بدايات التقنين الدستوري للشريعة الإسلامية في تركيا وإيران

Last Updated: 2024/05/30By

بدايات التقنين الدستوري للشريعة الإسلامية في تركيا وإيران

د. علي المؤمن

لا تنفصل حركة الدسترة ونشوء ظاهرة الدستور في البلدان الإسلامية عن الحركة الإصلاحية والتجديدية والتحررية الإسلامية والوطنية التي اجتاحت معظم البلدان الإسلامية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقود الثلاثة الأُولى من القرن العشرين الميلاديين. فكانت حركة الدسترة جزءاً من الحركة العامة للشعوب المسلمة التواقة للخلاص من الاستبداد السياسي، والتخلف العلمي والفكري، والجمود الديني، والاحتلال الأجنبي، والتبعية للغرب. وكانت عناصر الحل التي تتفاعل هذه الحركة في إطارها سيفاً ذا حدين؛ فهي من جهة تعمل على التخلص من الاستبداد والتخلف والهيمنة الأجنبية والاحتلال؛ ولكنها تجد نفسها تتماهى ـ أحيانا ـ مع المستبد الأجنبي أو المحتل في أفكاره وأدواته.

وكما كان (التقنين) الحديث في البلدان الإسلامية متأثراً بالغرب؛ فإنّ (الدسترة) أو إنشاء الدساتير كان أيضاً متأثراً به، بل متشبهاً في الشكل والمضمون بالدساتير الغربية، وبمستويات من التأثر أعلى من التقنين؛ لأنّ التقنين كثيراً ما كان يراعي في مضامينه جانب أحكام الشريعة الإسلامية؛ بينما كانت دساتير البلدان الإسلامية علمانيةً ـ غالباً ـ إلّا من بعض المواد الشكلية. وكانت هناك أربعة بلدان سبّاقة في وضع دساتير لها: تونس في العام 1861، وتركيا العثمانية في العام 1876، ومصر الخديوية في العام 1882، وإيران القاجارية في العام 1907. وسبق ذلك صدور ما عُرف في تركيا بـ «التنظيمات العثمانية» في العام 1839، ثم حركة الإصلاحات في السلطة في العام 1856. وفي إيران القاجارية تأسست أول حكومة قانونية بالمعنى الحديث بفرمان سلطاني، وذلك في العام 1858، وهي تتضمن ملامح دستورية عامة.

وظل الدستور في معظم البلدان الإسلامية يسمى بـ (القانون الأساسي)؛ تبعاً لتسميته في الدولة العثمانية والدولة الإيرانية المهيمنتين ثقافياً وسياسياً ـ آنذاك ـ على معظم البلدان الإسلامية. ثم سماه المصريون خلال القرن العشرين الماضي بـ «القانون النظامي»، بينما صدر في تونس باسم «قانون الدولة». وحين استبدلت البلدان العربية مصطلح (القانون الأساسي) العربي بتسمية (الدستور) الفارسية؛ فإنّ كثيراً من البلدان الإسلامية غير العربية بقيت تستخدم اصطلاح (القانون الأساسي) العربية، وفي المقدمة إيران وتركيا.

وكان التأثر بالدساتير الغربية ليس مجرد تفاعل تلقائي وطبيعي، بل تشبّهاً قسرياً غير موضوعي بدساتير المتفوق والمحتل، والتي أفرزتها مخاضات فكرية وسياسية واجتماعية تختلف في مضامينها عن مناخات البلدان الإسلامية؛ فأصبحت هذه البلدان علمانيةً في دستورها، وإسلامية في بنيتها السياسية الاجتماعية؛ ما يعني فصاماً بنيوياً في أساس الدولة الجديدة.

وإذا كان التأثر يتم ـ غالباً ـ بدافع عقدة التخلف، والتي يخلقها ـ عند بعض النخب المحلية ـ الانبهار بالتطور الفكري والعلمي والتكنولوجي والمجتمعي للغرب، وتفوقه السياسي والعسكري؛ فإنّ دافعاً آخر كان يلح على نخب أُخر؛ يتمثل في التخلص من الاستبداد السياسي والاحتلال الأجنبي؛ فقد كانت الدولتان المسلمتان المستقلتان العثمانية والإيرانية محكومتين بسلطتين وراثيتين مستبدتين مطلقتين، وكانتا مطبوعتين بسمات التخلف والتبعية وعدم الاستقرار الداخلي. أمّا البلدان المسلمة الأُخر؛ فكانت تعاني من واقع أكثر سوءاً؛ لأنّها كانت محتلة احتلالاً مباشراً من الدولة العثمانية نفسها أو من الدول الأُوروبية الكبرى؛ مما يجعل من سمات التخلف والتبعية وعدم الاستقرار سمات مركبة وأكثر عمقاً من الدولتين التركية والإيرانية.

1 ـ التجربة التركية:

بدأت تجربة تركيا العثمانية مع التقنين الدستوري في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي؛ ففي العام 1808 صادق السلطان محمود الثاني على ما عُرف بـ «سند إتفاق»، وهو ميثاق وطني بين الحكومة وأعيان البلاد؛ يتألف من مدخل وسبعة مواد وملحق. وقد تم التوقيع عليه في اجتماع لأعيان البلاد (مشورتي عامه). وجاء في أول مادة من الميثاق: ((يقبل مُبرِموا الاتفاق أنّ يكون السلطان رئيس الدولة، وأن يحافظ الجند على خزينة الدولة ومدخولها بعد بناء الدولة عسكرياً، وأن ينفذوا كل أمر يصدر من الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) على أنّه أمر صادر من السلطان، ولا يعترضوا عليه، وإذا حدثت فتنة أو فساد في العاصمة يأتوا إليها دون استدعاء، ويُغِيروا علي المتمردين))([1]). ويُعدّ ميثاق 1808 أول صيغة دستورية عثمانية رسمية مدوّنة تحدد طبيعة المسؤوليات في الدولة؛ ولا سيّما القوات المسلحة والحكومة، وتقيد صلاحيات السلطان العثماني.

وبعد تولي عبد الحميد الثاني السلطنة خلفاً لمحمود الثاني؛ أصدر في العام 1839 ما عُرف بـ «فرمان تنظيمات»، وهو أمر سلطاني نصّ على إصدار قوانين جديدة لإدارة الدولة بشكل جيد. وتضمن الفرمان أُصولاً دستورية وقانونية تتعلق بفرض الضريبة على كل فرد وفق وضعه المالي، ولا يُتبع نظام الالتزام، وشرعية نفقات الدولة، وعدم جواز معاقبة أي شخص إلّا بعد محاكمته، وتخويل المحاكمَ سلطة الجزاء العرفي، وعدم المساس بعرض وكرامة أي شخص، وحق الملكية لكل إنسان، ومنع مصادرة الإرث من الشخص صاحب الإرث إذا ارتكب جرماً، والمساواة بين أفراد الشعب في الحقوق دون تمييز ديني، وتفعيل القوانين بعد أن يُعدها مجلس الأحكام العدلية، وبعد مصادقة السلطان عليها، والتزام السلطان وعلماء الدين والوزراء بالقوانين. وقد ساعد «فرمان تنظيمات» في ظهورِ تيار دستوري أوجده جماعة من العلمانيين المتأثرين بالتطورات الدستورية الغربية؛ أطلقوا على أنفسهم (الشباب العثمانيين).

وفي عهد السلطان عبد المجيد أعلنت الدولة العثمانية عن «فرمان إصلاحات» في العام 1856؛ المؤلف من (56) مادة، والذي دوّنته لجنة مشتركة مؤلفة من مندوبي الدولة العثمانية وانجلترا وفرنسا والنمسا، وهي دول (اتفاق باريس). وبموجبه اشترطت إنجلترا وفرنسا والنمسا على الدولة العثمانية إصدار ميثاق قانوني وتطبيقه داخل جميع ولايات الدولة العثمانية؛ مقابل مساندتها في (حرب القرم) ضد روسيا. ونص الفرمان على المساواة بين رعايا الدولة العثمانية بصرف النظر عن الدين: ((لا يجوز تمييز طبقة من الطبقات الحاكِمة على طبقة أُخرى بسبب الدين،أو اللغة، أو الجنسية))، والمساواة في الامتيازات بين الأديان، وحرية العبادة وإيجاد أماكن العبادة للأديان والمستشفيات ومراكز التبشير، وعدم التدخل في أموال رهبان المسيحيين، واعتبارهم ضمن موظفي الدولة، والحد من سلطات رجال الدين الإسلامي بما يناسب العصر، وإلغاء شرط الإسلام من شروط التوظيف في الدولة.

هذه الصيغة الميثاقية الدستورية؛ كانت البوابة الكبرى التي دخلت منها القوى الأُوروبية إلى الداخل العثماني؛ لخلخلته وإسقاطه تدريجياً، وسمحت للأقليات الدينية المسيحية واليهودية بالتنسيق علانية مع الدول الأُوروبية، واستلام الدعم المالي والمعنوي منها، والنفوذ في مرافق الدولة؛ ولا سيّما القوات المسلحة.

وقد مهّد «فرمان إصلاحات» لإنشاء أول دستور للدولة العثمانية، وذلك في العام 1876 في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وسمي «قانون أساسي دولت عليه عثماني»، ويتألف من (119) مادة و(12) قسماً، واستمر العمل به حتى العام 1921. وهو نسخة معدّلة عن دستور بلجيكا للعام 1831 ودستور بروسيا (ألمانيا) للعام 1851. وقد أعدّت الدستور لجنة برئاسة رئيس الوزراء ـ فيما بعد ـ مدحت باشا، ومؤلفة من عشرين خبيراً من علماء الدين والعسكريين والموظفين؛ بينهم ثلاثة مسيحيين. وبعد إقرار مُسوَّدة الدستور من هيئة الوكلاء؛ صادق عليها السلطان. ورفع الدستور شعار الحرية والأُخوّة والمساواة والعدالة، ونص على مجموعة من الأُصول؛ أهمها: أنّ السلطنة هي ثابتة للولد الأكبر من سلالة آل عثمان، وأن السلطان يتمتع بحصانة مقدسة، ويطلق اسم (عثمانلي) (عثماني) على أفراد التبعة العثمانية كافة؛ أي الرعايا في جميع البلدان المحتلة من قبل تركيا العثمانية؛ من أي دين ومذهب كانوا، وأن العثمانيين بأجمعهم يملكون حريتهم الشخصية ولا يعتدون على حقوق وحريات الآخرين، وهم متساوون أمام القانون في الحقوق والوظائف، وأن دين الدولة العثمانية هو الإسلام؛ مع كفالة حرية جميع الأديان المعروفة في الممالك، وأن اللغة التركية هي لغة الدولة، ويشترط إجادتها في وظائف الدولة، وأن السلطة التشريعية تتألف من هيئتين: (مجلس الأعيان)(الشيوخ) الذي يعين السلطان أعضاءه، و(مجلس مبعوثان) (النواب) الذي ينتخبه رعايا الدولة في كل البلدان.

وقد تعرض القانون الأساسي (دستور العام 1876) للتعديل خمس مرات، كما عطّل السلطان عبد الحميد العمل به في العام 1888، وأغلق مجلس النواب، وألغى الحقوق والحريات، وشدد الرقابة على الصحف. وجراء ذلك بادر عدد من النشطاء السياسيين والثقافيين العلمانيين إلى تأسيس جمعية سرية أسموها (اتحادي عثمانلي) (الاتحاد العثماني). وبعد اتساع نشاطاتها وتزايد أعضائها؛ تغيّر اسمها في العام 1895 إلى (جمعيتي اتحاد وترقي) (جمعية الاتحاد والترقي). وأعلنت الجمعية العصيان العام في سنة 1907، وهددت بالقيام بأعمال تزعزع كيان الدولة؛ بهدف إعادة العمل بالدستور (إعادة إعلان الشرعية)؛ الأمر الذي اضطر السلطان عبد الحميد الثاني إلى إعادة العمل بالدستور في العام 1908؛ بكل ما يتضمنه من مؤسسات وحقوق وحريات.

وبعد انهيار الدولة العثمانية بنهاية الحرب العالمية الأُولى، ووقوع البلدان التي كانت تحتلها تحت احتلال جديد (بريطاني ـ فرنسي)؛ عادت الدولة التركية إلى حدودها شبه الأصلية، وتحوّلت من دولة ثيوقراطية عابرة للحدود والقوميات تحكم باسم الدين إلى دولة قومية علمانية؛ واقعية في حدودها وطموحاتها. وأصبح دعاة جمعية الاتحاد والترقي؛ ولا سيّما كبار ضباط الجيش منهم؛ هم الحكّام الحقيقيين في الدولة، وتحوّل السلطان العثماني إلى مجرد رمزٍ للدولة. وهو ما أقره دستور دولة تركيا الجديد الذي صدر في العام 1921، والمؤلف من (23) مادة (دستور مختصر)، وقد دونته الحكومة العسكرية برئاسة الجنرال مصطفى كمال (أتاتورك)، وأقره مجلس الشعب التركي. ونص الدستور الجديد على أنّ الشعب هو مصدر السلطات دون قيد أو شرط، ويُدير الدولة بنفسه.

وأُجري تعديل أساس على الدستور في العام 1923؛ أُلغيت بموجبه الخلافة، وأُسقط حكم السلالة العثمانية، وأُعلنت الجمهورية التركية. وتم استحداث منصب رئيس الجمهورية؛ ليتحول النظام السياسي في تركيا من نظام الخلافة إلى النظام الرئاسي. واستكمالاً للتعديلات، ولإنهاء كل آثار الدولة العثمانية ونظام الخلافة ومستلزماته الدينية؛ فقد أقرّ مجلس الشعب التركي دستوراً جديداً مفصلاً من (105) مواد. وهو شبيه بدستور الجمهورية الفرنسية الثانية. وأصبحت بموجبه تركيا دولةً قومية علمانية في قوانينها وأدائها ومؤسساتها([2]).

2 ـ التجربة الإيرانية:

في العقود الأُولى من القرن التاسع عشر الميلادي؛ بدأ الحراك في إيران القاجارية باتجاه تنظيم الحياة السياسية وإنشاء دستور يكفل تنظيم الحدود والحريات، والتخفيف من حجم الاستبداد الشاهنشاهي والحكم المطلق. وكان من المدوّنات المهمة في هذا المجال كتاب «دفتر تنظيمات» الذي حرره السياسي والدبلوماسي الإيراني ملكم خان، والذي أسس لفكر دولة القانون في إيران والفصل بين السلطات. وجاء ذلك متزامناً مع باكورة إصلاحات الشاه القاجاري ناصر الدين، والتي كان من أهم إفرازاتها تشكيل حكومة بصيغة حديثة في العام 1858. وكان ناصر الدين شاه قد أمر في العام 1890 بترجمة الدستور الفرنسي في عهد “نابليون بونابرت”، وأمر (شوراى دولتي) (مجلس الحكم) بتطبيق مواده. إلّا أنّ إصلاحات ناصر الدين شاه الدستورية لم تكن إلّا لإسكات صوت النخبة الدينية والثقافية الإيرانية التي كانت تتحرك بقوة لتحقيق العدالة والحرية، وتقييد صلاحيات الشاه وحكومته. وقد أدى الصدام بين الطرفين إلى اغتيال ناصرالدين شاه في العام 1896 على يد أحد أنصار السيد جمال الدين الأفغاني (الأسد آبادي). وتزامن ذلك مع تشكيل الجمعيات السرية الأُولى التي كانت تدعو إلى القوننة والدسترة والحكومة المشروطة؛ أي الحكومة التي تمارس سلطتها بالشروط المدوّنة والقانون. وأول من تصدى لهذا الحراك وقاده اثنان من كبار فقهاء إيران؛ هما السيد محمد الطباطبائي والسيد عبد الله البهبهاني. ثم التحق بهما في السنوات اللاحقة عدد من الفقهاء والمثقفين الدينيين. وكان هذا التيار يستند إلى دعم حوزة النجف الأشرف ومرجعياتها له. وقد عمل دعم المرجع الأعلى الجديد في النجف الشيخ محمد كاظم الآخوند الخراساني دوراً بالغاً في تقوية هذا التيار.

وإلى جانب التيار الدستوري الديني؛ كان هناك تيار علماني ناشط؛ يدعو إلى الحكم الدستوري أيضاً، ولكنه يرفع شعارات معادية للدين ولكل إلزامات العلاقة بين الدولة والمؤسسة الدينية، وكان متأثراً ومدعوماً من روسيا القيصرية وبعض المؤسسات الأُوروبية. إلّا أنّ التيار الديني كان يهيمن بالكامل على الشارع الإيراني؛ بينما يحظى التيار العلماني بوسائل مهمة للتعبير؛ هي الصحف.

وكان الشاه مظفر الدين القاجاري ـ الذي أعقب الشاه ناصر الدين ـ متعاطفاً مع المشروطة ومطالب التيار الدستوري المعارض، ولكنه كان ضعيفاً وخاضعاً لسيطرة الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) القوي والمتنفذ علي أصغر خان أتابك، والذي كان يعادي المشروطة وتيارها، ويمارس القمع ضد جمعياتها السرية؛ مما يشدد من قبضة الاستبداد، ويكرّس الحكم المطلق.

وتصاعد الحراك الدستوري بعد إرسال مجموعة من علماء النجف الأشرف رسالة مهمة إلى الشاه مظفر الدين في العام 1902 يطالبونه بتأسيس مجلس لوكلاء الشعب (النواب)؛ ليقوم بدور تمثيل سلطة الشعب وبعمليتي التقنين والرقابة([3]). وفي مقابل إصرار الحكومة الإيرانية على الرفض؛ انفجر الوضع في الشارع الإيراني، واندلعت ثورة المشروطة، وسقط عدد كبير من القتلى والجرحى في التظاهرات التي اجتاحت العاصمة طهران وعدد من المدن الإيرانية؛ فقام عدد كبير من علماء الدين ومعهم جمهور كبير من سوق (بازار) طهران بالهجرة إلى قم احتجاجاً على قمع السلطة وعدم استجابتها لمطاليب الشعب في القبول بالمشروطة. واستمر الحراك بوتيرة تصاعدية تهدد أمن البلاد. فرضخت الحكومة لمطاليب الثوار، ووقع الشاه في أواسط العام 1906 على قرار تشكيل (مجلس شوراي ملي) (مجلس الشورى الوطني) وإنشاء الدستور. وكان هذا التوقيع بمثابة انتصار تمهيدي لثورة المشروطة المطالبة بالدستور.

وفي أعقاب هذا الانتصار؛ انتخب الشعب نوابه في مجلس الشورى، وافتتح المجلس في العام نفسه بحضور الشاه. وكانت المهمة العاجلة للمجلس تشكيل لجنة من علماء الدين والاختصاصيين لتدوين الدستور. وبعد إقرار المجلس للصيغة النهائية للدستور؛ صادق عليه الشاه في مطلع العام 1907؛ قبل وفاته بأيام. وسمي بـ «قانون أساسي مشروطيت» (دستور المشروطة). وهو شبيه في معظم مواده بالدستور البلجيكي للعام 1830؛ مع إلغاء أو تعديل المواد التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية([4]).

وبعد إصرار بعض الفقهاء؛ وفي مقدمهم الشيخ فضل الله النوري؛ على ضمان توافق الدستور مع الشريعة الإسلامية بشكل كامل، ومع الخصوصيات الثقافية والاجتماعية الإيرانية؛ فقد أقر مجلس الشورى ملحقاً للدستور؛ صادق عليه الشاه الجديد محمد علي القاجاري؛ وأصبح الدستور الإيراني القاجاري بصيغته النهائية مؤلفاً من عشرة فصول و(107) مواد. وقد فصل الدستور بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وحدد صلاحيات الشاه والحكومة، وحدد دين الدولة بالإسلام، ومذهب الدولة بالمذهب الجعفري الاثني عشري. ونصت المادة الثانية على تشكيل لجنة من خمسة مجتهدين؛ تمتلك صلاحية مطابقة تشريعات المجلس مع أحكام الشريعة الإسلامية([5])، ورفض أي قانون لا يتطابق مع الشريعة([6]).

لقد انقسمت إيران خلال ثورة المشروطة إلى أربعة تيارات رئيسة متصارعة بشدة:

1 ـ تيار المشروطة المشروعة، وهو تيار الإسلاميين الدستوريين، ويقوده عدد من الفقهاء، وفي مقدمهم السيد عبد الله البهبهاني الغريفي والسيد محمد الطباطبائي، ويدعمهم في النجف مرجع النجف الشيخ الآخوند الخراساني، وفقهاء آخرون؛ كالشيخ عبد الله المازندراني والشيخ الميرزا خليل والشيخ الميرزا النائيني. وهو تيار الأغلبية في الشارع، وفي مجلس الشورى الوطني الإيراني.

2 ـ تيار المشروطة العلمانية، ويضم الماركسيين والليبراليين التغريبيين، وهو تيار له حضوره في مجلس الشورى، وفي الصحافة، ومؤسسات الدولة.

3 ـ تيار المستبدة، ويضم الحكومة وأنصار الشاه، يقوده الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، وهو التيار الذي يهيمن على أجهزة الدولة والقرار السياسي.

4 ـ تيار المشروعة، وهو تيار الإسلاميين الرافضين للدستور الوضعي، والمطالبين بتحكيم الشريعة الإسلامية، ويقودهم عدد من الفقهاء، وفي مقدمهم الشيخ فضل الله النوري، ويدعمه في النجف المرجع السيد كاظم اليزدي.

وكان الصراع بين التيارات الأربعة على أشده في الشارع الإيراني خلال الأعوام 1907 إلى 1909. وفي الوقت الذي كان تيار (المشروطة المشروعة) بقيادة السيد البهبهاني يتهم تيار (المشروعة) بقيادة الشيخ النوري بالتحالف مع تيار (المستبدة) بقيادة الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، بدعم الحكم الشاهنشاهي المطلق، وباستلام الأموال من الصدر الأعظم، والعمالة لروسيا؛ فإنّ تيار (المشروعة) كان يتهم تيار (المشروطة المشروعة) بالتحالف مع تيار (المشروعة العلمانية)، الذي يصفه بالإلحاد والكفر، وبالعمالة لبريطانيا.

ولذلك فإنّ الانقسام الخطير في الاجتماع الديني السياسي الشيعي في تلك الفترة كان سببه أنّ كلا التيارين المتصارعين يقودهما مراجع دين وفقهاء. ولم يقتصر هذا الصراع الاجتماعي على إيران، بل كان العراق ميداناً شرساً لهذا الصراع([7]).

وأعطى انقسام التيار الديني وكبار فقهاء الشيعة في إيران والنجف؛ مسوغاً للشاه القاجاري محمد علي لضرب الثورة الدستورية، واستعان بآراء وفتاوى بعض علماء الدين الذين حرّموا المشروطة والدستور؛ ولا سيّما الشيخ فضل الله النوري؛ لإلغاء الدستور في العام 1908، وقصف مبنى مجلس الشورى الوطني بالمدفعية، وإعلان الأحكام العرفية، وإعدام بعض ناشطي المشروطة. وكان يرفع خلال ذلك شعاراً دينياً: ((الدستور بدعة تتعارض مع الإسلام))([8]).

وبذلك باتت ثورة الدستور ومنجزاتها على مشارف الانهيار. إلّا أنّ تحرك علماء النجف الأشرف أحبط جزءاً من مخططات الشاه، وأدت رسالة مرجع النجف الآخوند الخراساني إلى علماء إيران إلى إعادة تفعيل الحراك الثوري، وتشكيل الجمعيات السرية من جديد. وأفرز الحراك عملاً ثورياً مسلحاً؛ انتهى بدخول مجاميع ثوار المشروطة المسلحة إلى طهران عنوة، وسيطروا على مقاليد الأُمور في العام 1909، وأجبروا الشاه محمد علي على إعادة العمل بالقانون الأساسي. وفي أعقابها أُجريت الانتخابات البرلمانية ثانية، وتم افتتاح الدورة الثانية لمجلس الشورى الوطني.

تجدر الإشارة إلى أنّ ضريبة انتصار الحركة الدستورية في إيران كان مقتل قائدي التيارين الدينيين الأساسيين المتصارعين خلال الثورة؛ فقد قام ثوار المشروطة بعد دخولهم طهران ونجاحهم في السيطرة على العاصمة؛ بمحاكمة الفقيه الشيخ فضل الله النوري قائد تيار (المشروعة) المناهض لـ (المشروطة)، وإصدار حكم الإعدام عليه، وتنفيذ الحكم في مركز العاصمة طهران في العام 1909؛ وسط مهرجان من الفرح أقامه أنصار المشروطة. وبعد عام تقريباً (1910) قام أحد أنصار (المشروعة) بإغتيال الفقيه السيد عبد الله البهبهاني الغريفي قائد ثورة (المشروطة)، والذي كان يلقب بـ (شاه سياه) (الشاه الأسود) ([9]).

والذي نريد قوله هنا أنّ التسقيط والاتهامات القاسية المتبادلة بين فقهاء المشروطة (حكم الدستور) وفقهاء المشروعة (حكم الشريعة) لم يكن تسقيطاً شخصياً ولا اتهامات بدوافع شخصية في كثير منه، بل هي نتيجة تعارض شديد في الاجتهاد وفي منهجية التأصيل للفقه السياسي والإسلامي ومخرجاته الواقعية. وكان كلا الفريقين يرى أنّ معركته المصيرية من شأنها إحقاق الحق والعدل وإنقاذ الأُمّة ومنع انهيار الشريعة. ولكن مخرجات هذا التعارض كانت غاية في التطرف والقسوة.

وتمّ تعديل دستور المشروطة أكثر من مرة؛ كان أهمها تعديل المادة الخاصة بحكم السلسلة القاجارية وتثبيت حكم أُسرة بهلوي، وذلك بعد نجاح انقلاب قائد الجيش ورئيس الوزراء رضا خان مير بنج (بهلوي فيما بعد)، والذي نصب نفسه ملكاً على إيران في العام 1926، وقد حصر جميع السلطات بيده، وصادر الدستور عملياً، ومهّد لاستبداد أكبر بقيادة الأُسرة الحاكمة الجديدة (البهلوية). وقد استمر العمل بدستور المشروطة حتى العام 1979؛ حين أسقطته الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني، وأسست لدستور جديد.

 

 

 

([1]) بكر، عصمت عبد المجيد، «النظام القانوني في العهدين العثماني والجمهوري»، دار الكتب العلمية، بيروت، 2012، ص43.

([2]) اُنظر: صابان، سهيل، «تطور الأوضاع الثقافية في تركيا من عهد التنظيمات العثمانية إلى العهد الجمهوري» (مصدر سابق)، ص107 ـ 124. وبكر، عصمت عبد المجيد، «النظام القانوني في العهدين العثماني والجمهوري» (مصدر سابق)، ص94.

([3]) حائري، عبد الهادي، «تشيع ومشروطيت در إيران ونقش إيرانيان مقيم عراق» (التشيع والمشروطة في إيران ودور الإيرانيين المقيمين في العراق)، دار أمير كبير، طهران، 1981، ص12.

([4]) باشا صالح، علي (مصدر سابق)، ص270.

([5]) «متمم قانون اساسي مشروطة» (ملحق دستور المشروطة)، دار جمال، طهران، 2003.

([6]) المادة الثانية من ملحق دستور المشروطة، والتي تنص على حق النقض الذي يمتلكه خمسة من المجتهدين (فقهاء الشريعة) على تشريعات مجلس الشورى؛ فيما لو كانت تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية؛ تشبه في مضمونها المادة (91) من دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والتي تنص على وجود مجلس صيانة الدستور الذي يضم ستة فقهاء وستة حقوقيين؛ يطابقون تشريعات مجلس الشورى مع أحكام الشريعة ومواد الدستور.

اُنظر: «قانون أساسي مشروطة» (دستور المشروطة)، المادة الثانية، ص17، و«قانون أساسي جمهوري إسلامي إيران» (دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية)، ص25.

([7]) كانت نخبة المجتمع النجفي ـ مثلاً ـ منقسمة ـ غالباً ـ إلى (مشروطة) و(مستبدة)؛ فجماعة المشروطة يسيرون خلف مرجع النجف الأعلى الآخوند الخراساني (راعي المشروطة)، وتيار المستبدة يؤيد مرجع النجف الآخر السيد محمد كاظم اليزدي. وكان بين الطرفين صراعٌ محتدم.

([8]) نجفي أسفاد، د. مرتضى، «حقوق أساسي جمهوري إسلامي إيران» (القانون الدستوري في الجمهورية الإسلامية الإيرانية) (مصدر سابق)، ص8.

([9]) وُصف السيد عبد الله البهبهاني بـ (الشاه)؛ لأنّه كان يهيمن على قرار الدولة ويمارس ولايته على الحكومة والبلاط بعد انتصار ثورة المشروطة في العام 1909. أمّا وصف (الأسود) فبسبب سحنته السمراء الداكنة، إذ هو من أُصول بحرانية (من الأُسرة البلادية الغريفية)، ومن مواليد النجف الأشرف بالعراق.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment