تشكيل نظام الأُحادية القطبية

Last Updated: 2024/06/08By

تشكيل نظام الأُحادية القطبية

د. علي المؤمن

التمهيد لظهور النظام العالمي الجديد

تمثلت الممهدات الأخرى للتحول في النظام العالمي في أحداث أوربا الشرقية، وفي مقدمتها أحداث بولنده، التي تصاعدت بشكل مثير بقيادة نقابات العمال، حتى أدت إلى سقوط الحزب الشيوعي فيه، وهو حدث لم يسبق له مثيل منذ نهاية الحرب الاستعمارية الثانية. إضافة إلى تطورات الوضع في الشرق الأوسط، وتكريس الهيمنة الأمريكية فيه، ومسار عملية السلام بين إسرائيل ودول المنطقة، ولا سيما مصر والأردن، وكذلك فشل الغزو السوفيتي لأفغانستان والنتائج التي تمخضت عنه.

وبإعلان واشنطن عن تصنيع وتخزين القنابل النيترونية في صيف عام 1981، وتنفيذ مشروع الدفاع الاستراتيجي (حرب النجوم) بات خطر الحرب النووية بين الدولتين الكبيرتين (الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة) يدق أبواب أوروبا ويتهددها بالدرجة الأساس كما يتهدد سائر دول العالم، الأمر الذي دفع القوتين الكبيرتين لانتهاج استراتيجية «التوازن في وسائل الرعب» والحد منها، وأدى ذلك إلى بروز شبه أقطاب دولية، كفرنسا التي حاولت تزعم حركة الوحدة الأوربية، والصين، كاستمرار لدورها الذي بدأته في أعقاب فك تحالفها مع الاتحاد السوفيتي. وقد ذكرت التقارير أن الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة تمكنا حتى عام 1990 من تصنيع وتخزين (50) ألف رأس نووي.

وسرت حمى سباق التسلح خلال الثمانينات إلى مختلف دول العالم الثالث، ولا سيما دول الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية، وكان هناك إحساس عارم بالخطر لدى أنظمة هذه الدول، تخلقه حالة التشبث بأدوات البقاء، والتي كانت تكرسها دعاية الدول الصناعية الكبرى، الأمر الذي سمح لها في هذه الفترة بعقد أكبر صفقات السلاح مع بعض دول العالم الثالث وفي المقابل كانت تحصل على حاجتها من المواد الخام من هذه الدول، وتنهك اقتصادياتها، وتجني منها أرباحاً خيالية، وتتخلص من جزء من أدوات الدمار المكدسة في مخازنها، وتستمر في تشغيل مصانع السلاح لديها.

انهيار الكتلة الاشتراكية

لم يهدم «ميخائيل غورباتشوف» كل ما بناه «فلاديمير لينين» فحسب، بل فجر الأرض التي بنت عليها الماركسية صرحها الأساس. فقد أثمرت سياسة «غورباتشوف»، بعد تسلمه قيادة الاتحاد السوفيتي، عن انهيار الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية بسرعة فائقة، ثم انهيار الاتحاد السوفيتي نفسه. وتلخصت سياسة غورباتشوف عملياً في تطبيق مشروعي البيروسترويكا (إعادة البناء) والغلاسنوست (الانفتاح)، وتقديم التنازلات المتوالية إلى المعسكر الغربي. وبلغ تفاهم موسكو مع الغرب وأمريكا تحديداً، ذروته خلال قمة واشنطن عام 1987 ثم قمة موسكو عام 1988، إذ برز التحول المباشر في شكل النظام العالمي في أعقابهما مباشرة، وتمثل في محاولة إخماد بؤر التوتر الإقليمية أو تهدئتها أو إيجاد صيغ حل لبعضها، كمشكلة أفغانستان (انسحب منها الاتحاد السوفيتي). ومشكلة ناميبيا (منحت الاستقلال) والحرب العراقية – الإيرانية (توقفت)، ومشكلة كمبوديا (انسحبت منها القوات الفيتنامية)، والقضية الفلسطينية (دعم عملية السلام)، وقضية التمييز العنصري في جنوب إفريقيا (سقط نظامها وحل «مانديلا» رئيساً)، والدكتاتورية في شيلي (سقط رئيسها «بينوشيه») وغيرها.

في الوقت نفسه اتخذت القوتان العظميان إجراءات لم يسبق لها مثيل منذ بدء الحرب الباردة، فقد بادرت الولايات المتحدة إلى دعم الاتحاد السوفيتي اقتصادياً، بعد أن جاهرت في تبني غورباتشوف وسياساته الداخلية والخارجية. كما دفعت الجماعة الاقتصادية الأوربية إلى عقد اتفاقية اقتصادية موسعة في نهاية عام 1988 مع الاتحاد السوفيتي، بهدف دعم اقتصاده الذي بدأت مؤشرات انهياره تبرز بقوة، كما ألغت موسكو مقاطعتها الاقتصادية للجماعة الاقتصادية الأوربية والتي تعود إلى عام 1957. ثم جاءت قمة واشنطن بين بوش وغورباتشوف عام 1990 لتسدل التيار نهائياً على الحرب الباردة، وتجعل من الاتحاد السوفيتي شريكاً مستقبلياً لأمريكا، كما صرح غورباتشوف حينها:

والحقيقة أن أي محلل سياسي أو باحث مستقبلي أو صاحب قرار لم يكن بإمكانه قبل عام 1989 أن يتنبأ بما حدث في الكتلة الاشتراكية فخلال عامين تقريباً (1989 – 1991) انتهى كل شيء، فقد دُمر جدار برلين في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، واستقلت جمهوريات البلطيق عن الاتحاد السوفيتي، ثم لم يعد لألمانيا الشرقية وجود على الخارطة، بعد أن توحدت مع ألمانيا الغربية في أواخر عام 1990، وتحول الاتحاد السوفيتي إلى عدة جمهوريات واتحادات، ابتداءً من عام 1990، وقامت على أنقاض يوغسلافيا أربع جمهوريات مستقلة، وتحولت تشيكسلوفاكيا إلى دولتين. أما الأنظمة الشيوعية فلم يعد لها وجود في دول الكتلة، سوى في الذاكرة أو المتاحف. وبذلك فإن الانهيار في الكتلة الاشتراكية لم يقتصر على المجالين الآيديولوجي والسياسي، بل تعداهما إلى الجغرافية والنظم السياسية.

وأعقب ذلك تحولات أخرى لافتة للنظر أيضاً، فقد أعلن أول رئيس لجمهورية روسيا الاتحادية المستقلة «بوريس يلتسين» عن تشكيل كمنولث الجمهوريات المستقلة في أواخر عام 1990، كما انبثق اتحاد يوغسلافيا الجديدة، وانظمت الجمهوريات المسلمة ومقاطعات الحكم الذاتي الجنوبية في الاتحاد السوفيتي السابق إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، وانضمت إليها ألبانيا أيضاً ثم جمهورية البوسنة والهرسك. فيما أصبحت دول أوربا الشرقية خلال عام 1992، أعضاء في المنظومة الأمنية والسياسية والاقتصادية الموحدة لأوروبا.

ويمكن إرجاع عوامل سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار الكتلة الاشتراكية سياسياً وعقائدياً وجغرافياً إلى جملة من العوامل التي تفاعلت خلال سنوات طويلة ثم تفاقمت فجأة، وكانت آثارها غاية في السرعة:

1 – العوامل الداخلية: وتتوزع على ثلاثة محاور:

أ – المحور السياسي: فقد تميزت السياسة الداخلية لحكومات دول الكتلة الاشتراكية بدكتاتورية الحزب الواحد، والإرهاب والقمع السياسي والاجتماعي؛ الأمر الذي تسبب في نقمة شعوبها وحنقها على الحكم الشيوعي.

ب – المحور الآيديولوجي: إذ ظل الفكر الماركسي يتصدع باستمرار وفي جميع المجالات، ولم يكن يتلاءم ومتطلبات الشعوب وآمالها ومعتقداتها.

ج – المحور الاقتصادي: فقد عاشت الكتلة الاشتراكية – قبل انفجارها – مستويات مرتفعة من التضخم والبطالة وغلاء المعيشة والديون الخارجية. وفضلاً عن أصل الخلل في النظام الاقتصادي الشيوعي والمركزية الشديدة في العملية الاقتصادية، فإن سوء إدارة الاقتصاد كان هو الآخر سبباً جوهرياً في التدهور المستمر لاقتصاديات الكتلة.

2 – العوامل الخارجية: وتتلخص في التأثير الخارجي في الأحداث ودوره في زعزعة الأوضاع في الكتلة الاشتراكية، ودعم انهيارها، إذ كان سقوط الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية يمثل ثمرة تواطئ مشترك أمريكي – روسي، وفي إطار سيناريو رسمته إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان ثم «جورج بوش»، وساهمت في رسمه وتنفيذه إدارة الرئيس السوفيتي «ميخائيل غورباتشوف». فقد كانت أحداث أوربا الشرقية إفرازاً للتحولات في الاتحاد السوفيتي، وهي القاعدة التي استندت إليها العلاقة داخل الكتلة الاشتراكية منذ قيامها، فكل تغيير في الاتحاد السوفيتي يتبعه تغيير مماثل في أوربا الشرقية، بالصورة التي عبر عنها الرئيس الألماني الشرقي «اريش هونيكر» عام 1987: «إذا عطست موسكو فإن كل دول أوربا الشرقية تصاب بالزكام».

لقد ظل «غورباتشوف» خلال السنوات 1986 – 1988 يناور سياسياً وفكرياً، بهدف التمهيد لعملية التغيير، وبدأ مخططه الهادف إلى تنفيذ العملية خلال عام 1988. فكانت أهم دوافعه المعلنة: تحسين الوضع السياسي والاقتصادي المتدهور في دول الكتلة الاشتراكية، وذلك لن يتم إلا بالإصلاح السياسي الشامل، وكان مخيراً بين الاحتفاظ بأوربا الشرقية ضمن كتلة منهارة اقتصادياً وتحكمها أحزاب شيوعية مهلهلة وضعيفة وذات صيت سيء جداً، وبين دولة قوية واحدة، سواء تمثلت في الاتحاد السوفيتي أو روسيا، تساير التطور الغربي سياسياً واقتصادياً، ومدعومة من قبل الغرب. وفضل «غورباتشوف» الخيار الثاني الذي دعمته فيه دول أوربا الغربية والولايات المتحدة، فتخلص من أوربا الشرقية وتبعات ارتباطها بموسكو، ولا سيما على المستوى الاقتصادي. بيد أن «غورباتشوف» خسر الخيارين معاً؛ إذ خسر أوربا الشرقية كما خسر الاتحاد السوفيتي فيما بعد. وحين انهار الاتحاد السوفيتي وأعلنت جمهورياته استقلالها، ولا سيما روسيا الاتحادية، فإن موقعي رئيس اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، والسكرتير العام للحزب ا لشيوعي السوفيتي فقدا المسوغ الدستوري والواقعي لبقائهما.

إعلان النظام العالمي الجديد

يعد النظام العالمي الذي بدأ بالتبلور خلال النصف الثاني ثمانينات القرن العشرين، صياغةً أمريكية من ناحيتي التسمية والواقع، أو هو العالم كما تريده أمريكا، ويمكن التعبير عنه بحقبة الاستعمار ما بعد الحديث، وإن كان «غورباتشوف» أول من أسس للمصطلح في كتابه «البيروسترويكا». والحقيقة أن النظام العالمي الجديد هو إفراز للتحولات الكبرى في الكتلة الاشتراكية، أو بكلمة أخرى هو البناء الذي شُيِّد على أنقاض هذه التحولات، التي وضع أسسها «غورباتشوف»، من خلال محاولته تطبيق نظرياته في التحول والتغيير والعالم الجديد، ودعمه في ذلك «ريغان» ثم «بوش».

وكان الرئيس الأمريكي «جورج بوش» قد أعلن عن ولادة النظام العالمي الجديد الذي صاغته أمريكا للمئة عام القادمة، خلال حرب استرجاع الكويت من احتلال قوات صدام حسين؛ وهي الحرب التي كلفت العالم الكثير جداً، وخرجت أمريكا منها أكبر رابح على الإطلاق، إذ تمكنت بذريعة استرجاع الكويت من فرض حضورها العسكري على أغنى وأهم منطقة استراتيجية في العالم.

لقد ظل صدام حسين منذ تسلمه السلطة المطلقة في العراق عام 1979 رجل الغرب الأول في المنطقة، والطامح إلى ملء فراغ مصر في زعامة العرب بعد صلح رئيسها مع (إسرائيل)؛ وإلى احتلال موقع شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي عرف بشرطي المنطقة. فلقي من الغرب دعماً يتناسب مع مقتضيات تحقيق هذا الطموح، بهدف التصدي – قبل كل شيء – للثورة الإسلامية الإيرانية وكبح جماحها وإشغالها. وخرج صدام من حربه مع إيران منتشياً بدعم الغرب ودول المنطقة له، فحول العراق في غضون سنتين (بين الأعوام 1988 و1990) إلى ترسانه للأسلحة التقليدية والكيماوية والبايولوجية؛ الأمر الذي أدى إلى جنوح تفكيره نحو الاستيلاء على ثروات الدول الخليجية، بشتى الذرائع، مرة بذريعة تعويض العراق عما لحقه من خسائر في حربه مع إيران، والتي خاضها – كما زعم – نيابة عن الأمة العربية، وأخرى بذريعة الوحدة العربية، وثالثة بذريعة التوزيع العادل لثروات المنطقة. وكانت البداية مع الكويت التي أضاف لخلافه معها ذريعتين أخريين:

الأولى: سرقة الكويت لنفط العراق في المناطق الجنوبية المحاذية للكويت

الثانية: أن الكويت هي جزء من العراق.

وحين غزت قواته الكويت في آب / أغطس عام 1990، أعلن مسوغاً مباشراً جديداً يتمثل في طلب حكومة الكويت الانقلابية الجديدة ضم الكويت إلى العراق. وبذلك تمرد صدام حسين على حماية الغربيين وتنكر لدعم الكويت والدول الخليجية له، وتحول إلى مصدر عدم استقرار مستمر للمنطقة، وهي الذريعة المقابلة التي تمسكت بها أمريكا منذ عام 1990، للتدخل العسكري المباشر في المنطقة الخليجية.

إثر احتلال قوات صدام حسين للكويت، انقسم العالم أجمع على نفسه إلى أربعة أقسام، الأول ضد الاحتلال ويدعو إلى إخراج القوات العراقية بالقوة من الكويت، ويضم معظم دول العالم، وتقوده أمريكا، الآخر مع الاحتلال أو أنه يرفض الحل العسكري للأزمة، ويضم مجموعة قليلة من الدول لم تتجاوز عدد أصابع اليد، والثالث ظل على الحياد السلبي، أي عدم تبني موقف محدد من الأزمة، وضم مجموعة من الدول أيضاً والأخير كان على الحياد الإيجابي، أي التدخل في الأزمة لمصلحة المنطقة ومحاولة إنقاذها من الكارثة، دون ميلٍ لأحد الطرفين، ومثلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية هذا الموقف.

وأسفرت جهود الولايات المتحدة الأمريكية عن إقناع الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي باستخدام القوة ضد العراق لإخراجه من الكويت، كما تمكنت من إنشاء حلف يحمل لافتة الأمم المتحدة، وضم (31) دولة، بعضها دخل الحرب بقوات رمزية، والآخر دخلها إحساساً بالمسؤولية تجاه دولة الكويت، أو لضمان مصالحة في المنطقة. ويمكن تحديد الدول التي اشتركت بفاعلية في الحرب على العراق بالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا ومصر والسعودية. أما باقي الدول فكانت مساهماتها تختلف بحسب أهدافها، وهي: الأرجنتين، إسبانيا، استراليا، البحرين، الإمارات العربية المتحدة، إيطاليا، باكستان، تشيكسلوفاكيا، الدنمارك، السنغال، سورية، عمان، قطر، كندا، كوريا الجنوبية، المجر، المغرب، النرويج، النيجر، نيوزلنده، هولندا، اليونان، إضافة إلى الكويت نفسها.

بدأت حرب استعادة الكويت خلال شباط/ فبراير 1991 بقصف جوي مركز قامت به قوات التحالف للعاصمة بغداد وغيرها من المدن العراقية. استمر شهراً تقريباً، بلغت خلالها الطلعات الجوية أكثر من مائة ألف طلعة، وأسفرت عن شل معظم قدرات العراق وبناه التحتية، ثم بدأت المعارك البرية التي كادت تبيد الجيش العراقي بكامله لولا إعلان وقف إطلاق النار بعد تحرير الكويت بكاملها، أي بعد مضي (100) ساعة تقريباً على بدئها. ورفض الرئيس الأمريكي «جورج بوش» ملاحقة القوات العراقية المنسحبة، رغم الإنزال الجوي الكبير الذي قامت به قوات التحالف خلف القوات العراقية، وتحديداً في محافظتي البصرة والناصرية. وفضلت دول الغرب، وتحديداً أمريكا وبريطانيا وفرنسا، الإبقاء على صدام حسين وحزب البعث في السلطة وعدم السماح بإسقاطهما، ولا سيما بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية العراقية الكبيرة ضد حكومة صدام حسين في آذار/مارس 1991 والتي عرفت بانتفاضة شعبان، هذه الانتفاضة التي بدأت في مدينتي الناصرية والبصرة، ثم امتدت إلى جميع مدن وقرى الجنوب والوسط، عدا بغداد وبعض مدن المنطقة الغربية. وحين التحقت محافظات شمال العراق بالتحرك فإن الانتفاضة تمكنت حينها من اقتطاع حوالي 80% من أراضي العراق من سلطة صدام حسين، إلا أن المفاجأة جاءت بعد أن فسحت القوات الأمريكية المجال للقوات العراقية المنسحبة من الكويت للعودة وضرب الانتفاضة بعنف واستباحة الكثير من المدن العراقية، وبالذات النجف وكربلاء، اللتين دمرهما القصف الصاروخي لقوات صدام حسين.

رغم استعادة الكويت وهدوء الأوضاع نسبياً في المنطقة الخليجية؛ إلا أن تواجد القوات الأمريكية بقي على وضعه، وظل النظام العراقي هو السبب الذي تتذرع به أمريكا في استمرار تواجدها العسكري. وحينها ظهر خلال عقد التسعينات أن هناك مصلحة مشتركة بين النظام العراقي والحكومة الأمريكية؛ إذ أن بقاء صدام حسين في السلطة ضمن لأمريكا حريتها في الحركة في المنطقة الخليجية وتنفيذ مخططاتها على كل الصعد، ومن هنا لم تقم أمريكا بأي عمل حقيقي لإسقاط صدام في هذه الفترة؛ رغم اللافتات العريضة التي ظلت تحملها في هذا الشأن، ورغم حصارها الاقتصادي الذي أضر كثيراً بالشعب العراقي. وراحت أمريكا تعد نظاماً إقليمياً سياسياً وأمنياً لكل منطقة من مناطق العالم؛ لتكون أجزاء مكملة لنظامها العالمي الجديد، بهدف فرض سيطرتها النهائية على العالم.. عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، ولا سيما بعد سقوط منافسها الوحيد، أي الاتحاد السوفيتي.

الوحدة الأوربية

يعتقد بعض المحللين والمؤرخين بأن الخطوات التاريخية التي أقدمت عليها أوربا خلال عقد التسعينات من القرن العشرين، جاءت لاستثمار الفراغ الكبير الذي خلفه سقوط الكتلة الاشتراكية، والرد بأسلوب هادئ على محاولات أمريكا التفرد بالعالم ابتداءً من عام 1991. وهذا الرد هو في الواقع مطلب ألماني – فرنسي قديم، جاء متأخراً وبأدوات غير ذات فاعلية ملحوظة في التأثير سلباً على طبيعة الموقع الذي احتلته أمريكا عالمياً. وأهم تجسيد لهذه الحقيقة هو مشروع الوحدة الأوربية الذي ينقسم الأوربيون حول كونه فعلاً أوربياً، أم أنه رد فعل على محاولة أمريكا فرض هيمنتها حتى على أوربا، أو هو صفقة أوربية أمريكية مشتركة تضمن للطرفين مصالحهما في أوربا نفسها. وفي كل الأحوال فالوحدة الأوربية تحقق للأوربيين مزيداً من القوة السياسية والاقتصادية والثقافية؛ إذ إنها تعيد لهم الكثير من عافيتهم التي أخذت تسلب منهم بالتدريج منذ نهاية الحرب الاستعمارية (العالمية) الثانية.

لقد بدأت الوحدة الأوربية مسيرتها بوحدة الاقتصاد، ودخلت عام 1992 مرحلة ما قبل التكامل النهائي، أي المرحلة الممهدة للوحدة السياسية. ويمكن إرجاع دواعي الوحدة الأوربية إلى ثلاثة عوامل رئيسة:

1 – العامل الأمني: فقد كانت أوربا الغربية تعيش رعبين متقابلين؛ الأول هو الرعب العسكري والسياسي والايديولوجي الذي يمثله الاتحاد السوفيتي، والثاني الرعب السياسي والاقتصادي والثقافي متمثلاً بالولايات المتحدة الأمريكية. وإذا كان الرعب الأول قد تلاشى بعد عام 1991، فإن رعب الهيمنة الأمريكية يبقى الهاجس المستمر الذي يصعب الخلاص منه؛ بل إن بعض الباحثين الاستراتيجيين الأوربيين يعتقدون أن زوال الخطر الشيوعي يجعل التقرب إلى موسكو أهم من التحالف مع أمريكا.

2 – العامل السياسي: فالتشرذم في المواقف السياسية لدول أوربا الغربية تجاه القضايا الدولية الحساسة كلفها الكثير من الضعف والتبعية والفوضى الداخلية، حتى أخذ الشعور بالانحسار والانكفاء ينتاب عموم حكومات أوربا الغربية.

3 – العامل الاقتصادي: لقد أخذت أوربا الغربية في أعقاب الحرب الاستعمارية الثانية، تفقد موقعها بالتدريج كثاني قوة اقتصادية في العالم تلي الولايات المتحدة، بعد أن بات الاتحاد السوفيتي ينمو بمعدلات كبيرة، حتى نهاية السبعينات، فيما أخذ اليابان.. العملاق الآسيوي يزحف بقوة لاحتلال أحد المواقع الثلاثة الاقتصادية الأولى في العالم.

من هنا؛ فالوحدة الأوربية – من منطلق هذه الدواعي – تعد حاجة واقعية، وتكمن فيها مصلحة دول أوربا الغربية، قبل أن تكون هدفاً ايديولوجياً ومثالياً. وهو الأمر الذي أكد عليه مؤتمر الأمن والتعاون الأوربي الذي عقد في باريس في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 1990، بحضور (34) دولة، هي دول أوربا بأكملها – عدا ألمانيا – إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا. ورغم أن جذور انعقاد هذا المؤتمر تعود إلى عام 1975، حين عقد للمرة الأولى، إلا أن طبيعة المعادلات التي كانت تحكم النظام العالمي – آنذاك – كانت تحول دون تنفيذ القرارات التي يتخذها الزعماء الأوربيون. بينما خطى مؤتمر عام 1990 خطوات ذات أهمية بالغة، حتى ذكر المراقبون أن هذا المؤتمر أسكت نهائياً كل مدافع الحرب الباردة، بالنظر لحضور جميع الدول الأعضاء في حلفي وارشو والناتو فيه، واتخاذه قرارات مهمة في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، وتحديد آليات تطبيق هذه القرارات بالشكل المطلوب. ولعل أفضل تعبير عن أوربا التي حدد المؤتمر شكلها ومضمونها الجديد هو ما ذكره الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران في كلمة الافتتاح: «إن أوربا جديدة يعاد رسمها دون حروب وثورات».

الأحادية القطبية الانتقالية

بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وفي مقدمتها الاتحاد السوفيتي، أصبح تفرد أمريكا بالعالم أمراً واقعاً؛ فقد تحول النظام العالمي من الثنائية القطبية إلى الأحادية القطبية إلا أن الأحادية القطبية تبقى نظاماً انتقالياً، وإن دخل به العالم القرن الواحد والعشرين، فالولايات المتحدة الأمريكية تواجه مجموعة من التحديات الداخلية والخارجية يجعل تفردها بالعالم مرحلة انتقالية. فمن أهم التحديات الداخلية الأوضاع الاجتماعية المتردية التي عاشتها أمريكا خلال عقد التسعينات، فعام 1992 – مثلاً – شهد لوحده (19.000) حالة قتل، إضافة إلى موجات العنف المتصاعد، ولا سيما أحداث لوس انجلس عام 1992، فيما بلغ عدد السجناء – حسب إحصاءات عام 1990 – حوالي مليون سجين، كما بلغ عدد الأمريكيين الذي يعيشون تحت مستوى خط الفقر حوالي (35) مليون أمريكي. أما التحدي الاقتصادي، فيتمثل في انخفاض نسبة الناتج القومي الأمريكي في عام 1990 إلى 10% من إجمالي الناتج العالمي، فيما بلغ إجمالي ديون أمريكا في العام نفسه (8400) مليار دولار، وقفز إلى (130.000) مليار عام 2000، وبلغ العجز في الميزانية الأمريكية عام 1992 أكثر من (300) مليار دولار، في الوقت الذي ترفض أمريكا خفض ميزانيتها العسكرية. وعلى المستوى السياسي بدء التضعضع في النظام السياسي الأمريكي خلال رئاسة «بيل كلنتون» في عقد التسعينات، ولا سيما بعد فضائحه الأخلاقية والسياسية وانهيار هيبة الدولة بشكل ملحوظ.

أما التحديات الخارجية، فتمثلت – ابتداءً – في بروز أوربا الموحدة قوة سياسية واقتصادية عالمية كبرى، واليابان قوة اقتصادية عالمية كبرى أيضاً، وروسيا قوة سياسية تحاول استعادة عافيتها ودورها العالمي، والصين قوة سياسية واقتصادية وايديولوجية مؤثرة، وإيران قوة سياسية وايديولوجية مؤثرة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الصين وإيران يمثلان ايديولوجيتان معاديتان لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد بدأت أوربا الموحدة بعد انهيار الخطر الشيوعي السوفيتي، تشعر بعدم الحاجة للولايات المتحدة في حماية نفسها، وبدت وكأنها تتحرك كمنافس سياسي واقتصادي لأمريكا، إذ قفز ناتجها الإجمالي في عام 1997 حوالي (5000) مليار دولار، مقابل (3865) مليار دولار لأمريكا، وحصتها تفوق 1% حصة أمريكا في الميزان التجاري العالمي، كما بلغ العجز التجاري الأمريكي مع اليابان في مطلع التسعينات حوالي (100) مليار دولار. وحاولت أمريكا تحييد الصين في كثير من القضايا العالمية، تجنباً لخطرها القادم؛ بل سعت إلى وضعها في موقع الدفاع باتهامها بقضايا حقوق الإنسان، ولا سيما بعد مجزرة عام 1989 في بكين.

لوحت أمريكا باستمرار باستخدام القوة ضد إيران، وظلت تمارس حرباً سياسية وإعلامية مركزة ضدها؛ في محاولة لإنهاكها ومحاصرة حركتها، ولا سيما بعد التحرك الإقليمي الناشط لإيران، وارتفاع معدلات النمو الاقتصادي في مرحلة البناء التي بدأت عام 1990. ولم تتوقف أمريكا عن محاولاتها إسقاط النظام في إيران علانية؛ بالرغم من تصريحات مسؤوليها التي بدت إيجابية تجاه إيران بعد عام 1998؛ ولكن من الناحية العملية ظل التوتر والصراع يتصاعدان بين الطرفين؛ ولا سيما بعد استمرار تطبيق قانون داماتو ابتداءً من عام 1996، والذي حاصر إيران اقتصادياً من جديد، وكذا تخصيص النظام الأمريكي مبلغ (20) مليون دولار لدعم المعارضة الإيرانية. بل إن زعيم الجمهورية الإيرانية السيد علي خامنئي كشف في تموز/يوليو 2000 عن مخطط أمريكي دقيق لتدمير إيران من الداخل، شبيه بالسيناريو الذي أدى إلى انهيار الاتحاد السوفيتي؛ إلا أن المخطط فشل بسبب سوء تقدير أمريكا للأوضاع في إيران، وتصورها أن إيران تشبه الاتحاد السوفيتي. ولكن أمريكا تبقى تراهن على تطورات الأوضاع الداخلية في إيران أكثر من رهانها على إسقاط النظام عسكرياً أو ضرب إيران وتدمير عناصر القوة فيها.

وحتى العام 2000 ظلت الولايات المتحدة تقود حصاراً عالمياً سياساً واقتصادياً ضد العديد من دول العالم التي كانت تسير بعكس التيار الذي تقود أمريكا العالم خلاله، ولا سيما ليبيا وكوبا وكوريا الشمالية وإيران والعراق. إلا أن الأخير تميز بوضع خاص يختلف عن الدول المحاصرة الأخرى؛ لأن حكومة صدام حسين في حروبها على الجوار، وتحديداً إيران والكويت، وحربها على الشعب العراقي، قدمت العراق ضحية سهلة للغرب، ولا سيما أمريكا لتنهشه، حتى إن الحصار الاقتصادي والجوي الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق ابتداءً من عام 1991 تسبب في حالتين متباينتين: الأولى ترتبط بالشعب العراقي، الذي تسبب الحصار في دماره وتجويعه، والثانية ترتبط بالنظام الحاكم، الذي تسبب الحصار أيضاً في إطالة عمره وارتفاع معدلات الثراء لدى قادته؛ وبذلك ظلت أمريكا تساهم في حماية نظام صدام منذ بدء مرحلة الحصار، ولا سيما أن انتفاضة شعبان عام 1991 ثم سلسلة الانتفاضات الجماهيرية والانقلابات العسكرية الفاشلة، كان كل واحد منها كفيلاً بإسقاط الحكم.

أما حيال القضية الفلسطينية؛ فقد مارست أمريكا الضغط على الأطراف العربية، لضمان سلام (إسرائيل) واستقرارها، حتى وصف بعضهم التوجه نحو إسرائيل في عقد التسعينات بـ«الهرولة»؛ فقد وقعت الأردن معاهدة صلح مع (إسرائيل) وكذا انفتحت عليها دول عربية أخرى اقتصادياً؛ بينما ظل الموقف السوري متفرداً؛ إذ رفض حافظ الأسد توقيع أي معاهدة سلام مع (إسرائيل) رغم المسيرة الطويلة للمفاوضات بين الطرفين، والتي حاولت أمريكا في أثنائها الضغط على سوريا من جهة وإغرائها من جهة أخرى، ابتداءً من مؤتمر مدريد عام 1992، ثم أوسلو عام 1993. في الوقت نفسه كان الموقف الشعبي اللبناني هو الأكثر إثارة لإعجاب شعوب العالم، فقد تمكنت المقاومة الإسلامية اللبنانية التي تدعمها إيران، تمكنت في حزيران / يونيو عام 2000 من هزيمة الجيش الإسرائيلي وطرده من الشريط المحتل في جنوب لبنان وتدمير الوحدات اللبنانية المسلحة العميلة له، وهي المرة الأولى في تاريخ إسرائيل التي تخرج فيها بالقوة من أرض تحتلها؛ بعد أن استمر الاحتلال لهذه المنطقة حوالي 25 سنة. وكان هذا النصر – في الواقع – نصراً لبنانياً سورياً إيرانياً مشتركاً، وهزيمة إسرائيلية أمريكية في الوقت نفسه.

كما فشلت أمريكا مرة أخرى في حمل الجانب الفلسطيني على القبول بمشروع الحل النهائي الذي طرحته، وهو في مجمله تحقيق لرغبات إسرائيل، وذلك خلال مفاوضات كامب ديفيد الثانية في تموز / يوليو 2000، وهذه المفاوضات كانت حلقة تتصل بسلسلة طويلة من المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، التي رعتها الولايات المتحدة، ابتداءً من عام 1992، ولا سيما مؤتمر أوسلو عام 1993، الذي تم فيه التوقيع على اتفاقية غزة – أريحا بين (إسرائيل) ومنظمة التحرير الفلسطينية، عام 1992، والتي أقيمت على إثرها سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني على أجزاء من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة في عام 1994، وتعيين ياسر عرفات رئيساً للسلطة المحلية، مقابل إعطاء السلام الدائم لإسرائيل وإيقاف أي نشاط مسلح ضدها من قبل الفلسطينيين، حتى لو كان بمستوى انتفاضة الحجارة، التي استمرت ما يقرب من ثماني سنوات، وظلت ورقة الضغط الأقوى التي تلوح بها السلطة الفلسطينية الرسمية، رغم أن الانتفاضة قامت بها القوى الإسلامية الفلسطينية وغيرها من القوى الوطنية التي ساهمت مرة أخرى في تحريك الشارع الفلسطيني بتفجير انتفاضة جديدة في أوائل تشرين الأول / اكتوبر 2000، عرفت بـ «انتفاضة الأقصى»، وكان الصاعق المباشر الذي فجرها زيارة الوزير الصهيوني – آنذاك – آرييل شارون إلى المسجد الأقصى.

انعكاسات الأحادية القطبية على أوربا وآسيا

يمكن تصنيف أحداث البلقان والقوقاز التي بدأت في عام 1991، نتيجة أخرى لمرحلة الأحادية القطبية، إذ أن انهيار الكتلة الاشتراكية وتمزق بعض دولها، كالاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا، أدى إلى بروز العديد من الحروب المحلية الدامية التي استمرت عدة سنوات، وفي مقدمتها حروب التصفية العرقية والدينية في البوسنة والهرسك وتتارستان والشيشان وأنغوشيا وداغستان. فبعد انهيار يوغسلافيا، كانت جمهورية البوسنة والهرسك من أولى جمهوريات يوغسلافيا التي أعلنت استقلالها، وذلك في عام 1991. وعلى إثر ذلك شن صرب البوسنة مدعومين من جيش صربيا أو يوغسلافيا الجديدة وحكومتها حرب تصفية عرقية ودينية شاملة ضد مسلمي البوسنة والهرسك الذين يشكلون ما يقرب من نصف سكان البوسنة، في حين تشكل القوميات الأخرى كالصرب والكروات وغيرها النسبة المتبقية من عدد السكان. واستمرت هذه الحرب ما يقرب من أربع سنين (1992 – 1995)، حاول فيها الصرب تصفية المسلمين بكل الوسائل، من خلال المجازر الجماعية المتواصلة، واستباحة المدن والاعتداء على الأعراض ونهب الأموال والممتلكات وهدم المساجد. وكان للكروات أيضاً مساهمة كبيرة في الحرب، معظمها موجه ضد المسلمين. وعُدت حرب التصفية الشاملة هذه من أندر الحروب العرقية في القرن العشرين حجماً وتركيزاً، حتى إن كثيراً من دول العالم اضطر للتدخل فيها. فقد تدخلت روسيا وبعض دول البلقان إلى جانب صرب البوسنة، المدعومين من قبل يوغسلافيا الجديدة التي تتزعمها صربيا، فيما كان الكروات مدعومين من قبل كرواتيا. أما المسلمون فلم تكن هناك دولة مجاورة تدعمهم، فكانوا ضحايا الحرب طيلة سنواتها. بيد أن الأمم المتحدة اضطرت بعد ارتفاع وتيرة المجازر وبفعل موقف بعض البلدان الإسلامية والعالمية إلى التدخل لصالح المسلمين، وإنهاء الحرب بالصورة التي تنصف جميع الأطراف المتقاتلة، وبروز الزعيم البوسني «علي عزت بيغوفيش» بطلاً وطنياً مسلماً قاد المواجهة على أفضل صورة، دون أن يورط المسلمين بردود أفعال مشابهة. وكان للموقف الرسمي لبعض الدول الإسلامية وكذلك موقف الشعوب الإسلامية دور مهم في دعم قضية مسلمي البوسنة ونصرتها، فقد أمدت المنظمات الإسلامية الخيرية الكبرى في الدول العربية الخليجية وإيران ومصر وتركيا وغيرها مسلمي البوسنة بالمساعدات المادية والعينية، وساهم آلاف المتطوعين المسلمين من البلدان الإسلامية في القتال إلى جانب مسلمي البوسنة، وتبنت منظمة المؤتمر الإسلامي القضية سياسياً وإعلامياً.

ثم اندلعت في كوسوفو (الإقليم المسلم التابع ليوغسلافيا الجديدة) أعمال تصفية عرقية ودينية مشابهة لما حصل في البوسنة والهرسك، قادها هذه المرة الجيش الصربي، بعد أن سعت الأكثرية الألبانية الكوسوفية للحصول على استقلال الإقليم، إلا أن الجيش الصربي والمتطوعين الصرب دخلوا في حرب شاملة ضد المسلمين، حولوا فيها الإقليم خلال عامي 1988 و1999 إلى ساحة مشتعلة بالنيران، إلى الحد الذي اضطر منظمة الأمم المتحدة للتدخل وفرض عقوبات على صربيا لإجبارها على وقف أعمال التصفية ضد سكان الإقليم، بل قامت القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة بشن حرب خاطفة ضد صربيا، بدأت بالقصف الجوي المركز، الذي كان للأمريكان فيه الحصة الأكبر، الأمر الذي أجبر الرئيس الصربي «سلوبودان ميلوسوفيتش» على الرضوخ لشروط مجلس الأمن الدولي، بيد أن القوات الدولية فضلت عدم إسقاط الرئيس الصربي، رغم أنها اعتبرته مجرم حرب. ولكن «ميلوسوفيتش» سقط تحت ضغط المعارضة التي فاز زعيمها بالانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/أكتوبر 2000.

وحتى نهاية القرن العشرين بقيت الحرب في منطقة القوقاز مشتعلة منذ عام 1995، وهذه الحرب بدأت على إثر إعلان جمهورية الشيشان وأنغوشيا ذات الحكم الذاتي استقلالها عن روسيا الاتحادية، فشنت روسيا حرباً واسعة النطاق ضد الشيشان بهدف إخضاعها للسلطة الروسية، فجاءت الحرب الروسية على الشيشان شبيهة بحرب صربيا ضد الكوسوفيين بالنظر لتشابه الظروف والمواقف. ورغم توقف الحرب بعد معاهدة الصلح بين الطرفين، إلا أن المعارك اشتعلت مجدداً بين المسلمين والقوات الروسية في الشيشان نفسها وفي أماكن أخرى من القوقاز خلال عام 1999، وخاصة في داغستان.

لعل من الأزمات الإقليمية المهمة التي تصاعدت خلال عقد التسعينات، أزمة إيرلندا الشمالية؛ فبعد (16) عاماً من أعمال العنف بين البروتستانت (المدعومين من السلطات البريطانية) والكاثوليك، توصل الطرفان إلى حل مؤقت في عام 1996، ثم استؤنفت أعمال العنف ثانية، وانتهت عام 1998 بإعطاء بريطانيا الإيرلنديين حكماً محلياً، ثم سمحت لهم بإعادة افتتاح البرلمان عام 2000، بعد مرور (28) عاماً تقريباً على إغلاقه، وهي بمجملها خطوات اعتبرها الإيرلنديون الشماليون مداخل حقيقية إلى الاستقلال الكامل عن بريطانيا.

وقبل أن يودع العالم القرن العشرين، تمكن من الخروج بسلام من أزمة اقتصادية حادة، بسبب الهزة الكبرى التي تعرضت لها اقتصاديات دول شرق آسيا عام 1998، وكادت أن تعرضها للانهيار لولا الدعم المالي والاقتصادي الذي جاءها من اليابان وأمريكا وأوربا، وكذلك الصدمة التي تعرضت لها اقتصاديات الدول النفطية، بعد انخفاض أسعار النفط بمعدلات مخيفة، حتى وصل إلى أقل من (10) دولارات. إلا أن الإجراءات الحاسمة التي اتخذتها الدول المصدرة للنفط وغيرها من الدول ذات العلاقة، ساهم في استعادة أسعار النفط عافيتها، ووصلت خلال أشهر معدودة من عام 1999 إلى حوالي (30) دولاراً. وقد كان للاتفاق النفطي والسياسي بين إيران والسعودية أثر في هذا المجال؛ إذ نقل حالة الصراع بينهما إلى الوفاق النسبي؛ الأمر الذي رفع من مستوى التنسيق في قضايا النفط بين الدول الأعضاء في منظمة أوبك.

وودع العالم القرن العشرين، والحرب الأهلية الأفغانية مستمرة منذ عام 1979؛ إذ بدأت حرباً جهادية ضد القوات الروسية المحتلة والنظام الحاكم التابع لها، وتخللها أيضاً معارك بين فصائل الجهاد الإسلامي، ثم تحولت إلى حرب أكثر دماراً ودموية بين الفصائل الجهادية نفسها بعد انسحاب القوات الروسية عام 1989 وسقوط النظام الشيوعي في كابل وقيام الحكم الإسلامي، وذلك بسبب تنافس الفصائل المنتصرة على الحصص في الحكم والصلاحيات والحصول على المكاسب. ثم برزت قوة أفغانية جديدة لم يسبق لها المشاركة في العمل الجهادي ضد الروس والشيوعيين، وتمكنت من الزحف على أراضي أفغانستان انطلاقاً من باكستان، وخلال سنتين تقريباً (1995 – 1997) تمكنت من الاستيلاء على العاصمة كابل و80% من أراضي أفغانستان، إلا أن العالم لم يعترف بحكمها عدا ثلاث دول فقط. وهكذا بقيت المعارك الدامية مستمرة خلال (21) عاماً، تحولت فيها أفغانستان إلى بلد مدمّر، يعيش مشاهد الموت والمرض والجوع والجهل والفقر فكل شيء في أفغانستان أصابه الدمار؛ عدا مزارع الخشخاش العامرة التي تفوح منها رائحة المخدرات.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment