جدلية الوطنية والعالمية في نظرية حزب الدعوة الإسلامية

Last Updated: 2024/06/08By

جدلية الوطنية والعالمية في نظرية حزب الدعوة الإسلامية

د. علي المؤمن

ركيزة عالمية «الدعوة»

أكدت أدبيات حزب الدعوة الإسلامية أن المرحلة الرابعة من مراحل حركة «الدعوة» هي حاكمية الإسلام، أي تأسيس الدولة الإسلامية في أحد الأقاليم، ومنها يقوم الحزب بالانطلاق إلى بناء الدولة الإسلامية الكبرى التي تضم الجغرافيا الإسلامية دون حدود. ومن هنا تنطلق نظرية حزب الدعوة في عالميتها؛ باعتبارها نظرية إسلامية؛ وكون الإسلام دين عالمي ودعوته عالمية. فكانت هذه الركيزة هي الثانية بعد ركيزة العقائدية، أو هي من أهم مظاهرها.

كما أن انتماء مؤسسي «الدعوة» وأعضائها الأوائل إلى عدة بلدان إسلامية؛ يؤكد طبيعة تحرك حزب الدعوة ومساحته الجغرافية والإثنية؛ إذ إنهم لم يكونوا يطرحون «الدعوة» كحركةً عراقيةً أو عربية؛ وإن كان العراق يمثل محور هذه الحركة وركيزتها؛ بل يطرحونها حركةً إسلاميةً عالميةً؛ انسجاماً مع نظرية عالمية «الدعوة»، وشأنها شأن الحركات الإسلامية الكبرى، أو الحركات الايديولوجية العربية والعالمية. وقد عمل حزب الدعوة؛ ربما دون تخطيط منه؛ على تكريس العراق قاعدةً ومحوراً للتحرك التنظيمي الإسلامي الشيعي؛ في مقابل الحركة السلفية التي ترتكز إلى مرجعية العربية السعودية، وجماعة الإخوان المسلمين التي ترتكز إلى محورية مصر. وبذلك فإن هذا البعد العالمي للدعوة شكّل إضافة نوعية للعراق؛ الذي أصبح مركزاً للأطراف التنظيمية الشيعية في المنطقة. وقد امتد حزب الدعوة إلى خارج العراق؛ منذ أوائل ستينات القرن الماضي، وأصبحت له فروع قوية في معظم البلدان التي يتواجد فيها الشيعة، وهي ظاهرة جديدة بالكامل لم يعرفها التاريخ الشيعي من قبل.

وأصبحت الشخصيات التي أسست حزب الدعوة أو انتمت إليه في مرحلة من المراحل؛ أصبحت بمرور الزمن النخبة الإسلامية الشيعية العربية التي تقود الواقع الإسلامي الشيعي في البلدان العربية؛ على الرغم من أن كثيراً من هذه الشخصيات قد ترك العمل التنظيمي والحزبي؛ ولكنه يبقى في النتيجة خريج مدرسة «الدعوة»؛ التي أصبحت فيما بعد تمثل التيار المنظم في مدرسة السيد محمد باقر الصدر. فعلى سبيل المثال؛ إذا أخذنا المرجعيات الدينية؛ فسنجد أن أربعة من مراجع الدين المشهورين كانوا أعضاء في حزب الدعوة الإسلامية؛ هم: السيد محمد باقر الصدر، السيد محمد محمد صادق الصدر، السيد محمد حسين فضل الله والسيد كاظم الحائري. كما أن عشرات الفقهاء والمجتهدين وأساتذة البحث الخارج في الحوزات العلمية؛ كانوا أيضاً أعضاء في «الدعوة».

ثم إذا أخذنا العراق ولبنان والبحرين كنماذج جغرافية؛ سنجد أن معظم قادة الحركات الإسلامية وكوادرها وناشطيها الإسلاميين كانوا من الدعاة. ففي العراق نرى أن معظم القادة السياسيين الإسلاميين الشيعة بعد سقوط نظام صدام في العام 2003؛ كانوا أعضاء في حزب الدعوة؛ فالإسلاميون الأربعة الذين تعاقبوا على رئاسة مجلس الحكم؛ ثلاثة منهم كانوا في مرحلة ما أعضاء في «الدعوة»: الدكتور إبراهيم الجعفري والسيد محمد بحر العلوم وعز الدين سليم. وكذا الشخصية السياسية الإسلامية الأبرز بعد السقوط؛ أي السيد محمد باقر الحكيم؛ كان من مؤسسي «الدعوة» وأعضائه المهمين. ثم تعاقب على حكم العراق منذ العام 2005 وحتى الآن (2016) ثلاثة من الدعاة: إبراهيم الجعفري ونوري المالكي وحيدر العبادي. وهكذا عشرات الوزراء ومئات النواب وكبار المسؤولين.

نماذج من التنظيم العالمي للدعوة

1 – لبنان:

قبل مبادرة السيد موسى الصدر إلى تأسيس حركة المحرومين في العام 1974 وجناحها المقاوم حركة «أمل» في العام 1975؛ كان حزب الدعوة هو العنوان الإسلامي الشيعي السياسي الوحيد في لبنان. وبقي على قوته ونموه المطرد حتى في ظل حركة السيد موسى الصدر ومؤسساته التي اكتسحت الساحة الشيعية اللبنانية. وكان السيد الصدر لا يرى في حزب الدعوة منافساً لحركته؛ بل مكملاً فكرياً وداعماً عقائدياً لها؛ لاسيما وأن كثيراً من الكوادر العقائدية في حركة أمل كانوا أعضاء في حزب الدعوة، كما كان بعض مسؤولي المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى هم كوادر وقياديين في حزب الدعوة، ولاسيما نائب رئيس المجلس الشيخ محمد مهدي شمس الدين. وكان ذلك يعضد الخط المؤمن العقائدي في الحركة والمجلس، وهو ما كان يطمح إليه السيد موسى الصدر؛ على اعتبار أن الحزب والحركة يستوعبان جميع أبناء الطائفة الشيعية على مختلف اتجاهاتهم ومشاربهم وأفكارهم وسلوكياتهم.

وقد كان السيد موسى الصدر في أجواء التحضير لتأسيس حزب الدعوة منذ اليوم الأول، وقد طلب منه ابن عمه السيد محمد باقر الصدر في العام 1957 أن ينضم إلى جهود تأسيس الحزب؛ إلّا أنه فضّل – وهو في طريق استقراره في لبنان – أن يمارس عملاً تنموياً عاماً مفتوحاً ينسجم مع ظروف الحرمان الشديد الذي تعاني منه الطائفة الشيعية في لبنان بسبب التمييز الطائفي والفقر الاقتصادي والإقطاع السياسي. ويقدم السيد محمد حسين فضل الله شهادته في هذا المجال: ((كان السيد محمد باقر الصدر يعيش في هذا الجو، وأسس للحركة الإسلامية، والسيد موسى الصدر كان يعيش عمق الحركة الإسلامية تفاعلاً وتجاوباً وإيماناً، ولكنه كان لا يجد مصلحة في طرح هذه الحركة الإسلامية في لبنان؛ باعتبار أنه كان يجد أن الوقت مبكراً في لبنان لطرحها))(1).

ولذلك لم يكن ير السيد موسى الصدر في حركة ابن عمه السيد محمد باقر الصدر وأصدقائه السيد محمد مهدي الحكيم والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله سوى مكمل لحركته وداعم لها. ولذلك كان يعلم بتفاصيل عمل حزب الدعوة في لبنان، وبوجود الدعاة في داخل حركة المحرومين وحركة أمل والمجلس الإسلامي الشيعي. صحيح أن بعض قياديي حزب الدعوة وفي مقدمهم السيد محمد حسين فضل الله اعتذروا للسيد موسى الصدر بعدم الانضمام للمجلس الشيعي الأعلى الذي أسسه السيد موسى الصدر؛ إلّا أن ذلك لم يؤثر على طبيعة العلاقة والتنسيق بين الطرفين.

وقد كان تنظيم حزب الدعوة في لبنان ثاني أهم تنظيم دعوي بعد العراق؛ فقد كان الدعاة اللبنانيون؛ بحكم تميّزهم العددي والنوعي؛ هم الأكثر تأثيراً في عمل الحزب بعد الدعاة العراقيين(2)؛ بل تجاوز تأثيرهم الدعاة العراقيين في الفترة من العام 1971 إلى العام 1979؛ حين أصبح القيادي اللبناني محمد هادي السبيتي هو الرجل الأول في قيادة الحزب(3). وفي هذا الصدد يقول الوزير اللبناني الدكتور طراد حمادة: ((بعد استشهاد السيد محمد باقر الصدر فكرت بالانتماء لحزب الدعوة. لقد كان حزب الدعوة في تلك الفترة قبلة الشباب الإسلامي الشيعي اللبناني))(4).

وحين قررت أجهزة الجمهورية الإسلامية الإيرانية احتضان الإسلاميين اللبنانيين الذي كانوا يتوافدون عليها منذ العام 1979 بهدف المبايعة والتنسيق وطلب الدعم؛ وكان كثير منهم من الدعاة؛ فإن هذا التنسيق انتهى في العام 1981 إلى قرار تأسيس حزب إسلامي جماهيري علني مقاوم يؤمن بولاية الفقيه ومصداقها فكراً وعملاً؛ أطلق عليه اسم ((حزب الله))؛ فكان تنظيم حزب الدعوة هو العمود الفقري لهذا الحزب الناشئ في العام 1982.

وقد بدأ حراك تشكيل حزب الله في لبنان في أواخر العام 1981 بمساعدة أجهزة الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودعمها المباشر، وتطور بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان مباشرة في 4 حزيران/يونيو من العام 1982؛ إذ تشكلت هيئة تأسيسية لحزب الله من تسع شخصيات من قيادات وكوادر حزب الدعوة اللبناني، هم: الشيخ صبحي الطفيلي (الأمين العام الأول للحزب)، السيد عباس الموسوي (الأمين العام الثاني)، السيد حسن نصرالله (الأمين العام الحالي)، الشيخ محمد يزبك (عضو شورى الحزب حاليا)، السيد إبراهيم أمين السيد (رئيس المجلس السياسي للحزب حالياً)، الشيخ نعيم قاسم (نائب الأمين العام الحالي)، محمد رعد (رئيس كتلة حزب الله في مجلس النواب اللبناني)، الشيخ راغب حرب والشيخ زهير كنج. وقد عرفت بمجموعة التسعة. واجتمعت في 20 حزيران/يونيو من العام 1982؛ أي بعد الاجتياح الإسرائيلي بأسبوعين، ووضعت الهيئة التأسيسية الأفكار الأساسية للحراك الجديد؛ الذي يقف على خمس دعامات: المقاومة المسلحة ضد إسرائيل، مقاومة الجماعات المتعاونة مع إسرائيل والمهادِنة لها في لبنان، توحيد جهد الفصائل الإسلامية الشيعية اللبنانية، الارتباط المباشر بمنظومة ولاية الفقيه في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والانفتاح أُفقياً على جميع شيعة لبنان؛ لتشكيل حاضنة اجتماعية شعبية شاملة تعرف بـ «أمة حزب الله».

وكان هذا الاجتماع بمثابة انفصال رسمي عن القيادة العامة لحزب الدعوة، وانحلال رسمي لحزب الدعوة اللبناني. واستمر هذا الحراك يعمل تحت عنوان المقاومة الإسلامية في لبنان حتى أيار/ مايو من العام 1984؛ حين تم إطلاق اعتماد تسمية ثابتة للحزب: «حزب الله: الثورة الإسلامية في لبنان»، ثم استبدلت كلمة «الثورة» بـ «المقاومة». وكان الراعي اللبناني الأهم لحزب الله هو السيد محمد حسين فضل الله؛ أحد القيادات التاريخية لحزب الدعوة الإسلامية؛ لأن القيادات والكوادر الدعوية التي أسست حزب الله كانوا فيما سبق مرتبطون فكرياً وحركياً وميدانياً بالسيد فضل الله؛ حتى ظل المراقبون الأجانب يتصورون – حتى أوائل تسعينات القرن الماضي – أن القائد الحقيقي أو الروحي لحزب الله هو السيد فضل الله.

وبالنتيجة؛ فقد كان معظم مؤسسي حزب الله قياديين في إقليم حزب الدعوة اللبناني، كما أن جميع الأمناء العامين الذين تعاقبوا على قيادة الحزب: الشيخ صبحي الطفيلي، السيد عباس الموسوي والسيد حسن نصر الله؛ كانوا من أعضاء حزب الدعوة الإسلامية؛ فضلاً عن رئيس شورى حزب الله الشيح محمد يزبك، ونائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، والقائد العسكري لحزب الله عماد مغنية، ومعاونه السيد مصطفى بدر الدين، ورئيس المجلس السياسي السيد إبراهيم أمين السيد، ورئيس كتلة حزب الله في البرلمان محمد رعد، ومعظم وزراء الحزب الذين دخلوا الوزارات المتعاقبة، وكثير من أعضاء المجلس السياسي وأعضاء البرلمان، وكثير من القادة الأمنيين والعسكريين. بل إن الشيخ صبحي الطفيلي – أول أمين لحزب الله – كان عضواً في القيادة العامة لحزب الدعوة ومشرفاً على الخطوط العراقية لحزب الدعوة في سوريا، والمسؤول المباشر لنوري المالكي بعد هجرته إلى سوريا في نهايات العام 1979(5).

وبعيداً عن حزب الله؛ فإن كثيراً من قيادات حركة أمل اللبنانية (قبل تشكيل حزب الله) كانوا أعضاء في الدعوة. أما الشخصيتان الدينيتان والفكريتان الأبرز بعد السيد موسى الصدر؛ فكانا – قبل اعتزالهما التنظيم – من قيادات حزب الدعوة؛ وهما: رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله؛ بالرغم من أنهما متعارضان في مجمل المواقف داخل الساحة اللبنانية، وانتهت علاقتهما بالقطيعة الكاملة منذ أواخر الثمانينات. بل حتى الشخصيات المعارضة التي برزت ضد ما يعرف بـ (الثنائية الشيعية) التي حكمت الواقع الشيعي اللبناني، ويقصد بها ثنائية حركة امل وحزب الله الحاكمة؛ فقد كانوا أعضاء في الدعوة؛ كالشيخ صبحي الطفيلي والسيد علي الأمين وغيرهما.

وكان حزب الدعوة في لبنان قد أسس جناحاً عسكرياً تحت اسم «قوات الصف المجاهدة» في نهاية سبعينات القرن الماضي؛ لحماية شيعة لبنان، وكان من أبرز قادته عماد مغنية؛ الذي كان ينشط مع حركة فتح الفلسطينية في الوقت نفسه. وطلب ممثلون عن قيادة حزب الدعوة في لبنان وجناحه العسكري من القيادة العامة لحزب الدعوة في العام 1980 تمويل هذه القوات وتسليحها؛ ولكن القيادة لم تكن تمتلك المال ولا السلاح لكي تعطيهما لتنظيمها في لبنان؛ سوى خمسة آلاف دولار فقط؛ قالت القيادة إنها تستطيع تقديمها له؛ فكانت تلك من المسوغات الواقعية لتوجه قيادة حزب الدعوة اللبناني إلى الإيرانيين لطلب دعمهم ومساعدتهم؛ وصولاً إلى حل الحزب في لبنان؛ وتأسيس «حزب الله» بديلاً عنه(6).

وأبرز الجيل الأول من الدعاة اللبنانيين: السيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين ومحمد هادي السبيتي والشيخ مفيد الفقيه والشيخ حسن ملك والشيخ عبد المنعم المهنا والسيد علي الامين ومهدي السبيتي وحسن شري والشيخ علي الكوراني والشيخ صبحي الطفيلي والشيخ حسين الكوراني والشيخ محمد يزبك والشيخ حسن عبد الساتر وغيرهم. وهم جيل الدعاة الرواد الذين انتموا إلى الحزب في الفترة من العام 1958 وحتى العام 1965. وهذا يعني أن حزب الدعوة دخل لبنان في وقت مبكر، ربما لا يتجاوز السنة الأولى من عمر الحزب.

أما الجيل الثاني فأبرز دعاته: السيد عباس الموسوي والشيخ نعيم قاسم ومحمد رعد وعماد مغنية ومحمود الخنسة ومحمد فنيش ومحمود قماطي وهاني قاسم وحسن حدرج وغيرهم. وهو الجيل الذي انتمى إلى الدعوة في نهايات عقد الستينات وإلى منتصف عقد السبعينات من القرن الماضي.

ويضم الجيل الثالث مئات الدعاة اللبنانيين؛ لعل الأبرز منهم: الشيخ محمد كوثراني والدكتور علي فياض والسيد حسن نصر الله والسيد مصطفى بدر الدين وغيرهم. وهو الجيل الذي التحق بالدعوة بعد العام 1979(6).

2 – البحرين:

في البحرين؛ يحظى تنظيم حزب الدعوة بأهمية كبيرة؛ بالنظر للطبيعة الديمغرافية والتوزيع المذهبي؛ إذ يبلغ عدد شيعة حسب تقديرات عقد الخمسينات من القرن الماضي حوالي 80 بالمائة من عدد السكان، ويغلب عليهم التدين؛ فضلاً عن معاناتهم الشديدة من الحرمان والتمييز الطائفي. ولذلك كان الدخول إلى الساحة البحرينية سهلاً جداً ومرحباً به عند النخبة الشيعية البحرينية. وقد وصله عبر علماء الدين البحرينيين الذين كانوا يدرسون في النجف الأشرف، أو البحرينيين من خريجي جامعة بغداد. وكان الرجل الذي حمل معه أمر تأسيس فرع للدعوة في البحرين هو عالم الدين البحريني الشيخ سليمان المدني القادم من النجف الأشرف؛ بعد أن أقام فيها حتى العام 1967، ودرس في حوزتها وتخرج من كلية الفقه. وهو أول بحريني ينتمي إلى الدعوة، والتحق به فيما بعد الشيخ عبد الأمير الجمري والشيخ عيسى قاسم والسيد عبد الله الغريفي، وهم من دعاة الجيل الأول في البحرين، وتلاهم من الجيل الثاني مئات البحرانيين؛ كالشيخ أبي تقى البحراني والشيخ العريبي وعبد الوهاب حسين وعيسى الشارقي وحسن مشيمع والدكتور سعيد محمد وآخرين. أما الجيل الثالث فهم الذين التحقوا بالحزب بعد العام 1979، وشكل بعضهم «حركة أحرار البحرين» في أوربا، كما شكل كثيرون «جمعية الوفاق الوطني الإسلامية» التي اكتسحت الانتخابات البحرانية منذ مشاركتها في أول انتخابات في العام 2006(7)، وتحولت إلى أهم وأكبر حركة سياسية في البحرين منذ ذلك الحين وحتى الآن.

وبالرغم من أن دخول الدعوة إلى البحرين كان في حدود العام 1965؛ إلّا أن لجنتها القيادية تأسست في العام 1968 على يد الشيخ سليمان المدني. وسرعان ما استقطب الحزب عدداً كبيراً من النخبة الشيعية المثقفة. وبلغت ثقة الحزب بنفسه درجة كبيرة إلى مستوى دفعته لدخول الانتخابات البرلمانية في العام 1972، وفاز عدد من أعضائه وشكل كتلة برلمانية تحت اسم «الكتلة الدينية» برئاسة القيادي الداعية الشيخ عيسى قاسم. كما حصل نائب آخر من أعضاء حزب الدعوة هو عبد الله المدني على منصب أمين سر المجلس الوطني البحريني. كما أسس الأخير مجلة باسم «المواقف» الأسبوعية؛ كانت تعبر عن آراء حزب الدعوة الإسلامية وكتلته في البرلمان. وهي الوسيلة الإعلامية الوحيدة في العالم التي ذكرت خبر إعدام الشيخ عارف البصري وإخوانه الأربعة (القياديين والكوادر في حزب الدعوة) في العراق في العام 1974. وانتهى الأمر برئيس تحريرها الداعية عبد الله المدني إلى الاغتيال طعناً بالسكاكين في العام 1976. وكان الدعاة يمتلكون عدداً من المؤسسات الدينية والخيرية؛ أهمها جمعية التوعية الإسلامية التي ترأسها الشيخ عيسى قاسم؛ لتكون إحدى أهم واجهات حزب الدعوة. وعلى الرغم من كل هذه النشاطات فقد ظل اسم الحزب سرياً وتنظيمه بالغ السرية، وينشط من خلال الواجهات فقط(8).

وفي لندن كان التنظيم المعارض الأهم للنظام البحريني هي حركة أحرار البحرين؛ التي كانت إحدى الواجهات السياسية لحزب الدعوة، وترأسها منذ نشوئها في العام 1981 الداعية الدكتور سعيد الشهابي عضو قيادة الدعوة في بريطانيا، الذي أسس فيما بعد مجلة العالم في لندن. وضمت الحركة جميع الدعاة البحرينيين المقيمين في بريطانيا وأوربا، ومعظمهم من الطلبة الجامعيين والخريجين. ولكن بعد حل حزب الدعوة نفسه في البحرين في العام 1984 على إثر الاعتقالات في صفوفه والتهديد بإعدام أعضائه؛ باتت حركة الأحرار تعمل بشكل مستقل. وكان الفقهاء البحرينيون الثلاثة الأبرز: الشيخ عبد الأمير الجمري والشيخ عيسى قاسم والسيد عبد الله الغريفي؛ قياديين في حزب الدعوة؛ حتى حله في العام 1984. بيد أن مسؤولية التنظيم الرئيسة تحملها الشيخ عيسى قاسم بعد تنحي الشيخ سليمان المدني عن القيادة وتفرغة للعمل رئيساً للمحكمة الجعفرية العليا.

وقد حقق تنظيم الدعوة في البحرين إنجازات سريعة خلال ثمانية عشر عاماً من عمره؛ فقد كان معظم أعضاء البرلمان من الإسلاميين الشيعة في السبعينات، ثم بعض الوزراء؛ أعضاء في حزب الدعوة. وحتى بعد حل الحزب؛ بقيت تركة حزب الدعوة غنية وكبيرة؛ فكان معظم قادة وأعضاء المجلس العلمائي الشيعي، ثم كثير من مؤسسي حركة الوفاق وقادتها وكوادرها؛ أعضاء سابقين في حزب الدعوة؛ فضلاً عن عدد كبير من نواب حركة الوفاق الوطني ورؤساء بعض الحركات والجمعيات الأخرى في داخل البحرين وخارجها؛ كعبد الوهاب حسين وعيسى الشارقي وحسن مشيمع.

3 – إيران:

كان الداعية الشاب الشيخ مهدي علي أكبر العطار يساهم في دعم تنظيم «حزب ملل إسلامي» بشراء السلاح من بادية النجف في أوائل ستينات القرن الماضي؛ وهو الحزب الذي أسسه الداعية الإيراني المهاجر من النجف السيد محمد كاظم البجنوردي في العام 1960، وكان يحمل فكر حزب الدعوة ومنهجيته، وهو الذي فجر الكفاح المسلح ضد نظام الشاه، بعد انهيار حركة السيد نواب صفوي. وكان جهاز المخابرات الإيراني (السافاك) يعتبر «حزب ملل إسلامي» الفرع الإيراني لحزب الدعوة. وهو ما قرأته أيضاً في منشور صادر عن حزب تودة الشيوعي الإيراني في العام 1962. لقد كان الشيخ مهدي العطار يذهب بالسيد كاظم البجنوردي إلى بادية النجف لشراء السلاح من عشائر المنطقة، ثم ينقل السيد كاظم السلاح إلى إيران(9). وفضلاً عن «حزب ملل إسلامي» المستقل عن قيادة «الدعوة»؛ فقد كان لحزب الدعوة تنظيم آخر في إيران يرتبط بقيادته في العراق مباشرة. وكان رابطه مع القيادة السيد حسن شبر. وقد تأسس في أوائل ستينات القرن الماضي أيضاً، ومن قيادييه السيد محمد حسين الطهراني أحد علماء الدين في طهران وإمام جامع القائم. وقد ساهم الحزب في انتفاضة 15 خرداد في إيران في العام 1963 وغيرها من الأحداث؛ وصولاً إلى أحداث الثورة الإسلامية(10).

وتوسّع تنظيم «الدعوة» في إيران مع موجات الهجرة والتهجير من العراق إلى إيران بدءاً من العام 1970؛ تزامناً مع الإجراءات القاسية التي اتخذها نظام البعث ضد الحركة الإسلامية في العراق. ثم أصدرت القيادة العامة لحزب الدعوة أمراً بحل التنظيمات الإيرانية للحزب في العام 1982؛ لإيصال رسالة إيجابية إلى الجمهورية الإسلامية؛ وهي الفترة التي كانت فيها علاقة حزب الدعوة متوترة مع بعض أجهزة الجمهورية الإسلامية، ولاسيما قسم حركات التحرر في قوات الحرس الثوري؛ وهو القسم الذي كان يترأسه مهدي هاشمي، الخصم اللدود لخط السيد محمد باقر الصدر وحزب الدعوة. وقد أُعدم في العام 1983 بتهمة ممارسة القتل قبل الثورة وبعدها، والتخابر مع دولة أجنبية (ليبيا).

التنظيم العالمي للدعوة من الشروق إلى الغروب

عندما بدأت تنظيمات «الدعوة» تنتشر في البلدان الأخرى في أواسط الستينات؛ دخل في الحزب أعضاء لم تكن تربطهم بالنجف أو العراق غير رابطة الولاء الديني للمرجعية النجفية. ولكن تحوّلَ ولاء هؤلاء الدعاة إلى النجف من ولاء ديني محظ إلى ولاء سياسي وفكري أيضاً؛ إذ أصبحت المرجعية الفكرية والدينية للسيد محمد باقر الصدر هي بوصلتهم، فضلا عن بوصلتهم التنظيمية والسياسية المتمثلة بقيادة حزب الدعوة الموزعة بين النجف وبغداد.

والحقيقة أن تنوع الانتماءات الاجتماعية الأصلية للدعاة لم يكن يؤثر في خلق اتجاهات وميول متباينة في إطار «الدعوة»؛ لأن البيئة النجفية التي أوجدت حزب الدعوة الإسلامية؛ هي بالأساس بيئة صاهرة للأعراق والانتماءات الاجتماعية؛ إذ ظلت البيئة النجفية طوال مئات السنين قادرة على صهر جميع الوافدين في بوتقتها؛ سواء كانوا من العراقيين الحضر من المدن الأخرى، أو العراقيين أبناء الريف، أو بدو نجد والأردن والشام، أو الإيرانيين الفرس والعرب والكرد والأذربيجانيين، أو أبناء شبه القارة الهندية، أو الهزارة والطاجيك في أفغانستان؛ فضلاً عن العرب من البلدان الأخرى، وفي مقدمهم اللبنانيون والخليجيون؛ فتراهم بعد فترة يتحولون إلى أبناء للبيئة النجفية بكل تفاصيلها. وهذه الخاصية التي تتميز بها النجف ربما تكون فريدة من نوعها على مستوى علم الاجتماع؛ وهي القدرة على صهر الآخرين. أي أن النجف هي بالأساس مدينة عالمية وليست عراقية محضة في بعدها الاجتماعي، فضلا عن الديني. وحين نتحدث عن النجف فلا نقصد بها المدينة والشوارع والأزقة والمباني؛ بل نقصد النجف الحاضرة العلمية الدينية والعاصمة المعنوية الشيعية، وهي مواصفات استثنائية ليست مصطنعة؛ بل تمثل تراكماً تاريخياً طبيعياً بدأ قبل حوالي ألف سنة، ولا تشبه أية مدينة في العالم. وهكذا حين نقول بأن حزب الدعوة بدأ نجفياً وبقي هكذا في مرحلة انطلاقه وانتشاره؛ فإننا نقصد طبع الحزب بطابع الحاضرة النجفية في اجتماعها الديني والسياسي والثقافي وفي أنساقها الانثروبولوجية؛ وهو طابع عقدي وعابر للحدود الجغرافية.

وقد ظهرت هذه الحقيقة في حزب الدعوة بشكل واضح؛ فلم تكن عالمية حزب الدعوة نتاجاً لنظرية مؤسسيه وحسب؛ بل انعكاساً لعالمية البيئة النجفية التي تأسس ونشأ فيه حزب الدعوة. ولو تأسس حزب الدعوة في مدينة عراقية أخرى لما تحققت هذه القاعدة النظرية والعملية في بنائه. وفضلاً عن هذه العوامل الموضوعية؛ فإن هناك ثلاثة عوامل ذاتية ترشحت عن عالمية البيئة النجفية؛ كان لها التاثير الأساس في نقل عالمية حزب الدعوة من النظرية القائمة على أساس عقدي، متمثلاً بعالمية الإسلام، إلى التطبيق الواقعي، وهي:

1 – وجود علماء الدين في صدر قائمة مؤسسي حزب الدعوة وقيادييها وكوادرها. والمعروف أن عالم الدين يكون البعد الإسلامي العالمي في شخصيته قوياً جداً، وينعكس على حركته بشكل طبيعي. فضلاً عن أن معظم هؤلاء العلماء الدعاة تنقّل بين بلدان متعددة، وكان وكيلاً للمرجعيات الدينية.

2 – صعود قياديين وكوادر غير عراقيين لقيادة حزب الدعوة ومفاصله التنظيمية الأساس، ولاسيما اللبنانيين وذوي الأصول الإيرانية؛ بل كان تأثير البيئات اللبنانية والإيرانية والكويتية يوازي – في بعض المراحل – تأثير البيئة العراقية في توجيه مسارات حزب الدعوة.

3 – التأثر بعالمية التنظيمين الإسلاميين السنيين الكبيرين: جماعة الإخوان وحزب التحرير، والتنظيمات الشيوعية العالمية والتنظيمات القومية العربية. وهو تأثر اجتماعي بديهي؛ لأن الإخوان والتحريريين والشيوعيين والقوميين كانوا يعيشون في بيئة واحدة مع المتدينين.

وبعد أن كان العراق تابعاً من الناحية السياسية طيلة قرون من عهود الاحتلال المتوالية؛ فإنه استحال محوراً عربياً وإسلامياً بفعل مؤسستين سياسيتين ايديولوجيتين عابرتين للحدود؛ هما:

1 – الجناح اليميني لحزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة السوري ميشيل عفلق؛ الذي حوّل العراق منذ العام 1968 إلى محور للحركة القومية اليمينية البعثية في جميع البلدان العربية.

2 – حزب الدعوة الإسلامية الذي حوّل العراق منذ أوائل ستينات القرن الماضي إلى محور للحركية الإسلامية الشيعية في كل البلدان التي يتواجد فيها الشيعة بسبب امتداداته التنظيمية والفكرية في هذه البلدان.

والمحورية العراقية التي خلقها حزب الدعوة وحزب البعث؛ تقابلها المحورية المصرية التي خلقتها جماعة الإخوان المسلمين والقيادة الناصرية، والمحورية السورية التي خلقها الجناح اليساري لحزب البعث. ولذا فقد أضاف حزب الدعوة للعراق إضافة نوعية في هذا المجال. ولو كانت «الدعوة» تعيش في بلد آخر غير عراق البعث، وزمان آخر غير زمن صدام حسين؛ لكافأتها الدولة على عطائها هذا؛ إلّا أن الدولة التي لا تحترم علماءها وعظماءها وتعدمهم، وفي مقدمهم المفكر الإنساني العالمي السيد محمد باقر الصدر؛ لا تتردد في تدمير عشرات التنظيمات الفكرية التأسيسية العابرة للحدود من أمثال حزب الدعوة؛ من أجل حماية نفسها من أي خطر محتمل مهما بلغت قيمته الإنسانية والفكرية.

وقد أثرت عوامل ذاتية وخارجية على فقدان حزب الدعوة بريقه العالمي، بدءاً من أوائل ثمانينات القرن الماضي، وذلك بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتفاعل الشيعة في كل العالم معها، وتمدد نفوذها الديني والثقافي والسياسي في جميع الأوساط الشيعية الإسلامية الحركية والمتدينة في العالم، ومن بينها تنظيمات حزب الدعوة في معظم البلدان. وقد تزامن ذلك مع التنحي التدريجي لمعظم الفقهاء وعلماء الدين الكبار عن قيادة حزب الدعوة؛ سواء بوفاتهم أو تصديهم للمرجعية الدينية أو تسنمهم مواقع قيادية في مؤسسات غير عراقية، أو اختلافهم مع توجهات حزب الدعوة السياسية والفكرية الجديدة، ومن أبرزهم: السيد مرتضى العسكري والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله والسيد كاظم الحائري والشيخ محمد علي التسخيري والشيخ محمد مهدي الآصفي. وكذلك خروج معظم القيادات غير العراقية من التنظيم؛ كالشهيد محمد هادي السبيتي والشيخ علي الكوراني. ثم بروز العامل الموضوعي المتمثل بانهيار تنظيمات حزب الدعوة في البلدان الأخرى؛ والتي فقد إثرها حزب الدعوة قيادات تاريخية بحرينية ولبنانية؛ كالشيخ صبحي الطفيلي والشيخ محمد يزبك والشيخ حسين الكوراني والشيخ نعيم قاسم والشيخ عيسى قاسم والسيد عبد الله الغريفي والشيخ عبد الأمير الجمري وغيرهم. في حين أن وجود القياديين والكوادر غير العراقيين، ولاسيما اللبنانيين وذوي الأصول الإيرانية؛ بالتنظر لتنوع خبراتهم الاجتماعية وكفاءاتهم الثقافية؛ كان سبباً أساسياً في سطوع حزب الدعوة وانتشاره وقوته.

ومن جانب آخر؛ ساهم البعد الذاتي المتمثل بانحسار الشخصيات العلمائية النجفية في القيادة والكادر المتقدم؛ دوراً مهماً في انحسار الهم العالمي لحزب الدعوة، وتحوله إلى حزب عراقي وطني، مع احتفاظه بقواعده العقدية النظرية الإسلامية الأخرى، ولاسيما بعد سقوط النظام السابق واستلام الحزب للمفاصل الأساس في الحكومة بعد العام 2003. وهنا تعامل حزب الدعوة تعاملاً واقعياً مع من تبقى من أعضائه وأنصاره من غير العراقيين؛ فقد ألغى ارتباطهم به؛ بهدف دفع الضرر عنهم في بلدانهم؛ كي لا يتهموا بالارتباط بحزب حاكم في دولة أجنبية، وكذلك الحيلولة دون ضرب الواقع العراقي الجديد؛ بحجة وجود أجنحة غير عراقية لحزب الدعوة، وكونه حزباً غير وطني.

جدير بالإشارة أن حزب الدعوة عاد مندكاً بالنجف بعد العام 1979 خلال تحرك السيد محمد باقر الصدر؛ بعد فترة برود بدأت عقيب وفاة الإمام السيد محسن الحكيم في العام 1970. ثم أبعدته الظروف الضاغطة عن النجف بعد إعدام الإمام السيد محمد باقر الصدر في العام، واستمر حتى العام 2003؛ حين عاد الحزب بهدوء وانسيابية إلى حاضنته النجفية. ولكن لا تزال هذه العلاقة غير مؤصلة فقهياً وفكرياً، كما لم يتمظهر هذا التأصيل سياسياً؛ وإن كانت وطيدة وتاريخية منذ عام 2005، حين تسلم ممثلو الحزب رئاسة الحكومة العراقية. ولاتزال هذه العلاقة محكمة وقوية، وإن تخللتها ملابسات خلال تشكيل الحكومة العراقية في العام 2014؛ على اثر إبلاغ المرجعية العليا النجفية قيادة حزب الدعوة باختيار رئيس وزراء جديد؛ الأمر الذي أدى إلى تنحي نوري المالكي عن استحقاقه الانتخابي لمصلحة محازبه حيدر العبادي.

وظل حزب الدعوة بعد العام 2003 يوازن سياسياً في علاقته بين المرجعية النجفية العليا وولاية الفقيه في إيران؛ وإن كانت توجهاته العامة نحو المرجعية العليا النجفية. وهذا التوازن يعود إلى وجود تيارات فكرية متعددة في حزب الدعوة بهذا الشأن؛ فهناك تيار يؤمن بولاية الفقيه ومصداقها الإمام الخامنئي، وهناك تيار يعود بالتقليد والتبعية إلى الإمام السيستاني، وهناك تيار لايزال يؤمن بالفكر السياسي للسيد محمد حسين فضل الله.

لقد بدأ تاريخ حزب الدعوة في فجر أحد أيام العام 1956، وانطلق في ضحى أحد أيام العام 1957، وأخذ يسجل أولى مراحله في ظهيرة العام 1958، وحمل اسم «الدعوة» في العام 1959. وكانت هذه السنوات الأربع تمثل مرحلة بزوغ «الدعوة» وشروقها. ومثّل عقدا الستينات والسبعينات من القرن الماضي مرحلة السطوع بالنسبة لحزب الدعوة. واستمرت مرحلة سطوع «الدعوة» في لبنان حتى العام 1982؛ وهو العام الذي غرب فيه حزب الدعوة اللبناني، وكذا حزب الدعوة الإيراني في العام نفسه؛ ثم حزب الدعوة الكويتي في العام 1983، وحزب الدعوة البحريني في العام 1984، وفي السعودية وعمان والإمارات في أواسط الثمانينات، وفي باكستان أواخر الثمانينات، وفي أفغانستان في العام 1988. ثم توالي انهيار باقي تنظيمات «الدعوة» في الأقاليم والمناطق؛ حتى تم إلغاء القيادات الإقليمية ولجان المناطق غير العراقية، ثم إلغاء القيادة العامة (قيادة التنظيم العالمي)، وإفراز قيادة عراقية فقط؛ عرفت بـ ((قيادة الحزب)). ولم يبق من تنظيمات حزب الدعوة سوى التنظيمات العراقية؛ التي تمكنت بعد سقوط نظام صدام حسين في العام 2003؛ من إعادة بناء نفسها ولملمة خطوطها داخل العراق، بعد عودة قيادات الحزب وكوادره من المنافي، والظهور كأبرز الأحزاب الحاكمة.

لقد انحل التنظيم العالمي لحزب الدعوة وهو في أوج سطوعه وقوته، وبظاهرة لا مثيل لها في أحزاب العالم العابرة للحدود الجغرافية. ولكن اللافت أن انهيار التنظيم العالمي للحزب لم يؤثر تأثيراً مميتاً على جسد الحزب في بلده الأم؛ العراق؛ لأن الانهيار لم يكن ناتجاً عن صراعات فكرية وسياسية وقومية داخل «الدعوة»؛ وإنما ناتج عن الظروف السياسية التي أحاطت بتنظيمات الحزب داخل البلدان التي كانت تتواجد فيها؛ وأبرز مظهر لهذه الظروف هو العلاقة الإشكالية بأنظمة هذه البلدان.

وبشأن صعود وهبوط تنظيمات حزب الدعوة في البلدان الأخرى؛ لديّ مشروع كتاب أعمل عليه منذ فترة؛ عنوانه «الحركية الإسلامية الشيعية العالمية: إرث حزب الدعوة الإسلامية في لبنان والكويت والبحرين». وفيه تفاصيل عن انتشار تنظيمات حزب الدعوة في خارج العراق واستقطابها الكثيف والنوعي للنخب الشيعية، وأسرار الانهيار المفاجئ لهذه التنظيمات؛ وهي في ذروة قوتها.

الخلاصة

1 – إن حزب الدعوة الإسلامية ليس حزباً عراقياً بالأساس ولا محلياً أو إقليمياً؛ بل حزباً عالمياً؛ وإن كان العراق هو جغرافيا التأسيس والانطلاق والقيادة. وتستند «الدعوة» نظرياً في عالميتها إلى عالمية الإسلام.

2 – تأثر حزب الدعوة الإسلامية واقعياً في بناء نظرية العالمية بوجود أحزاب وتيارات قوية في العراق عابرة للحدود؛ كالحزب الشيوعي وجماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير والتيار الناصري وحزب البعث.

3 – الذي مكّن حزب الدعوة من تطبيق مبدإ العالمية في نظريته هو انتماؤه للاجتماع الديني والثقافي والسياسي النجفي؛ إذ تعدّ النجف عالمياً النموذج الأبرز للحاضرة العابرة للحدود في تأسيسها وبنيتها الاجتماعية والدينية وتأثيرها المعنوي والسياسي؛ باعتبارها العاصمة الاجتماعية الدينية للمسلمين الشيعة في العالم.

4 – يعد حزب الدعوة التنظيم الأم للحركات والجماعات الإسلامية الشيعية في البلدان العربية.

5 – بدأ التنظيم العالمي لحزب الدعوة بالانهيار ابتداءً من العام 1982؛ حين استحال تنظيم لبنان إلى حزب جديد حمل اسم حزب الله، ثم انحلال أقاليم إيران في العام 1982 والكويت في العام 1983 والبحرين في العام 1984 وأفغانستان في العام 1989، وكل الأقاليم والمناطق والمحليات التابعة.

6 – تمثلت أبرز أسباب انهيار التنظيم العالمي لحزب الدعوة في قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتمكن قيادة الإمام الخميني من استقطاب معظم الإسلاميين الشيعة الحركيين، وقمع الأنظمة الحاكمة، والتجاذبات الفكرية والتنظيمية داخل الحزب.

7 – تحول حزب الدعوة الإسلامية خلال عقد التسعينات من القرن الماضي وما بعده إلى حزب عراقي، واستبدل اسم قيادته من القيادة العامة إلى قيادة الحزب؛ بعد إلغاء القيادة العامة والقيادات الإقليمية. وتكرست عراقية «الدعوة» بعد العام 2003، واستحال حزباً إسلامياً وطنياً كما حدد النظام الداخلي للعام 2008 هويته السياسية.

8 – كانت طريقة انهيار هيكلية القيادة العامة للحزب وتنظيماته غير العراقية وحجمها؛ يندر نظيرهما عراقياً وعربياً وإقليمياً وعالمياً.

 

 

إحالات الفصل الثالث

(1) مقابلة مع السيد محمد حسين فضل الله أجراها معه السيد حسين شرف الدين (صهر السيد موسى الصدر)، ونشرها في كتابه: «الإمام السيد موسى الصدر: محطات تاريخية؛ إيران – النجف – لبنان»، ص 109.

(2) ممن كتب في هذا المجال الصحفي اللبناني قاسم قصير في عدد من المقالات، والدكتور سعود المولى في دراستيه: «قراءة سوسيو – تاريخية في مسار حزب الله ومصيره»، و«حزب الدعوة بين العراق ولبنان». انظر أيضاً: علي الصادق، «ماذا تعرف عن حزب الله»، الشيخ نعيم قاسم، «حزب الله: المنهج، التجربة، المستقبل»، وضاح شرارة، «دولة حزب الله: لبنان مجتمعاً إسلامياً».

(3) سألت السيد هاني فحص في أحد لقاءاتي به: ماذا حملت معك إلى لبنان من النجف؟ كيف لم تحمل معك حزب الدعوة؟. قال بلهجته النجفية المطعمة بلهجة أهل جنوب لبنان: وهل يستطيع طالب لبناني في حوزة النجف ان يفلت من حزب الدعوة؟!. لقد انتظمت في حزب الدعوة شهرين فقط؛ ثم افلت منه؛ لأنه حزب ايديولوجي وتنظيم حديدي لاينسجم مع أفكاري وشخصيتي الإنفتاحية. وكذلك أفلت منه من يشبهني في أفكاري؛ كالسيد محمد حسن الأمين.

(4) من رسالة وجهها الدكتور طراد حمادة إلى الباحث في 5/ 7/2016.

(5) نقلاً عن أمين عام حزب الدعوة نوري المالكي خلال سلسلة لقاءاتي به في العامين 2014 و2015.

(6) المصدر السابق نفسه. وكان نوري المالكي خلال عامي 1981 و1982 يعيش مخاضات تأسيس حزب الله في لبنان؛ بالنظر لإقامته في سوريا وعلاقته التنظيمية بالدعاة اللبنانيين.

(7) راجع الإحالة رقم (2).

(8) ممن كتب في هذا المجال: الدكتور سعيد الشهابي مسؤول حركة أحرار البحرين وعضو قيادة حزب الدعوة في بريطانيا (دراسة غير منشورة)، ودراسة لداعية بحريني قديم لم يذكر اسمه تحت عنوان: «القروي الذي مارس السياسة ولم يمتهنها: مذكرات احد اعضاء حزب الدعوة – البحرين»، موقع شبكة العراق الثقافية، 11/ 11/ 2003، والصحافي البحريني منصور عبد الأمير الجمري وهو داعية بحريني سابق ونجل أحد أبرز القيادات التاريخية لحزب الدعوة في البحرين، «من الدعوة إلى أحرار البحرين إلى الوفاق: صفحات من تاريخ الحركة الإسلامية البحرينية»، جريدة الوسط (البحرينية)، العدد 1043، 15/7/ 2005، والصحافي وسام السبع في سلسلة مقالات ومقابلات نشرها في صحيفة الوسط البحرينية خلال العامين 2006 و2007، ومنها ثلاث مقابلات أجراها معي، ونشرها تحت عنوان «علي المؤمن: قصة الإسلام الحركي»، جريدة الوطن البحرينية، 17 – 19/5/2006، وفاضل عباس في رسالته الماجستير عن الشيخ عيسى قاسم، والتي كنت أحد المشرفين عليها خلال العام 2009.

(9) المصادر السابقة نفسها.

(10) انظر: مذكرات السيد محمد كاظم موسوي بجنوردي تحت عنوان: «مسى به رنك شفق»، وكذلك كتاب «حزب ملل إسلامي» (وقائع ندوة عن تأسيس حزب ملل إسلامي الإيراني وتاريخه.

(11) السيد حسن شبر، «حزب الدعوة الإسلامية»، ج 2 ص 134.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment