حركة عدم الانحياز

Last Updated: 2024/06/08By

حركة عدم الانحياز بين المبادئ والواقع

علي المؤمن

(مجلة الحوار الفكري والسياسي، العدد 35، صيف 1985)

مفهوم الحياد واستراتیجیته

اصطلاح الحياد من الناحية السياسية والقانونية هو الحالة التي تتمیز بها دولة او اکثر تعتمد المجانبة في سیاستها الخارجية وعدم الانحياز لإحدى القوى المتنازعة على مراكز النفوذ دون الاخرى. وهذه الحالة من الحياد لا تعني بالضرورة وقوف الدول غير المنحازة ((موقف المتفـرج بالنسبة للأحداث والمشاكل العالمية، بل تحدد سياستها دون التقيّد برأي احدى الكتل المتصارعة))(1) وهذا ما یسمی احیاناً بـ ( الحياد الايجابي).

ومبدأ الحياد يبرز من خلال الدولة المحايدة بان الارتباط بعجلة التكتلات الدولية لا يخدم في الاساس سوى ((مصالح الدول الكبرى لما يمكن ان ينطوي عليه ذلك من خطر فقدان الاستقلال السياسي والكرامة الدولية))(2).

وتبلورت استراتیجیة الحیاد في مفهومها الحالي عقیب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكانت تدّعى الوقوف بوجه القوى العظمى في محاولتها لاستقطاب الدول النامية، وخلق تيار سياسي دولي يضمن لهذه الدول عدم وقوعها في احضان احدی الکتل المتصارعة.

وتبرز اهمية عدم الانحياز من خلال الظرف الدولي الحسّاس الذي تعيشه دول الكتلة المستضعفة وتفرضه العديد من الدوافع. وحين نتحدّث عن الدوافع التي بررت قيام تيّارالحياد واهميته فإننا نعني بذلك الدوافع المبدئية التي يقرّها الضمير الانساني وتؤمن بها شعوب العالم المحرومة، بصرف النظر عن ممارسات الدول التي تنتحل عدم الانحياز والواقع السياسي الذي انتهت اليه هذه الحركة.

الدوافع والضرورات تشمل الجوانب الايديولوجية والسياسيةوالاقتصادية .من الناحية الابد الايديولوجيــــة تتبنى عدم الانحیاز فکرة التصدی للاستعمار الحدیث والتشکیك بنوايا المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي اللذين يريدان فرض نظریاتهما و مبادئهما علی البلدان المهزوزة فکریاً. وبالتالي؛ فإن أی تحالف بین الطرفین لا يمکن ان یکون متعادل الكفتين.

وسياسياً؛ يعمل الحياد على صيانة استقلال الدول المستضعفة والتي حاصلت بعضها علی سیادتها – الکاملة أو الشكلية – في ظروف صعبة ، وحين يكون هذا الاستقلال الحديث ناقصاً وضعيفاً فإن الانخراط في سياسة حرب المواجهة الباردة التي تمارسها القوى المستكبرة من شأنه تهديد استقلال تلك الدول. أضف الى ذلك ان تكنولوجيا الحرب الحديثة وتطور وسائل الدمار ازالت كل شعور بالحماية الذي قد ينتج عن احتضان الدول الضعيفة لقواعد الدول الكبرى العسكرية. ويعطي الحياد للدول التي تتبناه امکانیة دولیة لمواجهة التحالفات الکبری في المجتمع الدولی، ویعطیها حتی امکانیة التوسط بینها۰ اذن؛ فالمشاکل تاتي دائما من تورط الدول المستضعفة في صراعات القوی العظمی .

وفي الجانب الاقتصادي يمنع الحياد من تبدّد الثروات الوطنية والطاقات الذاتية للدول الفقيرة والتي هي بأمس الحاجة اليها، ويمكنها من وضع اسس نظام اقتصادي دولي جديد من شانه أنصاف الشعوب المستضعفة. أما الا رتـمــاء في أحضان احدى الكتل فإنه لا بدّ وأن يجعل من هذه الدول شرياناً يضخ موارد شعوبها الى الخارج ويمنع من النمو الاقتصادي والوصول الی الاکتفاء الذاتي في الصناعة والزراعة.

ويعتقد بعض المختصين بشؤون السياسة الدولية بأن الانحياز يمنع الدول الفقيرة من الحصول على جانب لا يستهان به من المعونات، باعتبار ان الدول المستضعفة بحاجة الى المعونات الاقتصادية والتقنية من مختلف المصادر، ولا حل لها سوى باستغلال تنافس القوى العظمى ولعبة التوازن، ومن ثم امکانیة الحصول علی اکبر الفائدة من حالة التناقض هذه(3). وقد لا نتفق مع الكثير من جوانب هذه الفكرة ، باعتبار اتها ستعرّض الدولة المعوزة المسمى أخطار الاستقطاب والامتصاص، وتكون الفائدة حينها عكسية تماماً . كما ان الدول الكبرى ليست بتلك السهولة بحيث تسمح لدولة فقيرة بابتزازها.

وتحاول بعض أنظمة الدول الفقيرة تبرير انحيازها ورفضها لمبدأ الحياد، حيث ترى بأن الحياد الكامل سوف يجرّها الی مشاکل لا مناص منها، أهمّها أن الدول المستكبرة – عموماً – لا تنظر بعين العطف الى البلدان المحايدة، والتي ترفض مراعاة متبنيّاتها واتجاهها في العلاقات  والسياسة الخارجية. وعندها سوف تتعرّض الدولة المحايدة لنقمة الدول الكبرى واهمال مشاكلها الأساسية. ومن جانب اخر عمدت بعض الدول الى خلق حالة وسط تتوافــق مع الاتجاهين، حيث تبنت في الظاهر سياسة الحياد ثم بادرت للتقرب الی احدی القوتین المستکبرتین من اجل جلب عطفها والحصول على المساعدات المختلفة . والدول الکبری من جانبها تشترط التبعیة والارتباط العضوي عند منحها للمساعدات الفنيّة الى البلدان المستضعفة، وغالبا ما تکون هذه المساعدات شکلیة و تهدف الی تثبیت نظام الحکم في ذلك البلد الذي ينتهي به الامر الى ان يصبح اداة طيّعة تتحرّك وفق مشيئة القوى الاستكبارية. وهذه التبعية تفسر معظم الصراعات الناشئة بين دول ما يسمى بعدم الانحياز، والتي تخضع لتقنين الدول الكبرى وتنافسها علی مراکز النفوذ. وعند هذه الحالة المتفشیة ينتهي کل اعتبار لعدم الانحیاز ، حین تفقد الدول التي تنتسب له لأهم شروطه.

الحیاد القانون الدولي

يقسم القانون الدولي الحیاد – بمفهومه العام – الی نوعين، هما: الحياد الدائم والحياد المؤقت.

الحياد المؤقت أو العادي ((مؤدّاه بقاء الدولة بعيدا عن حرب قائمة بين دولتين أو اكثر وامتناعها عن مساعدة أحد الفريقين المتحاربين ضد الآخر مقابل عدم اقحامها في القتال القائم وتجنبها ويلاته))(4) والحياد المستمر في حالة الحرب ((يقتضي بقاء الدولة ابدا بعيدة عن اي حرب تقوم بين غيرها من الدول مقابل امتناع الدول المحاربة عن الاعتداء عليها بأية صورة))(5).

أما الحياد الدائم في ظروف الحرب والسلم؛ فهو حالة قانونية ((توضع فيه الدولة بالاتفاق مع الدول الأخـرى وتترتب عليه من جانبها التزامات تقيّد من بعض النواحـي حريتها في ممارسة سيادتها في الخارج ، فهو یحرم علیها الاشتراك في اي حرب ” ضد اية دولة الا اذا كان ذلك لدفع اعتداء واقع عليها مباشرة))(6).

وتلتقي حالتا الحياد – الدائم والمؤقت – بقاسم مشترك ، هو عبارة عن جملة من الحقوق والواجبات التي تترتب على الدولة المحايدة خلال الحرب والسلم.

ويعتبر المختصون بالقانون الدولي ان فقدان الــدول المحايدة – في السلم والحرب – لأحد الشروط التالية يعزلها تماماً عن کتلة الحیاد:

أولاً: ((يحرم على هذه الدول ان تدخل في اي حرب الا دفاعا عن حيادها اذا ما اعتدي عليها))(7).

ثانياً: ((يحرم على الدول المحايدة أن تدخل في اتفاقات دولية قد تجرّها الى الحرب، مثل معاهدات التحالف والضمان المتبادل وما شابهها))(8).

ثالثاً: امتناع الدول المحايدة ((عن مساعدة احد الفريقين المتحاربين من السماح للقوات الحربية لأي منهما بالمرور عبر اقلیمها))(9). ویتضمّن هذا الشرط ایضا عدم السماح باقامة القواعد العسكرية الاجنبية في أراضي الدولة المحايدة. ويفرض القانون الدولي على التكتلات غير المحايدة مراعاة وضع الدول المحايدة واحترام حقوقها والتزامها بواجبات الحياد.

البعد التاريخي لسياسة عدم الانحياز

سياسة التوسع والبحث عن مواقع النفوذ التي کانت تنتهجها الدول الاوربية الكبرى اضطرتها في القرن التاسع عشر الميلادي لابتداع نظام الحياد الدائم، وفرضه على بعض الدول الاوربية الضعيفة، كبلجيكا (من عام 1831 الى عام ۱۹۱۹) واللوکسمبورغ (۱۸۹7م -۱۹14م) وسویسرا (ابتداء من عام 1815 وحتى الآن)، وذلك من أجل تحقیق غرضین أساسیین:

الأول: إيجاد حاجز يفصل بین الدول الکبری لتجنب الصدام المباشر بينها.

الثاني: المحافظة على التوازن الدولي ، من خلال ابقاء تلك الدول مناطق مستقرة خالية من الصراع ومحـاولات النفوذ والدمج.

وتعرّضت تجارب الحياد التي اخضعت لها تلك الــدول الى الفشل الذريع عدّة مرّات، وبالذات خلال الحرب العالمیة الاولی حین قامت المانیا بخرق حیاد بلجیکا والوکسمبورغ.

ومن تجارب الحياد فى اوربا ايضاً ، تجربة النمسا التي ابتدأتها عام 1955م بعد عشر سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية وفي فترة حصولها على الاستقلال.

أما عدم الانحياز المعمول به في دول الكتلة المستضعفة – حالياً – فهو يأخذ شكلاً مغايراً إلى حد كبير ، وذلك نتيجة للتباين بين الواقع السياسي والاقتصادي للكتلتين واغراض القوی المستکبرة حیال کل منهما.

إن بروز الكتلة المستضعفة على المسرح الدولي يعد من الظواهر المهمة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من كون هذه الكتلة تشغل ثلاثة أرباع مساحة العالم، إلّا أنها کانت تعیش باستمرار تحت احتلال القوی المستكبرة ورحمتها، وتعاني من مشاكل سياسية واقتصادية لا أوّل ولا آخر لھا. وکما يقول الکاتب الفرنسي: “جان شرايبر” بأن العالم الثالث أكثر من ثلاثة مليارات انسان، ثلثهم لا یملکون الطعام، و ما يقارب من (۷۰۰) ملیون یحاصلون بالکاد علی میاه الشفه، و(400) ملیون يعيشون فى بيوت الصفيح ، أضافة الى الانظمة العميلة المفروضة عليها والتي تضع مصالح الأسياد فوق مصالح شعوبها المحرومة(10).

وهذا الضياع والحرمان الذي تعاني منه شعوب الكتلة المستضعفة كان يهدّد العالم بالانفجار والثورة ضد الدول الاستكبارية. فعمدت الاخيرة الى تهدئتها ومنحها جزء من الاستقلال الشكلي. وفى نفس السياق ايضا تأسست المنظمات الدولية الاقليمية التى زخرت بها الساحة بعد الحرب العظمى الثانية، كجامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الافريقية وغيرهما. وكان للدور الاستكبارية والصراع المحتدم بين واشنطن ولندن (حلفاء الامس) اثرا ملحوضاً فی أنشاء مثل هذه المنظمات التی أُرید لها ان تخنق صرخات الشعوب المستضعفة وصحوتها. وتشير العديد من الدلائل الى ان ابتداع اتجاه الحياد من قبل بعض حکام بلدان الکتلة المستضعفة جاء بايحاء من الدول الکبری – ضمن المخطط المذکور – بالشکل الذي یبرز اولئك الحکام بانهم يسیرون ببلدانهم وفق اتجاه يتميز عن سياسة الكتلتين.

وانتهی الاتجاه الجدید (عدم الانحیاز) الی أن يتحول لساحة مفتوحة يتبارى على استقطابها الشرق والغرب في اطار الحرب الباردة. (وسنعرض لهذا الموضوع بالتفصیل ضمن الواقع السياسي لعدم الانحياز).

نشوء حركة عدم الانحياز

      الحادثة التي كشفت عن سياسة الحياد – بمفهومه الحالي – کانت تتمثل ((في امتناع مندوبي الهند ومصر عن التصویت الى جانب المشروع الامريكي المطروح على مجلس الأمن الدولي، والمتضمن ارسال مساعدات عسکریة الی کوريا الجنوبیة، وذلك ابان الحرب الکورية عام 1959، وکان يعبر بوضوح عن عدم انحياز الدولتين، اللتان تمثلان إبراز محورین في قارتي آسیا و افریقیا، الى جانب معسکر واشنطن))(11).

تلك الحادثة – وبغض النظر عن الدوافع الخفية – شجعت بعض دول الكتلة المستضعفة لمحاولة اظهار شخصيتها الدولیة وسیرها في نهج سیاسي محاید بین الکتلتین، وهذه المحاولات التي حملت لواءها الأنظمة الجديدة، التي تدعي مناهضة الاستعمار، لا یمکن لها، هي الأخری، أن تخرج عن إرادة الدول الاستکباریة أنفسها، حیث لم یکن یسمح لتلك الأنظمة بتخطي الحدود المرسومة لها. کما أن التفکیر باتبّاع خط موازٍ لسياسة القوى العظمى هو مرتبط مباشرة بالوضع الداخلي وشكل الأنظمة التي تنادي بعدم الانحياز.

وحقيقة نشوء عدم الانحياز لا يمكن الوقوف عليها بمعزل عن استقراء الظروف السياسية التي كانت تحيط بالبلدان التي تصدت انظمتها وزعماؤها لفكرة الحياد الإيجابي:

     1- الهند:

کان رئيس وزرائھا “جواهر لال نهرو” من اشد المتحمسين لاتجاه عدم الانحیاز. وسبق لبلاده ان اعلنت عن استقلالها عام 1947م بعد سلسلة من الصراعات السياسية الدامية، عانت خلالها بشدة من وطاة الهيمنة البريطانية لما يقارب من ثلاثة قرون. وكانت الهند في فترة اوائل الخمسينات تعيش حالة بعيدة عن الاستقرار، فباکستان التي انفصلت أخیراً عن أراضي الأُم، أصبحت الند الأول للهند في منطقة شبه القارة، إضافة الى استمرار الهند كعضوة في مجموعة (الكومنولث) ومحاولات نهرو المستمرة للوصول الى توافق مرضي مع البريطانيين. ولم یکن أیضا بإمکان نهرو إخفاء طموحه للعب دور أساس على مستوى قارة آسیا، بالخصوص بعد ان لمع نجمه علی المستوى الشعبي کزعیم مناهض للاستعمار. وکتب نهرو في ۷ کانون الأول 1٩٤٦م، وهو يرسي أهم قاعدة لعدم الانحیاز بقوله: ((إننا نريد بقدر المستطاع أن نبقى بعيدين عن سياسة الكتل المنحازة ضد بعضها البعض، والتي أحدثت في الماضي حروباً دولية، والتي يمكن أن تقود الى كوارث جديدة على صعيد أکبر.. وسنلعب دورنا كاملاً، كأُمة مستقلة، في المؤتمرات العالمية، لكن مع سیاستنا الخاصة))(12).

2- يوغسلافيا:

استطاع المارشال “جوزف بروس تیتو” من الوقوف بوجه سطوة ستالین وقبضته الحديدية، حتى فصل بلاده عن الكتلة السوفيتية عام 1948، ولم يؤد الحصار الاقتصادي الذي أعلنه الاتحاد السوفيتي ضد يوغسلافيا الى عودة الأخيرة الى تبعية موسكو أو سقوطها في احضان الغرب. وبهذا وجد “تیتو” نفسه في خط موازي بين الشرق والغرب، وفي موقع يؤهله لركوب الموجة الجديدة المتمثلة في سياسة الحياد الإيجابي التي نادت بها بعض الدول الأفرو – آسيوية، على الرغم من أن يوغسلافيا تعتبر ضمن دول المجموعة الشمالية.

3- مصر:

شهدت مصر عام 1٩٥٢ ثورة الضباط الأحرار التي استطاعت أن تفك الارتباط العلني ببريطانيا بعد (70) عاماً من الهيمنة، وتقيم النظام الجمهوري. ولم تسمح لجمال عبد الناصر طموحاته العريضة بالبقاء كرجل ثانى فى الدولة – الثورة، بل عمد الى تنحية رئيس الجمهورية اللواء (محمد نجيب)، ليحقق بذلك خطوته الأولى في طريق إعلان شعار توحيد البلدان العربية تحت زعامته، فضلاً عن سعيه لإبراز الوزن السياسي والاقتصادي للقارة الأفريقية على الساحة العالمية.

نهرو، تيتو وناصر، هؤلاء الثلاث كانوا قادة حركة عدم الانحیاز في خطواتها الأًولی، وقد لعبوا دوراً أساسیاً في بناء دعائمها والسهر على دعمها وتنميتها. وهناك زعامات أُخرى كان لها دوراً مكملاً، كالرئيس الأندونيسي احمد سوکارنو، الذي أعلن عن سیادة بلاده وتحررها من الهولنديين عام 1949، وحاول محاصرة المشاكل الداخلية العدیدة التي عانت منها اندونیسیا في أوائل الاستقلال المعلن بسبب انسحاب الخبراء الهولنديين ونشاط المعارضة.

كان اندفاع آباء الحياد الأوائل كبيراً من أجل بعث التیار الجدید من بین الأنقاض التی خلفها المستکبرون الشرقیین والغربیین، ولذلك؛ حاولوا في الظاهر تجسید المعاناة التي عاشتها بلدانهم باختيار أُسلوب الخط الموازي بین المعسکرین.

وكما اشرنا سابقاً؛ فإن هذا الاختيار بحد ذاته، كان يمثل في بعض جوانبه، الانصياع لرغبة شعوب الكتلة المستضعفة التي كانت تبحث عن ورقة الخلاص، بعد أن ذاقت الأمرّين، جرّاء سنوات الاحتلال والهيمنة. والى جانب ذلك لم تكن أنظمة يوغسلافيا ومصر والهند بعيدة تماماً في ممارساتها عن الإيحاءات الخارجية ورغبات الدول المستكبرة، الى الحد الذي تحققه سياسة الحياد من فائدة إلى هذه الدول. فيوغسلافيا (تيتو) كانت تحظى بعطف واشنطن وعواصم حلف شمال الاطلسي بعد خروجها من دائرة النفوذ السوفيتي. ومصر (عبد الناصر) لم تخف ميولها في بادیء الامر الی المعسکر الغربی وامریکا علی وجه الخصوص؛ ففي حديث للرئيس جمال عبد الناصر عام 1954م يقول فيه ((إذا سلكت الولايات المتحدة الامريكية مسلكاً شجاعاً، وعاونت الشعوب المستعمرة على التخلص من السيطرة الأجنبیة والاستغلال؛ فلن یکون ثمة سبیل الی تسرب الشيوعية الى أي جزء من أجزاء الشرق ألاوسط وأفريقيا)) ويضيف ((كانت واشنطن أول عاصمة التجأنا اليها.. بعد قيام الثورة بثلاثة أشهر))(13).

ويستخلص من ذلك؛ إن مجموعة من العوامل الداخلية والمؤثرات الخارجية، إضافة الى الوضع في دول الكتلة المستضعفة – عموماً – هي التي دفعت الرواد الأوائل لحث الخطی نحو عدم الانحیاز.

مؤتمر باندونغ (القمة الافرو – آسيوية)

     الاحداث والظروف التي سبق الحديث عنها، اضافة الى اللقاءات الثنائية وتلاقح الأفكار والاراء، كانت جميعها مقدمات لعقد مؤتمر قمّة افرو – آسيوي يأخذ على عاتقه تبني سیاسة الحیاد علی مستوی القارتین.

الدول التی ادعت للمؤتمر هی: کولومبو، سيلان (سريلانکا)، الهند، باكستان وآندونيسيا. ولبت الدعوة (٢٤) دولة معظمها من التى اعلنت بشكل أو بآخر عن اعتاقها حديثاً من سطوة الاستكبار، فضلاً عن انها تمثل اکثر من ملیاري ونصف نسمة یتوزعون علی قارتي آسیا وافريقیا. وهکذا عقد مؤتمر (باندونغ) في اندونیسیا في الفترة من 14 – ۱۷ نیسان 1955 بحضور ممثلي (29) دولة، كان بينهم ستة من ابرز قادة القارتين، هـم: عبدالناصر، نهرو، سوکارنو، محمد علي جناح، نکروما وشوان لاي.

كان المجتمعون قبل بداية المؤتمر قد وضعوا جملة من الاهداف اعتمدوها في مباحثاتهم:

  • السعی لتوطید اواصر التعاون بین الدول الافريقیة والآسيوية
  • البحث فى المشاكل الاجتماعية والاقتصادية لهـذه المجموعة من الدول
  • البحث فى قضايا دول اسيا وافريقيا وخاصة قضايا السيادة القومية ومكافحة التمييز العنصري.
  • تحديد موقف كل من آسيا وافريقيا تجاه العالم، وبخاصة تجاه مشاکل السلام والتعاون الدولي(14).

افتتح المؤتمر بكلمة سوكارنو التي استعرض فيها وضع المنطقة بشکل عام، واکد علی سیاسة الحیاد الايجابی ومسؤولية ممثلي القارتين تجاهها. واستمر المؤتمر بمناقشة ورقة العمل المطروحة على طاولته، وحاول خلالها معالجـــة قضية التوازن في السياسة الخارجية، اضافة الى التواجد الاستعماري والواقع الاقتصادي والاجتماعي لدول الكتلة المستضعفة. وعلى الرغم من اتفاق الدول المجتمعة في باندونغ على ضرورة محاربة كل اشكال التبعية والاستعمار والانحياز، إلا ان المؤتمر کانت تتقاسمه ثلاث اتجاهات سیاسیة رئيسية تبعاً للانظمة الحاكمة فى تلك الدول:

الاتجاه الاول: المجموعة الموالية للغرب. وتبرز هذه المجموعة ميولها الى الغرب من خلال معاداتها للشيوعية وتأيدها لمحاولات المعسكر الغربي في مناهضته للاتحاد السوفيتي. وكانت تتحفظ على مفهوم التعايش السلمي مع المعسكر الشرقي، لما يمثله هذا المفهوم من خطر على الانظمة المستهدفة من قبل الشيوعية. وطلبت هذه المجموعة من ممثلي الانظمة الشيوعية في المؤتمر تخفي تبعيتهم لموسكو.

الاتجاه الثانى: المجموعة الموالية للشرق. وتمثل هذه المجموعة وجهة النظر المعاكسة للدول الموالية للغرب.

الاتجاه الثالث: المجموعة المحايدة، حسب الادعاء. وقد تتوافق دول هذه المجموعة مع بعض اراء الاتجاهين السابقين، إلا انها تحاول اخفاء اي نوع من الميول والانحياز، لأن ذلك – باعتقادها – سينفى الحاجة لمثل هذا المؤتمر، واعلنت بالمقابل عن تمسكها بمبادئ (بيان شيلا).

ومن هنا؛ فإن قسماً من الدول التي حضرت (باندونغ) کانت تحمل وجهات نظر احدی الکتلتین و تصوراتها حول الكيفية التي يتم بها رسم سیاسة دول الكتلة المستضعفة وطبيعة علاقاتها مع القطبين. وهذا ما حمل نهرو على التنديد بشدة ((بالذل غير المسموح بع للدولة الافريقية او الاسيوية التي تنحدر الى صف التابع لهذا المعسكر او ذلك.. واذا ماقامت الشعوب الاسيوية بالانحياز نحــوالمعسکريین ، فإن مخاطر الحرب ست صبح اکبر))(15).

وفي ختامه؛ اصدر المؤتمر بياناً ضمّنه مبادئ التعايش العشرة ومذكراً الدول بأن تتعامل بتوازن فيعلاقاتها الخارجیة، بالشکل الذی یمس بارادتها وشخصیتها الدولية المحايدة، وان تعيش بسلام وتعاون مع جيرانها، علی اساس المبادی العشر المذکورة.

ردود الفعل حول المؤتمر كانت مختلفة ومتباينة، منها المؤيّد ومنها المنتقد او المقيم الموضوعي ومنها اللامبالي، سواء من داخل المؤتمر او من خارجه. مثلاً: حكومة “انطوني ايدن” البريطانية حاولت اظهار عدائها للمؤتمر، ووصفته بالانحياز للاتحاد السوفيتى، ونفس الشيء بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية، حيث وصف وزير خارجيتها “فوسترد الاس” المؤتمر بأنه مؤتمر مزعوم، وان الحياد الايجابى ((سياسة انتهازية.. قذرة.. سياسة قصيرة النظر غير اخلاقية لأنها حياد بين الخير والشر)).

وفي نفس الوقت ابرزت فرنسا ومجموعة من الدول الغربية حالة من عدم الاهتمام الشاملة. ويرجع بعض المحللين الغربيين ذلك الى عدم أهمية معظم الدول المشتركة فى المؤتمر وتأثيرها السياسى والاقتصادي الغائب فی الساحة الدولية، حيث ان مجموع هذه البلدان التسع والعشرون لا تنتج اکثر من 8% من الدخل العالمی . بینما يصف الكاتب الفرنسي “سرفان شرايبر” باندونغ بأنها ((لیست سوی استعتراض مسرحي مثله سكان منطقة الجوع ليخفوا بؤسهم)).

اما من داخل المؤتمر فقد قال رئيس وزراء الهند “نهرو” بأن ((باندونغ هی اخر نداء توجهه البلدان الیائسة الی ضمیر الغرب الأخلاقي)). واثنی رئيس وزراء الصين “شوان لاي” علی شجاعة الدول الحاضرة في المؤتمر، والتي رفضت الانخراط في كتل وتحالفات. ومن أجل اثبات جديّة باندونغ وتأثيرها على خلق سياسة متوازنة بين العملاقين؛ قال شوان لاي: ((أننا مستعدون للتفاوض مع الولايات المتحدة)).

وعلی کل حال؛ فإن باندونغ انتهی لیضع الحجر الاساس لسياسة عدم الانحياز الحديثة، وليفتح الباب واسعا امـام مؤتمرات اخری مکملة له، ومهما یکن من امر فان باندونغ كان المؤتمر الاكثر اهمية في تاريخ دول الكتلة المستضعفة، وكما قال الرئيس السنغالي الاسبق “سيدار سنغور”: ((ان اي حدث لم يرتد الاهمية التاريخية لباندونغ، منذ عصر النهضة)).

بلغراد: المؤتمر التأسيسي 

في 8 تموز 1956، اجتمع الزعماء “جواهر لال نهرو” و”جوزف بروس تیتو” وجمال عبدالناصر في جزيرة بریوني اليوغسلافية، لتداول الوضع العالمي بشكل عام وموقف الدول المحايدة تجاه العملاقين بشكل خاص. وكان حضور “تیتو” الاجتماع وتأکیده علی سیاسة الحیاد الایجابي، يعني اتساع رقعة مؤيدي هذا التيار ليشمل بعض دول اوربا وامريكا اللاتينية المستهدفة من قبل المعسكرين الشرقي او الغربي. وصدر في نهاية الاجتماع بياناً أعلن فيه عن انضمام يوغسلافيا لسياسة الحياد الايجابي، وتم التأكيد علی قرارات مؤتمر باندونغ، اضافة الی قرارات و توصیات تتعلق بالوضع السائد أنذاك. وکان من اهم النتائج التي تمخضت عن الاجتماع هـــو إقرار مبدأ المؤتمرات الدولية للدول غير المنحازة، والتمهيد للمؤتمر الاول لدول عدم الانحياز الذي عقد في بلغراد.

وقد سبق مؤتمر بلغراد انعقاد مؤتمري الامم الافرو – اسیویة في القاهرة اواخر عام ۱۹5۷ و مؤتمر أکرا في نیسان ۱۹5۸، والذي تم فیهما التأکید علی مبادی باندونغ وتمسكهم بها كأساس للعلاقات البينيّة واسلوب التعامل مع دول الكتلتين. كما عقد في القاهرة ايضاً اجتماع قمة تحضیر لمؤتمر بلغراد بین الرئیسین تیتو وعبدالناصر. وتزامن مع الاجتماع تشكيل لجنة تحضيرية موسعة ضمت (21) دولة افريقية  واسيوية اضافة الى يوغسلافيا، الدولـة الاوربية الوحيدة المنخرطة في حركة عدم الانحياز.

وفي ٦ ايلول ۱۹٦1م وبحضور (٢٥) دولة آسيوية وافريقية واوربية وثلاث دول امريكية لاتينية بصفة مراقب، افتتح مؤتمر بلغراد بکلمة الزعیم الیوغسلافي تیتو (رئیس المؤتمر)، وأعقبه مناقشة مكثفة للمسائل الرئيسية المندرجــة في ورقة العمل، والتي تنحصر في رسم الخط النهائي لعدم الانحياز:

1 – تحديد الاهتمام الاولي للمؤتمر الذي يتمثل بحل النزاع بين الشمال والجنوب (الاستكبار والاستضعاف) والموقف من الشرق والغرب.

2- تحديد طبيعة توجهات عدم الانحیاز، فیما اذا ستنحصر بالدفاع عن المصالح الافرو – اسيوية ام حمـــل هموم السلام والامن الدوليين.

۳- تحديد الهیکل العام لكتلة عدم الانحياز، وهل ستعمد الى بناء مؤسسات دائمة ولجان مختصة.

واختتم المؤتمر اعماله باصدار بیان ضمّنه ۲۷ نقطة تتعلق بالوضع العالمي عموماً ووضع دول الكتلة المستضعفة خصوصاً. وکان البیان لا یتطرق الی جزئیات الامور الحسّاسة، بل بتحدّث في العموميات الى الحد الـذي لا يسبب احراجاً لاحدى الدول الموقعة عليه. وقد تضمّن ايضاً المطالبة بالسلام العالمي ونزع السلاح والتنديد بالاستعمار والعنصرية وتواجد القواعد الاجنبية في اراضي العالم الثالث، وكذلك الرغبة في المساهمة بحل المشاكل الدولية المعلقة. واكد البيان على ضرورة حصول الشعوب المستعمرة على استقلالها وحق تقرير مصيرها كالشعب الجزائري والتونسي والفلسطیني وشعبی انغولا والکونغو، اضافة المساواۃ في حقوق  كل شعوب العالم والتعاون والتعايش الدوليين.

ووجه المؤتمر رسالتين الی کل من الرئيس الامريکـــي “كنيدي” والزعيم السوفیتی “خروشوف”، یلفت انتباههما الی مخاطر الحرب النوویة، والی ضرورۃ فتح حوارین المعسکرین. وقد حمل رسالة کنیدي الرئیسان “سوکارنو” و”موديبوكييا”، بينما حمل رسالة “خروشوف” الزعيمان الهندي والغاني “نهرو” و”نيكروما”.

هذا الانفتاح علی القوتین المستکبرتین وحثهما علی تفهم موقف عدم الانحیاز، اسقط من بید موسکو وواشنطن مهاجمة (بلغراد) والنتائج التي خرج بها، حيث قابلت العاصمتان تراجع المؤتمر عن مبادی (بان شیلا) و(باندونغ) بمزید من الترحيب والقبول، بعد أن قرر المجتمعون في بلغراد رفض خلق كتلة ثالثة في مواجهة الشرق والغرب، لانهم يكافحون التکتلات.. فکیف بهم یشکلون کتلة!؟. کما قرروا اعتبار حركة عدم الانحياز مجرّد قوة معنوية وليست قوّة سياسية لها القدرة على المواجهة والردع والحزم. وهــذه المسألة تعد أول نكسة حفل بها تاريخ عدم الانحياز، أو بمعنى آخر مساومة وتنازل عن المبادئ الحقيقية التي اشار اليها مؤتمر باندونغ. ويكشف عن الضغط الذي تعرضت له دول الحركة خلال الفترة التي اعقبت قمة باندونغ واجتماع بيريوني وسبقت مؤتمر بلغراد.

المبادئ الاساسية والتزامات الدول الاعضاء

المبادئ العشرة التي خرج بها مؤتمر باندونغ ما زالت حرکة عدم الانحیاز تتبناها و تعتبرها الاسس الاولی التی قامت عليها الحركة.

  • احترام حقوق الانسان الاساسية والمتطابقة مع اهداف ومبادئ ميثاق الامم المتحدة
  • احترام سيادة كل الامم وسلامتها الإقليمية
  • الاعتراف بمساواة كل الاعراق ، ومساواة الامم الصغيرة والكبيرة
  • عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخری
  • احترام حق كل امة (دولة) بالدفاع عن نفسها، فرديا أو جماعيا، وفقا لميثاق الامم المتحدة.
  • رفض اللجوء الى ترتيبات دفاعية لخدمــة القوی الکبری الخاصة مهما کانت. ورفض ممارسة الضغوط على الآخرين من قبل اية قوّة
  • الامتناع عن الاعمال والتهديدات العدوانية أو استخدام القوّة ضد السلامة الاقليمية او الاستقلال السياسى لأي بلد
  • تسوية النزاعات الدولية بالطرق السلمية، كالمفاوضات والتحكيم، او حلها امام المحاكم، وكذلك بوسائل سلمية اخرى يمكن ان تختارها الدولة المعنية طبقا لميثاق الامم المتحدة
  • تنمية المصالح المشتركة والتعاون المتبادل
  • احترام العدالة والالتزامات الدولية(16).

وحول حقيقة التزام انظمة حركة عدم الانحياز بهـذه المبادی، فانه بمرور سریع علی ممارسات الکثیر منها، یتضح البون الشاسع بین الاثنین؛ فمن خلال بیانات منظمات حقوق الانسان والعفو الدولية، نرى ان معظم انظمة دول عدم الانحياز لا تعترف في الواقع بمنطق احترام حقوق الانسان الذي تدعو له الحركة، لانها اكثـر دول العالم انتهاكاً لكرامة الانسان وقيمته، فالآلاف يقتلون سنوبا ويتعرض مئات الالاف لشتى صنوف الارهاب، من مداهمة البيوت والاعتقال والسجن مروراً بالتعذيب النفسي والجسدي الى الملاحقة والتهجير. وقد لا يمر يــوم دون حصول العشرات من هذه الحالات. وطبيعة الوضع السياسي في معظم بلدان عدم الانحياز يملي عليها عدم الالتزام بمبدا حقوق البشر، حيث ان الامر لا يتعلق مطلقاً بهذا المبدأ، بل يرتبط مباشرة بشکل الانظمة الحاکمة والممارسات التی تنتهجها عملياً. وما زالت الكثير من هذه الانظمة تمارس سياسة التمييز العنصري والفرز العرقي، وتصنف شعوبها حسب قوميّاتهم او مذاهبهم الى مواطنين من الدرجة الاولى والثانية… الخ.

اما على الصعيد الخارجي؛ فإن قسماً من دول عدم الانحياز لم تحترم سيادة الامم الاخرى، وعمدت الى التدخل في شؤون البلدان الاخرى واثارة القلاقل فيها والتعدي الـــى محاولة اسقاط نظامها، فضلاً عن لجوئها الى العمل العسكري والتدخل المسلح المباشر واحتلال اراضي الدول الاخرى. ويمكن ملاحظة الاعمال والتهديدات العدوانية واستهداف استقلال البلدان الاخرى بسهولة من خلال واقع الحدود المشتركة لكثير من دول الحركة، والتي تعيش تواتر مستمر واعمال عنف وتهديدات متبادلة لا حصر لها، ابتداء من بلدان جنوب وشرق اسيا ومروراً بالعالم الاسلامي وافريقيا وانتهاء  بدول امريكا اللاتينية.

كما تسمح الكثير من دول عدم الانحياز باستخدام القوى المستكبرة لأراضيها ومجاليها الجوي والبحري فى الاعتداء علی دول اخری، وکذلك اقامة القواعد العسکرية فیها. وهذه الظاهرة كما يبدو لم تعد محرجة لانظمة تلك الدول.

ويذهب بعض الباحثين الى ان مبادئ عدم الانحياز لم تتبلور بشكل نهائي في (باندونغ) على الرغم من ان مبادئ باندونغ هی الاسس التی قامت علیها الحرکة، وانما کان للمؤتمرات والاجتماعات اللاحقة دوراً مكملاً فى هذا الصدد، وعلى وجه التحديد الاجتماع التحضيري الذي عقد في القاهرة في تموز 1961، حيث وضعت اللجنة التي تالفت خلال الاجتماع، وضمت (21) دولة الاسس المبداية التي ستدعى وفقها الدول للمشاركة في مؤتمر بلغراد، وهي:

  • اتباع سياسة مستقلة قائمة على اساس التعايش السلمي وعدم الانحياز
  • تقديم الدعم والتاييد لحركات التحرر الوطني
  • عدم الانتماء الى اي احلاف عسكرية جماعية في اطار النزاعات و الحرب الباردة بین الدول الکبری
  • عدم الدخول في اي حلف ثنائي مع قوة کبری
  • عدم السماح للدول الاجنبية باستخدام اراضي السدول المحايدة لأي غرض عسكري كالاعتداء على دولة اخرى او اقامة القواعد العسكرية.

وحاول مؤتمرا (لوساکا) و(الجزائر)، اللذان يعدان من اهم مؤتمرات عدم الانحياز، اضافة مبادئ او اسس جديدة وبلورة مبادئ باندونغ والقاهرة، إلا أن ما أضافه لوساكا والجزائر لم يخرج مطلقاً عن روح المؤتمرات السابقة، ومن هنا؛ فإن المراقبين يميلون الى اعتماد مبادئ باندونغ والقاهرة كمبادئ ما زالت تتبناها – شكلياً – دول عدم الانحیاز(17).

الإطار التنظيمي لحركة عدم الانحياز

خلال السنوات التي اعقبت المؤتمرين التحضيــري والاول وحتى الوقت الحاضر، شهدت عدم الانحياز تطورات ملحوضة على مختلف الاصعدة، كعدد الدول الاعضاء والدور الذي اطلعت به الحركة ووضعها الداخلي، الا أنها على الرغم من ذلك لم تعمد الى تأسيس جهاز منظم يجمع في داخله الدول الاعضاء ویکون له الاشراف علی نشاطات الحرکة كما هو الحاصل – على سبيل المثال – في منظمة الامـم المتحدة وجامعة الدول العربية.

    1- مکتب التنسیق:

في مؤتمر بلغراد طرح بالحاح موضوع انشاء جهاز دائم للحركة، وكان يحظى بدعم مجموعة غير قليلة من الدول، الا ان المؤسسین ( نهرو، تیتو  وعبدالناصر) عارضوا هذه الفکرة بشدة ((من منطلق ان الحرکة لیست کتلة او مجموعة بالمعنى المتفق عليه للكتل والمجموعات الدولية. یضاف الی ذلك ان الحرکة لا تعدوا ان تکون بمثابة تحالف دیمقراطي واسع لدول تسعی الی دعم سیاسات معینة وعليه فإن القول بانشاء جهاز دائم او امانة عامة قد يعرّض الحركة لخطر الانقسام او لخطر الخضوع للنفوذ الأجنبي))(18).

وبمرور الوقت وتوالي المؤتمرات كانت تبرز الحاجة الى انشاء جهاز دائم، حتى قرر وزراء خارجية عدم الانحياز في مؤتمرهم المنعقد بمدینة (جورج تاون) عام ۱۹۷۲، توسيع اختصاصات (اللجنة التحضيرية الدائمة). وفي اعقاب مؤتمر الجزائر عام ۱۹۷۳ تشکل (مکتب التنسیق) ليكون بمثابة الجهاز الدائم للحركة، وباشر اعماله في آذار 1974. ويعد مکتب التنسیق ((الجهاز الذي يختص بسلطة تنسيق نشاطات الاعضاء فيما بين انعقاد مؤتمرات القمة والمؤتمرات الوزارية أو ابية اجتماعات أخرى تعقدها الدول غیر المنحازة))(19). ویتکون المکتب من بعض ممثلي الدول الأعضاء، ویعقدون اجتماعهم كل سنة، ويرأسه رئيس مؤتمر القمة السابق ولمدّة ثلاث سنوات حتى انعقاد المؤتمر اللاحق. وتتوزع مقاعد المکتب حسب التوزیع الجغرافي لدول عدم الانحیاز: قارة افريقیا (12) مقعداً، قارة اسیا ثمانية مقاعد، امريکا اللاتينية (الوسطى والجنوبية) أربعة مقاعد، اوربا مقعد واحد.

وفي مؤتمر قمة کولومبو عام 1967، تم التأکید علی اهمیة مكتب التنسيق ودوره. وتقرر في الاجتماع الوزاري للحركة عام ۱۹۷۹ توسیع اختصاصات المکتب، لیشمل مجال تسویة المنازعات سلميّا بين الدول الأعضاء، إلّا أن بعض المختصين في سياسة عدم الانحياز يقطعون بأن ((على المكتب ان لا ينظر الی ذاته باعتباره جهازاً حاکماً أو آمراً، حیث ان ذلك يتعارض والطبيعة الديمقراطية للحركة))(20). ومن هنا لا یمکن اعتبار مکتب التنسیق کجهاز تنظیمي تجتمع في اطاره الدول الاعضاء في حركة عدم الانحیاز، لانه يفتقر للجان المختصة والمؤسسات التنفيذية، وعليــة فان اختصاصات المکتب تبقی شکلیة وتنحصر في مهمـــــــــة التحضير للاجتماعات الوزارية، وبتعبير آخر؛ همزة الوصــل بين اعضاء الحركة وزمان انعقاد المؤتمر الوزاري. اما ان یکون له دور في الاشراف والقیمومة علی الحرکة و نشاطاتها فهو ما یفتقد الیه المکتب.

     2- العضوية:

جاذبية مفهوم عدم الانحياز ودور اللعب الدولية الخفية، دفع الکثیر من دول الكتلة المستضعفة للانضواء تحته، من اجل اخفاء حقيقتها واظهار نفسها بمظهر الحياد وعدم الارتباط بالقوی العظمی، ظنا منها ان هذه اللعبة یمکن ان تنطلي على الشعوب المستضعفة . فمؤتمر بلغراد عام ١٩٦1 لم يحضره سوی (25) دولة، بینما شهد مؤتمر نیودلهي عام ۱۹۸۳ حضور (101) دولة.

وهذا  الاندفاع الکبیر نحو اللا إنحياز، حرّك بعض الدول لحث الحركة على مراجعـــة طبيعة العضوية فيها والمعايير التي يتم على اساسها فرز الدول غير المنحازة. فكان قسم من اعضاء الحركة يرى ان یبقی الباب مفتوحاً للعضوية، دون النظر في التزام الدولة وشكل نظامها، لأن ذلك من شأنه ان يمنع من تحجیم الحرکة، وسیزید من کمها وهیبتها علی الساحة الدولية. اما القسم الاخر فيعتقد بان تهتم الحركة بالكيفية دون الکمیة ووضع اسس محددة لدول الحياد ، فما جـدوى ان تكون الدولة منحازة وتنتسب رسميّاً الى عدم الانحياز. والنتيجة؛ أن رأي اصحاب الانفتاح هو السائد حالياً ولا يبدو ان الحركة تفكر جدياً في تحديد هذه المسألة الحساسة.

الواقع السياسي لحركة عدم الانحياز

تلعب عوامل عديدة تلعب دوراً في تحديد الواقع السياسي لحركة عدم الانحياز، من بينها الخلفية التاريخية والوضع السیاسي والاقتصادي والاجتماعي السائد في دول الکتلة المستضعفة ، والحرب الباردة بين الشرق والغرب وحالات الانفراج بينهما وتأثير ذلك على الحوار بين ما يسمى بدول الشمال والجنوب، وميول الدول الاعضاء في الحركة ومحاولة استقطاب العملاقين، والخلافات بين اعضاء الحركة ودول العالم الاخرى، اضافة الى الخلافات بين دول عدم الانحياز نفسها.

مجمل هذه العوامل ترکت بصماتها بشکل کامل علی مسیرة حرکة عدم الانحیاز، ویمکن حصرها في محورین رئیسیین:

     1- صراع العملاقين في اطار عدم الانحياز:

حركة عدم الانحياز كغيرها من التنظيمات الاقليمية التي سمحت القوی المستکبرة ببروزها واستمرارها في ظروف معينة، تحوّلت بالتدريج لتدور في فلك القوى العظمى وتنجز مخططاتھا فی اطار وفاق العمالقة وتوزیع مناطق النفوذ واذا احسنا الظن بجذور عدم الانحياز، فإننا بعد مرور ما يقارب من (25) عاماً على الاعلان عنها رسمياً، نرى أنها انتهت بالانحیاز لکل من الدولتین الکبريین، اللتين استطاعتا استقطاب معظم اطراف الحركة، مما أدّى لتحوّل حركة عدم الانحياز الى ساحة للصراع بينهما.

فهنالك اكثر من (30) دولة من اعضاء الحركة مرتبطة – صراحة – بالمعسكر الغربي بمجموعة من المعاهدات والاحلاف، وتعتمد علیه عسکرياً وسیاسیاً واقتصادياً، وتتلقی منه مختلف انواع الدعم والمساعدة. ومن هذه الدول مصر والاردن والعربية السعودية والعراق وباكستان. وفي المقابل؛ هنالك العديد من الدول التي ترتبط بالمعسکر السوفيتى، وتحكمها انظمة شيوعية، كأثيوبيا وانغولا وكوريا الشمالية وكمبوديا وفيتنام وافغانستان ونيكاراغوا وكوبا. اما بقية دول الحركة؛ فإنها تميل الى هذا الطرف او ذاك، باستثناء الجمهورية الاسلامية الإيرانية، التي تعتبر الصوت اللامنحاز الوحيد في الحركة. فأفغانستان – مثلاً – يحكمها نظام روسي صرف، وعلی اراضیها مئات الالاف من العسكريين السوفيات، ومع هذا فقد ترددت الحركة في تعليق عضويتها ابان المؤتمر الوزاري المنعقد في الهند عام 1981، الامر الذي دفع وزير خارجية الجمهورية الاسلامیة الإيرانية الی القول باننا ((لن نتباحث مع مهرجین يمثلون الاتحاد السوفیتي في أفغانستان))(21). وكذلك کوبا التي تعتبر من الزعامات المتميزة في حركة عدم الانحياز؛ فهي الاخرى علی علاقة خاصة بالاتحاد السوفیتي و ترتبط به عضویا، فمساعدات موسكو الى هافانا تصل إلى اكثر من ملياري دولار سنوياً، وهنالك اكثر من خمسة آلاف عسكري وخبير روسی، والکثیر من القواعد العسکرية، اضافة الی التکامل في مجال السياسة الخارجية، حيث يقوم الطرفان بعمليات عسكرية موحدة في افريقيا. وخلال قيادة كوبا لعدم الانحیاز في الفترة بین مؤتمري ها فانتا ونیودلهي (۱۹۷۹ – ۱۹۸۳)، حاول نظام کاسترو جر الحرکة الی جانب المعسکر الاشتراکي، وکشف عن وجود مصالح مشترکة وارتباط وثیق بین تیار عدم الانحیاز والاتحاد السوفیتي. واصر كاسترو على عقد مؤتمر في العاصمة النيكاراغوية (ماناغوا) لمناقشة قضايا أمريكا الوسطى، وكان في ذلك إدانة صريحة للولايات المتحدة، بينما رفض عقد مؤتمر مشابه لمناقشة قضية افغانستان، الأمر الذي ادى الى اعتراض الکثیر من دول عدم الانحیاز علی ذلك واقتراحها بتعلیق عضویة کوبا فی الحرکة.

اما مصر والسعودية؛ فهما النموذج المتميز للدول المنحازة الی المعسکر الغربی؛ فمصر ترتبط بالعديد من المعاهدات مع الولايات المتحدة الامريكية، وتحتضن بعضاً من قواعدها العسكرية، وتتلقى منها دعماً واسعاً منذ عام 1977. وقد أثارت عضوية مصر زوبعة في اروقة مؤتمر هافانا بعد توقیع رئیسها معاهدة الاستسلام مع الکیان الصهیوني، وتزعمت الانظمة العربية هذه الزوبعة الفارغة، بينما ترددت يوغسلافيا وكوبا بصدد الموضوع، حيث اعتبرتا أن خروج مصر من الحركة يعد بادرة غير طيبة من شأنها تفتيت الحرکة وانهیارها.

هذا التباين في الاتجاهات وسياسة المحاور والارتباط بالقوتین المستکبرتین؛ أدت فی مجملها الی فشل عدم الانحیاز فى خلق قوّة عالمية ثالثة لها القدرة على مواجهة المتغيّرات التي تتعرّض لها دول الكتلة المستضعفة، وان يكون لها القرار الفاعل والوزن الدولي. ويعود ذلك بالدرجة الاولی الى المفاهيم الفضفاضة، والمبالغة في مرونة المبادئ، مما سمح لاستمرار الدول المنحازة في عضويتها بالحرکة وتسلّل دول اخری لا تقل انحیازاً.

وعلى الرغم من كل الانجازات التي استطاعت القوتان العظميان تحقيقها داخل عدم الانحياز، واستقطابهما لاعضاء الحركة، إلا انهما لم يصلا بعد – كما يدّعيان – الى حالة القناعة والرضا عن السياسة التى تنتهجها، حيث ترى واشنطن بأن عدم الانحياز ما زال سياسةً لا أخلاقية تهدف الى جر العالم الثالث الى المعسكر الشرقي، بينما تعتقد موسكو بأن الحركة الحالية ما هى الا تبعيّة جديدة للاستعمار. ولا تعدو هذه التقوّلات سوى انها مناورة سياسية، الهدف منها خداع الشعوب المستضعفة وتمرير المخططات الاستكبارية عبر الواقع السياسي للحركة.

    2- الخلافات بين أعضاء الحركة:

بعد الاتساع المريب الذي شهدته الحركة، وضمّها لايديولوجيات وتيارات سياسية متضاربة، انفجرت المنازعات والخلافات بین اعضاءها وتطورت فی کثیر من الحالات الى معارك وحروب مستعرة، لتشكل تحدي جدید یضع عدم الانحياز علی المحك الحقيقي ويختبر جديتها ومصداقيتها حتى اصبح مثل هذا التقارب من ابرز سمات عدم الانحياز في السنوات الاخيرة.

وتُظهر الحرکة عن عجزها وفشالها الکاملین، حيث لم تستطع خلال ما يقرب من (25) عاماً من السيطرة حتی علی واحدة من الحروب التی اشتعلت بین دولتین من اعضاء الحركة، ابتداء من مشكلة فيتنام واحداث شبه القارة الهندية والكونغو ونيجيريا فى الستينات، وانتهاء بالحركة الكمبودية – الفيتنامية والحرب العراقية – الايرانية فی اوائل الثمانینات.

وفضلاً عن الصراعات المستمرة والحروب السافرة؛ فقد شهدت عدم الانحیاز ظاهرة مشینة اخری، وهي سقوط حکومات اعضاء فی الحرکة علی يد حکومات أخری نظیرة لها، کما حصل عام ۱۹۷۹ حین اسقطت الفیتنام حکومة الخمير الحمر في كمبودبا، وذلك عن طريق التدخل المباشر. و کانت الحرب بین فیتنام وکمبوديا تمثل قمة الصراع الايديولوجی والسیاسی بین الصین والاتحاد السوفیتی داخل حرکة عدم الانحياز.

وتمثل الحرب العراقية – الايرانية نوعاً اخر من الصراع، حيث بادرت الكتلة الغربية بدفع النظام العراقي الى اشعال الحرب على الجمهورية الاسلامية الفتية في ايران في حين ان كلا من العراق وايران ان يرتبطان رسميا بعدم الانحياز. وعلى الرغم من قيام العراق باحتلال اجزاء واسعة من الاراضي الايرانية واعتدائه على السكان الامنين وضربه للمدن، وذلك بهدف اسقاط الحكم الاسلامي في ايران. وفي هذا – بحد ذاته – خرق صارخ لمبادئ الانحياز، إلا أن الحركة لم تتقدم خطوة واحدة في سبيل الوقوف بوجه المعتدي وتعليق عضويته او ادانته – على الاقل-، واكتفت بمهمة الواسطة وتوجيه النداءات الى الطرفين من اجل وقف القتال.

وفي نفس السياق؛ تقوم بعض دول عدم الانحياز بمنح قواعد عسكرية لأمريكا او روسيا من اجل ضرب دولة اخرى في الحركة. ومن خلال ذلك يمكن الوصول الى حقيقة ظاهرة لدى معظم المراقبين، وهي ان الخلافات بين بلدان عدم الانحياز انفسها اصبحت جزءً من الصراعات الدائر وتبادل المناوشات بين الدولة الاستكبارية. وفي كل مرة تعبر الحركة عن موقفها الثابت والسلبي، حيث ينبع ضعف عدم الانحياز وفشلها من هذه النقطة على وجه التحديد، الأمر الذي دفع بعض الدول الى طرح قضية دور الحركة في تسوية الصراعات بين اعضاءها على طاولة النقاش والبحث، على مستوى مكتب التنسيق والمؤتمرين (الوزاري والقمة). ومن خلال المداولات برزت بين دولة الحركة ثلاث اتجاهات رئيسية:

الاتجاه الاول: يسعى لتوفير آلية ثابتة لتسوية المنازعات سلمياً في اطار الحركة

الاتجاه الثانی: یركز علی ان هذه المنازعات یجب تناولها على المستوى الاقليمي أوعن طريق الامم المتحدة، اي خارج اطار عدم الانحياز

الاتجاه الثالث: یتحفظ علی اي نوع من المیکانیزمات الثابتة لتسوية المنازعات، ويفضل اتباع وسائل براجماتیة تتلائم مع كل حالة على حدة(22).

وادّى عدم الاتفاق هذا الى اهمال الموضوع اساسا ، والابقاء علی الدور التقلیدی لعدم الانحیاز، وترکیزها علی الازامات الدولية بدلاً من التدخل في الخلافات بين اعضاءها، بل ان بعض مسؤولي الحركة يقول بان عدم الانحياز ليس من اختصاصاتها فض المنازعات بين اعضاءها مطلقاً. وتبرّر بعض دول الحركة ذلك بأنّ خلافاتها البينية هى عارضـة وثانوية بالقياس الى الصراع ضد الاستكبار العالمي. ويغيب عن هذه الدول بان خلافاتها ما هي الا تاکید لارادة الاستکبار وتکریس لدوره وقیمومته علی عدم الانحیاز.

البحث عن نظام اقتصادی عالمی جدید

النظام الاقتصادي العالمي العادل وانصاف الشمال للجنوب وهم کبیر يستهوی الشعوب المحرومة، ویدفع انتظمتها الی المزيد من التبعية والتقرب للقوى المستكبرة. حيث ان مصالح الدول الکبری ومیکانیکیة النظام الاقتصادی العالمی الراهن لا تسمح بتغيير هذه الحالة التي اعتاد عليها المجتمع الدولي.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، استيقض العالم ليجد الولايات المتحدة الامريكية واوربا والاتحاد السوفيتي يحتلون 80 ٪ من الثروة العالمية، في حين انهم لا يمثلون سوی 20٪ من سکان العالم، کما تسیطر دول المعسکر الغربي لوحدها علی 64,9% من اجمالي الناتج القومي العالمي. ولم يشهد هذا الوضع – كما ذكرنا – تغييراً جذرياً حتی الان. بالاضافة الی اخطبوط الشرکات متعدّدة الجنسية التى أصبحت تهدد اقتصاد دول الكتلة المستضعفـــــة بالصمیم، حیث تسیطر هذه الشرکات علی 70- 95% من مجمل صادرات الدول النامية(23). ومن جهة أخرى؛ فـان الايداعات النقدية للكثير من دول عدم الانحياز، وعلى وجه الخصوص الدول العربية، فى البنوك الاجنبية تمنح الاقتصاد الغربي قوّة كبيرة، من شأنها تكريس النظام الاقتصادي الراهن.

وقد حاولت حركة عدم الانحياز التدخل لتغيير هـــذا النظام، ووضع اسس نظام اقتصادي عالمي جديد من شأنه إنصاف الدول النامية واسنادها. ولم تكن الحركة في الستينات قد فكرت جديا بالاهتمام بالقضايا الاقتصادية لدول الكتلة المستضعفة، إلا ان هذا التوجه تغيّر ابتداءً من مؤتمر (لوساکا) عام ۱۹۷۰، حیث اخذت تولي الجانب الاقتصادی اهتماما يعادل اهتمامها بالجانب السیاسي. ويعود هذا التحول الى جملة من العوامل والظروف، منها:

  • الانفراج في العلاقات بين الشرق والغرب والتوافق بینهما، اضافة الی بروز الخلافات فی اطار سیاسات القطبين كالصراع الصيني – السوفياتي، وتزايد الدور الاستقلالي للدول الاوربیة. هذا الاستقرار النسبی في العلاقات بين الدول المستكبرة، حال دون قيام حركة عدم الانحیاز بدور سیاسي مشهود، مما دفعها الی الاهتمام بالوضع الاقتصادی بشکل متزامن ایضا مع التدهور الاقتصادی لدول الكتلة المستضعفة.
  • تعثر الجهود الدولية ومساعي منظمة الأُمم المتحدة في التغلب على المشكلات الاقتصادية لدول العالم الثالث، وتزايد الهوّة بينها وبين الدول المتقدمة. فقد أثبتت أحصاء ات عامی 1960 و1970 انخفاض نصيب دول الكتلة المستضعفة من الناتج القومی العالمی من 19% الی ۱۷ ٪ ، وان خفاض نصیبها من الصادرات العالمية من 22,7 الی 17,7 ٪، في الوقت الذي رفضت فيه الدول المستكبرة تخصيص 1 ٪ من ناتجها القومي لمساعدة الدول المستضعفة بناء علی تحديد الامم المتحدة.
  • لم یکن حجم و ترکیب حركة عدم الانحياز في بداية الستينات، يسمح لها بتبنى المشكلة الاقتصادية لدول الكتلة المستضعفة عموماً، فى حين ان مجموعة الـ (77) التى برزت عام 1964، تملك حق الدفاع عن قضايا الدول النامية في اطار الامم المتحدة. ومع وصول عدد اعضاء حركة عدم الانحياز الی (54) دولة خلال مؤتمر لوساکا، حتی وجدت عدم الانحیاز في نفسها الحجم الكافي للتصدي للمشكلة.
  • اهتمام بعض زعامات عدم الانحياز بالجانب الاقتصادي وتأثيرهم على تحديد سياسة الحركة، دفع الاخيرة الى هذا التحول، وعلى وجه التحديد الرئيس التنزانى “جولیوس نیريري”، الذي طلب عام ۱۹۷۰ ادخال مفهوم ((الاعتماد على الذات)) في الفلسفة الاقتصادية لدول عـدم الانحياز. وكذلك الرئيس الجزائري هواري بومدين الذي رفع شعار ((المواد الاولية والتأميم))، كأساس في النمو الاقتصادي لدول الحرکة. ففي عام 1973، أعلن مؤتمر الجزائر عن برنامج اقتصادي شامل يتعلق بتعديل أنظمة التجارة الدولية والنقد وتاميم الموارد الطبيعية لدول عدم الانحياز والتعاون مع الدول الاشتراکیة ولم یحظ البرنامج بادنی حدود التطبیق(24).

وحفل مؤتمر كولومبو عام 1976 بمطالبة دول عدم الانحياز بخلق النظام الاقتصادي الدولي الجديد، وحددت معالمه الأولية بما يلي:

  • إعادة هيكلية نظام التجارة الدولية بأسره، بربط اسعار صادرات الدول النامية باسعار صادرات الـدول المتقدمة وتحسين معدلات التبادل الدولى، وضمان اسعار حقيقية للمواد الاولية
  • اعادة هيكلية نظام الانتاج العالمي على اساس تقسيم جديد للعمل، من خلال:
  • تمكين الدول النامية من تسويق منتجاتها الصناعية فــى اسواق الدول المتقدمة
  • التنسیق بین انتاج المواد الاولیة فی الدول النامیة وصناعات المواد الصناعية فى الدول النامية
  • ضغط انشطة الشركات متعددة الجنسيات لكي تتلاءم مع مصالح الدول النامية.
  • التغيير الجذري للنظام النقدي العالمي بما يلغ الدور المسیطر للعملات الکبری فی تکوین الاحتیاجات الدولية، ويضمن المساواة في اتخاذ الدول النامية والدول المتقدمة.
  • ضمان نقل الموارد والتكنلوجيا الى الدول النامية علی اساس مستمر ومحدود وکاف))(25).

وبقيت هذه المبادئ او المطالب محفوظة فی ملفات مکتب التنسيق، ولم تحاول عدم الانحياز حتى بالتفكير بالالتزام بها، في حين ان معظم أنظمة الدول ترتبط مباشرة بطبيعة النظام الدولي الحاضر وليس من شأنها العمل على تغييره، بل تعمل علی تکريسه واسناده، طالما انها ارادة القوى العظمى.

ومن هنا؛ فإن الحقيقة التي تفرض نفسها على الواقع هي شکلیة مطالب عدم الانحياز وعدم جدواها في نفس الوقت، حيث انها لا تملك القدرة الكافية والاستقلالية اللازمة ووحدة القرار والموقف لتطبيق هذا النظام، مع انها تضم اكثر من (100) دولة. ویذکر في هذا الصدد الامین العام للامـم المتحدة “بريز ديکویلار”: ((اذا کانت حرکة عدم الانحیاز مطالبة بان توحد مواقفها ازاء القضايا الاقتصادية العالمية خاصة، وان الحوار بین الشمال والجنوب والمفاوضات بشان ارساء نظام اقتصادي دولی جدید اکثر عدالة علی الابواب، الا انها في الوقت نفسه مطالبة اكثر من أي وقت مضى بمحاولة تقرب مواقفها السياسية والبعد عن سياسة المحاور والارتماء في احضان ای من الجبارین، حتی یمکن ان تنجح في اهدافها الاقتصادیة للتوصل الی نظام دولي جدید))(26).

واستطاعت بعض التجارب الجماعية والفردية لبعض دول عدم الانحیاز ان تفرض نفسها کنماذج بارزة في الجانب الاقتصادي ، اخفقت أحيانا ونجحت فى اخرى ومنها منظمة الدول المصدرة للنفط (اوبك) التی بادرت عام ۱۹۷۳ الی رفع اسعار نفطها اربعة أضعاف، ووقوفها بوجه ممارسات الولايات المتحدة وضغوطها، وتحقيق بلدان اوبك لفوائض صافیة بلغت ۲,29 بلیون دولار في عام 1975،  وکذلك تجربة ميثاق التعاون الاقتصادي الذي انشأته عام ١٩٧٥ (٤٦) دولة من دول الكتلة المستضعفة. بالاضافة الى نشاطات مجموعة الــ (77)، وبعض المجاميع الاقتصادية الصغيرة العاملة في اطار الامم المتحدة.

إلّا أن مجمل هذه التجارب الجماعیة، ومهما حققت من نجاحات یمکن ان تذکر، لم تكن مرتبطة مباشرة بنشاط حركة عدم الانحياز، وانمـا اقتضتها فقط المصالح الذاتية للدول التي انشأتها، وهي لا تخرج ايضا عن اطار اللعبة الدولية وسياسة اخماد حركــة الشعوب المطالبة بتحسين الاوضاع الاقتصادية ومكافحـة الهيمنة الاستكباربة. وفى نفس السياق تدخل التجارب الفردية لبعض دول عدم الأنحياز، كسياسة (الاعتماد على الذات) التي تبناها النظام الکیني في اواخر الستینات، وكذلك النظامین الکوري الشمالی والتنزانی ایضاً. ولكن تبقی تجربة الجمهوریة الاسلامیة الإیرانية في (الاکتفاء الذاتي) رائدة وفريدة من نوعها من حيث الاستقلالية الحقيقية والنضج والاعتماد على الامكانات الوطنية، يرافقه دعم الشعب، وتمخضت التجربة عن قوّة اقتصادية تحظى بها الجمهورية الاسلامية، على الرغم من المشاکل التى تعانيها والحصار الاقتصادي والحرب المفروضة.

مؤتمرات قمة عدم الانحياز

في مؤتمر بلغراد الاول عام 1961، تم الاتفاق علی عقد مؤتمرات دورية لدول عدم الانحياز كل ثلاث سنوات. ويعقد وزراء خارجية الدول الاعضاء اجتماعاً تحضيرياً لمؤتمر القمة قبل سنة من انعقاده، يتم فيه صياغة ورقة عمل القمة المقبلة والمحاور التي سيتركز حولها النقاش.

    1- مؤتمر بلغراد:

عقد فى الفترة من 1- 6 أيلول 1961، بحضور (25) دولة عضوة وثلاث دول بصفة مراقب. ويعتبر اول مؤتمر رسمي لحركة عدم الانحياز، وقد تراسه الزعيم اليوغسلافي تيتو.

الترتيب مكان الانعقاد تاريخ الانعقاد عدد الدول الاعضاء عدد المراقبين(دول وحركات تحرر
الاول

الثاني

الثالث

الرابع

الخامس

السادس

السابع

بلغراد

القاهرة

لوسكا

الجزائر

كولومبو

هافانا

نيودلهي

1961م

1964م

1970م

1973م

1976م

1979م

1983م

25

47

54

75

87

98

101

3

10

9

16

23

10

000

(مؤتمرات عدم الانحياز وتصاعد عدد الاعضاء)

    2- مؤتمر القاهرة:

عقد فی الفترة 5- 10 تشرین اول 1964، بمشارکة (47) دولة و (10) دول مراقبة. وقد ناقش المؤتمر عدّة قضايا أساسية، منها الاوضاع الاقتصادية ومشاكل التخلف في دول الكتلة المستضعفة، والنزاعات الأفرو- اسيوية القائمة، كالنزاع الصيني- الهندي، والاندونيسي- الماليزي، والاثيوبي- الصومالي. واعلن مؤتمر القاهرة عن ((برنامج للسلام والتعاون الدولي))، ندد فيه بالاستعمار والاستعمار الجديد، والتمييز العنصري وسياسة التفريق العرقي، وسباق التسلح والقواعد الاجنبیة والاحلاف العسکرية. واکد علی ضرورة احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها، كالشعب الفلسطيني، وطالب بالتعاون الجماعي بین دول عدم الانحیاز فی  المجالات الاقتصادية والثقافية. وتبلور في هذا المؤتمر مفهوم (الحياد الايجابي)، حيث لم تعد سياسة الحركة حياداً بين التحرر والاستعمار او الخير والشر.

    3- مؤتمر لوساکا:

عقد المؤتمر الثالث فی العاصمة الزامبیة فی ۸ ایلول ۱۹۷۰، واستمر لمدّة ثلاثة أیام. وارتفع عدد الدول الاعضاء فیه الی (54) دولة وتسع دول وحرکات تحرر، من بینها منظمة التحرر الفلسطينية، بصفة مراقب. وفي هذا المؤتمر غاب العديد من المؤسسين وزعماء الحركة، باستثناء “تیتو”، حیث سقط “بن بلا” بانقلاب داخلي قادة “بومدین” ، وتوفي “نهرو” عام 1964، وأطيح بالرئيس الاندونیسي “احمد سو کارنو” فی نفس السنة، والرئيس الغاني “بان کروما” عام 1965، ولم یحضره جمال عبدالناصر، الذي كان مهتماً بوضع القضية الفلسطينية ومجزرة ايلول وعقد المؤتمر الطارئ للقمة العربية، وقد توفي بعد سبعة عشر يوماً من انتهاء مؤتمر لوساکا.

في لوساکا، تم التاکید علی ضرورة التغییر الجذري لبنیة المجتمع الدولي والمشاکل الاقتصادية. وتبنی المؤتمر اعلانین، أحدهما سياسي، بتعلق بقضايا السلام العالمي والاستقلال والعلاقات الدولية، والآخر اقتصادي، يتضمن برنامجاً للتعاون والنمو الاقتصادي لدول عدم الانحياز. وناقش المؤتمرون كذلك جملة من القضايا السياسية الراهنة، كقضية جنوب افريقیا والمستعمرات البرتغالیة ونامیبیا وزمبابوی ومشاکل شبه القارة الهندية وجنوب شرقی آسیا، اضافة الی الوجود الصهيوني في فلسطین وعدوان 1967.

    4- مؤتمر الجزائر:

     افتُتح المؤتمر في الخامس من ايلول 1۹۷۳، بکلمة الرئيس الجزائري هواري بومدين، أكد فيها على مبادئ عدم الانحياز والمرحلة الحساسة التى يعقد خلالها المؤتمر. وحضر المؤتمر (75) و(16) دولة بصفة مراقب. و اعتبر المختصون ان مؤتمر الجزائر يعد من أهم مؤتمرات عدم الانحياز، نظراً لروح الثقة والقوة التي منحها للحركة مرّة أخرى والقرارات التي خرج بها، وذهب البعض الی تشبيهه بمؤتمر باندونغ.

صادق المؤتمرون علی (13) قراراً حول مختلف القضايا السياسية والاقتصادية، من بينها إنشاء (صندوق التنميـة والتضامن لدول عدم الانحياز) وتشكيل (نقابة البلـدان الفقیرة) التي تتصدی لمطالب وشکاوی دول الجنوب ضد دول الشمال، ولم يتحفظ المؤتمر بشأن مطالبة البلدان الاشتراکیة لتقدیم مساعداتها الی الدول النامیة.

    5- مؤتمر کولومبو:

وهو أول مؤتمر لعدم الانحياز تشهده قارة آسيا، حيث عقد في العاصمة السیريلانکیة فی 16 آب 1976، واستمر حتی 19 من نفس الشهر بحضور (۸۷) دولة عضوة و(۲3) دولة وحرکة تحررية بصفة مراقب، اضافة الى سبع دول بصفة ضيف. ولم يحفل المؤتمر بأهمية خاصة، وأهم ما حققه علي المستوى النظري هو الإعلان عن (مبادئ النظام الاقتصادي العالمي الجديد) والمطالبة بتطبيقها.

    6- مؤتمر هافانا:

عقد في الفترة 3-6 ايلول 1979، وحضرته (92) دولة و(10) مراقبین، وهو اول وآخر مؤتمر يعقد في امریکا اللاتينية. وأحيط المؤتمر بضجة وردود فعل واسعة داخلية وخارجية، وکان من أهم اسباب ذلك هو الدولة المنحازة التی تستضیف المؤتمر ورئیسها الذي یعتبر من اقطاب المعسکر الشيوعي، حيث اعتبرت الدول المؤيدة للكتلة الغربية ان الحركة بذلك قد تعرضت للإهانة وفقدت اهم مضامینها، إلا أن الرئيس الكوبي “فیدل کاسترو” ردّ علی هذه الاعتراضات بإعلانه وجود مصالح أساسية تربط حركة عدم الانحياز بالمعسكر الاشتراكي، مما اثار الكثير من الدول الاعضاء التي وصفت هذا الادّعاء بأنه خرق لمبادئ عدم الانحياز، وقدّمت احتجاجاً لرئاسة المؤتمر.

وتخلّل مؤتمر (هافانا) أيضاً العديد من الخلافات الحساسة والمناقشات السلبية. فقد اختلف المؤتمرون حول تمثيل کمبوديا التي أُسقطت حکومتها قبل فترة  قصیرة من انعقاد المؤتمر، وكذلك مشكلة الصحراء الغربية واعتراض المغرب على تمثيلها مقابل تأييد بعض الدول لجبهة البوليساريو، وقضية طرد مصر من الحركة والتصلب الظاهري الذي أبدته الدول العربية واعتراض بعض الدول على عملية الطرد الرد او التعلیق، اضافة الی موضوع ادانة الممارسات الامریکیة تجاه دول الكتلة المستضعفة.

واصدر المؤتمر عدّة قرارات تتعلق بالقضية الفلسطينية والوضع في لبنان واتفاقية کامب دیفید (17 ایلول 1978) والمعاهدة المصرية ــ الاسرائیلیة السياحية (٢٦ اذار 1978)، وتوصیات اخری تتعلق بالوضع في جنوب القارة الافريقية وأمريكا الوسطى، اضافة الی ما يرتبط بالجانب الاقتصادي.

    7- مؤتمر نيودلهي:

كان مقرراً أن ينعقد المؤتمر السابع لدول الحركة في العاصمة العراقية (بغداد) عام 19٨٢، إلّا أن جملة من العوامل الداخلية والخارجية حالت دون ذلك، منها الوضع الامني المتدهور فی الداخل وتصاعد عملیات الحرکة الاسلامية العراقية وتهديدها بنسف محل انعقاد المؤتمر، اضافة الى أخطار الحرب المستعرة على الحدود العراقية- الايرانية، وانهيار المكانة الدولية للنظام العراقي. وعلى الرغم من المساعي التي قام بها وزیارات رموزه المکوکیة الی الدول غير المنحازة لاقناعها بالحضور الى بغداد، اضافة الى التهديدات التي مارستها الدوائر الاستكبارية من أجل عقد المؤتمر في العاصمة العراقية، إلّا أن وزراء خارجية دول عدم الانحياز قرروا، بعد انصراف العراق رسميّاً عن عقد المؤتمر، تحویل مکان مؤتمر القمة السابع من بغداد الی نيودلهي.

في ۷ آذار ۱۹۸۳، تم افتتاح مؤتمر نیودلهي بحضور(101) دولة، وهو عدد ضخم للغاية یضم 67٪ من دول العالم. وقد ركز المؤتمرون اهتمامهم على جملة من القضايا الراهنة، کقضیة افغانستان والتدخل الاجنبي في اراضیها، والحرب العراقية – الايرانية، حيث شددوا على ضرورة انهائها سلمياً وتشجيع الوساطات بين الطرفين، والقضية الفلسطينية والوضع في لبنان، اضافة الى المشاكل الاقتصادية لدول عدم الانحیاز.

وسواء من ناحية القضايا المطروحة على جدول البحث أو القرارات التي خرج بها المؤتمر؛ فإن مؤتمر (نيودلهي) لم يات بشيء جديد تتميّز به عن المؤتمرات السابقة، باستثناء الاقتراح الذي قدّمته الجمهورية الاسلامية في ايران والمتضمن طرد الكيان الصهيوني من الامم المتحدة وكافة المنظمات الدولية ولم يتجاوب المؤتمرون مع هذا الاقتراح. كما افرز المؤتمر زعامة رئيسة وزراء الهند “انديرا غاندي” لحركة عـــدم الانحياز، بعد غياب جميع مؤسيسها وروّادها الأوائل.

ومن خلال استعراض مؤتمرات عدم الانحياز، حتى المؤتمر الأخير في نيودلهي في العام 1983، يتبين أنها – غالباً – عبارة عن لقاءات شكلية للغاية بين اطراف متناقضة، منحاز معظمها للشرق أو الغرب، تجتمع متخاصمة وتنفض متنافرة، بعد أن تصدر بیانات علی الورق، ثم تنتظر ثلاث سنوات اخرى لتلقي مرّة اخری، وهکذا دوالیك.

مستقبل عدم الانحياز

إن أهمية حركة عدم الانحياز تنبع فقط من خلال المبادئ البراقة التي حملها مؤتمر (باندونغ) في عام 1955، ونداءات التضامن والتعاون بين دول الكتلة المستضعفة. في حين لم يشهد واقع حرکة عدم الانحياز – ومنذ البدايات – اي التزام بهذه المبادئ. ويرى مؤيدوا عدم الانحياز بأن للحركة وجودها الفعلي، وهي في تطوّر مستمر، وتتمتع بالثقل العددي الذي يسمح لها بتجاوز العراقيل والمشاكل. أما خصومها فيعتبرون ان الحركة غير فاعلة، ويجب ان تراجع مسيرتها العامة وتحدد اهدافها وبرامجها. وهناك من يعتقد بأن عدم الانحياز تكاد تفقد أصالتها ورونقها فى المرحلة الحاضرة، وعلیها ان تعود الی ایام مجدها خلال الستينات وأوائل السبعينات.

وبعيداً عن الخصوم والمؤیدین؛ یمکن تحدید واقع حركة عدم الانحياز ومستقبلها من خلال نظرة علمية موضوعية تشمل مختلف جوانب البحث، وتنطلق اساساً من التجربة التي خاضتها الشعوب المحرومة والمعنیة بشکل رئيسي بهذه الحركة.

ان عدم الانحیاز، حتی بعد ان تحولت الی معنی مرادف لمفهوم العالم الثالث، لم تكن في يوم من الايام ذات فاعلية سیاسیة، لكي يقال أنها تلاشت في اعقاب هذه الفاعلية، بل هي شکل خاوي ورمز مجرد لا حول له ولا قوة، و کانت وما زالت تمثل ارادة الانظمة المستبدة التي فرضها الاستکبار العالمي علی الشعوب المستضعفة. وهذه الشعوب هي دائماً وأبداً كبش الفداء والضحية السهلة المنال، والعرضة لمختلف اساليب الكبت والحرمان والتخدير من قبل حكام دول ما يسمی بـ (عدم الانحیاز)، ولم تشهد الحرکة طوال تاریخها اي تغيير جذري فى هذا الجانب، ولا أي من الجوانب الاخرى مجالات عملها، وتفاقم الصراعات الداخلية المتجذرة بين اعضائها. وهذا امر طبيعي للغاية في تجمع ضخم يقوم على اساس التعدد الايديولوجى والتعددية فى المصالح الذاتية لکل دولة.

والملفت فی نفس الوقت؛ أن بعض الدول، تدعو بشدّة الی ضرورة توسیع دائرة الحرکة وضم اکبر عدد من الاعضاء الجدد اليها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، أي دولة يٌنتظر ضمّها لعدم الانحياز!؟، فالدول الباقية تتوزع علی حلفي (الناتو) و(وارشو) ودول وکیانات اخرى ترتبط بأحد الحلفین، کالکیان الصهیونی ونظام جنوب افريقيا. ثم ان فاعلية الحركة الغائبة ليس لها اي علاقة مطلقاً بعدد الاعضاء وحجمهم، إنما تتحقق الفاعلية والهيبة الدولية من خلال كيفية الدول الاعضاء واستقلاليتها وشكل انظمتها. فما جدوى وجود الحركة الحالية وهي تضم هذا العدد الهائل من الاعضاء؟، ومعظمهم موال للقوى المستكبرة. ولو وجد أقل بكثير من هذا العدد من الدول تجتمع تحت اطار متماسك التنظيم واهداف ومبادئ محددة وصارمة، اضافة الى تمتعها بالسيادة الكاملة؛ فإن هي هذه المجموعة لو قدّر لها الاستمرار والنمو؛ لكانت قوّة دولية ذات وزن اکبر بکثیر من الوزن الذي عليه حرکة عدم الانحیاز حالياً.

وخروج عدم الانحياز من قمقمها، لا يمکن ان يتم تحت وطأة النظام الذي اعتاد عليه المجتمع الدولي، حيث يتعذر خلق قوّة ثالثة مستقلة تعرّض مصالح العملاقين، اللذين يتقاسمان العالم حالياً، للخطر، باستثناء القوّة الاسلاميــة الفتية التي بدأت تبرز في السنوات الأخيرة. ومن هنا؛ فإن تغيير المعادلة الدولية هو المطلب الملحّ الأول الذي يجب أن توجده الحرکة، ومن ثم قد یکون التفکیر بتغییر استراتيجية عدم الانحياز وواقعها والنهوض بها أمراً مجدياً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات والمصادر

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment