تجديد الشريعة ومتطلبات المستقبل

Last Updated: 2024/06/08By

تجديد الشريعة ومتطلبات المستقبل

د. علي المؤمن

الفكر الإسلامي وظواهر الحاضر والمستقبل

يشهد عصرنا آلاف الظواهر الساخنة على الصعد كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والآيديولوجية والأخلاقية والعلمية والتكنولوجية، وهي ظواهر تعيش ثورات وتطورات سريعة للغاية، وتنبئ عن مضامين مختلفة للحياة في المستقبل. وتتطلب معرفة هذه الظواهر جهوداً استثنائية (واسعة في حجمها ونوعية في حركتها)، وهو الحل الوحيد الذي نستطيع من خلاله دخول الزمن القادم بعزم وثقة بالنفس، ونحن نتأبط مشاريعنا ومخططاتنا، وحينها ـ فقط ـ يمكننا الحديث عن بديلنا أو مشروعنا الحضاري.

ونلخص هذه المراحل كالتالي:

 

عملية الاستشراف               التخطيط

أين سنعيش؟             كيف سنعيش؟

في أي زمن نعيش؟                                         =  بديلنا الحضاري

المستقبلي

مشاهد المستقبل       مشاهدنا الخاصة

ولا شك في أنّ معرفة العصر الذي نعيش فيه أو سنعيش فيه هو مدخل تطبيق معادلة دور الزمان والمكان في العملية الاجتهادية. كما أنّ للتخطيط وتوفير الشروط علاقة مباشرة ولصيقة بالفكر والنظرية والمنهج، فنحن لا نتحدث عن تخطيط فني أو تقني فقط، بل تخطيط شامل ينتج عنه البديل الحضاري المستقبلي المطلوب، والذي يستند إلى قواعد الفكر والمنهج. وهنا تكمن مساحة المراجعة التي ننشدها. فنحن لا نهدف إلى أن تقوم الشريعة بملاحقة تطورات الزمن، ولا نريد للفقه أن (يتعصرن)، ولا للشريعة وعلومها أن يلاحقا الزمن، بل أن يسبقاه، كما نريد للعصر أن يتفقه، أي أن يجد أمامه فقهاً قائماً سبقه يجيب عن كل تساؤلاته ويستجيب لكل تحدياته. حينها، لن يجد الزمن والعصر أمامهما سوى الانحناء أمام الشريعة والفقه والخضوع لهما.

هذا الهدف ليس ضرباً من الخيال أو الترف العلمي، بل هو الحقيقة القائمة الآن بكل تفاصيلها، فقضايا المستقبل حاضرة أمامنا.. نشاهدها ونلمسها، رغم أنها لم تتحول إلى واقع فعلي؛ لأننا نعيش في المستقبل، أقصد أنّ العالم المتقدم علمياً ومنهجياً يعيش في المستقبل الآن، وليتنا كنّا أيضاً نعيش الزمن نفسه، ولكن متلفّعين بأصالتنا، ومتسلحين بشريعة الله الخالدة التي لا يحدها زمان أو مكان. وبالتالي، فالمراجعة تهدف إلى التحول في النظرية وإلى الإصلاح في الفكرة من خلال الأدوات والآليات التي تقرها الشريعة؛ للدفع نحو المستقبل والإمساك بعملية التغيير الاجتماعي والبناء الحضاري، وانتهاءً بتحقيق مقولة: (الإسلام يقود المستقبل).

إنّ مقدمة تطبيق هذه المقولة هي أن تكون الشريعة والفقه مؤثرين وليسا متأثرين، مع الإقرار بأهمية التأثر الإيجابي وواقعيته وعدم إمكانية الفرار منه، وأن يصنع الإسلام التغيير لا أن يلاحقه، فملاحقة التغيير وتطورات الزمن تعني أنّه سيبحث عن إجابات لأسئلتها وسيضطر لمواجهة ضغوطها، أمّا إذا صنع الإسلام التغيير والتطور والمستقبل وصاغ الزمان والمكان وفقاً لرؤيته، فإنّ كل الإشكالات الفكرية وكل التساؤلات الفقهية والعقيدية ستكون واضحة أمامه إن لم تكن جاهزة.

ثُمَّ، إنّ تناول الشريعة وعلومها ومجمل الفكر الإسلامي لقضايا المستقبل، ليس عبوراً على الزمن ولا تجاوزاً للحاضر، ولا نقصد بذلك مجرد صوغ فرضيات وهمية أو موضوعات غير واقعية، بل نقصد به استعداد الفكر الإسلامي للمستقبل، بعد أن فرضت ظواهر الحاضر وتطوراته السريعة والتخطيط الذي تستند إليه أن تعيش البشرية في المستقبل.

وكمثال ـ في سياق ما تقدّم ـ فإنَّ تناول الفقه لما ستفرزه مخططات وبحوث علماء الهندسة الوراثية (الجنتيك) والبايولوجيا والفضاء والمعلوماتية (الانفورماتيك) والاتصالات والتنمية والسكان والطب وغيرها، من أسئلة وإشكالات كبيرة، يعني أنّه مندك في الواقع؛ إذ إنّ البشرية ستقطف ثمار هذه المخططات والبحوث بعد 30 أو 20 عاماً، لا سيما وأنّ بعض هؤلاء العلماء قد فتحوا باب البحث والتجربة على مصراعيه، دون محددات أخلاقية أو حتى إنسانية، وبذلك تجاوزوا السماء وتعاليمها، بل تجاوزوا حتى التعاليم الإنسانية التي تعارف عليها سكان الأرض. وباعتبار أنّ هذه المشاهد المستقبلية من جملة المشاهد التي لا يستطيع المسلمون صنعها أو المساهمة في صنعها، بالنظر لعدم مواكبتهم التطور الذي تعيشه هذه العلوم، فمن المفروض ـ إذاً ـ أن يجد الفقه حلولاً وتكييفات لإشكالياتها.

وينسحب هذا الواقع على الجانب الفكري أيضاً، فمثلاً تطورات المستقبل (المنظور) سينتج عنها واقع فكري جديد، سواء على مستوى النظام السياسي للدولة ونظمها التقليدية في الاجتماع السياسي والاقتصاد والإعلام والثقافة والتعليم أو على مستوى العلاقات الدولية وغيرها، وما سيترتب على ذلك من نهاية للسياسة ـ كما يقول بعض المفكرين ـ ونهاية للايديولوجيا، ونهايات أُخر ـ كما يقول مفكرون آخرون.

ولعلّ التغيير العملي سيسبق الفكر والنظرية والايديولوجيا بمراحل طويلة، وستكون النظرية إفرازاً للتطبيق، والفكر إفرازاً للواقع العملي، وليس العكس، مما يعني أنّ العلوم الإنسانية والاجتماعية والأفكار والفلسفات والمناهج النظرية سيقتصر دورها على المتابعة والتحليل، وستفقد قدرتها على التنظير (والأدلجة) وصناعة الواقع والتغيير. بيد أنّ الفكر الإسلامي وعلوم الشريعة يمكنها تجاوز هذه الأزمة والقفز على تحدياتها، من خلال المراجعة المستمرة للفكر والاطلاع الدقيق على الواقع، بل يمكن للتحول النظري فيهما أن يكون أساساً للتغيير (العملي)؛ بالنظر للبُعد الإلهي الذي يدخل في تكوين بنية الفكر الإسلامي وعلوم الشريعة.

يفرض هذا التحول أن يعيش علماء الشريعة والمفكرون المسلمون قضايا العصر بكل تفاصيلها، ويفهموها فهماً شمولياً، ويستعدّوا لتطوراتها ومعطياتها المستقبلية؛ لكي يجتنبوا ما سيتسبّب فيه المستقبل لهم من صدمات وذهول، ومن ثم تراجع قياسي وضياع وهزيمة شاملة للأُمّة.

وأُؤكد على أنها ستكون هزيمة شاملة؛ لأنّ التشابك المستقبلي في القضايا والظواهر والأشياء سيأخذ مسارين أُفقي وعمودي، وسيرمي التشابك الأُفقي بظلاله على الجغرافيا السياسية والسكانية والثقافات والمجتمعات والأفكار والأديان والمذهب، أمّا التشابك العمودي فسيشتمل على الموضوعات والمشاكل والتحديات. ومن هنا؛ فأيّ تراجع في أيّ مجال سيترتب عليه تراجع وهزيمة في المجالات الأُخر.

إنّ جملة الأدوات والآليات التي تنظم عملية المراجعة ومراحلها وتحدد مساراتها، هي التي تتدخل في تشكيل بنية المنهجية التي تتخذها عملية المراجعة، وهي منهجية تجمع بين كونها فنية وتقنية من جهة وفكرية ونظرية من جهة أُخرى، أي أنها منهجية مستنبطة من ثوابت الشريعة أو مقبولة لديها، وليست مستعارة من علوم ونظريات وضعية أُخر. وبالتالي، يمكن لأصالة المنطق والهدف والوسيلة أن تضمن أصالة النتاج. وتحتوي هذه المنهجية على جملة من المسارات المتكاملة، يتلخص أولها في: (الإحياء) و(الإصلاح) و(التجديد)، ويتمثل بتمحيص الفكر الإسلامي، التراثي والمعاصر، وتنقيته، واستخراج المادة التي تدخل في البناء الفكري الجديد.

ويقوم المسار الثاني بملء المساحات التي تركتها الشريعة الإسلامية لأصحاب الاختصاصات، وهي مساحات فراغ تشريعي وفكري أو تفويض تشريعي وفكري، وترتبط بالموضوعات المستجدة والمتحوّلة، أو التي ستستجد وتتحول، وهو مسار مفتوح لعمليات (التنظير) و(التأسيس)، و(الاستنباط)، وأداته الرئيسة: (الاجتهاد).

ويتجه المسار الثالث نحو (التأصيل)، و(الأسلمة) من خلال استطلاع الأفكار والنظريات والموضوعات الجديدة التي أفرزتها بيئات فكرية أُخر، والتي يمكن أن تشكل إضافات ضرورية للفكر الإسلامي، بعد عرضها على مبادئ الشريعة وأحكامها ومقاصدها، وتحييدها ثم تأصيلها وأسلمتها، بالصورة التي تجعل منها رؤية جديدة مختلفة تنسجم مع التصور الإسلامي.

وهناك مسار آخر ينزع نحو التطبيق والشكل العملي، ويختص باكتشاف الأساليب التي من شأنها إخضاع الواقع للنظرية أو إخضاع الزمن للشريعة.

ووفقاً لهذه المنهجية، فإنّ عمليات الإحياء والإصلاح والتجديد والتأسيس والتنظير والتأصيل والأسلمة، لها مصاديقها ومجالات إطلاقها وتطبيقها، كما أنّ لكل منها مساحاتها الفكرية والواقعية الخاصة، ولا يمكن تعميمها جميعاً على كل مساحات الفكر والواقع؛ لأنّ حقائقها نسبية، ولكن يبقى أنّ جميع النتاجات التي تفرزها هذه العمليات، والتي تشكّل بنية الفكر الإسلامي وفقاً لاستدعاءات المستقبل، لا بدّ من صياغتها صياغة موحّدة؛ ليكون الفكر المنتَج عبارة عن منظومة فكرية واحدة مترابطة في مضامينها، ومتناسقة في شكلها.

والحقيقة، أنّ التجديد وكذلك الإصلاح الفكري سنة إلهية تحدثت عنها النصوص الإسلامية بوضوح تام، وفتحت لها الشريعة أبوابها؛ ليبقى البناء الخالد بمرونته واستحكامه، فهو بحيث تتحطم على ثباته كل التحديات المعرفية والفكرية والحضارية التي تهدد كيان الإسلام؛ ولتصوغ (الشريعة) بناءها الحضاري الذي يناسب كل زمان ومكان.

ولعل أحاديث شريفة مثل: <إنّ العلماء ورثة الأنبياء>([1]). و <إنّ الله يبعث لهذه الاُمّة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها>([2]). و <إنّما علينا أن نلقي إليكم الاُصول، وعليكم أن تفرّعوا>([3])، هي أدلة واضحة على دعوة الإسلام لتجديد معارفه وفكره (في مساحة المتغيرات بالطبع)، وتجديد وعي الأُمّة وخطابها، واستمرار حركة الاجتهاد والاستنباط، والانفتاح على الحياة ومراقبة الواقع وتطوراته. كما أنّها تدل على وجود مرجعية ثابتة للإصلاح والتجديد والتنظير والأسلمة، وتتمثل في الأُصول المقدسة: القرآن الكريم والسنة الشريفة (الصحيحة)، وهي مرجعية لا يمكن تجديدها أو الاجتهاد في مقابلها. وهناك مرجعيات أُخر لا تمثل سلطة ثابتة، بل هي مرجعية متحرّكة للتكامل، كالتراث الكلامي والفكري والفقهي، وما يضمه من نظريات وآراء وقواعد ومناهج، إضافة إلى أدوات فهم الأُصول المقدسة، كالعقل والإجماع وغيرها.

من التراث إلى المستقبل

التراث الإسلامي العلمي هو مساحة المراجعة الأساسية، ولا نقصد به التراث الكلامي والفكري والفقهي والأُصولي الذي خلّفه علماء الكلام والفقهاء والمحدّثون والرجاليون والمؤرخون والمفسرون والحكماء والمفكرون من السلف الصالح وحسب، بل يشتمل التراث أيضاً على ما وضعه المعاصرون؛ إذ إنّ مسار المعرفة الإسلامية مسار واحد ممتد، وهو حصيلة جهود متواصلة وتراكم معرفي غير منقطع، وفهم تكاملي يعبر عن مسيرة الوعي والاجتهاد والعقل الإسلامي عبر مراحل التاريخ المختلفة، وهذا التلازم هو الوجه الآخر لقانون (الوراثة الحضارية). ولا نقصد بالتراث ثوابت الشريعة فقهاً وعقيدة، فهي ـ كما ذكرنا ـ لا تنتمي إلى تراث المسلمين ولا تشكل مساحات للمراجعة؛ لأنّها ليست إفرازاً لزمن أو عصر أو بيئة، ولا تتأثر بقواعد التاريخ والجغرافيا.

وتعاملنا مع التراث وأنماطه ومعارفه لا بدّ أن يتضمن أدق ألوان الاعتدال والتوازن: إذ إنّ الإفراط والتفريط والانفعال والنظرة المبتورة ستؤدي إلى نتائج قاصرة تماماً عن تحقيق الهدف المطلوب من المراجعة. ففي الوقت الذي لا يعدّ فيه التراث سلطة معرفية ثابتة وقاهرة، فإنّه ـ لا شك ـ يشكل جزءاً من هوية الأُمّة وتكوينها العقيدي والثقافي والاجتماعي والنفسي.

ومن هنا، فالتراث هو قوام حضارتنا في الماضي وإطار هويتنا في الحاضر ومنطلق دخولنا عالم الغد. ولكن يبقى أنّ هذا التراث يعبّر عن فهم عصر آخر وزمن مختلف، وكان تعبيراً عن التجديد والإبداع في البيئة التي أنتجته، ولا ينبغي أن تبقى نظمه المعرفية والعقلية وأدواته ومناهجه، التي صاغتها عقول المبدعين والمجددين في أزمنتهم، عائقاً أمام المراجعة والإصلاح والتطور الفكري، والتنمية الشاملة، والتغيير والنهوض الإسلامي الذي يكفل التأسيس للبديل الحضاري الإسلامي المستقبلي.

والظواهر الفكرية والحركية المتنوعة التي تشهدها الساحة الإسلامية، منذ بدايات القرن الميلادي الماضي وحتى الآن، هي ـ في معظمها ـ إفراز لأنماط التعامل مع التراث، والذي كشف عن ثلاثة تيارات رئيسة، بغض النظر عن أسمائها ومسمياتها وطبيعة انتماءاتها وزمن انبثاقها، الأول والثاني تعاملا تعاملاً انفعالياً، غير متوازن ولا واقعي مع التراث ومعارفه وعلومه، إذ جمد الأول على فهم السلف وأدواته ونتاجاته، ولم يع حقائق العصر ومتطلباته وضرورات استمرار الاجتهاد والاكتشاف والتأسيس، فيما أدار الثاني ظهره للتراث ومعارفه وتمسك بالعصر ومشاكله وأفكاره. وهذا التعامل غير المتوازن مع التراث والعصر تسبب في ألوان من القلق والانحراف والانفلات العقيدي والفكري والسلوكي.

ويبقى أنّ رهان المستقبل هو على التيار الثالث الذي عاش توازناً منهجياً وواقعياً في تعامله مع قضايا التراث والعصر؛ فأنتج نمطاً متوازناً أيضاً من الفكر والرؤى والخطاب والسلوك، حفظ له أصالته الإسلامية ومكنه من معالجة كثير من تحديات العصر، من خلال خطاب عصري في لغته وشكله، وأصيل في بنيته ومضامينه. وهذا الاختلاف في فهم الأُصول المقدسة وقواعد التعامل معها، وفي نوعية النظرة إلى الإنتاج العلمي والفكري للمسلمين، وإلى قضايا العصر ومتطلباته، هو المؤشر الأبرز على الجانب البشري في التراث. والذي يسمح لأهل الاختصاص بالمراجعة والتنقية والتجديد والتأسيس وإعادة البناء.

علم الكلام ومواجهة تحديات المستقبل

علم الكلام هو من أبرز مفردات الفكر الإسلامي التي تواجه تحدي الحاضر والمستقبل: لأنّه يمثل الجبهة الأمامية المعنية بمواجهة الضغوط والتحديات الفكرية والعقيدية التي يتعرض لها الدين وأُصوله ومقولاته وشريعته. ومع تراكم هذه الضغوط والتحديات وظهور ألوان معقدة منها تبعاً للتطور الهائل الذي شهدته أو ستشهده الحياة، فإنّ مهمات علم الكلام ووظائفه تتضاعف أيضاً، بهدف مواكبة هذا التطور ومحاولة استباقه، وبالتالي العمل على ردم الفجوة بين العقيدة والشريعة من جهة، وبينهما وبين الواقع من جهة أُخرى. ويستدعي ذلك مراجعة لمقولات علم الكلام ووظائفه ومناهجه ولغته، وهو ما طرحه على طاولة البحث العلمي في العقد الأخير ـ وبشكل مكثف ـ عدد من علماء الدين والمفكرين والباحثين. ولكي نتجاوز المقولات التي تطرفت في دعوتها لعلم جديد في موضوعاته ومنهجه وتوجهاته وأهدافه، وكذلك ردود الأفعال غير الموضوعية التي قررت الجمود على التراث الكلامي بموضوعاته ولغته ومبانيه، فإننا نتجه بحديثنا نحو الواقع وما يتطلبه؛ لتأخذ الدعوة لتجديد التراث الكلامي مسارها الموضوعي.

إنّ التحديات الجديدة التي تواجه الدين ومعارفه وفكره، من خلال الشبهات والتساؤلات المعقدة التي تفرزها الدراسات ذات العلاقة بالدين والفكر الديني، وكذلك الأفكار والنظريات والعلوم والفلسفات الحديثة التي تجاوزت المجالات العقيدية إلى القيم والأخلاق والسياسة والاقتصاد والثقافة، تجعل مهمة الكلام التقليدي ومقولاته ومناهجه في غاية الصعوبة؛ بالنظر إلى أنّها وصلتنا وهي مفصّلة على مقاس بيئات مختلفة، كان لها موضوعاتها وشبهاتها وأساليبها في الاستدلال، بل لا يمكن لواقعنا الإسلامي أن لا يكون معنياً بالتحولات الكبرى التي يعيشها الغرب منذ ثلاثة قرون وحتى الآن.. وصولاً إلى تحولات الغد، على صعيد الفكر الديني والنظرة إلى الدين ومناهج تحليله وتفسيره، وليس آخرها فلسفة الدين والهرمنوطيقيا؛ لأن مساحات واسعة من هذا الواقع باتت تتعاطى هذه الأفكار وتحاول تطبيقها على الإسلام وعقيدته وأُصوله ونصوصه أيضاً، فضلاً عن أساليب قراءته وفهمه؛ الأمر الذي يضاعف من التحديات التي تواجه الدين، بعد أن أصبحت تنبثق من داخل الواقع الديني. وهذا كله يدفع علم الكلام إلى الانفتاح المنهجي والعميق على كل قضايا العصر والمستقبل، وصولاً إلى تشكيل منظومة كلامية جديدة؛ متماسكة وشاملة في موضوعاتها، ومركزة وعميقة في استدلالاتها، ورصينة ومقنعة وجذابة في خطابها ولغتها.

والحقيقة، أنّ تجديد علم الكلام لا يقتصر على الموضوعات والمسائل الكلامية المستحدثة، بل يشتمل على بعض أركانه الأُخر أيضاً، فالمسائل والموضوعات الجديدة التي أفرزت أساليب أو مناهج جديدة في العرض والاستدلال، تستدعي أيضاً مناهج وأساليب أُخر غير تقليدية، وهو تنويع منهجي تتطلبه طبيعة كل مسألة وموضوع. كما أنّ التطور الذي تشهده اللغة، والتحول المعرفي والثقافي الذي نتج عنه هذا التطور، بسبب تدخل العلوم والأفكار الجديدة في صياغة اللغة المعاصرة، وظهور وعي جديد وفهم مختلف، أدى إلى حدوث فاصلة بين لغة الكلام التقليدي واللغة المعاصرة، الأمر الذي يحتم انفتاح علم الكلام على لغة العصر والمعارف والثقافات التي أنتجها، بهدف إيجاد لغة مشتركة مع أصحاب الوعي الجديد. كما يمكن لتجديد علم الكلام أن يتسع ليشمل الأهداف أيضاً، ولكنه لا يتمدد على حساب الهوية المعرفية له، إذ إنّ غاية علم الكلام تشتمل على عرض العقيدة الدينية وأُصولها من خلال الاستدلال عليها وتحليلها وتفسيرها، ودحض الشبهات والإشكالات التي تواجهها، وتقديم هذه العقيدة للناس بالصورة التي تجتذبهم إليها عن قناعة، وتكوين تصور كوني ومعرفة بعالم الوجود من خلال تعاليم الوحي. ويمكن إضافة مهام وأهداف أُخر تنسجم مع نوعية أهداف التحديات الجديدة أو التي ستستجد.

وبناءً على ذلك، فالتجديد لا ينزع إلى تشكيل علم جديد، بل ينزع إلى التكامل مع الموروث، أي أنّه إضافة وتطوير. وتبقى التسميات ـ أيّاً كانت ـ غير ذات أهمية، فالمهم هو تحقيق الكلام ـ الذي يطمح إليه المسلمون ـ لغاياته، برغم أنّ التسميات بذاتها قد تحمل فهماً مختلفاً ودلالات أُخر.

إذن، (العقيدة الدينية) هي موضوع علم الكلام، والاجتهاد في مناهجها ومساحاتها هو أداة التجديد في علم الكلام. وبالتالي فعلم الكلام الجديد هو علم ديني، ومنهجه منهج نقلي عقلي ذو محددات دينية وغايات دينية. أمّا فلسفة الدين فهي منهجية عقلية محضة لا علاقة لها بإنتاج مقولات دينية، وهي ليست علماً؛ بل فلسفة موضوعها ما وراء العقيدة وليس العقيدة نفسها، وتهدف إلى اكتشاف مناشئ الدين، ونزوع الإنسان نحو التدين، وممارسة التدين، وغايات الدين ومقاصده ومساحة حركته، وعلاقته بتطور الخبرة الإنسانية والعلوم البشرية، وأساليب فهم النص الديني، وتأثير الرؤية الكونية والقبليات العقيدية والفلسفية والفكرية والثقافية على هذا الفهم. أي أنّ أهدافها معرفية محضة.

ولا شك أنّ مقولات علم الكلام الجديد تأثرت بمقولات فلسفة الدين، ولكنه ليس تأثراً بمعنى التشبه بهذه المقولات أو التماهي معها؛ بل بمعنى أن فلسفة الدين أنتجت أسئلة وجد علم الكلام نفسه مجبراً للإجابة عنها؛ بل وجد نفسه عاجزاً عن الإجابة عنها بمقولاته ومناهجه التقليدية؛ الأمر الذي اضطره لتجديد نفسه تبعاً لذلك.

للمزيد في هذا المجال؛ أرجو مراجعة كتابنا «تجديد الشريعة: قابلية معارف الشريعة الإسلامية على التحول»، وتحديداً الفصل الأول منه (علوم الشريعة ومتطلبات المستقبل).

فقه المستقبل

ما يرد على علم الكلام يرد على علم الفقه أيضاً، من ناحية آفاقه ومنهجه في رؤية الواقع، وما ينطوي عليه هذا الواقع ـ الجديد أو الذي سيستجد ـ من موضوعات هائلة في حجمها وسرعة حركتها وتزايدها؛ الأمر الذي يستدعي إعادة الاكتشاف في الشريعة وأبعادها، بعيداً عن بعض زوايا النظر التي تحول دون استيعاب الفقه لكل قضايا الحياة وتعقيداتها؛ باعتباره قانون الحياة الذي ينظم علاقة الإنسان بنفسه وربه وبالطبيعة وبالإنسان الآخر. ومن هنا فإنّ هذا القانون يتسع لكل قضايا الفرد والمجتمع، وعلى صعد الحياة كافة، السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والأمنية والدفاعية والعلمية والتكنولوجية وغيرها. ولا شك أنّ ما يضمّه الإنتاج الفقهي (المورث والمعاصر) في هذه المجالات لا يمكن أن يعتد به قياساً بالأبواب التقليدية. فضلاً عن أنّ هذه المجالات لم يتم تأصيلها فقهياً بالشكل الذي تتحول فيه إلى نُظُم فقهية متكاملة ومستقلة، ربما باستثناء الفقه السياسي، والذي لا يزال ـ هو الآخر ـ بحاجة إلى المزيد من الجهد الفقهي الذي يستوعب النظم الأُخر للدولة الإسلامية، فضلاً عن حل الإشكاليات التي ظلت عالقة في مجال النظام السياسي، وازدادت تعقيداً بفعل ما يطرأ على الواقع الإسلامي والعالمي من موضوعات جديدة يصعب اللحاق بها.

وفهم الموضوعات المتحولة والمتغيرة التي كانت أحكاماً سابقة، وفهم خلفيات هذا التحول، وفهم موضوعات الحوادث الجديدة الواقعة أو التي ستقع، أي الواقعة بالفعل أو بالقوة، وفي مختلف المجالات، ومن ثم إصدار الأحكام الشرعية المناسبة لها، بصورة إجابات متناثرة أو منظومات فقهية، مع الأخذ بنظر الاعتبار مقاصد الشريعة وما يتطلبه ذلك من وعي فقهي شمولي واجتماعي بالواقع، يستدعي إضافات نوعية لآليات الوصول إلى الحكم الشرعي، وأبرزها آلية الاجتهاد، بهدف تحقيق مقولة (الاجتهاد الجديد)، ليس بمعنى استعارة مناهج جديدة غريبة عن بنية الفقه، وإنّما بمعنى تطوير هذه الآلية فنياً ومنهجياً بما يتلاءم وحركة الحياة المتجددة.

ويمكن في هذا المجال استعراض أهم الأفكار التي يرددها بعض الفقهاء والمفكرين، باعتبارها عينات مطروحة على طاولة البحث والحوار بين أصحاب الاختصاص:

1 ـ تفعيل دور الزمان والمكان في تغيير موضوعات الأحكام، وفهم هذه الموضوعات وفهم الفقيه للدليل، ووعي مقصد الشريعة حيال الموضوعات الجديدة. ويتدخل هذا الدور في وعي الفقيه، من خلال الانفتاح على علوم العصر وثقافاته وحقائقه ومتغيراته؛ ليكون فهمه لموضوعات الأحكام فهماً واقعياً وميدانياً وحسّياً، ووعيه أكثر التصاقاً بالحقيقة الدينية وبمقصد الشريعة.

ولعل الإمام الخميني في مقولته: «المعرفة الدقيقة في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تحوّل الموضوع الأول ـ الذي لم يتغيّر في الظاهر ـ إلى موضوع يستلزم حكماً جديداً بالضرورة»، يعبّر بوضوح عن هذا الاتجاه. كما أنّه ـ في مقولة أُخرى ـ يستشرف ضغط عاملي الزمان والمكان في بروز الحاجات الجديدة، ويؤكد على ضرورة استعداد الفقه للتعاطي المباشر مع هذا العامل: «سيتغيّر الكثير من الطرق السائدة في إدارة أُمور الناس في السنوات القادمة، وستحتاج المجتمعات الإنسانية إلى المسائل الإسلامية الجديدة لحل مشاكلها، ويجب على علماء الإسلام التفكير بهذا الموضوع من الآن».

وبذلك، فإنّ عدم معالجة الفقهاء لدور عاملي الزمان والمكان في إعادة تشكيل وعي المجتمعات الإسلامية وحاجاتها سيؤدي إلى تطفّل غير المتخصصين، بدعوى ملء هذا الفراغ، ليس بإصدار الفتاوى والأحكام وإنّما للمطالبة بآليات ومناهج جديدة للتفقه و(لقراءة الشريعة)! ومحاولة العبور على ثوابت الشريعة. ولعل من أخطر هذه المناهج منهج (القراءة التاريخية للنص الديني)، أو (تاريخانية الدين)، والذي يدعو إلى حصر دلالة النص في زمنه.

2 ـ الانفتاح الفقهي بين المذاهب الإسلامية، والوقوف على إمكانية الاستفادة من بعض آليات الاجتهاد وقواعده وأدلته لديها، بهدف تكييف المعضلات التي يجد الفقيه نفسه مُحرجاً أمامها، ولا سيما المعضلات المستحدثة. ويستدعي هذا عودة أُخرى للأُصول المقدسة، ومحاولة إعادة اكتشاف الأدوات والقواعد والأمارات الفقهية والأُصولية، فضلاً عن التأصيل المذهبي لبعض الأدوات التي تستخدمها المذاهب الأُخر.

3 ـ الاجتهاد الجماعي أو ما يسميه بعض الفقهاء بالاجتهاد المجمعي، وهو الاجتهاد الذي يمارسه مجموعة من الفقهاء بصوت عالٍ وهم مجتمعون حول طاولة واحدة، سواء بهدف الخروج بحكم شرعي أو التأسيس لمنظومة فقهية في أحد المجالات. وهذا اللون من الاجتهاد ضروري جداً في الموضوعات التي تستدعي إحاطة واسعة ومعمقة بها وبالأدلة الشرعية وقواعدها، ولا تكتفي بالحكم، بل بالمعالجة الموسعة التي قد ينتج عنها باب فقهي جديد، وهي موضوعات تتوالد بشكل يومي. وتتمثل آليته في البحوث التي يطرحها الفقهاء، والتي يكمل بعضها الآخر موضوعياً ومنهجياً، ثم مناقشتها مناقشة وافية من خلال الحوار المباشر، ثم تدوين المحصلة أو النتائج التي يخرجون بها، سواء اتفقوا على نتائج موحّدة أو متقاربة، أو نتائج مختلفة تمثل عدداً من الاحتمالات (الاجتهادات). وقد يستدعي الحوار الفقهي الجماعي هذا حضور متخصصين بالموضوع من غير الفقهاء (أطباء ـ مثلاً ـ أو علماء فيزياء أو كيمياء… إلخ) أو مفكرين ومثقفين محيطين بأبعاد الموضوع وخلفياته وآفاقه فكرياً وثقافياً.

وفي الاتجاه نفسه تبرز ضرورة التخصص الفقهي الموضوعي، فتشعب العلوم وتراكم الموضوعات يتطلب فقهاء متخصصين في مجال أو باب محدّدين، مع استيعاب عام ـ بالطبع ـ للمسائل الفقهية الأُخر. هذا التخصص سيخلق عمقاً في فهم الموضوع والدليل والمنهج ومقصد الشريعة، ووعياً كافياً بالواقع ومقتضياته. وإذا وضعنا آلية الاجتهاد الجماعي أو البحث الفقهي المجمعي وأُسلوب الاستعانة بالمتخصصين إلى جانب آلية التخصص الفقهي الموضوعي فستكون النتائج منسجمة مع نوعية الموضوعات الجديدة وحجمها.

4 ـ اكتشاف مساحات الفراغ التشريعي أو التفويض التشريعي القائمة أو التي ستطرأ، في إطار ما يقدمه الإمام محمد باقر الصدر من تفسير متكامل لاستراتيجيا الشريعة في استيعاب تطورات العصر، إذ يقول: «الإسلام لا يقدم مبادئه التشريعية… بوصفها علاجاً مؤقتاً، وإنّما يقدمها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور. فكان لا بدّ لإعطاء الصورة هنا العموم والاستيعاب أن ينعكس تصور العصور فيها، ضمن عنصر متحرك يمد الصورة بالقدرة على التكيّف وفقاً لظروف مختلفة. ولا تدل منطقة الفراغ على نقص في الصورة التشريعية، بل تعبّر عن استيعاب الصورة، وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة».

ولا يعني ذلك قدرة الشريعة على تكييف تلك المساحات بالصورة التي تستوعب التطور في الواقع وحسب، بل تعني أيضاً إعطاء الإنسان، في أي زمن أو مكان عاش، الفرصة لتكييف واقعه الجديد وفقاً للعناصر المتحركة في الشريعة، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه (التفويض التشريعي).

ولا شك أنّ كلا التكييفين لا يخرجان عن إطار آلية الاجتهاد الشرعي، وفي حدود الموضوعات الجديدة التي ليس فيها نص أو قاعدة فقهية أو أُصولية، وكذلك الموضوعات المتغيّرة التي تستدعي حكماً جديداً، أو الموضوعات التي تتسبب الظروف الطارئة في إصدار أحكام ثانوية لها. وهي لا شك مساحات تتسع باطراد، ويتطلب اكتشافها وملؤها جهوداً فقهية استثنائية.

والحقيقة أنّ سماح الشريعة بوجود هذه المساحات يعدّ أهم عنصر من عناصر المرونة في الشريعة، بل الدليل العقلي الأبرز على خلودها. وتمتد المرونة في الشريعة إلى المساحات التي فيها نص أيضاً، ولكن في إطار القواعد الفقهية التي تنظر إلى (العناوين الثانوية)، وهي عناوين طارئة تؤثر على الأحكام الأولية، أو في إطار المصلحة (الشرعية) التي تستوجب أحكاماً ولائية تتجاوز ـ في الحالات الضرورية والطارئة ـ الأحكام الأولية أيضاً. والمهم أنّ عناصر المرونة هذه، إذا ما أحسن استثمارها، هي الرهان الأساس الذي يحفز الفقه على الاستجابة لكل التطورات الزمكانية ولكل المؤشرات على ظهور واقع جديد.

5 ـ الفكر الفقهي الاجتماعي يمنح الرؤية الفقهية بُعداً شمولياً يستوعب الواقع الاجتماعي والفردي المتشابك، وينفتح على المدلول الاجتماعي للنص والدليل الشرعي، بينما تحجز الرؤية التجزيئية نفسها في زاوية النظرة اللفظية للنص والفهم ذي البعد الواحد للدليل الشرعي، وتؤكد على معالجة واقع الفرد، وتنظر إلى حاجاته وكأنها منفصلة عن مجمل حركة المجتمع الإسلامي، أي أنّها لا تنظر إلى الأبعاد الأُخر للموضوع وتأثيراته، وشبكة العلاقات التي تربطه بالموضوعات الأُخر، وهو ما اعتاد فقه الأفراد على ممارسته في عملية الاجتهاد.

ولا شك أنّ مشكلة الفرد لا يمكن معالجتها بمعزل عن حل المشكلة الاجتماعية برمّتها، الأمر الذي يستدعي طرح المشكلة الاجتماعية بكل أبعادها على طاولة البحث الفقهي؛ للخروج بمنظومة فقهية اجتماعية تستوعب حاجات الفرد أيضاً، إذ إنّ معظم الأحكام الفردية ـ ومن بينها العبادات بالمعنى الأخص ـ لا يمكن تجريدها من بعدها الاجتماعي. واستخدام هذه الرؤية الاجتماعية الشمولية يتطلب وعياً تكاملياً لدى الفقهاء يشد كل مجالات الحياة ببعضها كالسياسة والاقتصاد والثقافة وغيرها، وهو ما يعبّر عنه الإمام الصدر بالفهم الاجتماعي للدليل الشرعي.

وتضاف إليه ضرورة أُخرى تتمثل بتجسير العلاقة بين علم الكلام وعلم الفقه، أو العلاقة بين الشريعة والرؤية الكونية الإسلامية بأبعادها الفلسفية والكلامية والايديولوجية، أو بين أُصول العقيدة والأحكام الفقهية، وبالتالي توحيد الرؤية العقيدية والرؤية الفقهية، وهو ما يؤكد عليه ـ بشكل وآخر ـ فقه المقاصد ومنهج فلسفة الفقه. فالفكر الفقهي الاجتماعي ـ إذاً ـ يتحرّك أُفقياً من خلال شد عناصر الحياة ببعضها، ويتحرك عمودياً من خلال توحيد الرؤية الكونية الإسلامية والرؤية الفقهية.

6 ـ يمكن لفقه المقاصد أو مقاصد الشريعة، إذا تم تطويره من الطابع الخطابي وتحويله إلى حقل علمي متكامل ثم توظيفه في القضايا الفقهية، أن يقدم فهماً أشمل للشريعة، ويتجاوز النظرة التجزيئية والفهم الحرفي لها، من خلال تعمقه في معرفة مراد الشارع وقصد الشارع من الحكم أو الدليل، إضافة إلى شد الأحكام ببعضها لاستقراء كليات الشريعة ومقاصدها العامة، في إطار منهج يمزج بين العقل والنقل. ومن ثم يتم عرض كل دليل أو حكم على هذه المقاصد للوقوف على حقيقة تطابقها مع حكمة الشارع ومراده.

وهناك مقاصد عامة لكل الشريعة ومقاصد خاصة لكل باب فقهي ومقاصد جزئية لكل حكم، والمقاصد الخاصة والجزئية تلتقي مع بعضها في إطار المقاصد العامة لكل الشريعة. وقد لاحظ الشاطبي، وهو الذي بلور الخطوط العامة لهذا الحقل من خلال استقرائه للشريعة، أنّها وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس: الدين، النفس، النسل، المال والعقل، وأنّ كل الأحكام الفقهية لا بدّ أن تراعي هذه الضروريات، وهو ما قرره الفاضل المقداد السيوري أيضاً (وهو معاصر للشاطبي). وذلك يعني وحدة الموقف بين العقيدة والفقه، وتوقف الحكم الفقهي على استيعاب أُصول العقيدة وفلسفتها، وبكلمة أُخرى: إرجاع الفروع إلى الأُصول، وفهم الأدلة الجزئية وغاياتها على أساس الكليات التشريعية.

ولا شك أنّ مقاصد الشريعة لا تقتصر على الضروريات التي استنبطتها تجربة الشاطبي أو تجربة المقداد، بل تتسع لضروريات أُخر، كما قرر ذلك الفقهاء والأُصوليون الذين جاؤوا بعدهما، ولا سيما المعاصرين منهم، وأبرزهم الطاهر بن عاشور، الذي ذكر بأنّ المقاصد العامة للشريعة تتمثل في: حفظ النظام، جلب المصالح، درء المفاسد، إقامة المساواة بين الناس، جعل الشريعة مهابة مطاعة نافذة، جعل الأُمّة قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال وغيرها. أمّا المقاصد الخاصة للشريعة فتتمثل في: تحقيق مقاصد الناس النافعة وحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة.

وتطرح اليوم مناهج أُخر مكمّلة لفقه المقاصد أو تهدف إلى تطوير فقهي مواكب للتطور الهائل الذي يشهده الواقع، مثل فقه الأولويات وفلسفة الفقه، ففقه الأولويات يعنى بفهم الواقع وتكييفه مع مراد الشارع، أي أنّه يجمع بين مقاصد الشريعة وأولويات الواقع عبر فهم وظيفة التديّن وفلسفته، والتفريق بين الدين والتدين.

ومنهج فقه الأولويات منهج مركب، أي أنّه يجمع بين استثمار بعض القواعد والأمارات الفقهية والأُصولية ذات العلاقة (التعارض، التزاحم، التيسير، الضرورات، المصلحة وغيرها) واستثمار العقل ومستقلاته والعرف والخبرة والتجربة العلمية الإنسانية.

وتنقسم الأولويات إلى أولويات الفرد وأولويات المجتمع وأولويات الأُمّة وأولويات الدولة وأولويات البشرية، وهي أولويات واقعية يحددها منهج فقه الأولويات عبر عرضها على فقه المقاصد ليتعرف على رأي الشريعة، وعندها تتم الإجابة في وقت واحد عن سؤال: ماذا يريد الواقع وماذا تريد الشريعة؟

أمّا فلسفة الفقه فهي أحدث فكرة تطرح على صعيد تطوير آليات الاجتهاد والنظام الفقهي إنتاجاً ومنهجاً وأُصولاً وأُفقاً، ولا تزال في طور التشكل الذي تتخلله تجاذبات وآراء تنقله من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وبالعكس. ولكن عموماً يمكن لهذا الحقل، بعد تبلوره وتحوّله إلى حقل علمي متكامل، من اكتشاف غايات الفقه ومقاصده ومساحة حركته وعلاقته بتطور الخبرة الإنسانية والعلوم البشرية، وأساليب فهم النص واستظهار الدليل الشرعي، وتأثير الرؤية الكونية والقبليات العقيدية والفلسفية والفكرية والثقافية على هذا الفهم والاستظهار.

أي أنّ فلسفة الفقه تتحرك على ثلاثة محاور: غايات (الفقه) ومصادره ومساحاته، وعي (الفقيه) وثقافته وقبلياته، وتأثير (الواقع) وحاجاته. وهو بذلك يشترك مع فقه المقاصد، وفقه الأولويات، والفكر الفقهي الاجتماعي في معظم المساحات، ولكنه يعتمد منهجاً آخر يقترب من فلسفة الدين.

 

 

([1]) الكليني، «الكافي»: ج 1/ ص 34 ح 1 باب ثواب العالم والمتعلم..؛ و «سنن ابن ماجه»: ج 1/ ص 81 ح 223.

([2]) السجستاني، «سنن أبي داود»: ج 2/ ص 311 ح 4291.

([3]) الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج 27/ ص 61 ح 33201.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment