحث وعراقي موجوع مهموم يختزن سنوات العمر كلها، في الدفاع عن الحريات والحقوق، وفي نفس الوقت أيضاً، معني بالتفاصيل اليومية والآنية، وحريص على أن يكون المستقبل غير هذا الذي نشاهده. هذا المستقبل سيقود إلى الكارثة، المقدمات ستقود أو تقود حالياً إلى الكارثة. العراق يعاني من الطائفية السياسية التي كُرِّست بصيغة “بول بريمر السحرية”، عندما قسَّمت المجتمع إلى شيعة وسنة وأكراد وكذا كذا الخ…، وأعطت 13 مقعداً و5 مقاعد للسنة، بطريقة بدائية سمجة. للأسف أن الطيف السياسي الذي جاء مع الأميركيين وهو الذي وافق على أطروحات الأميركيين، قبل بهذه الصيغة واعتمدها، من الوزير إلى الخفير.

إنهم جميعاً سيلحقون ضرراً بليغاً بالطائفة سواءً كانوا من هذه الطائفة أو من تلك الطائفة أو من تلك الطائفة. ولا يمكن بأي شكلٍ من الاشكال أن يكون المرء طائفياً ووطنياً، أو طائفياً ولديه مشروع وطني، إذا كان طائفي فلديه مشروع طائفي، أن يكون وطني إذاً نقيض الطائفية. وهذه قضية ليس فقط على صعيد عمل الممارسات الذي نشاهده يومياً وإنما على الصعيد الفكري والمستقبلي ستطرح تأثيراتها لاحقاً.

وأتحدث عن الباحث الاجتماعي الكبير علي الوردي العلاّم، منذ أكثر من نصف قرن من الزمان قال “هؤلاء الطائفيون بلا دين” لأن المؤمن الصحيح لا يمكن أن يكون طائفياً. المسلم الحقيقي ضد الطائفية. المتدين السليم لا يمكنه أن ينخرط في إطار مشروع طائفي. أحياناً يجره ضد الوطن. ولذلك، هذا الخطر الذي تركه لنا (بول) بريمر، وهو من معه، سينعكس انعكاسات خطيرة على صعيد المستقبل، خصوصاً اقترن بتطهير مذهبي وديني وعرقي، ووصل الاحتقان إلى حد الحرب الأهلية.

نحن نعيش في العراق في حرب أهلية. اللذين يقولون إنّا ما زلنا بخير، إما يريدون أن يجمدون الميت الذي في غرفة الانعاش ولكنه يدخل في غيبوبة منذ فترة غير قصيرة، لأنه بعده لم يمت. لم يحصل التقسيم حتى الآن، ولكنه واقع فعلاً. نحن في حرب أهلية ليست نمطية، بين الشيعة والسنة، إطلاقاً، أو بين العرب والكرد، إطلاقاً، أو بين الكرد والتركمان، بتاتاً. هي حرب الجميع ضد الجميع، حرب يحركها الاحتلال أولاً، المسؤول عن كل الذي حصل في العراق، وثانياً أمراء الطوائف المستفيدون من الوضع العراقي الحالي.

والطامعين في هذا الوضع العراقي الحالي، خصوصاً بعد أن تشظَّى المجتمع العراقي، انتشرت الرشوة، الفساد، إلى أبعد الحدود، فهذا واحد من التحديات، أن هناك 15 وزيراً مطلوبون إلى القضاء و93 مسؤول كبير في الدولة، مطلوبون إلى القضاء بتهم الفساد، يهربون أو يُهَرَّبون بطرق مختلفة.

ومن المؤكد أن بقاء الاحتلال معناه مشروع حرب دائم في العراق لن تنتهي الحرب بوجود الاحتلال، لا بد للاحتلال أن ينسحب، أن يرحل. إذا ما رحل الاحتلال، الكثير من المكونات التي تشكلت مع الاحتلال، في ضوء الاحتلال، بمساعدة الاحتلال، سوف لا يكون لها مكان في العراق. وهذه معادلة من نوع آخر. ظاهرة الإرهاب جاءت مع احتلال العراق الإرهاب الأعمى، الإرهاب الذي قاد البلاد إلى تغذية التناحر باتجاه الحرب الأهلية المستمرة. وما زاد الحرب الأهلية اشتعالاً هو تفجير مرقدي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري عليها السلام، في سامراء في شباط/فبراير عام 2006.

وفيما يخص ظاهرة الإرهاب، والجثث المقطوعة الرؤوس المجهولة الهوية، التي تُلقى على الطرقات، على الأرصفة في أكياس النفايات، في صناديق الموز، هذه أصبحت ظاهرة من أخطر الظواهر هذا العنف المستشري، هذا الانفلات لشلال الدم في العراق لا مثيل له، ولا يوجد في أي مجتمع، زاد معه وجود ميليشيات أيضاً، لا يمكن أن تبني، تتحدث عن دولة بوجود ميليشيات. وقضية الميليشيات سيأتي ذكرها لاحقاً. أنت دولة، إن لم تحتكر حتى استخدام السلاح لوحدك، وحق التقاضي لوحدك.

مداخلة الدكتور علي المؤمن

الحديث عن مستقبل العراق ينطلق من ظواهر الحاضر التي هي تراكمات الماضي. وتراكمات الماضي العراقي تبدأ منذ سقوط دولة الإمام الحسن(ع) في العراق، إذ لم يكن هناك وجود للدولة. وكانت الطائفية السياسية قد استشرت منذ العهد الأموي، والدولة العراقية يحكمها مركب طائفي ظلَّ قومياً. وصدام حسين نموذج للحاكم الطائفي القومي، وكان نموذجاً معبراً عن مشكلة الدولة والحكم في العراق، ومعبراً جيداً عن موضوع مشاكل العراق المستمرة.

المشاكل في تاريخ العراق عديدة؛ فالمشكلة الأولى هي مشكلة الدولة. والمشكلة الثانية هي التبعية للخارج، إذ أن القرار العراقي ظل مرتبطأً بالخارج أو مُنفعلاً به.

هناك ظواهر عدة أصابت العراق، هي: ظاهرة الانقلابات العسكرية، ظاهرة التدخل الخارجي، ثنائية الشعب والسلطة، عدم انتماء الشعب للدولة، فأصبح انتماء الشعب العراقي إلى المنظومات الإجتماعية كالقبيلة والقومية والطائفية للإحساس بالأمان. وهذا هو الواقع العراقي، والحاضر العراقي هو جزءٌ من الماضي الذي يبلغ عمره 1350 عاماً. الحاضر برغم آلامه الكبيرة فهو أجمل من الماضي، والسنوات الثلاث الأخيرة للعراق أجمل بكثير من 1350 عاماً من التناقضات الرهيبة التي عاشها الإنسان العراقي، والتهجير وانتهاك الأعراض وسلب الأموال والذبح والقتل والإعتقال وغيرها.

أنا أعتقد أن المنظر للفكر القومي العربي العراقي الحديث، ساطع الحُصري، هو الذي قتل السيد محمد باقر الصدر، وقتل السيد محمد باقر الحكيم، وهو الذي قام بكل هذه المجازر وهو الذي قام بكل ما قامت به دولة حزب البعث العربي الاشتراكي. كان فكر ساطع الحصري هو الذي أسّس لكل ذلك، أنا أقصد حتى غير السياسيين الذين ينتمون إلى الماضي، عملوا على قتلنا، واسقاط الجنسية عنا، ومارسوا انتهاك أعراضنا واعتقلونا وذبحونا وصادروا أموالنا.

هذا الماضي الأسود القاتم جداً، أعتقد أن الثلاث سنوات الماضية جمّلت صورة العراق بشكل أو بآخر، وكما قلت نستطيع أن نناقش هذا الأمر لأشهر طويلة، وهناك ملايين الأدلة التي تثبت أن صورة هذه الثلاث سنوات هي أجمل من كل جميل رأيناه في الـ 1350 عاماً الماضية.

إن مشاكل الحاضر، هي مشاكل طبيعية جداً. يعني، لو نظرنا إلى تراكمات الماضي، يعني 1350 عاماً من التراكمات؛ أنا أعتقد من الطبيعي أن ما يحصل حالياً في العراق، من قتل ودمار وذبح واحتقان طائفي وفساد إداري، طبيعي جداً. يعني لا نستطيع أن نتجاوز مرحلة عمرها 1350 عاماً في ثلاث سنوات. أنا أتذكر في عام 2003 عندما كان الحديث يجري عن قسوة الاحتلال وما يجري في العراق من دماء، قلت إذا استطعنا أن نتخلص من الواقع العراقي الحالي في مدة أقصاها 50 عاماً فقد نجحنا في بناء عراق عظيم جداً، عراق لا نظير له على مستوى العالم. يعني إذا بقي الوضع على ما هو عليه لمدة 50 عاماً فأنا لست متشائماً، هذا طبيعي جداً.

العراق يعيش الآن مرحلة انتقالية، مرحلة انتقالية غير طبيعية. يعني لم يحدث في العراق انقلاب عسكري، القضية ليست قضية عسكرية، القضية ليست قضية احتلال أميركي، لأن التغيير الذي جرى في العراق هو تحول 180 درجة على مستوى البنى الاجتماعية، البنى السياسية، البنى الفكرية، البنى العقلية، عقلية العراقي تغيّرت بالكامل. وهذا فيه، كما ذكرت، تجاوز لـ1350 عاماً من التاريخ المشوه والإرباك.

العراق لم يعشْ استقراراً حقيقياً، وقرباً من الواقعية السياسية إلاّ في هذه الثلاث سنوات، ظل العراق غير مستقراً ومرتبكاً 1350عاماً. لا أقول الدولة، على اعتبار أن الدولة ظلَّت مغيّبةً، أنا أتحدث عن السلطة. ومن هنا أنا أعتقد أن ما نعيشه هو أمر طبيعي جداً لأنها مرحلة انتقالية، مرحلة سنتجاوز فيها مئات السنين من الاحتقان التاريخي المتميز الذي لا نظير له على مستوى العالم.

إن العنف الذي يستمر في تجفيف منابع الحياة في العراق اليوم، يتمحور معظمه حول معادلة تاريخية عنوانها: عدم الاستقرار في العراق؛ فهناك من يقاتل من أجل اجتثاث جذور عدم الاستقرار في العراق بعوامله التي تعود إلى مئات السنين، وهناك من يقاتل من أجل الإبقاء عليها.

والحقيقة ان العراق لم يشهد منذ قرون طويلة أي استقرار سياسي واجتماعي، بسبب العوامل الضاغطة التي ظلت تحافظ على خصوبة أرض العراق لنمو كل ألوان القلق. وإذا تجاوزنا الحقب التاريخية التي تعود إلى الأموية والعباسية والاحتلال المغولي والصراع الصفوي ـ العثماني، وركزنا على العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي، أي مرحلة استتباب السيطرة التركية العثمانية على العراق، سنجد ان شجرة عدم الاستقرار التي زرعها العثمانيون بقيت تثمر حتى بعد رحيل الأتراك عن العراق. فالحكم العثماني كان متناقضاً قومياً ومذهبياً (أتراك ـ سُنة) مع أكثرية الشعب العراقي (عرب ـ شيعة)، برغم الشعارات الإسلامية التي كان يرفعها العثمانيون، وهي شعارات لم تمنعهم من ممارسة سياسة تمييز شاملة ضد شيعة العراق، تبدأ بالإفقار والتجهيل والإهمال في المجال الصحي والتنمية الإنسانية، ولا تنتهي باستباحة المدن والقتل وفتاوى التكفير والاستبعاد عن أي منصب حكومي. ومن رحم هذا التمييز ولد الحكم المطلق للنخبة التي تنتمي إلى الأقلية في العراق.

حين احتل الانجليز بغداد عمدوا إلى تكّريس عوامل عدم الاستقرار في العراق، يدفعهم إلى ذلك أسباب عديدة، أبرزها ضمان إبقاء الوضع قلقاً متحركاً وصاخباً، لضمان سيطرتهم على العراق واستمرار حاجة الدولة العراقية إليهم.

عوامل مؤثرة في الواقع العراقي

وتتمثل هذه العوامل في جملة من المشكلات المستعصية في الواقع العراقي ماضياً وحاضراً، أهمها:

أولاً، مشكلة الدولة: وهي دولة النخبة السياسية التي تنتمي إلى الأقلية المذهبية القومية (العربية السنية)، برغم تغير الحكومات وإيديولوجياتها، وهذه الدولة هي سلطة أكثر من كونها دولة بالمعنى الدستوري الحديث.

وثانياً، مشكلة الحكم: والحكم هو الآخر ظل حكراً على النخبة التي تنتمي إلى الأقلية المذهبية الأخرى (الكردية السنية والتركية السنية) أو ينتمون إلى الأكثرية المذهبية (العربية الشيعية). كما ان الطبيعة الاستبدادية والدكتاتورية للأنظمة ظلت تمسك بالواقع العراقي بقوة، الأمر الذي جعل الحكم العراقي منفصلاً في ممارساته وتوجهاته عن الشعب العراقي وتطلعاته، ويكون بين الطرفين بحر من الكراهية وعدم الثقة.

وثالثاً، مشكلة التبعية إلى الخارج: ظل العامل الخارجي فاعلاً مهماً وأساسياً في رسم المشهد السياسي في العراق، فبعد الأتراك الذين حكموا العراق حكماً مباشرةً حتى عام 1917، بقي الانجليز يتحكمون بالدولة تحكماً مباشراً حتى عام 1958، ثم أصبح العامل الخارجي مستتراً خلال العهد الجمهوري، ولكنه نشط مع انقلاب حزب البعث عام 1968. ومع الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 بات العراق محكوماً بمشروع خارجي شامل.

وأبرز مشكلات العملية السياسية حالياً تتمثل في مشكلتين أساسيتين: المشكلة الأولى، عدم الواقعية السياسية، فمعظم السياسيين يفتقدون إلى الواقعية السياسية، الشيعة، السّنة، الأحزاب الإسلامية، الأحزاب العلمانية، الجماعات المرتبطة بحزب البعث أو الجماعات الأصولية الإسلامية المرتبطة بالقاعدة أو السلفيين. فمثلاً أن تقوم “القاعدة” بتأسيس إمارة إسلامية في غرب البلاد، هذه ليست واقعية. أن يفكر الشيعي أن يحصل على أكبر كمية أو أكبر حجم من المكاسب، التي يعوّض فيها تاريخ 1350 من الاقصاء والحرمان، هذه ليست واقعية سياسية. والسُني عندما يريد أن يعود إلى الماضي، ويحلم بالماضي، ويحلم باسترجاع الضيعة التي ضاعت، هذه أيضاً ليست واقعية سياسية. يعني، يجب على السُني، أن يعتبر أن العودة إلى الماضي أمر مستحيل والعودة إلى حكم المركب الطائفي القومي أمر مستحيل، الشيعي عندما يريد أن يكون واقعياً يجب أن يعرف أنه بدل أن يفكر تفكيراً طائفياً ويحكم طائفة معينة فإنه يجب أن يحكم الوطن، على أساس المعايير الديمقراطية البديهية، الشيعي يمثل الأكثرية السكانية، فبدل أن يحكم كانتون في الوسط والجنوب، لماذا لا يحكم كل العراق؟

الكردي أيضاً عندما يهرب من الواقعية السياسية باتجاه محاولة الاستقلال بإقليم مخنوق من أربع جهات ليس له مُتنفس، أيضاً هو بعيد عن الواقعية السياسية. الأحزاب الإسلامية أيضاً التي تفكر بحكم إسلامي أصولي أيضاً هي ليست واقعية على اعتبار أنها تتجاوز وجود فئات كبيرة من الشعب العراقي، علمانية وقومية ولا تشترك معها طائفياً هي أيضاً ليست واقعية. الأحزاب العلمانية في العراق، بعيدة عن الواقعية السياسية عندما تريد أن تحول العراق إلى بلد علماني والحكم العراقي إلى حكم علماني، وتريد أن تُقصي رجال الدين وتُقصي المرجعية، هذه أيضاً ليست واقعية سياسية. يجب أن نؤمن بالعراق كما هو، العراق عبارة عن خليط اجتماعي خليط عرقي، خليط مذهبي، وإذا كنا نؤمن بالواقعية السياسية وتجاوزنا مشكلة الواقعية السياسية، أنا أعتقد أننا سنتجاوز مرحلة طويلة جداً من المعاناة.

وعن مشروع الاحتلال؛ أنا لا أتحدث عن الاحتلال هنا، لا أتحدث عن قوات عسكرية موجودة في بغداد والعراق، أتحدث عن مشروع الاحتلال. تعرفون أن مشروع الاحتلال الأميركي لم يكن مشروعاً للسيطرة على النفط، أو للسيطرة على مقدرات العراق. كان الهدف من الاحتلال هو أن يتحول العراق إلى بلد نموذجي للديمقراطية الأميركية الحديثة، أو لما يُسمى بأمركو ودمقرطة الشرق الأوسط الكبير.

ومن هنا، فإن مشروع الاحتلال هو أخطر بكثير من الاحتلال العسكري رُغم فشل مشروع الاحتلال الأميركي.

برأيي، إن مشروع الاحتلال في الوقت الحاضر لم يعد المشكلة، بل الاحتلال العسكري بات هو المشكلة الحقيقية. وقد أفرزت هذه المشكلة مجموعة ظواهر يعاني منها الحاضر العراقي: الظاهرة الأولى هي مشكلة الإرهاب، ومشكلة الأمن. ظاهرة الإرهاب هي ظاهرة معقدة جداً يدخل فيها الإرهاب السياسي، الإرهاب الاجتماعي، الإنتقام، الثأر، حتى حالات الثار تحولت إلى لون بشع من ألوان الإرهاب، وأقصد به الإرهاب الذي تمارسه عصابات السلب والنهب والاختطاف. إذاً المشكلة هي مشكلة أمنية، عامة، معقدة جداً. يعني لن ينتهي الإرهاب حتى إذا انتهينا من مشروع المصالحة الوطنية، ووافقت حركات المقاومة على الدخول في العملية السياسية. المشكلة أن هذه الظاهرة أعقد بكثير مما يتصور البعض، وربما تنتهي هذه الظاهرة إذا أصبح للدولة مركزية وللحكومة هيبة وسلطة كاملة.

الظاهرة الثانية التي يعاني منها الواقع العراقي هو أقلمة وتدويل القضية العراقية. يعني القضية العراقية لم تعد قضية داخلية. القضية العراقية هي قضية دولية أعقد بكثير من القضية الفلسطينية، وأعقد بكثير من كل القضايا العالمية المعروفة. كل العالم لديه مصالح في العراق، كل دول الجوار لديها مصالح في العراق، بل أصبح العراق رهان أميركا في تنفيذ مشروها الشرق الأوسطي، رهان إيران، رهان إسرائيلي فرض أمنها في مواجهة المشروع الغربي، رهان السعودية، رهان الشيعة، رهان السنة، رهان الوهابيين، رهان العالم كله.

معادلة الصراع الذي يجري في العراق تتمثل في أن من يسيطر على العراق يسيطر على المنطقة، والذي يسيطر على المنطقة سيسطر على كل الشرق الأوسط، على اعتبار أن العراق هو مفتاح كل المنطقة. من هنا، نرى أن السعودية تعمل بكل ما لديها من قوى من أجل المحافظة على نوع من الوجود في داخل العراق. هذا ما تفعله سوريا أيضاً، الأردن، أميركا، إيران، كل الدول تحاول أن يكون لها وجود في العراق؛ من أجل أن يبقى نفوذها في المنطقة نفوذاً قائماً في الحاضر وفي المستقبل.

الظاهرة الثانية هي فوضى القرار. فوضى القرار على مستوى الدولة وعلى مستوى الحكومة، أقصد كل أنواع القرار. القرار السياسي والقرار الاقتصادي والقرار النفطي، حتى القرار الإداري أيضاً. تعدُّد مراكز القرار له علاقة بطبيعة المشاركة في السلطة. يعني مثلاً، عندما يُعاتب هوشيار زيباري على عدم انسجام سياسته الخارجية مع سياسة رئيس الحكومة يقول أنا لست وزيراً عند نوري المالكي، أنا مشارك في السلطة”، يعني أنا جزءٌ من السلطة، أنا صاحب قرار مثل نوري المالكي، مثل جلال الطالباني مثل الحكيم لأني أمثل البرزاني، يعني أنا لا آخذ قراراتي في رسم السياسة الخارجية من رئيس الوزراء لأني مشارك في الحكم، وأنا أمثل حزب حاكم، كما يمثل نوري المالكي حزب حاكم. هذه الكانتونات الموجودة في داخل الدولة العراقية أو في داخل الحكومة العراقية هي سبب كبير جداً من أسباب فوضى القرار في العراق.

اعتبر أن هذا الموضوع يجرنا إلى الحديث عن ثلاثة مكونات اجتماعية، موجودة على خط القرار أو تساهم في اتخاذ القرارات السياسية. المكوِّن الأول، المرجعية الدينية ورجال الدين، والمكون الثاني الميليشيات، والمكوِّن الثالث العشائر والقبائل.

بالنسبة إلى موضوع الميليشيات، تعرفون أن مصطلح الميليشيات هو مصطلح عائم جداً. هناك نوع من الميليشيات مارست دوراً أساسياً في محاربة النظام السابق مثل قوات الشهيد الصدر التابعة لحزب الدعوة أو فيلق “بدر” التابع للمجلس الأعلى، أو قوات “البشمركة” التابعة للأحزاب الكردية، إضافة إلى القوات التي كانت تابعة لحركة “حزب الله” في الأهوار وغيرهم، كل هذه الميليشيات كانت ميليشيات معارضة، وكانت قوى مسلحة معارضة للنظام السابق.

وعدم حل مشكلة الميليشيات هو الذي خلق هذا اللون من الفوضى. فمثلاً قوات الشهيد الصدر أو قوات “بدر” يُطلق عليها ميليشيات لأنها كانت قوات معارضة مسلحة، مارست أنواع من العمل المسلح والفدائي في عصر النظام السابق. فكان من المفترض أن تحل مشكلة القوات المسلحة للمعارضة العراقية بطريقة مناسبة، حتى لا تختلط الأمور ببعضها؛ فنأتي ونصف “بدر” كما نصف “القاعدة”، ونصف: جيش المهدي” كما نصف الحركات الإرهابية التي تمارس تفجير الأسواق وذبح الناس. هذا طبعاً خطأ حتى من الناحية المفهومية، حتى من الناحية المصطلحية، حين تساوي بين “بدر” وبين الميليشيات من بقايا النظام السابق والتكفيريين وغيرهم.

نتائج العوامل المزمنة

أقول إن هذه المشكلات والظواهر أو عوامل عدم الاستقرار، تسببت في ظواهر سياسية واجتماعية ونفسية أخرى، طبعت النظام السياسي والشعب العراقي بطابعها وعملت على تشكيل شخصية العراق، وهي:

أولاً، الانقلابات العسكرية الدموية المستمرة: فمنذ تأسيس ما عرف بالدولة العراقية الحديثة، حدثت في العراق ثمانية انقلابات عسكرية ناجحة (من 1936عام وحتى عام 1968) وعشرات الانقلابات الفاشلة.

ثانياً، التدخل الخارجي: والذي كان تركياً حتى عام 1917 ثم تحوَّل إنجليزياً بعدها، وانتهى أميركياً منذ عام 2003. وبين هذه الإحتلالات كانت هناك موجات من التدخل، عملت على تغيير الخارطة السياسية في العراق أكثر من مرة. ومما يزيد من تعقيد هذه الظاهرة شعور الشعب العراقي بأن أي تغيير في العراق يقف وراءه تدخلاً خارجياً، وان الحكومات العراقية اما تأتي بقطار أجنبي أو على دبابة أجنبية.

ثالثاً، الصراعات الدموية بين الأنظمة الحاكمة والشعب العراقي: وقد نتج عن هذه الصراعات مقتل مئات الآلاف من العراقيين، أغلبيتهم الساحقة من السنة الأكراد والشيعة العرب والأكراد والتركمان. والأرقام في هذا المجال ربما يندر مثيلاً لها على مستوى دول العالم.

رابعاً، شعور الأكثرية السكانية بعدم الانتماء للدولة: فبرغم اعتزاز شيعة العراق بعراقيتهم ووطنيتهم وانهم مواطنون عراقيون بالمعنى القانوني والسياسي البسيط، إلا أن شعورهم بالانتماء للدولة ناقص ومبتور وأحياناً معدوم.

ليس المقصود بالدولة هنا الوطن، وإنما السلطة الشمولية التي تمارس تمييزاً شاملاً ضدهم، وانها تضطهدهم ولا تحميهم ولا تمثلهم، بالنظر لصعوبة التفريق بين الدولة والنظام والسلطة، ولا فصل حقيقياً بينها. هذا الشعور لدى الأكثرية جعلها في خصام دائم مع كثير مما تمثله الدولة، ولا سيما نظامها السياسي وكثير من قوانينها وسلطاتها، كما دفع هذا الشعور الشيعة إلى اللجوء إلى الكيانات الاجتماعية الأخرى، واعتبروها دولتهم التي تمثلهم وتحميهم، وأبرز هذه الكيانات: المرجعية الدينية والقيادة العراقية والعشيرة، بصرف النظر عن البعد الديني للمرجعية والبعد الإجتماعي للقيادة العراقية والبعد الإنساني للعشيرة؛ لأن المراد هنا البعد السياسي ـ الاجتماعي الذي يجب أن تختص به الدولة. ولطالما عبّر الشيعي العراقي في الظروف الضاغطة عن انتماءاته هذه؛ فعدّ العشيرة دولته، والمرجع الديني قائده، والنجف الأشرف عاصمته. مثلاً كان شعار الجماهير العراقية الشيعية في تظاهراتها عام 1967: “سيد محسن [الحكيم] قائدنا والنجف عاصمتنا”، وهو شعار عميق في مدلولاته التاريخية والسياسية والإجتماعية والنفسية، حتى وإن كان من أطلقه لا يعي هذه العمق.

ولا شك ان الدولة العراقية لن تستقر فيما لو بقيت هذه العوامل قائمة، وسيبقى الخصام والصراع بين الدولة والشعب سيد الموقف، كما سيبقى نزيف الدم يصبغ الواقع العراقي بلونه.. وإلى الأبد.

الدور الحقيقي للمرجعية الدينية

وبالنسبة إلى موضوع المرجعية وعلاقتها بالقرار السياسي ودور رجال الدين باعتبار المرجعية وما تمثله المرجعية من قيادة اجتماعية، فإذا فهمنا طبيعة المرجعية الدينية منذ عصر غيبة الإمام المهدي (ع) وحتى الآن، نرى أن المرجعية الدينية لم تكن يوماً مرجعية دينية وحسب، بل ظلَّت قيادة اجتماعية. وهناك فرق كبير بين القيادة الاجتماعية وبين السلطة الدينية.

وكانت المرجعية الدينية دائماً قيادة للمجتمع الشيعي، قيادة للنظام الاجتماعي الشيعي، منذ الغيبة الكبرى وحتى الآن. ومن هنا كانت تتدخل بالأمور الحسبية وفي تنظيم المجتمع، كانت تتدخل في القضاء بين الناس والتحكيم بين الناس كانت تتدخل في رعاية بيت المال. يعني كانت عبارة عن حكومة تفتقد إلى السلطة السياسية فقط، وإنما باقي السلطات كانت تمتلكها المرجعية منذ مئات السنين وحتى الآن. يعني كانت تمتلك القرار المالي للشيعة، كانت تمتلك القرار الاجتماعي للشيعة كانت تمتلك القرار الديني للشيعة؛ يعني لديها سلطة الفتوى، سلطة القضاء، وسلطة الأمور الحسبية، سلطة الحقوقة الشرعية وهي ما يعرفها الفقهاء بالولاية، أي الولاية على الفتوى وولاية الأمور الحسبية والولاية على القضاء والولاية على الحقوق الشرعية.

إذاً، هناك فرق كبير كبير بين المرجعية الدينية السنية والمرجعية الدينية الشيعية، ويجب أن لا نُغفل هذا الأمر عندما نتحدث عن تحرك المرجعية الدينية في النجف الأشرف. المرجعية في النجف الأشرف، تمارس اليوم وضعاً طبيعياً كان يمارسه الشيخ المفيد والشيخ الطوسي والإمام الخميني، والسيد محمد باقر الصدروالسيد محمد الصدر وابن ادريس والحلي والكركي والبهائي، كما كان يمارسه الانصاري والميرزا شيرازي والبروجوردي والسيد محسن الحكيم، وكل المراجع كانوا يمارسوا هذا الدور من القيادة الاجتماعية.

من غير المستساغ أو السهل أن نقول للمرجعية الدينية انسلخي أو انفصلي عن تاريخك وعن تنظيمك الاجتماعي التاريخي، وابقي تتعاملين مع الأمور الدينية أو مع قضايا الفتوى، وابقي في الحسينية ولا تمارسي أي دور وطني، في حين أن المرجعية ظلت تمارس أدواراً وطنية اساسيةً على مر التاريخ.

ونذكر أن السلطة العثمانية لم تتصدَّ في يوم من الأيام إلى الهجمات الوهابية على النجف وكربلاء، كانت المرجعية هي التي تتصدى. الدولة العثمانية فشلت في التصدي للاحتلال الانكليزي، المرجعية الدينية هي التي فجرت الوضع وهي التي قادت العمل الوطني، المرجعية الدينية لم تكن تمارس يوماً دوراً طائفياً، بل كانت على مر الزمن تمارس دوراً وطنياً.

وما كانت تقوم به المرجعية الدينية في النجف، حيال الأحداث التي كانت تدور في إيران أيضاً، كانت أدواراً وطنية، كما في ثورة “التنباك” والثورة الدستورية، ثم في العراق على مستوى معارك “الشعبية” عام 1914، وثورة النجف عام 1918، وثورة العشرين عام 1920، وعلى مستوى التصدي لمعاهدة “بورتسموث” 1947، وعلى مستوى التصدي للاحتلال الإيطالي لليبيا، ونصرة الثورة الجزائرية، ونصرة كل التحركات العراقية الوطنية. هذه البنية الاجتماعية التي كانت تنطلق منها المرجعية هي التي تحرك المرجعية في الوقت الحاضر. بالطبع هناك خلط بين علاقة الدين بالسياسة وبين علاقة رجل الدين بالسياسة.

وألفِت إلى أن رجل الدين ليس الدين، والمرجعية الدينية ليست الدين. بالطبع، المرجعية الدينية مكوِّن اجتماعي يريد أن يمارس دوره الوطني بشكل طبيعي، وما حققته المرجعية النجفية بعد سقوط نظام صدام حسين هو إنجاز تاريخي لايتقدم عليه أي دور تاريخي في العصر الحاضر إلاً دور الإمام الخميني في إيران.

فالسيد السيستاني لعب في العراق أدواراً اساسية على مستوى إعادة بناء الدولة العراقية الحديثة، وحفظ كيان العراق، وحماية الواقع الاجتماعي العراقي. وأهم إنجاز حققته المرجعية الدينية في العراق وإيران هو الحيلولة دون تطبيق مشروع الاحتلال. وهناك ملايين الأرقام والمستندات التي تثبت أنه لولا المرجعية الدينية لسقط العراق في يد مشروع الاحتلال الأميركي، وأرى أنَّ مشروع الاحتلال قد سقط، ولا أقصد هنا الاحتلال العسكري. لأن الأميركيين جاؤوا ليغيروا المناهج الدراسية، جاؤوا ليغيروا العقل العراقي، جاؤوا ليغيروا الثقافة العراقية، جاؤوا ليبنوا على تراث العراق واقعاً جديداً، جاؤوا ليبنوا ديمقراطية شبيهة بديمقراطية تكساس وديمقراطية نيويورك، ولكن المرجعية الدينية ومعها الحركات الإسلامية العراقية، ولا سيما حزب الدعوة، والمجلس الأعلى والتيار الصدري، حالوا دون تطبيق المشروع الأميركي في العراق، وما جرى من انتخابات، منذ الجمعية الوطنية الأولى، وانتخاب لحكومة إبراهيم الجعفري، وحكومة نوري المالكي، كلها دمرت المشروع الأميركي. المشروع الأميركي، كان لديه عناصره التي حضرها منذ سنين وبني لها قواعد عسكرية وعمل لها دورات في الإدارة والحكم والسلطة، وفجأة وجدت أحجار رقعة الشطرنج الأميركية نفسها، خارج اللعبة السياسية. وأقولها بالعراقي البسيط، لقد جاءت جماعة المرجعية وأفشلت المشروع الأميركي، وأمسكت بالسلطة وتحول الموضوع إلى موضوع مختلف بالكامل عما كانت تطمح إليه أميركا.

ويكون بذلك المشروع الوطني الإسلامي الشيعي هو الذي أسقط مشروع أميركا في الرعاق والمنطقة. المرجعية الدينية في النجف الأشرف حقنت الدماء، لولا المرجعية الدينية لأصبح العراق بركة من الدماء، وهذا ما كانت تطمح إليه القاعدة وما كان يطمح إليه الاحتلال الأميركي.

والسيد السيستاني رفض أي عملية انتقامية، وأصدر فتاوى تحرِّم القيام بعمليات ثأرية وانتقامية ضد السنة، على اعتبار أن الذين يقومون بتدمير المراقد والمزارات الشيعية، ينتمون بشكل أو بآخر إلى حركات أصولية سنية تكفيرية أو إلى بقايا النظام السابق. تعلمون أن أكثر من 70% من المراقد والمزارات الشيعية في العراق دمرتها “القاعدة” والعناصر الوهابية وبقايا النظام السابق، ولكن الإمام السيستاني رفض أي لون من ألوان الانتقام ورفض أي لون من ألوان الرد على هذه العمليات.

وبالفعل، فإن المرجعية الدينية في العراق وإيران هي التي حفظت العراق من التدمير، وهي التي حفطت كيان العراق، هي التي أسست لنظام سياسي جديد في العراق تجاوزنا فيه قروناً من حكم الأسر والطواغيت وغياب الدولة والحكمة العادل. وبالتالي فإن الإمام السيستاني لم يتدخل في السياسة على اعتباره رجل سياسة، بل تدخل في ترشيد السياسة وضبط العملية السياسية إنطلاقاً من مسؤوليته الشرعية، وأرى أن المرجعية الدينية ستظل قيادة اجتماعية للنظام الديني والإجتماعي الشيعي، أردنا أم نرد، هذه هي الواقعية السياسية بعينها.

وإذا أردنا أن نكون واقعيين يجب أن نحترم كل المكونات الاجتماعية العراقية، لا أن نقلب الطاولة على المكونات الاجتماعية، لأننا بذلك سنخرج عن التاريخ، وسنخرج عن الواقع، ونفكر بصياغة بلد جديد لا أدري ما اسمه: عراقستان، أو أي اسم آخر، وفي جزيرة مستقلة أيضاً. أما العراق الحالي فهو هذا العراق، عراق القبائل، عراق المرجعية الدينية، عراق الأكثرية السكانية الشيعية، عراق التعددية الطائفية والقومية والحزبية. إذا أردنا أن نبني العراق بناء مستقبلياً، صحيحاً، يجب أن نعترف بكل ما موجود في العراق من مكونان ووجودات. ومن منطلق هذا الواقع، أتحدث عن متطلبات المستقبل وليس عن صورة المستقبل.

ربما تكون صورة المستقبل العراقي غير جميلة، ولكنها ليست قاتمة وليست أبشع من صورة الماضي البغيض، أنا متفائل بمستقبل العراق، وأعتقد أن عراق المستقبل، حتى لو استمر الوضع كما هو عليه الآن 50 سنة، فهو أجمل بكثير من صورة الماضي، على الأقل يحسَّ اليوم المواطن الذي ينتمي إلى الأكثرية بأنه مواطن من الدرجة الأولى، وليس مواطن من الدرجة العاشرة.

وبالنسبة إلى الدستور، فيه حتى على مستوى الصياغات الفنية، هناك كثيرمن الأخطاء، وكنت أتساءل عن الموجودين في لجنة صياغة الدستور، لم يكن هناك حتى متخصصين في القانون الدستوري، وكان ضرورياً أن تسلم المفاهيم والأفكار إلى لجنة من عشرة دكاترة متخصصين في القانون الدستوري لكي يصيغوا الدستور أو يصيغوا الأفكار صياغة فنية، ثم تُعرض على الجمعية الوطنية. أما أن يكون الدستور بهذا الشكل، فمع إيماني بمعظم ما جاء في الدستور من أفكار، ولكن الدستور بحاجة إلى تعديل في بعض المضامين، وتعديل في الصياغات الفنية، ولا سيما فيما يتعلق بالنظام السياسي. فالنظام البرلماني لا ينسجم مع طبيعة بنية الإجتماع السياسي العراقي.

لابد أن يكون النظام رئاسياً برلمانياً (مختلطاً) شبيهاً بالنظام الفرنسي، فيتنخب الرئيس من قبل الشعب مباشرة، وتكون له صلاحيات تنفيذية اساسية. وينتخب رئيس الوزراء من البرلمان. هذا النظام الثنائي هو الذي ينسجم مع حالة العراق.

وتُعد مركزة الدولة أمراً ضرورياً، وتحديداً مركزة قرار الحكومة. الفيديرالية الإدارية ضرورة وطنية وضرورة لا بد منها، ولكن مركزة الدولة ومركزه القرار السياسي والقرار الاقتصادي مطلب أكثر من مصيري، لأنه سيقضي على معظم ألوان الفوضى.

مداخلات الحاضرين

د. سمير سليمان:

لا أدري إذا كنت أملك صيغة بقدر ما أملك تدخلاً في بعض الأحيان في ظني، رغم الظاهر الذي بدا في تناقض المداخلتين، فأظن أن بينهما الكثير من القواسم المشركة. ولكن المراقب غير العراقي في اعتقادي، ثمة إشكالية كبرى تطرح أمامه؛ إذا كانت أوضاع العراق على هذا المستوى، إذا رأيناها ببعدها التاريخي، أو ببعدها الواقعي أو نظرياً إليها كصفة علماء اجتماع، أو نظرنا إليها كأنتربوبولوجيين، كيف يكون الحل؟ أي حل لقضية العراق؟

لن يكون هذا الحل حلاً خارجياً، لا بد أن يكون حلاً داخلياً. وفي ظني، وفي تجاربنا المتواضعة التي خصصت على مستوى المنطقة، ومن خلال ما نعرفه واختبرناه في تاريخ الإنسانية، يبدو من وجهة نظري على الأقل، ومن حقكم أن تناقشون وأن تختلفوا معي، في هذا المسار، يبدو أنه لا يمكن لأي أمر أن يستتب في عملية اصلاح أو عملية تغيير أو عملية تطوير لوطن يحتله أجنبي.

إن أصل المسألة يبدأ بالاحتلال، سواءً سميناه يا أخي علي احتلالاً بالمعنى العسكري المباشر للكلمي، أو بالمعنى الايديولوجي والسياسي بعنوان “مشروع الاحتلال. إذاً، في اعتقادي، وأنا لست هنا في موقع النصيحة، لكن كمراقب، يخيل إلي، أن بداية الحل، تكون بالتخلص من هذا الاحتلال. والتخلص من هذا الاحتلال، طرائقه معروفة، ولا أتحدث عن نمط واحد من أنماط التخلص من هذا الاحتلال، أنا أتحدث عن أنماط مختلفة، هذا الاحتلال يقاوم عسكرياً، ويقاوم سياسياً، ويقاوم ثقافياً، ويقاوم دينياً. إذاً، على مستويات مختلفة، يمكن لهذا الاحتلال أن يزول.

والقضاء على الاحتلال، وبأسرع وقت ممكن، بأن يكون المدخل المنطقي والسليم، بداية امساك طرف الخيط، للوصول إلى النور العراقي الآتي فيما بعد، وهذه نقطة.

أما النقطة الثانية، فعندما تساءلت عن أية مدرسة فكرية، أو أية قوة دينية، أو أية فلسفة قادرة على تقديم الحلول، قد يطرح البعض مسألة الديمقراطية. في وجود الاحتلال لا ديمقراطية في خروج الاحتلال. يمكن للعراقيين أن يتوافقوا، تحت عنوان ما كنا قد أشرنا إليه، وأشار إليه بعض الإخوان، أثناء وجود السفير العراقي في الندوة الماضية: تحدثت يا دكتور علي، تحدثت عن مسألة المواطنة؛ ودورها في بناء دولة المواطنة، في ظني بوابة العبور إليها هي بوابة الديمقراطية ولكن بعد خروج الاحتلال، ولا نريد أن يقع إخوتنا العراقيون في المطب اللبناني تحت عنوان الديمقراطية العددية التي كان الشيخ شمس الدين قد أشار إليها.

لكن ستثار في وجه مسألة الديمقراطية في العراق، التناقضات القائمة حالياً. أما إذا ما أثيرت، تحت عنوان المحاصصة الطائفية أو بعنوان الطائفية السياسية. ولا أقول إن المرجعية أحسنت أم أخطأت، لأني ربما لا أملك المعلومات الكافية عن هذه المسألة لكن بالتأكيد ثمة إحساساً، ان هناك فراغاً ما تملأه المرجعية في المرحلة الراهنة.

والنقطة الأخيرة التي أحب أن أشير إليها وهي نوع من السجال الاكاديمي بيني وبين السيد علي المؤمن، أنا لا أوافق على العنوان الإسلامي، أن العامل الخارجي في المسألة العراقية هو عامل مؤثر على مستوى الذاكرة الجمعية وعلى مستوى التاريخ العراقي، إلا في المرحلة الحالية. يعني أن لا أوافق على مقولة أن يكون العراق، هذه مسألة علمية وأتمنى الانتباه لها لنفكر فيها؛ أنا لا أجزم، أنا في موقع باحث مثل أي باحث آخر. أنا أعتقد أن مشاكل العالم الإسلامي، مشاكل البلدان الإسلامية، على مدى التاريخ، على مدى التاريخ القديم في العصر الكلاسيكي هي مشاكل من داخل العالم الإسلامي، لم يكن هناك عامل خارجي، برأيي، خارج ما كان يُسمى بين مزدوجين، هذه الإمبراطورية الإسلامية، لم يكن هناك خصمٌ خارجي قادر على التدخل في شؤونها.

هذه الدولة كانت فيها دولة سياسية واحدة، فيها دولة اقتصادية واحدة، ضُربت مع تأسيس دولة الأمويين في الأندلس. وضُربت، مع تأسيس الدولة الفاطمية، صحيح، ضُربت على مستوى الوحدة، لكن كان هناك مناخ عام. في رأيي، العامل الخارجي بدأ في الأعصر الحديثة، نستطيع الحديث عن هموم العالم الإسلامي عن هموم الشعوب المسلمة باعتبارها دولة واحدة، لكن من الداخل، العامل الخارجي، في ظني، ليس قبل القرن الثامن عشر، بعد القرن الـثامن عشر يمكن أن يُحسب للعامل الخارجي كل حساب.

وهل لم يكن لهذا العامل (الخارجي) أي دور على الإطلاق؟ لا، كان له قبل تلك المرحلة أدوار، لكنها أدوار محدودة جداً، وقادرة على الضغط على الأطراف، لكنها في العمق، في القلب، كانت عاجزة عن الضغط. وهنا كانت مسألة الصراع على السلطة، في مسألة العلاقة بين الدين وبين السياسة، كما هي الإشكالية المطروحة اليوم، في تلك المرحلة أختم وأقول إني أسجل أني لم أسمع في المداخلتين كلمة المقاومةً.

نجم الناصري:

ما هي السبل أو الطريقة لتفعيل الحركة الوطنية في العراق؟

يوسف حمودي:

إذا كان الدستور العراقي الحالي يعاني من ثغرات كبيرة حسب رأيكم، وهل هناك إمكانية فعلية لتحديد ذلك؟

نعمت شاهين:

قرأنا في الصحف عن موضوع نجاة محافظ بغداد حسين طحّان من الإغتيال، والعثور في الوقت ذاته على جثث موجودة. تحدثت عن العراق وتحديات المستقبل. وبالمقابل كان هناك من وجهة أخرى القرارات الأميركية، برسم الواقع العراقي والمستقبل العراقي. أين الحماية الحقيقية للأشخاص الذين يقومون بواجبهم الوطني من العراقيين، سواء كانوا من الجيش والشرطة؟ نرى من جهة أخرى تصعيد من قائد القوات الأميركية في العراق دايفيد بيترايوس، والاتهامات المتزايدة لإيران بأنها تؤجج العنف في العراق. ما حقيقة الأمر. سؤال ثالث للدكتور المؤمن: كيف تكون الواقعية السياسية برأيك الحل الأمثل للمشاكل الطائفية والقومية في العراق؟

محمد فقيه:

في حرب لبنان، هنري كسنجر (وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق)، قال إن هناك ظاهرة لسياسة جديدة في العلاقات الدولية، أن تكون هناك مقاومة أو وجهة تملك قوة عسكرية أكبر من جيش دولتها. الآن هناك ظاهرة جديدة، وأتحدث إلى الدكتور المؤمن أيضاً، للمرة الأولى نرى قوم أو مجتمع أو قيادة تصبر على الاحتلال ولا تريد أن تضع له مقاومة. أنا لم أرَ في التاريخ أي حركة احتلال لم يكن مباشرة أمامها مقاومة، فهذه ظاهرة جديدة في العلاقات الدولية؛ أن هناك محتلاً آتٍ ولا مقاومة أمامه، بل ان الصبر وحده حديث العراق.

المسألة الثانية، موضوع المرجعية، أنت تحدثت دكتور شعبان أن المجتمع الفكري في أميركا يوازي المجتمع الصناعي العسكري. أنا هنا، أتوجه للدكتور المؤمن بالحديث كذلك، أنه لماذا المرجعية لا تضع لنا مؤسسات “سانغ تانغ” ومكتب مستشارين، ودراسات، وفريق فكري ومرجعي يوازي حكومة المالكي أو أي حكومة عراقية. لماذا نرى المرجعية تُختصر ببعض الأفراد، هذا شيء غير مقبول، المرجعية دورها أكبر من هذا بكثير، وحتى على الصعيد العربي، المطلوب أن تكون قوة المرجعية أكثر من هكذا بكثير، لا تقتصر على بعض الأشخاص.

علياء عواضة:

أتوجه للدكتور شعبان بالسؤال، تطالب حضرتك المرجعيات الدينية أن توقف حمام الدم في العراق، ونحن نعرف أن حمام الدم ناتج عن ثلاثة أشياء، أولاً: المقاومة المسلحة ضد المحتل الأميركي، ثانياً: العمليات الإرهابية، وثالثاً: العمليات العدائية التي تقوم بها الولايات المتحدة. هل تعتقد أن المرجعيات الدينية قادرة أن تسيطر على أحد من هؤلاء الثلاثة، والذيم هم في الوقت نفسه لا يؤيدون المرجعية؟

والسؤال الثاني، تطالب المرجعيات بكف يدها عن السياسة، نحن نعرف أن المرجعية الدينية لدى الشيعة مهمة كثيراً، وتأخذ القرار السياسي تقريباً، فكيف تطالبها أن تكف يدها، ألا تعتقد أن هذا الشيء سيُضعف المشروع الوطني. ونعرف أن الأغلبية الحاكمة في العراق هي الأغلبية الشيعية حالياً، وهناك حالياً ضغط من قبل الولايات المتحدة والأنظمة العربية لتتفكك هذه الحكومة وتسقط، ألا تلاحظ أنه إذا قعدت المرجعية الدينية جانباً، ورفعت الغطاء عن الحكومة، أن هذا الشيء سيدمر العراق أكثر فأكثر بناءً على المعطيات التي نلاحظها على الأرض.

رشا رسلان:

سؤال الى الدكتور علي المؤمن، قلت إن مشروع الاحتلال في العراق أصابته المرجعية الدينية والحركات الإسلامية الشيعية بالشلل، وأن الاحتلال لم يقدر أن يسيطر على المنهجية الدراسية والإعلام. فهل ما تقوم به المرجعية النجفية كافياً للتصدي لمشروع الاحتلال الأميركي ومشروع الشرق الأوسط الجديد؟

محمد شري:

أنا أميل إلى التبسيط في الأفكار، فكل إنسان مواطن يريد أن يعيش في بلد حر وسيّد ومستقبل، فطبيعي أن يكون بلد حر بدون واسطة احتلال، وطبيعي أن يكون النموذج نموذج المواطن الصالح الذي يتساوى فيه المواطنون في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن أي انتماء ديني أو مذهبي أو عرقي. إذا كوني شيعي، فهذا المنطق يتناسب مع كوني أنا أكثرية، حتى في منطق الحسابات الشيعية، وفي منطق الإنسان الأعم هذه هي البديهية لا يمكن لأحد أن ينكرها.

هناك مسألتان يجب أن يكون أساس باعتقادي. في المسألة العراقية: موضوع مقاومة المحتل عنصر لا بد منه، ومفيد حتى للسلطات السياسية التي تتعامل مع الاحتلال لتقوية حضورها وشوكتها وقرارها، في مقابل المحتل الذي ستفرض عليه هذه المقاومة الانسحاب، وبدون كلفة، لأن المحتل لن ينسحب، بدون كلفة وخسائر.

وفي المسألة الثانية؛ أن الخلافات السياسية الداخلية، بعد مرحلة، في مرحلة انتقالية، تمتد مئات السنين من الخلاقات والصراعات وعدم قيام كيان واضح المعالم، هذه يجب أن يكون هناك قاعدة أن هذه الخلافات لا يجب أن تُدار بإطار سياسي، رفض كل أشكال العنف والتقاتل الداخلي في صياغة مستقبل العراق في ما بين العراقيين. أي تقاتل عراقي داخلي، هذا يخدم المحتل، ويضرب صيغة مستقبل العراق. فإدارة الصراعات، يجب أن نبادر مهما كانت الحدة في الصراع السياسي، يجب أن يبقى صراع سياسي.

د. عبد الحسين شعبان:

أبدأ من حيث انتهى أخي الدكتور علي المؤمن، وأنا معجب بالكثير من أطروحاته، رغم أني أخالفها، لكن مصدر اعجابي الأول من رؤيته الجرامشية، عندما تحدث بتفاؤل عن الواقع الذي يثير الكثير من التشاؤم.

كل ما حولنا يشي بالتشاؤم، مفخخات وإرهاب وطائفية واحتلال، وتقاسم وظيفي، وغير ذلك، ولكن ظل الدكتور المؤمن يحتفظ بتفاؤل الإرادة. دائماً كان “جرامشي” يتحدث عن تشاؤم الواقع ثم ينشط بتفاؤل الإرادة، هذه النظرة التفاؤلية، إذا جاز لي التعبير أن أقول، وحتى وإن كان فيها شيء من الاسقاط على الواقع من “الإرادوية”، لكنها تظل تبقى تحمل أولاً، تحمل وعداً، برغم أني أعتقد أنها حاملة لبرهان، البرهان سيأتي لاحقاً. أتفق معه أن الماضي أصبح ماضياً، نحن نتحدث في الحاضر وفي المستقبل. الآن هو الآن، أمس قد كان، ليس هناك من شك غداً، الشاعر التشيلي الشهير “بابلني رودم”.

قدم الدكتور علي أطروحة مهمة حول أنه لا توجد واقعية سياسية في العراق وهذه هي المسألة التي اتفق معه بها كثيراً؛ ان معظم الأطراف السياسية ليس لديها نوع من الواقعية السياسية ان هناك فوضى في القرار، وفوضى القرار جاءت مع الفوضى غير الخلاقة التي تحدث فيها المشروع الأميركي. أما قضية تدويل القضية العراقية، وأعتقد أن موضوع التدويل يعود إلى زمن، ربما إلى ربع القرن الماضي كله، منذ الحرب العراقية ـ الإيرانية مدوَّلة، عملية غزو الكويت ساهمت في تعميق تدويل القضية العراقية، صدور 60 قرار من الأمم المتحدة يفرض الحصار الدولي الجائر على العراق كان تدويلاً للقضية العراقية، حرب قوات التحالف التي أدت إلى احتلال العراق، لاحقاً في 2003، دوّلت القضية العراقية، الوضع العراقي حالياً مدوّل في الكامل، يمكن هنا أن نتحدث عن حلول ومعالجات دولية بعد أن دولت القضية العراقية.

ولا يمكن حصر القضية العراقية بالأطراف العراقية فحسب، هناك أطراف اقليمية، هناك أطراف من دول الجوار العربي والاسلامي، وهناك أطراف دولية صاحبة قرار. إضافة إلى ذلك هناك الأمم المتحدة والحديث كما يمكن أن تلعبه من دور خصوصاً إذا كان دوراً محورياً مركزياً بتأكيد موضوع انهاء الاحتلال بسحب القوات المحتلة من العراق وفقاً لجدول زمني، والاتيان بحكومة عبر الأمم المتحدة، تحكم لمدة سنتين بتوافق اقليمي ـ عربي ـ دولي، وبشيء من التوافق العراقي، عند ذاك ممكن الحديث عن مرحلة انتقالية لانهاء الوضع الذي وصلنا إليه.

قد اشتبك مع الدكتور علي المؤمن في بعض القضايا، واشتباك ودِّي إذا جاز لي التعبير أن أقول، خصوصاً في عدد من الأمور هي مصدر خلاف، هل هناك دولة عراقية، أو لا وجود لدولة عراقية، هل الدولة العراقية التي نتحدث عنها تعود إلى 1350 سنة بالمصالحة التاريخية بين الإمام الحسن ومعاوية؟.

ولعل هناك نموذجاً للدولة، رؤية في استعادة الحق، رؤية الإمام الحسن الصالحية معروفة، ورؤية الإمام الحسين الاستشهادية، هاتان الرؤيتان، من يؤمن بالمقدسات يعتبرهما امتداد لرؤية واحدة، ومن يؤمن باستخدام العقل وتدوير الأمور، سياسياً، سوسيولوجيا، قد يتوصل إلى استنتاجات أخرى لسنا نحن الآن بصددها.

نحن نتحدث عن الدولة العراقية. وأنا قلت هناك أربع نقاط ضعف أساسية في الدولة العراقية التي أسسّت في 21 آب/أغسطس عام 1921، بالاتيان بالأمير فيصل، ملكاً على العراق، بدولة ساهمت فيها حتى المرجعيات، في خلقها وفي تأسيسها، خصوصاً عندما طرحت دولة مستقلة بمسلك عربي هذه مواصفاته، وبدستور مقيّد، يعني مقيّد السلطة. نقاط الضعف الأربعة، قلت إنها دولة اقلوية، خصوصاً عبر قوانين الجنسية السيئة الصيت، التي ظلت مسمار يضرب في رأس الدولة العراقية منذ تأسيسها حتى عام 2003 وإلى الآن.

وحتى الآن، هناك تداخل حول موضوع الجنسية من نوع آخر، خصوصاً بالتقسيم السيئ الصيت الذي وضعه البريطانيين لقوانين الجنسية، عندما حددوا فئتي (أ) و(ب)، واعتبروا من كانوا من رعايا الدولة العثمانية هم من التبعية (أ) ومن كانوا من رعايا غير الدولة العثمانية، حتى وإن كانوا عرب أقحاح، على سبيل المثال الأكراد أقحاح التركمان أقحاح، منها من فئة (ب)، وبهذا المعنى جرت عملية تهجير سكاني لا إنساني طالت حوالي نصف مليون مواطن عراقي كانت عربوناً، وخلال الحرب العراقية ـ الإيرانية، في 22 أيلول/ سبتمبر عام 1988.

د. علي المؤمن:

طيلة العهدين الملكي والجمهوري لم يكن من شيء اسمه الجنسية العراقية فقط، بل هناك نوعان من الجنسية، تبعية إيرانية وتبعية عثمانية. الجنسية العثمانية، أو شهادة الجنسية العثمانية هي الجنسية الأصلية، يعني العراقي الأصيل هو العثماني، أما التبعية يعني غير الأصيل، المجنس، فهو من التبعية العثمانية.

د. عبد الحسين شعبان:

سأوضح هذه المسألة أكثر، أنا لدى كتاباً عنوانه “من هو العراقي”. دائماً جهاد الزين يعرِّف فيه، يقول فلان مؤلف كتاب من هو العراقي، دائماً يضعها في التسمية. وحسب قوانين الجنسية في العالم، إذا تأسست دولةً ما، كل المواطنين الموجودين في هذه الدولة، قبل تأسيسها، هم مواطنون بالتأسيس إلا في العراق، اعتبروا من التبعية (أ) والتبعية (ب). وثانياً، لو يوجد قانون في العالم كله، حسب معرفتي بقوانين الجنسية، يقول بوجود الجنسية وشهادة جنسية، لا يكتفي أن يكون المرء لديه جنسية وإنما ينبغي أن يكون لديه شهادة للجنسية العراقية هي التي تؤكد عثمانيتة من عدم عثمانيته”.

وقال “الشيء الآخر، سابقاً قوانين الجنسية لم يكن لها من معنى آنذاك؛ فأي واحد ممكن أن يكون حاملاً الجنسية الإيرانية أو الجنسية العثمانية أو غير ذلك. دعني أذكر لكم هذه الطريقة؛ سئل الأستاذ حسن الدُجيلي؛ وكان وزيراً في حكومة عبد السلام عارف، وكان يناقش مع عبد السلام عارف، الدستور العراقي الموقت الذي صدر في العام 1964، هناك مواصفات تنطبف على الرئاسة وغيرها على الرئيس عبد السلام عازف، بالمقاس، قال له “يا سيادة الرئيس، أتعرف أنني عربي الصدفة؟”. قال له “كيف، أنت من الخزرج، والخزرج من العرب؟”. قال له “نعم أنا والدي ذهب من الدجيل إلى النجف للدراسة الدينية، وهناك جاءه القنصل الإيراني فعرض عليه الجنسية الإيرانية. فوافق والدي لأن فيها امتيازات، أولاً الحماية، ويمكن أن يذهب ليزور الإمام الرضا(ع) في مشهد، ولا يأخذوه إلى الخدمة العسكرية، فهذا نوع من الامتيازات. فوافق والدي، فذهب إلى القنصلية لإملاء الاستمارات أو للحصول على الجنسية الإيرانية، فلم يجد القنصل، وفي المرة الثانية تقاعس، وهكذا أنا بمحض الصدفة الآن، وزيرك، أنا عربي.

فلو أخذ الجنسية كان صار من التبعية. هذا حصل مع الجواهري. صدر منذ 11 سنة، تقريباً. فأريد أن أقول إن هذه واحدة من المشاكل وهذه استمرت بقوانين الجنسية، قانون عام 1963، تم بقرارات من مجلس قيادة الثورة التي صدرت في فترة السبعينات. ولعل أخطر قرار صدر حول الجنسية هو القرار 666، في 7 أيار/مايو عام 1980 عندما أسقطت الجنسية عن العراقيين إذا كانوا غير موالين للحزب والثورة، لاعتبار سياسي، فضلاً عن الاعتبارات الأخرى بقرار من فقرتين. وبموجب هذا القرار، سُفِّر خارج العراق إلى إيران حوالي نصف مليون عراقي اعتبروا من التبعية الإيرانية بقرار لا سابق له في كل بلدان العالم. القضية الثانية هي ضعف البنى والهياكل الحكومية، التجربة الجنينية الديمقراطية.

والأمر الآخر، هو عدم الاعتراف بحقوق الأكراد. كان بعد الحرب العالمية معاهد “سفير”، أقرت بحقوق الأكراد عام 1920، لكن جرى التآمر على هذه الحقوق بمعاهدة لوزان عام 1923 التي أسست على أساسها قوانين الجنسية لاحقاً، فاستبعد الأكراد من المشاركة السياسية ومن حقوقهم، وبالتالي، بالاعتراف بهم وبلغتهم والتعليم وإلخ..، هذه القضايا الإشكالية ظلت تنخر في جسم الدولة العراقية.

الدور الشامل للمرجعية

أرى إشكالية حول المرجعية، واعرف هذا الجو بتفاصيله، بما له وما عليه. وعندما أتحدث من زاوية النقد، فأتحدث إذا من زاوية النقد الذاتي بهذا المعنى. المرجعية في فترات غير قليلة تخلت عن أدوارها، وإذا استعرضنا المرجعية من عام 1920 إلى 2003، سنعرف الكثير من النواقص والثغرات، هناك خلافات في الفقه، في الجوانب السياسية أو في الجوانب العملية لأطراف المرجعية. فمرجعية 1920، عندما كان الشيرازي هو الذي دعا إلى ثورة العشرين، ضد البريطانيين، قبله السيد محمد سعيد الحبوبي، قاد مجموعة وذهب إلى الشعبية لمقاومة البريطانيين عام 1914 في الحرب العالمية الأولى، ومعه بعض رؤساء العشائر بما فيها السيد محسن الحكيم، كان شاباً آنذاك، فذهب معه. هذا الدور بدأ يتقلص تدريجياً، اتخذت المرجعية موقفاً من الدولة لاحقاًن بسبب أقلويتها ربما، بسبب محاولات التمييز، بسبب ربما شراء ذمم بعض رؤساء العشائر ومنهم امتيازات. أقول هذا لأن بعض التنظيرات اللاحقة التي دعت، بين قويسات، الشيعة لقبول ما يريده الأميركيين لكيلا تذهب الدولة باتجاه الطرف الآخر مثلما ذهبت العشرينات.

موقفهم في العشرينات كان خاطئاً، وموقفهم حالياً خاطئ. دعوني أقول لكم إن المرجعية كانت قد كسبت الوطن والمواطنة آنذاك، في 2003، وما بعده خسرت الوطن والمواطنة. منذ العشرينات حتى عام 1958 لم يكن للمرجعية دور يذكر، باستثناء فتوى مهمة، للمناسبة. فتوى الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء بالذهاب إلى فلسطين وإلى القدس والحج إليها نت أجل فك الحصار الصهيوني خصوصاً بعد ثورة 1936. وهذا مهم جداً، مهم الآن على صعيد الواقع العملي.

لماذا يُطلق العنان لعشرات الآلاف ومئات الآلاف من الناس للذهاب للزيارة إلى هذا المكان وهذا المكان، وتحدث المجازر بسبب هذه التجمعات؟ يمكن أن ترجئ هذه المسألة، أن تحوّل إلى حين، أن يُستعاض عنها، بدفع تبرُّع على سبيل المثال، لبناء مدارس، لبناء مستشفيات، لبناء مؤسسات، لتزفيت شوارع، كل هذا سيصب في التوجه الروحاني نفسه الذي ينبغي للمرجعية أن تتخذه. أريد أن أقول إن المرجعية بدأت تنشط بعد عام 1958، خصوصاً بصعود التيار اليساري الشيوعي. السيد محسن الحكيم أصدر فتوى اعتبرت الشيوعية كفراً وإلحاداً. وبغض النظر عما ارتكبه الحزب الشيوعي من إساءات، من اختراقات، لكن هذه مسألة تركت تأثيرات خطيرة لاحقاً.

بشير النجفي، إسحاق الفياض، السيد محمد سعيد الحكيم، هؤلاء المراجع العظام كلهم وقعوا على بيان يوم 13 شباط/ فبراير 2003، قبل الحرب بأقل من شهر، وقعوا على بيان يريدون فيه مقاومة المحتل والتصدي له. ولكن أتساءل، ليست لدي إجابة، ثم أشكك في الاجابة، إذا دعا السيستاني الآن إلى مقاومة المحتل، هل سيكون خلفه نوري المالكي أو الجعفري، أو حزب الدعوة، أو المجلس الإسلامي الأعلى، أو السيد مقتدى الصدر، الدنيا والدين في تعارض أحياناً، لا أدري، لست متأكداً”.

وإذا كان هو يعتقد أن الجمهور سيتبعه ينبغي عليه أن يتخذ هذا القرار، إذا يعتقد أن الجمهور سوف لا يتبعه، إذاً ليترك الأمر للآخرين. هذه مسألة تثير الكثير من الأسئلة الساخنة الحادة التي تواجهنا نحن أبناء هذا الوسط ونتعرف على هذا الوسط بتفاصيله، نعرف إيجابياته وهي غير قليلة، ونعرف سلبياته وهي كثيرة، بما فيها الفضائح، فمن أبناء هذا الوسط وننتقد من موقع النقد والنقد الذاتي. أريد أن أقول أيضاً، هل الأغلبية الشيعية هي التي تحكم، أنا أشك في ذلك؟ أي أغلبية هي التي تحكم؟ تقول لي إن 12 مليون هم الذين صوتوا في لحظة تزييف الوعي، في لحظة التداخل الخارجي، واستثمار فترة استبدال 35 عام. أنا أشك إذا استطاع أحد فيهم أن يخرج مظاهرة من 50 ألف شخص في كل العراق. لا تقل لي إنهم يذهبون سيراً على الاقدام في زيارة نصف شعبان أو إلى سامراء، أو إلى النجف، أو إلى كربلاء…، هذا شيء وهذا شيء آخر. وأن الذي كان يحرِّك هذه الجماهير المليونية في فترة الخمسينات لم تكن هناك الحركة الدينية، لم يكن هناك وجود لشيء اسمه حزب الدعوة أو المجلس أو شيء من هذا القبيل. وشعارات هذه القوى، لم تكن شعارات دينية، أيضاً. شعارات هذه الجماهير المليونية، دعوني أتذكر، وليسمح لي الدكتور علي المؤمن؛ في سنة 1954، كان مشروع حلف بغداد، الجماهير في مناسبة عاشوراء وصفر نزلت إلى الشارع، الهتافات كانت “مشروع الجمالي، بالراديو حكا لي، يريد بربطنا بحلف ما إلا تاريخ، ويريد بربطنا بحلف ما إلا تاريخ.

وفي سنة 1959، العدوان الثلاثي على مصر، الجماهير نزلت إلى الشارع تقول “قالوا والقائد جمال أرواحنا كلها إلا، يا هلا، نريد مثلا، يا هلا، أميركا بالدولار، وفرنسا أم العار، والثالثة بريطانيا، رمز العمالة. لم يكن شيء آخر يعني، واستطيع أن أعدد لك من الذاكرة الآن، ولذلك هناك نوع من الانفصال، وتحدث عنه الدكتور علي المؤمن، تحدث عن انفصال سابق، أنا أقول الانفصال استمر بين السلطة والشعب.

ضرورة مواجهة الاحتلال

تبدو سلطة الحكم الحالية، سلطة أسيرة، معتقلة في المنطقة الخضراء. لا يستطيع أحد أن يخرج من هذه الربع بلدية، أقل من الضاحية الجنوبية، بمساحة منطقة حارة حريك، ويخرج إلى الشارع، لا أحد يستطع وهؤلاء هم تحميهم فرقة، بلاك ووتر، وحراسها، وفرسان مالطا التاريخيين. فرسان مالطا، وشركة بلاك ووتر و160 شركة في العراق لديها حصانه وحماية قانونية كاملة من القانون العراقي، ومن القانون الأميركي، وليس فقط من القانون العراقي. لا يستطيع أحد منهم، يعني يأتي السيد جورج دبليو بوش، رئيس الولايات المتحدة، ينزل في الأنبار، يناديهم هكذا بالإصبع، فرداً فرداً من رئيس الوزراء إلى رئيس الجمهورية إلى غيره ليأتوا إلى الأنبار، ليحدثهم عن شؤون دولة العراق المستقلة، ذات السيادة.

اراه بلداً محتلاً، وبالطبع الاحتلال، لا يوجد شعب في الدنيا تحتل أراضيه ولا توجد فيه مقاومة. إن وجد هكذا شعب، محتله أراضيه ولم يقاوم لنقل، أو لنصدق أنه شعب من العبيد، الشعب الذي لا يقاوم محتليه هو شعب من العبيد ولا أظن أن العراقيين هم شعبٌ من العبيد. إنه شعب حيوي، نابض بالحياة، يريد الانعتاق، يريد الحرية، لكن هناك اصطفاف، هناك انقسام في الصف السياسي، لمصالح أنانية ضيقة، لأسباب تتعلق بأمراء الطوائف، ثم الذين جاؤوا لا يوجد بينهم أحد رجل دولة لا أحد يعرف. أيّاد علاوي، يصدر قراراً بالانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، والله أنا قلت إن هذا القرار شيء رائع وعظيم! معقول ان حكومة علاوي تقدم على الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، هذا الشيء مهم. بعد أسبوعين بالضبط، ينسحب اياد علاوي من المحكمة الجنائية الدولية، لا يبرر، لا يفسر، لا يعطينا شيء، لأن أميركا منسحبة أصلاً من المحكمة الجنائية الدولية، وإسرائيل منسحبة من المحكمة الجنائية، كيف يتجرأ؟. البرلمان يقيل رئيسه، وبعد أخذ ورد، وأسبوعين من الجدال يعود الرئيس وكأن شيئاً لم يكن أين الأغلبية؟ لا تعرف.

ويطلب السيد عبد العزيز الحكيم من مجلس الحكم الانتقالي المصادقة على قرار يلغي حقوق المرأة، القانون الذي اتخذ عام 1959. ثم يصل القرار هذا إلى بريمر، يكتشف بريمر هذا القرار، ويقول “ما هذا الكلام”، هل هؤلاء يلعبون على راحتهم؟ نحن نقول كوتا للمرأة، وهؤلاء يأتون ويلغون القرار”، ويعترف ببعض حقوق المرأة، فيعيد الكرة إلى المجلس مرة ثانية، ويطلب منهم التصويت، فيسقط القرار، الذي اتخذه السيد عبد العزيز الحكيم في فترة إدارته للمجلس.

يتخذ رئيس الوزراء نوري المالكي قراراً بوقف “بلاك ووتر”، بعد يومين، الناطق الرسمي باسم الحكومة، علي الدباغ، يعتذر من “بلاك ووتر”، ولكن عليها أن تراعي قليلاً القوانين والأنظمة. حتى القانون الدولي الإنساني، فيه نقص لمحاسبتها، والدكتور علي يعرف محاسبة موضوع المرتزقة. يعني هناك ضعف إلى حدٍ ما، هناك بعض القواعد تشير إلى ذلك، تسقط عنهم الحصانة، لا تعترف بأسرى الحرب، إذا ما تجاوزا أو دخلوا طرفاً في الصراع. لكن هناك بشكل عام ضعف في هذا الموضوع.

فما السبيل لتفعيل الحركة الوطنية؟ أعتقد أن بالامكان، وأدعو وأتمنى أن يكون هذا الشيء، أتمنى على الأقل، أن يكون هناك توافقاً بين أطراف من داخل العملية السياسية، وأطراف من خارج العملية السياسية، على أساس ثلاث نقاط: الانسحاب من العراق، بوضع جدول زمني، إحالة الأمر إلى الأمم المتحدة وتمكينها من إدارة شؤون العراق، بالتعاون مع حكومة عراقية لمدة عامين، حكومة محايدة، من “تكنوقراط”، وبالطبع أن تحظى بدعم اقليمي ودولي على إعادة الاعمار ويمكن أن يشترك أناس من داخل العملية السياسية، وأناس من خارج العملية السياسية، في هذا الإطار، بما فيهم بعض أطراف المقاومة.

د. سمير سليمان:

الا تعتقد، انه فيما يخص الأمم المتحدة، هل يمكن لها أن تصل إلى هذا المستوى، في ظل وجود تناقضات القوى الدولية، وموازين القوى، أن تكون هذه الدول في أزمة العراق؟

د. شعبان:

أنا معك في هذا التساؤل، ودعني أقول لك القضية من زاوية أخرى؛ إذا وصلت الولايات المتحدة إلى طريق مسدود، وفشلت استراتيجيتها كما نعلم، العسكرية والسياسية في العراق، وتريد الانسحاب منه، كيف ستفكر الولايات المتحدة؟ هل ستترك العراق على طبق من ذهب إلى إيران، وتقول إن إيران تتدخل؟

طبعاً لا، وسآتي على سؤال إيران ودورها، ومع ذلك أقول هذا الجواب؛ إيران أهم شيء فيها، وأحسن شيء فيها، إنها طرحت المسألة على نحو واضح وصحيح منذ البداية، أنه لا تريد للاحتلال الأميركي أن يبقى في العراق. لا تريد حدود مع الولايات المتحدة عبر العراق، لأنه إذا نجح مشروع الاحتلال في العراق، كما قال الدكتور علي، سيتمدد هذا المشروع: إيران هدف، وسوريا هدف، وبلدان أخرى ستكون أهدافاً، فإيران ستفعل كل شيء لتكون بغداد خط الدفاع الأول، وهذا أمر طبيعي في العلوم العسكرية.

ومصالح الدول والسياسة، تاريخياً، هي صراع واتفاق مصالح. ولذلك أنا هنا ادعو، ودعوت منذ سنتين ونصف على الأقل، والمرة الأخيرة كان السفير الإيراني جالس في محاضرة يلقيها في منتدى الفكر العربي في عمان، بعد مقتل الزرقاوي بأسبوعين، في عمان في شهر حزيران/ يونيو 2006، كنت أتحدث في منتدى الفكر العربي الذي يديره الأمير الحسن، وكان السفير الإيراني “محمد إيراني”؛ كتب لي ورقة، وقلت أنا أدعو لصفقة إيرانية ـ أميركية حول العراق. أجبت: أن أميركا تنسحب من العراق، مقابل تعهد إيران بعدم التدخل في شؤون العراق، هذا سيكون لمصلحة العراقيين ولمصلحة حسن الجوار بين العراق وإيران، ولمصلحة مشروع إيران السياسي الاستراتيجي البعيد المدى. إيران من مصلحتها أن تقيم صداقة مع العراقيين، ومن مصلحة العراقيين، بجميع تياراتهم، واتجاهاتهم، أن يكون لديهم عمق استراتيجي اسمه إيران، خصوصاً لموقفها المتميز الشريف من قضية القدس ومن القضية الفلسطينية تحديداً، ومن الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

وبالنسبة إلى الدستور وسد الثغرات إذا أخذنا باب الحقوق والحريات هو متميز بصراحة، ومن أحسن الدساتير العربية كلها، ولكن إذا أخذنا الألغام الكثيرة التي فيه، خطير جداً، وأخطر من كل الدساتير التي سبقته، رغم انها دساتير شمولية. أولاً يعوّم عروبة العراق، الصدى الغالب. أتستطيع أن تعوِّم الأمة الفارسية؟ علماً أن الأمة الفارسية لا ترتقي إلى 50 في المئة من المجتمع الإيراني. بينما الأمة العربية أو عرب العراق يؤلفون أكثر من 80 في المئة من المجتمع العراقي.

ثانياً، أنا أتحدث عن إضعاف سلطات الأقاليم حقوق سلطات الدولة الاتحادية، أحد الثروات، خصوصاً مع النفط والغاز، غير المستخرج، ينبغي إلى السلطة الاتحادية. الجيش ينبغي أن يخضع لكل العراق، جيش واحد، لإدارة واحدة، إلخ.. من القضايا والألغام الخطيرة التي توجد فيه (الدستور)، حتى مبدأ الفيدرالية خطأ، كما ورد فيه، أنا قلت إني مع مبدأ الفيدرالية لأنه مبدأ عصري ومتطور، لكن الذي ورد في الدستور لا علاقة له بالفيدرالية.

أختم بما ذهبنا إليه، هل سيبقى العراق موحداً؟ هذا سؤال خطير. نظرية “شيعستان”، و”سنستان” لا أعتقد انها ستمر بسهولة، قد تمر. في الدول والتاريخ والعلاقات، تحدث تقسيمات. الطائفية السياسية، التي كانت في السابق هي بين السلطة وفئات سكانية واسعة، والشعب، الآن أصبحت طوائفية ومجتمعية، رأسية، لعب فيها دوراً أمراء الطوائف. وإذا تكرّست هذه التقسيمات لسنوات طويلة، وأصبح لها مصالح سيكون التقسيم أمراً واقعاً. ربما سنصل في مرحلة ما أن نطالب بالتقسيم، باعتباره أحسن الحلول، السيئة، يعني كل الحلول ستكون سيئة، هذا ما يريده المحتل.

كل الذي يجري في العراق طيلة السنوات الأربع ونصف لكي نصل ونقول، أوقفوا الحرب الأهلية، أوقفوا الجثث المقطوعة الرؤوس، أوقفوا الإرهاب، ارحمونا قليلاً، لنقسم…، وعملياً أصبح واقعاً، الآن “بلوكات” تطهير عرقي ومذهبي ديني.

مشروع جوزف بايدن يقول “هذه ثلاث تقسيمات، توضع بين نقاط مركزية ـ “check points”، يُراد لها 300 ألف جندي حتى يطبقوها، يُراد لها مليار دولار حتى تطبق، ما يجري الحديث عنه، ما قد تحدث عنه كيسنجر في الستينات أو في السبعينات، الآن نناقشه باعتباره أمراً ممكناً. كان مجرد “يوتوبيا”، ربما ما سنناقشه بعد 515 سنة، هو كيف الفضل بين هذه الحدود أو تلك. لا نأمل، ولا نتمنى ولذلك أنا أعتقد عدوى التقسيم العراقي ستنتقل إلى كل بلدان المنطقة، ودعوني أسمي؛ ستنقل إلى سوريا لا محالة، ستنتقل إلى المنطقة الشرقية من السعودية، ستمر مروراً مؤثراً في الكويت لتصل إلى البحرين، إيران سوف لا تسلم من التقسيم خصوصاً المنطقة الكردية. تركيا سوف لا تسلم في التقسيم خصوصاً المنطقة الكردية. لبنان، هو معوّم، لا وجود لدولة.

والتمهيد لصراع حماس ـ فتح هو شكل من أشكال التقسيم، والمملكة الأردنية الهاشمية ستتبلغ، ربما، ستُضاف لها الضفة الغربية أو فلسطين لتنتهي الدولة الفلسطينية، ونصبح أمام كونفدرالية أردنيةـ فلسطينية، مصر، موضوع الاقباط، والمغرب العربي لديه مشاكل كثيرة.

د. علي المؤمن:

حديث الدكتور شعبان دليل على وعيه، بالواقع العراقي، وليس مجرد فهم أو مجرد قراءة، ولكن للأسف الدكتور عبد الحسين شعبان، أعهده مفكراً وأكاديمياً، ولكنه كان انتقائياً في اختيار الأمثلة، سواء الامثلة التاريخية، أو أمثلة الواقع. وأنا أعتقد أن هذه الانتقائية تفسد العلمية في المنهج. يفترض من أجل أن نستخرج حقيقة اجتماعية موضوعية أو نتيجة موضوعية، يفترض أن تكون استقرائيين وليس انتقائيين وقياسيين. هناك فرق بين أداء علماء الدين وبين أصل نظرية المرجعية الدينية، وأصل النظام الديني الشيعي.

قد يكون بعض علماء الدين أساؤوا التقدير في بعض الفترات التاريخية، لم يكن أداؤهم صحيحاَ، ولكن أصل النظرية، أو أصل وجود النظام المرجعي الشيعي، هو واقع قائم منذ مئات السنين. صحيح، يحتاج إلى نوع من المأسسة، هذا مهم جداً، لكن الانتقاص من دور المرجعية، أنا أعتقد أنه أمر مستحيل. لا نريد أن ننظِّر لواقع جديد، هذا الواقع القائم، ربما نعترض على بعض الأشياء، لكن أن نحاول أن نغيِّر من طبيعة النظام الديني الشيعي، هذا أمر غير ممكن ومستحيل، ونحن لا نريد هنا أن ننظر، نريد أن نتحدث عن الواقع.

وموضوع لقاء السيد الحكيم بالإمام الخميني في عام 1965، أنا دوّنته في كتابي “سنوات الجمر”، وهو في الحقيقة ليس إساءة تقدير من قبل الإمام الحكيم أو الإمام الخميني، وإنما عبارة عن رؤى، تشوفات لواقع معين، كل واحد يؤمن بمنهجية معينة، لكن هذا لا يتعارض مع موقع المرجع الديني وكونه على رأس النظام الاجتماعي الشيعي.

وقد ذكر الدكتور سمير شيئاً له علاقة بالمقاومة، قال إن المداخلتين لم تذكر المقاومة.

واكني شخصياً عندما تحدثت عن المرجعية الدينية وعن الحركات الإسلامية الشيعية العراقية، التي دخلت العملية السياسية أنا كنت أقصد المقاومة السلمية الشاملة، بما فيها المقاومة السياسية.

ومن هنا أعتقد أن مشروع الاحتلال فشل. وأنا لا أتحدث ولا أدافع ولا أتبرع بالدفاع عن أحد. أنا أنطلق من كوني باحثاً، فقط. وبشكل مجرد أقول بأن المرجعية الدينية، والحركات السياسية الشيعية، تحديداً المجلس الأعلى وحزب الدعوة هؤلاء اختاروا المقاومة ولكن أي مقاومة؟

كان خيار المقاومة من داخل العملية السياسية. يعني نخر المشروع الأميركي من الداخل، وهذه رؤية. ولا أستطيع أن أقول هذه الرؤية خاطئة، أو أن هذه الرؤية لا تؤدي إلى نتيجة، لأني لا أؤمن بها. لكنهم رأوا أن المقاومة المسلحة لا تؤدي إلى نتيجة. رؤيتي أنه أنا مع المقاومة المسلحة. حزب الدعوة والمجلس الأعلى والمرجعية الدينية، كانوا مع المقاومة السلمية، مع نخر المشروع الأميركي من الداخل، مع ضرب المشروع الأميركي من داخله. دون أن يتركوا زمام الأمور لسياسيين من أمثال أياد علاوي وغيرهم من العناصر المرتبطة ارتباطاً مباشراً بالمشروع الأميركي، لقد دخلوا العملية السياسية وفجروا المشروع الأميركي من داخله. هذا ما حصل بالضبط.

محمد عبيد:

عملياً لم يكن لديهم رؤية موحدة ولا مشروع مشترك، والدليل أنهم كانوا يتقاتلون على الأرض عسكرياً، ولم يكونوا يقاتلوا الأميركيين.

د. المؤمن:

لا، لم يكن أحد يقاتل على الأرض.

محمد عبيد:

قوات “بدر” وجيش المهدي كانا يتقاتلان.

د. المؤمن:

هناك خلافات ولا يوجد تقاتل، ثم أن الدعوة، والمجلس والمرجعية كانوا متفقين، واكتمل النصاب بانضمام التيار الصدري إلى العملية السياسية والإتئلاف الموحد. اتفق الجميع على المقاومة سياسية قبل دخول العملية السياسية. صحيح أنه كانت هناك رؤى مختلفة، لكن التيار الصدري التحق فيما بعد، أنا أتحدث أن هذا الخيار الذي اختارته المرجعية والحركات الإسلامية الشيعية آتى أُكله وتفجر المشروع الأميركي من الداخل. كون الحكومة الحالية أسيرة الاحتلال هذا واقع، هناك احتلال موجود، وحكومة الجعفري تعاملت مع الاحتلال ولم تتعاون معه، يعني لم يكن الجعفري يوماً عميلاً لأميركا، والجعفري من المستحيل أن يكون عميلاً، لا في السياسة ولا في غيرها.

وهكذا السيد عبد العزيز الحكيم والدكتور عادل عبد المهدي ونوري المالكي، ولكن هناك تعاملاً مع الاحتلال باعتباره أمراً واقعاً. لقد وجدت هذه القوى السياسية أن خيارها مع المقاومة السياسية ومع المقاومة السلمية، ومع تدمير المشروع الأميركي سلمياً، ومن خلال دراسة معمقة للواقع العراقي، أنا كنت أيضاً مع المقاومة السلمية، ليس من أجل أن نتفادى ما خسرناه في عام 1921، ولكن وجدت أن معطيات الواقع تدفعنا للمقاومة السلمية، لأننا إذا انخرطنا في العملية العسكرية سنضطر إلى التحالف مع من ذبحونا وقتلوا أهلنا وعذبونا وهجرونا وصادروا أموالنا وانتهكوا أعراضنا.

هذه العملية حتى من الناحية النفسية مستحيلة. كيف أتحالف مثلا، ميدانياً مع البعثيين في عمل عسكري لمواجهة المحتل، في وقت قتل البعثيون 137 شخصاً من أفراد أسرتي؟ هذا الأمر، حتى من الناحية النفسية مستحيل.

وموضوع مطالبة المرجعية بعدم التدخل، أنا أعتقد أن العكس هو الصحيح، نحن نأمل من المرجعية بالتدخل بطريقة أكثر من أجل الحفاظ على كيان العراق، في أن تتدخل في مفاصل العملية السياسية من اجل حفظ كيان العراق، ومن أجل تصحيح مسار العملية السياسية.

موضوع عدم قدرة المرجعية والحركات الإسلامية الحاكمة في اخراج مظاهرة من 50 ألف شخصاً، أنا أعتقد أن الواقع يُخالف هذه المقولة. أعتقد أن بامكان المرجعية وهذه الحركات أن تُُخرج تظاهرة من 5 ملايين شخص.

وقضية الفتوى ضد الشيوعية، فهو موقف شرعي للمرجعية، ومهما كانت التقديرات، وقد كبحت جماح الشيوعيين الذين كانوا، مثلاً، يتظاهرون في النجف (معقل الدين) بأشكال فيها تعارض ليس مع الدين فقط، بل حتى مع العادات والتقاليد والمشاعر.

وعملية التشهير بالسيد محسن الحكيم، كانت عملية مدروسة من قبل الحزب الشيوعي العراقي ثم تبعه حزب البعث، حتى على المستوى الشخصي، حتى على مستوى أولاده، حتى على مستوى عائلته، حتى كان الشيوعيون والبعثيون يطعنون ويشهرون ببعض الأشياء الخاصة بالعرض والشرف.

د. شعبان:

بيت الحكيم، غالبيتهم الساحقة هم على ملاك اليسار، كثير منهم كانوا شيوعيين

د. المؤمن:

انا أعرف هذه الأسرة جيداً، وكلام الدكتور شعبان يظل إنتقائياً. بيت الحكيم عائلة كبيرة، معظمهم في النجف، ولكن منهم في كربلاء وبغداد وفي الكوت والديوانية والبصرة، وحتى في لبنان.، ويمكن أن يكون منهم شيوعيون وبعثيون ككل الأسر. ولا أدري ما علاقة أن يكون بعض ابناء الأسرة شيوعيين في تبرير التجاوزات التي كان يمارسها الشوعيون ضد الدين والمرجعية والحوزة؟!

وأنا قد أكون انتقائي أيضاً، وأنا لا أستطيع أيضاً أن لا أُسْقِط قناعاتي الشخصية على البحث العلمي، أن الحديث عن البحث العلمي المجرد هو وَهم.

د. شعبان:

هذا حوار علمي جميل رغم أننا مختلفين، آملاً أن يتكرر، لأن هدفه الحقيقة.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment