النظام الاجتماعي الشيعي بعد السيستاني والخامنئي

Last Updated: 2024/05/30By

النظام الاجتماعي الشيعي بعد السيستاني والخامنئي

د. علي المؤمن

   بين استشراف مستقبل النظام الاجتماعي الديني الشيعي وصناعته

ينطوي الحديث عن مستقبل النظام الاجتماعي الديني الشيعي على ثلاثة محاور رئيسة:

1- دراسة واقع النظام ومكوناته، ومراجعة أدائها وتقويم مساراتها، والعودة الى مبادئ مؤسسي النظام وقياداته، وثوابتهم وسلوكياتهم، والأهداف التي وضعوها لحراكاتهم، وخاصة المنظومات والكيانات والتنظيمات والمؤسسات التي يتمظهر فيها النهوض الشيعي الشامل، دون الاستغراق في الانشغالات الحكومية والسياسية والدفاعية، أو التوقف عند الإنجازات والنجاحات، التي تتسبب في غفلة أو تغافل عن أغلب السلبيات والأخطاء التي تكبر تدريجياً، ثم تتدحرج ككرة الثلج، لتطيح بالكثير من الإنجازات. وستكون مخرجات هذه الإجراءات وأشكالها ومضامينها، بمثابة معطيات الحاضر التي تنطلق منها عملية استشراف مستقبل النظام الاجتماعي الديني الشيعي وصناعته.

2- استشراف مستقبل النظام وتشوّف آفاقه، والوقوف على سيناريوهات هذا المستقبل كما ترسمها معطيات الحاضر، في إطار المنهجيات العملية التي وضعتها الدراسات المستقبلية الحديثة أو ما يعرف بعلم المستقبليات أو علم المستقبل.

3- التخطيط لمستقبل النظام واستمرار صعوده ونهوضه، على مديات مختلفة، قصيرة ومتوسطة وبعيدة، وطرح البدائل المناسبة، وفق رؤية استراتيجية، تهدف الى صناعة هذا المستقبل، وليس مجرد استشرافه والانسياق مع الأحداث الداخلية التي ستكتنفه، والخارجية التي ستحيط به.

لا شك أنّ مظاهر صعود النظام الاجتماعي الديني الشيعي ونهوضه الشامل ونهوض مكوناته وتحديث سياقاته؛ يسير بوتيرة واحدة غالباً منذ العام 1979، وتحولت من مرحلة التدافع والصراع على بقاء المشروع الجديد في وجه التحديات الوجودية الكبيرة في العقدين التاسع والعاشر من القرن الماضي، وحتى مرحلة الاندفاع والصعود المصطرد منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، رغم أن بعض محاور الصعود لا تزال متلكأة، كما هو الحال في آذربيجان والبحرين وشرق السعودية وباكستان، بسبب شدة القمع والحركات المضادة. وهذا النهوض يشتمل على محاور جغرافية وموضوعية ومؤسساتية، كما يحدث في إيران والعراق ولبنان واليمن وسوريا، إضافة الى أفغانستان والهند وسورية وكثير من الدول الخليجية والعربية، وكذلك في أوروبا وامريكا في البعد الجغرافي، والمؤسسية، ويقصد به المؤسسات الحوزة العلمية والمرجعية والأحزاب السياسية وحركات المقاومة، والموضوعية ويشمل مجالات الحكم والسياسة والدفاع والتشريع والمعيشة والاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا والتجديد الفكري والفقهي.

وبما أن عملية الإصلاح والتجديد والمأسسة والتطوير والتخطيط والتنمية الاستراتيجية هي عملية تخصصية، لأنها تستهدف موضوعات ومجالات ومؤسسات تخصصية؛ فإنّ هذا العملية ينبغي أن تتم على إيدي المتخصصين من داخل المؤسسات أنفسها. فلو أخذنا ــ مثلاً ــ منظومة المرجعية الدينية ومؤسستها العلمية الدينية؛ فإن من الطبيعي أن تكون عملية تجديد بناها وإعادة مأسستها والتخطيط لمستقبلها، من داخل المؤسسة وليس من خارجها، أي أنها ليست مهمة المثقف أو الأكاديمي الشيعي، الذي يعطي لبعضهم الحق في التنظير لثوابت المرجعية الدينية والتخطيط لإصلاحها. نعم؛ من الطبيعي أن تستمع الى أصحاب اختصاصات في النظم والقانون الدستوري والقانون الدولي وعلم الاجتماع والإنثربولوجيا والإدارة والاقتصاد والمالية، وتستشيرهم في عملية التجديد والتخطيط، لأنّ المؤسسة الدينية الشيعية ليست مؤسسة فتوي، إنّما هي زعامة النظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي يرعى شؤون الشيعة فيما يقرب من (120) دولة من دول العالم. ولهؤلاء الشيعة مجتمعات كبيرة، ومؤسسات ومساجد وحقوق شرعية ومشاكل مع السلطات، وعلاقات داخلية وخارجية، إشكاليات سياسية وثقافية وقانونية، ويقع الإشراف على حلها على عاتق المرجعية الدينية الشيعة.

ومن البديهي أن تكون عملية التطوير وإعادة المأسسة والتخطيط منسجمة مع متطلبات الزمان والمكان وحاجات العصر، وكذلك مع طبيعة صلاحيات المرجعية وطبيعة مسؤوليات النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ فلو كانت صلاحيات وواجبات المرجع الأعلى الذي يقف على رأس النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ تتلّخص في الفتوى فقط؛ فلن تكون هناك حاجة إلى عملية إصلاح معقّدة، أي أن التجديد سينحصر في إطار الفكر الفقهي والفكر الأصولي وعلوم القرآن والحديث، باعتبار أن القضية قضية اجتهاد وفتوى وحكم شرعي لا اكثر، ولكن المرجع الديني ليس مفتياً وحسب، ولا تنحصر مهمته بالإفتاء، وإنّما بزعامة المجتمع الشيعي برُمّته.

وقد أشرت في مقال سابق إلى موضوع إيجاد مؤسسة من المجتهدين، يمثلون أهل الخبرة، ويكونون بمثابة مؤسسة استشارية لاختيار مراجع التقليد، كما تختار المرجع الأعلى المتصدي من بين المراجع المطروحين، وتعرِّفهم لجمهور الشيعة، كما تتحمل مسؤولية الاستشارة في كل الشؤون التي لها علاقة بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي. ويكون هناك مجلس آخر من كل الاختصاصات العلمية والشرائح الاجتماعية، كالخبراء في السياسة والعلاقات الدولية والإدارة الاقتصاد وعلم الاجتماع والقانون والإنثروبولوجيا، لتقديم المشورة الى المرجعية الدينية ومكتبها مؤسساتها بشأن الموضوعات والقضايا والمصالح المتعلقة بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي، لأن قضايا بحجم رعاية (400) مليون إنسان، بحاجة إلى عقول تنظيمية وإدارية، تعمل بحذر ودقة بإشراف المرجع وتوجيهة، لكي لا تصطدم بأصل تشريعي أو تكييف فقهي أو مصلحة عامة، لأنّ التخطيط وإعادة البناء ليست عملية اعتباطية أو مزاجية، أو فكرة ناجزة أو مقترح جاهز. وهذا اللون المنهجي والعلمي من الاستعانة بالمستشارين والخبراء، سيريح المرجع الأعلى، وسيزيل عن كاهله وكاهل مكتبه وفريقه المقرّب حملاً ثقيلاً، وسيجعل عملية اتخاذ القرارات وتنفيذها سهلة من قبل المرجع، وأكثر مقاربة للمصلحة.

المرجعيات الشيعية المطلقة المعاصرة

لعل وحدة القرار المرجعي القوي الذي يؤدي ــ عادة ــ الى وحدة قرار النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وقدرته على مواصلة عملية النهوض، هي في مقدمة القضايا التي يبقى النظام بحاجة إليها في حاضره ومستقبله. فالضرورات العقلائية المرتبطة بالشأن التدبيري والإداري والقيادي، تقود الى أهمية أن يكون للمجتمع الشيعي في الجانب الزمني الدنيوي، أي الشأن العام، زعيماً واحداً أو مديراً مدبراً كفأً واحداً، وهي غير القضايا العلمية والفقهية الكثيرة المختلف عليها وفيها، ويتم تناولها بحرية كاملة وانفتاح، ويكون التقدم والتفوق فيها للرأي الأرجح عادة، وهذا هو سبب حيوية الفقه الشيعي، وفيه يمارس جميع الفقهاء والمراجع أعمالهم العلمية والدينية والاجتماعية الى جانب المرجع الأعلى المتصدي بمطلق الحرية. أما وحدة النظام الاجتماعي الديني الشيعي وعالميته وتماسكه؛ فإنها تتطلب أن يكون هناك فقيه واحد يدير النظام أو فقيهين في مكانين مختلفين حداً أعلى، لا أن يكون لمائة فقيه الصلاحيات نفسها في الشأن العام في زمن واحد ومساحة حركة واحدة.

وهذه القضية التنظيمية التدبيرية الإنسانية العقلائية لا يحتاج إثباتها الى عناء، فضلاً عن عدم تعارضها مع الأصول الشرعية، وهو ما تعارفت الحوزة العلمية على تسميته بالمرجعية المطلقة، أي المرجعية الواحدة المتفردة في قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وهو مفهوم عرفي لا يوجد له مصاديق في الواقع الشيعي دائماً، إنما تمر بعض الفترات التي تكون فيها ثنائية مرجعية قيادية، كما هو الحال منذ نهايات العقد العاشر من القرن الماضي وحتى الآن، بوجود المرجعيتين الأكبر اللتين تتشاركان قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي، والمتمثلتين بمرجعيتي آية الله  السيد علي السيستاني و آية الله  السيد علي الخامنئي.

ولا شك أن استشراف مستقبل المرجعية الدينية العليا، من ناحية المصاديق؛ من الأمور التي ظلت تشغل الساحة الشيعية بعد العام 2010، وخاصة بعد تعرض المرجعين الأكبر السيد علي السيستاني والسيد علي الخامنئي الى أكثر من وعكة صحية. ويتركز الحديث غالباً عن المرجع أو المراجع الذين سيأخذوا مكانهما، أو بالأحرى المرجع الشيعي المطلق الذي سيتزعم النظام الاجتماعي الديني الشيعي وزعامة الحوزة العلمية، وهو احتمال يبقى ضعيفاً، بناء على معطيات الحاضر، لأن مستقبل ما بعد السيستاني والخامنئي لن يشي بظهور مرجع واحد مطلق، يسد فراغهما، فضلاً عن أن يكون شبيها ببعض المراجع المعاصرين الراحلين الذي تفردوا بزعامة الطائفة الشيعية زعامة مطلقة وتقليد أغلبية الشيعة ولا يكون له منافس أو شريك في مساحات التقليد والزعامة الدينية، في البلد الذي يقيم فيه والبلدان الأُخر. ، وتحديداً المراجع الأربعة: السيد أبي الحسن الموسوي الإصفهاني (ت 1946)  والسيد حسين الطباطبائي البروجردي (ت 1961)، والسيد محسن الطباطبائي الحكيم (ت 1970)، والسيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (ت 1992)، الذين لم تتوافر فرصة المرجعية المطلقة خلال القرن العشـرين الميلادي إلّا لهم، من بين عشرات مراجع الدين والفقهاء البارزين.

ومجموع الفترة التي كان فيها للشيعة مرجعاً مطلقاً خلال القرن الميلادي العشرين تبلغ (35) عاماً فقط، وهي الفترة التي تزعّم فيها هؤلاء الأربعة الواحد تلو الآخر الطائفة الشيعية. بينما كان هناك مرجعان أو ثلاثة يشتركون في الوقت نفسه في مساحات التقليد والزعامة، خلال فترة الأعوام الـ (65) الأُخر. وما يلي نبذة عن هؤلاء المرجعيات المطلقة الأربعة؛ بهدف تكوين صورة واضحة عن مفهوم المرجعية المطلقة:

1 ـ السيد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني في النجف الأشرف، وقد تزعم الشيعة بعد وفاة المرجع الأعلى الشيخ فتح الله الإصفهاني (شيخ الشـريعة) في العام 1935، والشيخ الميرزا محمد حسين النائيني في النجف الأشرف في العام 1936، ثم الشيخ عبد الكريم الحائري في قم في العام نفسه. وقد استمر الإصفهاني زعيماً مطلقاً للشيعة مدة عشـر سنين، أي حتى وفاته في العام 1946.

2 ـ السيد حسين الطباطبائي البروجردي في قم، تزعم الشيعة بعد وفاة السيد أبو الحسن الإصفهاني في النجف الأشرف في العام 1946، وبقي زعيماً مطلقاً للطائفة مدة أحد عشر عاماً، أي حتى تبلور زعامة السيد محسن الحكيم في النجف في العام 1958. وبقي المرجعان (البروجردي والحكيم) شريكان في زعامة الشيعة وموقع المرجعية العليا لمدة ثلاث سنوات تقريباً، أي حتى وفاة السيد البروجردي في العام 1961؛ إذ ثنيت الوسادة بعد ذلك إلى السيد محسن الحكيم.

3 ـ السيد محسن الطباطبائي الحكيم في النجف الأشرف، تزعم الشيعة بعد وفاة السيد حسين البروجردي في قم في العام 1961 والسيد عبد الهادي الشيرازي في النجف الأشرف في العام نفسه، بعد أن كان السيد الحكيم يشارك السيد البروجردي الزعامة الدينية. وبقي السيد الحكيم زعيماً مطلقاً للطائفة من العام 1961 وحتى وفاته في العام 1970؛ أي لمدة تسع سنوات.

4 ـ السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي في النجف الأشرف، تزعم الطائفة بعد وفاة السيد محسن الحكيم في العام 1970 والسيد محمود الحسيني الشاهرودي في النجف الأشرف في العام 1974. واستمرت زعامته المطلقة خمس سنوات، أي حتى بروز المرجعية الكبيرة للسيد روح الله الخميني بعد العام 1979 في قم، بل في أنحاء إيران، الأمر الذي أدى إلى تناصف السيد الخوئي والإمام الخميني المرجعية الدينية العليا للشيعة لمدة عشر سنوات. وبعد وفاة الإمام الخميني في العام 1989، برزت المرجعية الكبيرة للسيد محمد رضا الموسوي الكلبايكاني في قم لتتناصف المرجعية العليا مع السيد الخوئي، واستمر الوضع هذا حتى وفاة السيد الخوئي في العام 1992.

وكانت مرجعية السيد الخوئي آخر مرجعية شيعية عالمية مطلقة، وقد استمرت بالتفرد بالزعامة الدينية حتى العام 1979، ولم يتفرد بعدها أي مرجع ديني بالزعامة الدينية للشيعة. فبعد وفاة الإمام الخميني في العام 1989 والسيد الخوئي في العام 1992؛ برز عدد من المرجعيات الكبرى في قم والنجف وطهران، كالسيد محمد رضا الموسوي الكلبايكاني في قم، والسيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري، والسيد علي الحسيني السيستاني في النجف الأشرف، والسيد علي الحسيني الخامنئي في طهران؛ لكن أيّاً منها لم تتفرد بالزعامة الدينية للشيعة في العالم.

وسبق أن حصل هذا التناصف أو التقاسم في المرجعية العليا خلال مراحل أُخر من القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين. فبعد وفاة المرجع المطلق السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي في سامراء العام 1889؛ توزعت المرجعية العليا بين أكثر من مرجع، ثم تبلورت في بداية القرن العشرين بين مرجعيتين عالميتين متشاركتين في النجف الأشرف، هما مرجعية الشيخ الآخوند محمد كاظم الخراساني والسيد محمد كاظم اليزدي. وبعد وفاة الشيخ الخراساني في العام 1908 لم يتفرد السيد اليزدي بالمرجعية العليا؛ إذ برز الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي مشاركاً معه. وبعد وفاة المرجعين خلال سنة تقريباً، برز الشيخ فتح الله الإصفهاني مرجعاً أعلى في النجف الأشرف، ولكن كان ينافسه مراجع آخرون. وبقي الحال على ما هو عليه حتى تفرد السيد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني بزعامة الطائفة في العام 1936؛ فكان أول مرجع ديني يتفرد بزعامة شيعة العالم منذ وفاة السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي في العام 1889، والذي كان آخر سيد للطائفة في القرن التاسع عشر الميلادي، أي بعد مدة (47) عاماً، لم تجمع خلالها الشيعة على زعيم واحد.

والحديث عن المرجعيات المطلقة ليس حديثاً عن ظاهرة فكرية أو نهضوية، وليس مقارنة بين إنجازات المراجع أو زعاماتهم النهضوية والسياسية وحجم تضحياتهم، ولا عن قومياتهم وجنسياتهم أو عن العلاقة بين حوزتي النجف وقم؛ بل عن حلقة تاريخية معاصرة من حلقات النظام الاجتماعي الديني الشيعي، اكتسحت خلالها المرجعيات الشيعية الأربع المذكورة ساحات التقليد والنفوذ الديني في عموم العالم، ولا سيما الساحات الشيعية الكبرى، والتي تشمل بلداناً ذات كثافة سكانية شيعية كبيرة، كالهند وباكستان وإيران، والتي تضم لوحدها (200) مليون شيعي تقريباً، إضافة إلى العراق وتركيا ولبنان والخليج وروسيا وآذربيجان وباقي دول التواجد الشيعي؛ لتكون هذه الحلقة أُنموذجاً لفهم طبيعة التفرد والتعددية في المرجعية العليا.

ولا يعني تفرد السيد أبو الحسن الإصفهاني، والسيد حسين البروجردي، والسيد محسن الحكيم، والسيد أبو القاسم الخوئي بالمرجعية العليا في فترات زمنية محددة من القرن العشرين الميلادي، لا يعني عدم وجود مراجع دين كبار آخرين معاصرين لهم، يقلدهم عشرات ملايين الشيعة في العالم؛ لكن هذه المرجعيات الرديفة لم تتفرد بالزعامة الدينية للطائفة على مستوى العالم. وهناك من المؤرخين من يرى أنّ بعض هذه المرجعيات الرديفة تفردت في وقتها بزعامة الطائفة، كالشيخ الآخوند محمد كاظم الخراساني، والسيد محمد كاظم اليزدي، والشيخ محمد تقي الشيرازي، والشيخ عبد الكريم الحائري، والسيد عبد الهادي الشيرازي، والسيد محمود الشاهرودي، والإمام الخميني. وكما ذكرنا؛ فإنّ عدم التفرد بالزعامة الدينية الشيعية لا علاقة له بأعلمية المرجع وجهاده وتضحيته ودوره النهضوي وكفاءته القيادية ووعيه وحركيته. فالإمام الخميني ـ مثلاً ـ رغم أنّه الزعيم المطلق للنهضة الشيعية الإسلامية المعاصرة، ومؤسس العصر التاريخي السادس من عصور الشيعة الستة؛ لكنه لم يتفرد بالزعامة الدينية المحضة؛ بمعني أنّه لم يتفرد بساحات التقليد في كل العالم؛ بل كان يتناصفها في الأعوام 1979 إلى 1989 مع السيد الخوئي، إلى جانب مراجع كبار آخرين كالسيد الگلپايگاني، الذي كان حينها بمثابة زعيم الحوزة العلمية القمّية.

واقع المرجعيات الشيعية

يعتمد استشراف مستقبل موقع المرجعية الدينية الشيعية والفقهاء الذين سيتبؤونه، على المعايير والسياقات المتعارفة في إفراز المرجعيات داخل الحوزة العلمية، وعلى المعطيات الواقعية لحاضر المرجعية ومصاديقها الحالية، وتحديداً السيد علي السيستاني والسيد علي الخامنئي، والتي يجري الحديث عن المرحلة التي تعقب رحيلها. ومن أبرز هذه المعايير هو ما استقر عليه الرأي العام الحوزوي الذي تصنعه جماعات أهل الخبرة والضغط، ثم حجم المرجعية ومساحة نفوذها الدیني وتأثيرها ونسبة مقلديها في كل العالم، وليس في العراق أو إيران وحسب. أمّا الأعلمية والعدالة والشهرة والتصدّي للشأن العام والبعد النهضوي في شخصية المرجع؛ فهي معايير نسبية لا يمكن الإجماع عليها في ظل وجود موازين فرعية مختلَف عليها.

ووفق هذه المعايير تكون بعض المرجعيات عليا، وأُخرى من الصف الأول أو الصف الثاني، وهي مصطلحات عرفية تدبيرية. ويمكن القول إنّ المدرستين الأبرز اللتين تتقاسمان مساحة النفوذ الديني والتقليد منذ حوالي أربعة عقود وحتى الآن، هما: مدرستي المرجعين الكبيرين السيد روح الله الموسوي الخميني والسيد أبو القاسم الموسوي الخوئي. وهما الزعيمان اللذان اقتسما المرجعية العليا للشيعة حتى وفاة الإمام الخميني في العام 1989، ولا يزالان يقتسمانها في تلاميذهما وامتداداتهما. وتعود جذور مدرسة السيد الخوئي إلى مدرسة زعيم الطائفة السيد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني في النجف، والتي أنجبت جميع مرجعيات النجف العليا بعد رحيله، كالسيد محسن الحكيم والسيد محمود الشاهرودي والسيد الخوئي، بينما ينتمي الإمام الخميني إلى مدرسة الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية المعاصرة في قم، والتي أنجبت مرجعيات قم العليا بعد رحيله، كالسيد محمد رضا الكلبايكاني والسيد محمد كاظم الشريعتمداري والإمام الخميني. وبالتالي؛ فإنّ أغلب المرجعيات العليا ومراجع الصفين الأول والثاني هم تلاميذ الزعيمين الخوئي والخميني، وينتمون إلى مدرستيهما، وفي مقدّمهم: السيد علي الحسيني السيستاني والسيد علي الحسيني الخامنئي، اللذان تقاسما الزعامة الدينية للطائفة الشيعية في العالم منذ أواخر تسعينات القرن الميلادي الماضي. والحديث هنا عن الزعامة الدينية ومساحات التقليد وليس القيادة.

والسيد علي ابن السيد محمد باقر بن السيد علي الحسيني السيستاني، هو المرجع الديني الأعلى على مستوى شيعة العراق وكثير من المسلمين الشيعة في مختلف دول العالم، وهو إيراني من مدينة مشهد في محافظة خراسان، والتي ولد فيها في العام 1930م. وتعود أُصوله إلى أُسرة مهاجرة من العراق، ويقيم في النجف الأشرف منذ العام 1951م، وهو وريث مدرسة الإمام الخوئي وحوزة النجف، وقد تفرّد بالمرجعية النجفية العليا في أواخر عقد التسعينات من القرن الماضي، وتحديداً بعد رحيل مراجع النجف الكبار: السيد الخوئي، والسيد عبد الأعلى السبزواري، والشيخ علي الغـروي، والشيخ مـرتضى البروجردي، والسيد محمد الصدر، والسيد حسن بحر العلوم.

أما السيد علي ابن السيد جواد بن السيد حسين الحسيني الخامنئي، فهو المرجع الديني الأعلى على مستوى إيران وكثير من المسلمين الشيعة في مختلف دول العالم، وهو إيراني مولود في مشهد في العام 1939م ، ويقيم في طهران منذ العام 1978م، وتعود جذوره إلى مدينة خامنه في محافظة آذربيجان الشرقية الإيرانية، وهو وريث مدرسة الإمام الخميني وحوزة قم. وقد تبلورت مرجعيته في أواخر عقد التسعينات من القرن الماضي، ولا سيما بعد رحيل مراجع قم الكبار: السيد محمد رضا الكلبايكاني، والشيخ محمد علي الأراكي، والشيخ محمد الفاضل اللنكراني، والشيخ جواد التبريزي، والشيخ محمد تقي بهجت.

ويمكن القول إنّ 80% من شيعة العراق وإيران وبلدان الخليج ولبنان وسورية والهند وباكستان وأفغانستان وآذربيجان وروسيا وبلدان شرق آسيا ونيجيريا ومصر وباقي بلدان إفريقية وأُوربا والأمريكتين، يقلدون السيد السيستاني والسيد الخامنئي. أما الـ 20% الباقين من الشيعة المقلدين؛ فإنّهم يرجعون بالتقليد إلى المراجع الآخرين، سواء مراجع الصف الأول أو الثاني. ولعل أغلب المسلمين والمتشيعين الجدد، ولا سيما في شرق آسيا وإفريقية وأُوربا، يرجعون بالتقليد أيضاً إلى السيد علي الخامنئي والسيد علي السيستاني، وهما المرجعان الأنشط تبليغياً خارج المساحات التقليدية للشيعة. مع التأكيد على أنّ الأرقام المذكورة المتعلقة بنسب التقليد ليست عشوائية؛ بل هي نتيجة متابعة واستقراء مستمرين للمجتمعات الشيعية منذ عشرين سنة، فضلاً عن الاستعانة بالمؤسسات البحثية والتبليغية ذات العلاقة.

ذكرنا بأنّ تصنيف المرجعيات الدينية الشيعية على أنّها مرجعية عليا أو مرجعية صف أول أو صف ثاني، يعتمد على عدد من المعايير الواقعية، أبرزها: ما استقر عليه الرأي الحوزوي العام الذي تصنعه جماعات أهل الخبرة والضغط، وحجم المرجعية ومساحة نفوذها الديني، وتأثيرها ونسبة مقلديها في العالم، وليس في العراق وإيران وحسب. وبالتالي؛ فإنّ تصنيف مرجعيات الصف الأول أو الثاني، لا علاقة له بالاشتراطات الإصلاحية الطموحة ذات المداليل الواسعة جداً، والنسبية في تطبيقاتها، والتي يستحيل إحرازها، كالأعلمية، فلا هي مقولة فقهية أو علمية، ولا رتبة وظيفية؛ بل هي مقولة إجرائية واقعية عرفية، تدل على المراجع الذين لهم مقلّدون ونفوذ ديني يلي نفوذ المرجعين الأعليين وعدد مقلديهم.

ويبلغ عدد مراجع الصف الأول في قم والنجف حالياً (نهاية العام 2023) خمسة مراجع، هم:

1ـ الشيخ محمد إسحاق الفياض، أفغانستاني يقيم في النجف، وهو امتداد مدرسة الإمام الخوئي وحوزة النجف.

2ـ الشيخ بشير حسين النجفي، باكستاني يقيم في النجف، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخوئي وحوزة النجف.

3ـ الشيخ حسين الوحيد الخراساني، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخوئي وحوزة النجف.

4ـ الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة السيد حسين البروجردي وحوزة قم.

5ـ السيد موسى الشبيري الزنجاني، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة السيد حسين البروجردي وحوزة قم.

أمّا مراجع الصف الثاني في النجف وقم في الحال الحاضر؛ فإنّ نفوذهم الديني وعدد مقلديهم يلي مراجع الصف الأول، وأبرزهم:

1ـ الشيخ حسين النوري الهمداني، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخميني وحوزة قم.

2ـ السيد صادق الحسيني الشيرازي، عراقي من أصل إيراني، يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة شقيقه السيد محمد الشيرازي وحوزة كربلاء.

3ـ الشيخ جعفر السبحاني التبريزي، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخميني وحوزة قم.

4ـ الشيخ عبد الله الجوادي الآملي، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخميني وحوزة قم.

5ـ السيد علاء الدين الموسوي الغريفي، عراقي يقيم في النجف، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخوئي وحوزة النجف.

6ـ الشيخ محمد اليعقوبي، عراقي يقيم في النجف، يمثل امتداداً لمدرسة السيد محمد الصدر وحوزة النجف.

وفضلاً عن رجوع الشيعة إلى مراجع الدين الأحياء السبعة عشـر، (المرجعين الأعليين السيد علي السيستاني والسيد علي الخامنئي ومراجع الصف الأول الستة ومراجع الصف الثاني الستة)؛ فإنّ هناك من الشيعة من لا يزال ـ بناءً على فتوی أحد المراجع الأحياء المذكورين ـ باقياً على تقليد المراجع المتوفين، وخاصة الإمام الخميني والإمام الخوئي والسيد عبد الأعلى السبزواري والسيد محمد الصدر والسيد محمد رضا الگلپایگاني والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد تقي بهجت والسيد محمد باقر الصدر. والأخير هو أقدم مرجع ديني متوفى لا يزال لديه مقلدون.

وأؤكد هنا مرة أُخرى على منهجي البحثي؛ فأنا أصف المشهد الشيعي والحوزوي كما هو دون تدخل، ووفق فهمي الموضوعي لسياقات الحوزة العلمية، وتوجهات الرأي العام الحوزوي في النجف وقم، ولست صاحب قرار أو من أهل الخبرة الفقهية، لكي أحدد مستويات الاجتهاد والفقاهة والعدالة والكفاءة. أي أنّ عدم تصنيفي لأسماء علماء دين معروفين، إيرانيين وعراقيين وأفغانستانيين وباكستانيين وبحرانيين، ضمن مرجعيات الصفين الأول والثاني، ليس تجاهلاً مني لهذا الفقيه وذاك المرجع؛ بل إنّ سياقات الحوزتين النجفية والقمية وتوجهات الرأي العام الحوزوي؛ تجعلهم خارج معايير التصنيف. ويضاف إليه أنّ الشارع الشيعي المتدين هو ـ غالباً ـ تقليدي في نظرته إلى الحوزة والمرجعية، ويميل إلى الالتزام بالرأي العام الحوزوي التقليدي.

المرجعية النجفية بعد آية الله السيستاني

تبدو الخيارات في النجف الأشرف بعد رحيل مرجعه الأعلى السيد علي السيستاني (مواليد 4 آب / أغسطس 1930 م = 91 عاماً)، سهلة ومحددة في ظاهرها؛ لأنّها منحصرة تقريباً في مرجعي الصف الأول المتعارفين حوزوياً: الشيخ بشير حسين النجفي، والشيخ محمد إسحاق الفياض، ولكنهما يعانيان من بعض أمراض الشيخوخة المعتادة، وينطبق الأمر أيضاً على الشيخين الفياض (مواليد العام 1930 = 91 عاماً)، وبشير النجفي (مواليد العام 1942 = 79 عاماً). وفضلاً عن أنّ المرجعين الأخيرين وطاعنان في السن، فضلاً عن أسباب أُخر تستبعدهما عن موقع المرجعية العليا، أحدها أنهما ليسا من السادة (أحفاد رسول الله)، والحال أنّ العقل الباطن للشيعي العراقي؛ بل غير العراقي أيضاً، بات يألف العمامة السوداء التي تذكِّره بأبناء رسول الله والإمام علي والسيدة الزهراء. وبرغم أنّ قضية العمامة السوداء تفتقد إلى الأصل التشـريعي والتاريخي؛ لكنها باتت عرفاً منذ أكثر من قرن وحتى الآن، أي منذ مرجعية السيد أبو الحسن الإصفهاني في العام 1920 وحتى الآن؛ إذ لم يتبوّأ موقع المرجعية العليا منذ ذلك الحين وحتى الآن أي فقيه من غير السادة.

ولذلك؛ فإن مرحلة ما بعد السيد السيستاني هي مرحلة صعبة ومعقدة؛ بل أصعب من المراحل التاريخية التي تشظّت فيها الخيارات، كمرحلة ما بعد وفاة شيخ الشريعة الإصفهاني في العام 1920، والذي خلفه أربعة مراجع كبار: الشيخ الميرزا محمد حسين النائيني، والشيخ ضياء الدين العراقي، والشيخ عبد الكريم الحائري، والسيد أبو الحسن الإصفهاني، ولم يتفرد الإصفهاني بالمرجعية العليا نهائياً إلّا بعد وفاة العراقي والنائيني والحائري، أو مرحلة ما بعد رحيل السيد أبو الحسن الإصفهاني في العام 1946، والذي خلفه السيد حسين البروجردي والسيد عبد الهادي الشيرازي والسيد محسن الحكيم، ولم تستقر المرجعية العليا نهائياً للسيد الحكيم إلّا بعد وفاة البروجردي في العام 1961 والسيد عبد الهادي الشيرازي في العام 1961 أيضاً، أو مرحلة ما بعد رحيل الإمام الخميني في العام 1989؛ إذ كان هناك السيد الخوئي والسيد محمد رضا الكلبايكاني والشيخ محمد علي الأراكي، أو مرحلة ما بعد وفاة السيد الخوئي في العام 1992؛ فقد كان المرجع الأبرز هو السيد محمد رضا الكلبايكاني، ولكن برز أيضاً مراجع كبار كالشيخ محمد علي الأراكي والسيد عبد الأعلى السبزواري والشيخ علي الغروي والشيخ مرتضى البروجردي والسيد حسين بحر العلوم والسيد علي السيستاني والسيد محمد الصدر والسيد محمد سعيد الحكيم، وهي الأسماء نفسها التي ظلت الأبرز بعد رحيل السيد الكلبايكاني والشيخ الأراكي والسيد السبزواري.

وتعود صعوبة مرحلة ما بعد السيستاني الى الأسباب الثلاثة الرئيسة التالية:

1 ـ شحة الخيارات: وتحديداً الخيارات التي تستطيع استيعاب الشارع الشيعي العراقي المتحرك، وتمارس الرعاية العامة للنظام الاجتماعي وحركة الدولة؛ بالنظر لما بات يترتب على مرجع النجف من واجبات تجاه النظام العام بعد العام 2003؛ إذ إنّ عراق ما قبل العام 2003 يختلف عن عراق ما بعد العام 2003، وهو اختلاف ينعكس على واجبات المرجعية وأدائها، ويفعِّل تلقائياً ولايتها على الحسبة العامة والنظام المجتمعي العام بشكل واسع. وبالتالي؛ فإنّ المعضلة ليست في موضوعة المرجع الأعلم؛ بل في المرجع الأكفأ في إدارة الشأن العام، والذي يحظى بالمقبولية العامة.

2 ـ بروز الخطوط الخاصة داخل الحوزة: هذه الخطوط لا تستطيع الآن تحدّي مرجعية السيد السيستاني في حياته؛ لكنها تنتظر رحيله؛ ليكون لها حضورها القوي والفاعل في الشأن العام. وهذا يعني ظهور محاور جادة من الخلافات والتعارضات على المستويين الخاص والعام. وهنا تتضاعف خطورة شحة الخيارات في الخط المرجعي العام، وخاصة إذا أصبحت هذه المحاور محط تجاذب الأجندات السياسية وأجندات الخصوم المذهبيين.

3 ـ تزامن المرحلتين الصعبتين النجفية والقمية: لعل مرحلة ما بعد السيستاني ومراجع الصف الأول في النجف، ستتزامن مع مرحلة ما بعد الخامنئي ومكارم الشيرازي ومراجع الصف الأول في قم، وجميعهم تزيد أعمارهم على الثمانين عاماً، وهو ما يزيد صعوبة الموقف الشيعي العام، والموقف المرجعي النجفي بشكل خاص؛ إذ إنّ وجود المرجعيات الكبيرة النافذة على المستوى الشيعي العالمي في النجف وإيران، يلعب دوراً في الدعم المتبادل والتعاون؛ لكن غياب مرجعيات قم المؤثرة معنوياً، سيعمق المشكلة في النجف؛ بل في أغلب بلدان الحضور الشيعي.

والذي لا شك فيه أنّ مرجع النجف الأعلى بعد السيستاني سيكون من داخل النجف؛ لأسباب كثيرة، بعضها يتعلق بالمسار التاريخي لمنظومة المرجعية الشيعية، ومركزية النجف التقليدية في هذه المنظومة، والآخر يتعلق بالواقع الاجتماعي والسياسي الشيعي العراقي، والثالث يتعلق بوجود خيارات مرجعية ربما تكون مقبولة داخل النجف، وإن كانت شحيحة وصعبة. ولذلك؛ فإنّ احتمال رجوع حوزة النجف إلى مرجعية من خارجها أمرٌ مستبعد، بصرف النظر عن مدخلية شرط الأعلمية وتوافر الشـرائط الموضوعية الأُخر. ولا أتحدث هنا عن موضوع التقليد وحسب؛ بل عن المرجع الأعلى المتصدّي للشأن العام؛ إذ إنّ التقليد ليس معضلة بالأساس؛ فهناك كثير من العراقيين في داخل العراق وخارجه يقلدون مراجع عراقيين وإيرانيين يقيمون في إيران.

وثمة أربعة مشاهد نجفية مفترضة لمرحلة ما بعد السيستاني، وهي مشاهد تدخل في دائرة الاحتمالات، ونطرحها هنا بصرف النظر عن نسبة تحققها:

1ـ مشهد تسنم أحد الشيخين النجفي والفياض موقع المرجعية العليا في النجف، وهذا المشهد يصطدم بعقبة تقدمهما في العمر وإصابتهما بأمراض الشيخوخة، واحتمال رحيلهما قبل السيد السيستاني، وفق الموازين الطبيعية المنظورة، أو بعده بوقت قصير، فضلاً عن الأسباب المانعة الشكلية التي تحدثنا عنها، ولذلك؛ ينبغي إلغاء هذا المشهد.

2ـ مشهد تسنم أحد مراجع الصف الثاني في النجف موقع المرجعية العليا، وهو مشهد لا يحظى بنسبة يعتد بها من القبول؛ لا سيما أنّ عدد هؤلاء أقل من أصابع اليد الواحدة، وتواجههم مشكلة قبول الرأي العام الحوزوي بمرجعياتهم، كالسيد علاء الدين الغريفي والشيخ محمد اليعقوبي. ولذلك ينبغي إلغاء مشهد مراجع الصف الثاني أيضاً، بعد أن تم إلغاء مشهد مراجع الصف الأول.

3ـ مشهد قبول النجف بأحد المراجع النجفيين المقيمين في قم، أي الذين تخرجوا في حوزة النجف، ولا يزالون يحتفظون بمنهجيتها وبارتباطهم النفسي بها، أمثال الشيخ حسين الوحيد الخراساني والسيد كاظم الحائري. وهذا المشهد لا حظوظ له أيضاً؛ لأنّ المراجع النجفيين في قم طاعنين في السن ومرضى، ومعدل أعمارهم (90) سنة، ولن يستطيع أيّاً منهم العودة إلى النجف. ويدخل في هذا المشهد أيضاً بعض علماء الدين العراقيين والإيرانيين في قم، كالسيد كمال الحيدري، وهؤلاء لا يحظون بمقبولية الرأي العام الحوزوي النجفي. وبالتالي؛ يلغى هذا المشهد أيضاً.

4ـ مشهد بروز أحد الفقهاء من أساتذة البحث الخارج المرموقين في النجف، وهم كثر؛ كالشيخ محمد باقر الإيرواني والشيخ محمد هادي آل راضي والشيخ حسن الجواهري والسيد علي السبزواري والشيخ محمد السند والسيد محمد رضا السيستاني والسيد علي أكبر الحائري:

  • الشيخ محمد باقر الإيرواني، من أُسرة علمية دينية نجفية تعود بنسبها إلى الشيخ الفاضل الإيرواني، النازح من منطقة آذربيجان. ولد في النجف الأشرف في العام ١٩٤٩، ودرس في مدارس منتدى النشر التي كان يشرف عليها الشيخ محمد رضا المظفر. وخلال مرحلة الدراسة الثانوية انضم إلى الدراسات الدينية في الحوزة العلمية، حتى بلغ مرحلة البحث الخارج، فحضر دروس السيد محمد باقر الصدر والسيد أبو القاسم الخوئي والسيد علي السيستاني والسيد محمد سعيد الحكيم . وبدأ بتدريس مرحلة السطوح العالية، حتى هجرته إلى إيران، حيث استمر بتدريس السطوح العالية ثم البحث الخارج بدءاً من العام 1991. ثم عاد إلى النجف الأشرف بعد سقوط النظام البعثي، واستأنف دروس البحث الخارج، ويُعدّ درسه أكبر درس في النجف حالياً.
  • الشيخ محمد هادي آل راضي، من أحفاد الشيخ راضي النجفي، جد الأُسرة العلمية الدينية النجفية المعروفة بآل راضي، وهي فرع من عشيرة آل عِلي، إحدى عشائر بني مالك. ولد في العام 1949 في النجف الأشرف، درس في مدارس منتدى النشر التي كان يشرف عليها الفقيه المجدد الشيخ محمد رضا المظفر، إلى جانب انخراطه في سلك العلم الديني، وتدرج في مراحل الدراسة حتى بلغ مرحلة البحث الخارج، فتتلمذ عند السيد الشهيد محمد باقر الصدر، والسيد أبو القاسم الخوئي وآخرين. ثم هاجر إلى إيران في العام ١٩٨٠ بعد إعدام أُستاذه السيد محمد باقر الصدر وملاحقة تلامذته. وبعد أكثر من عشر سنوات على تدريس مرحلة السطوع العالية في الحوزة العلمية في قم، بدأ بتدريس البحث الخارج في العام 1992. وبعد سقوط النظام البعثي، عاد إلى النجف الأشرف وواصل التدريس وأداء واجباته الدينية والعلمية.
  • الشيخ حسن الجواهري، من أُسرة علمية دينية نجفية شهيرة، تعود إلى مؤسسها مرجع الشيعة في زمانه الشيخ محمد حسن النجفي المعروف بـ «الجواهري» نسبة إلى كتابه الفقهي «جواهر الكلام». ولد في العام ١٩٤٩في مدينة النجف الأشرف، وجمع بين الدراستين الأكاديمية والدينية، فتخرج في كلية الفقه في العام ١٩٧١. كما بلغ مرحلة البحث الخارج، وحضر خلالها دروس والده الشيخ محمد تقي الجواهري، إضافة إلى السيد أبو القاسم الخوئي والسيد الشهيد محمد باقر الصدر. واعتقل في العام 1979 بتهمة النشاط السياسي الإسلامي، ثم أُبعد إلى إيران، وحينها استأنف الدراسة والتدريس والعمل العلمي والفكري والواجبات الدينية في الحوزة العلمية في قم، وحضر دروس الميرزا الشيخ جواد التبريزي والشيخ حسين الوحيد الخراساني. وبدأ بتدريس البحث الخارج في العام 1988، وكان عضواً في مجمع الفقه الإسلامي في جدة، وعضواً في المجمع العالمي لأهل البيت، قبل أن يعود إلى النجف بعد سقوط النظام البعثي في العام 2003، ويستأنف في الحوزة العلمية مهامه العلمية والدينية.
  • السيد علي الموسوي السبزواري، نجل المرجع الديني السيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري، ولد في النجف الأشرف في العام 1945 درس البحث الخارج على والده والسيد أبو القاسم الخوئي. ويذكر مطلعون أنّ والده أوصاه ـ قبل وفاته ـ بعدم التصدّي للمرجعية، والاهتمام بالشأن العلمي وقضاء حوائج الناس، ولذلك يستبعد هؤلاء إعلان السيد علي السبزواري نفسه مرجعاً للتقليد، فضلاً عن معاناته من مشاكل صحية مزمنة.
  • الشيخ محمد السند، ولد في العام 1961 في العاصمة البحرينية المنامة. جمع في بلده البحرين بين الدراستين الأكاديمية والدينية، ثم واصل دراسته الجامعية في لندن، كما استأنف الدراسة في الحوزة العلمية في قم في العام 1980، حتى مرحلة البحث الخارج، فحضر بعد العام 1984 دروس مراجع قم الكبار، كالسيد محمد الروحاني والميرزا الشيخ هاشم الآملي والسيد محمد رضا الگلپايگاني والميرزا الشيخ جواد التبريزي، إلى جانب تدريسه مرحلة السطوح، وبعد عشر سنوات بدأ بتدريس البحث الخارج. ثم انتقل في العام 2010 إلى النجف الأشرف، وواصل التدريس في حوزتها العلمية.
  • السيد محمد رضا الحسيني السيستاني، الابن الأكبر لمرجع النجف الأعلى السيد علي السيستاني. ولد في النجف الأشرف في العام 1962، ودرس في حوزتها العلمية، حتى بلغ مرحلة البحث الخارج، فحضر دروس والده والسيد أبو القاسم الخوئيوالسيد علي البهشتي. برز دوره العام بعد سقوط نظام البعث، من خلال إدارة شؤون والده ومكاتب المرجعية العليا، وشكّل حلقة التواصل بين والده والدولة العراقية والكتل السياسية والمؤسسات الاجتماعية.
  • السيد علي أكبر الحسيني الحائري، شقيق المرجع السيد كاظم الحائري، ومن أُسرة دينية علمية تعود جذورها إلى مدينة شيراز الإيرانية. ولد في مدينة النجف الأشرف في العام 1948، ودرس في حوزتها العلمية حتى حضر دروس البحث الخارج عند السيد محمد باقر الصدر وغيره من فقهاء النجف. كان من المجاهدين والمعارضين لنظام البعث منذ بدايات شبابه، من خلال قربه من السيد محمد باقر الصدر وانتمائه إلى الحركة الإسلامية العراقية، ولعب دوراً أساسياً في انتفاضة رجب في العام 1979، والتي أدت إلى إطلاق سراح السيد محمد باقر الصدر. وبعد اعتقاله؛ حكم بالسجن المؤبد، ثم تم إبعاده إلى إيران في العام 1980، فواصل عمله الجهادي والعلمي انطلاقاً من مدينة قم، واستأنف حضور دروس البحث الخارج عند شقيقه السيد كاظم الحائري وغيره من مراجع قم، إلى جانب تدريس مرحلة السطوح. ثم شرع بتدريس البحث الخارج في قم، واستأنفه بعد عودته إلى النجف الأشرف في أعقاب سقوط النظام البعثي.

وكل واحد من هؤلاء السبعة تواجهه جملة من العقبات الخاصة والعامة. وفضلاً عن العقبات الخاصة، فإنّ هناك مشكلة مشتركة عامة تكمن في كيفية وصولهم إلى موقع المرجعية العليا مباشرة، دون المرور بمرحلتي مرجعية الصف الثاني ومرجعية الصف الأول، وهو ما أسميناه في دراستنا بـ «السياقات التقليدية للتدرج المرجعي»، والتي يتجاوزها بعض علماء الدين وهو يتعجل بلوغ مستوى المرجعية؛ ما يؤدي إلى توقف تقدمه نحو موقع المرجعية العليا، وإن أصبح ـ فيما بعد ـ أعلم المراجع الأحياء وأكفأهم. بيد أنّ القدر المتيقن هو أنّ أغلب هؤلاء الفقهاء المعترف باجتهادهم وفقاهتهم وفضلهم من الرأي العام الحوزوي، سيبادر إلى طباعة رسالته العملية وطرح نفسه مرجعاً للتقليد بعد مرحلة السيستاني، وسيرجع إليه جزءٌ مهم من الشيعة.

وبرغم العقبات المحتملة التي تقف أمام المشهد الرابع؛ لكنه يبقى المشهد الوحيد الأقرب إلى التحقق، خاصة إذا كان الفقيه المرشح يعتمر العمامة السوداء ويحظى بدعم صنّاع الرأي العام الحوزوي. ولكن هذا المشهد لن يوحد المرجعية النجفية، ولن يفرز مرجعاً أعلى بديلاً للسيد السيستاني؛ بل إنّه يفرز تشتتاً تلقائياً لفترة من الزمن، ربما لا تقل عن عشر سنوات تعقب رحيل السيستاني؛ لأنّ أياً من الفقهاء المذكورين في المشهد الرابع لا يمكنه أن يحظى بالإجماع النسبي من الرأي العام الحوزوي؛ لأسباب موضوعية وشخصية كثيرة. وستكون الجهة الأهم التي تلعب دوراً أساسياً في حسم المشهد؛ هي مرجعية السيد السيستاني نفسها، والتي يستمع إلى رأيها أغلب أساتذة البحث الخارج والسطوح العالية في النجف، والذين يشكلون شبكة حقيقية لأهل الخبرة. وبما أنّ بيت السيد السيستاني في النجف ومكتبه في قم؛ ركنان أساسيان في مرجعيته؛ فإنّ إشارة المرجع الأعلى السيد السيستاني ودعم بيته ومكتبه؛ ستكون مفصلية في تحديد مرجع النجف لمرحلة ما بعد السيد السيستاني.

وتبعاً للأعراف والسياقات الحوزوية، وأساليب صناعة الرأي العام الحوزوي؛ فإنّ أغلب أصحاب الرسائل العملية الحاليين في النجف وكربلاء وقم، ممن يطرحون أنفسهم مراجع تقليد خارج السياقات غالباً، سواء كانوا عراقيين أو إيرانيين؛ هم خارج المنافسة على موقع المرجعية العليا أو مرجعيات الصف الأول والثاني في النجف.

المرجعية القمية وقيادة الدولة بعد آية الله الخامنئي

ربما تكون مرحلة ما بعد السيد علي الخامنئي مؤجلة على المستوى القريب، وفق المعايير الطبيعية، كونه يتمتع بصحة جيدة، فضلاً عن ثبات وضع الدولة الإيرانية واستقرار مجتمعها ونظامها السياسي. وقد تطول مرحلة بقاء السيد الخامنئي في موقع المرجعية الدينية والقيادة الرسمية لفترة لا تقل عن عشـر سنوات.

وعموماً، فإنّ مرحلة ما بعد السيد الخامنئي، وإن كانت مؤجلة مؤقتاً، ستكون صعبة على إيران وعموم الواقع الشيعي العالمي؛ بل لعلها على مستوى موقع القيادة الرسمي ستكون أكثر صعوبة وتعقيداً من مرحلة ما بعد السيد السيستاني النجفية؛ لأنّ السيد الخامنئي يمثل المرجعية الدينية من جهة وقيادة الدولة من جهة أُخرى، وقد ظل الوهج المعنوي لمرجعيته الدينية ومساحة مقلديه، يضفي قوة إضافية على موقع القيادة الرسمي، ونفوذاَ معنوياً خارج حدود إيران، وهو ما سيفقده القائد القادم فيما لو لم يكن مرجع تقليد فعلي.

ويبدو صعباً، عند تشوّف المشهد الإيراني، إيجاد شخصية واحدة تسد الفراغين الذين سيتركهما السيد الخامنئي على المدى المنظور؛ بالنظر لصعوبة الشروط التي ينبغي توافرها في المجتهد الذي يجمع الموقعين: الديني المتمثل بالمرجعية العليا، والرسمي المتمثل بولاية الفقيه العامة الحاكمة. ومن هذه الشروط، أن يكون المجتهد الذي ينبغي أن يشغل موقع القيادة الحاكمة، أن يكون هو شخصياً معتقداً بولاية الفقيه المطلقة نظرياً وعملياً، وأن يكون على دراية بشؤون الدولة وعملها، وكفوءاً في مجال إدارة النظام العام وتدبيره، وواعياً بتعقيدات السياسة، وخاصة السياسة الدولية، وهو ما يلخّصه الفقهاء بشرط «الكفاءة»، الذي يضاف إلى الشـرطين الأساسيين الآخرين (الفقاهة والعدالة). وهذه الشروط يصعب إيجادها في فقيه بعيد عن الدولة والنظام، ولم يسبق له أن شغل موقعاً رأسياً فيها. فالسيد علي الخامنئي ـ مثلاً ـ شغل موقع رئاسة الجمهورية لدورتين كاملتين، قبل أن يتسلم موقع الولي الفقيه الحاكم، كما كان عضواً في مجلس خبراء الدستور ومجلس خبراء القيادة، أي أنّه كان يعي وعياً ميدانياً دقيقاً بعمل الدولة ومتطلباتها التفصيلية.

وربما يوجد عدد غير قليل من مراجع الحوزة القمية ممن يُعدّ قريباً من الدولة وشغل مواقع رسمية فيها؛ كالشيخ ناصر مكارم الشيرازي والسيد موسى الشبيري الزنجاني والشيخ جعفر السبحاني التبريزي والشيخ حسين النوري الهمداني والشيخ عبد الله الجوادي الآملي، وهم يمثلون اليوم أبرز مراجع الصفين الأول والثاني، وأغلبهم من تلاميذ الإمام الخميني. إلّا أنّ هؤلاء وغيرهم أكبر سناً من السيد الخامنئي، ومعدل أعمارهم (90) عاماً تقريباً، ويعاني أغلبهم من أمراض الشيخوخة الطبيعية.

لذلك؛ ينبغي هنا الحديث عن فقيهين يملآن الفراغ الذي سيتركه السيد الخامنئي، وليس فقيهاً واحداً، أحدهما للقيادة والآخر للمرجعية؛ ما يعني فصل الموقعين لأول مرة منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية في العام 1979، أما فصلاً مؤقتاً، كما حدث في حالة السيد الخامنئي في أول خمس سنوات من قيادته([1])، أو فصلاً دائماً. وهذا يعني أن البحث سيتجه نحو فقهاء من خارج مواقع مرجعيات التقليد الحالية، ومن خارج الأسماء المعروفة المذكورة أعلاه؛ لأنّ موقع القيادة في دستور الجمهورية الإسلامية وفي الفقه لا يشترط أن يكون الولي الفقيه مرجعاً للتقليد؛ بل يكفي أن يكون مجتهداً([2]).

ولا شك أنّ توافر الآليات المتعارفة والمقننة في إيران، على الصعيدين المرجعي والقيادي، سيسهل عملية الحسم، ويوصلها إلى النتيجة المطلوبة، وأهمها وجود جماعة مدرسي الحوزة التي ترشح مراجع التقليد، ومجلس خبراء القيادة الذي ينتخب الولي الفقيه الحاكم (قائد الدولة)؛ وإن لم تكن هذه الآليات مقبولة عند جميع المهتمين بالشأن المرجعي، وبينهم أصحاب الخطوط المرجعية الخاصة من خصوم الجمهورية الإسلامية.

1- بديل آية الله الخامنئي في الموقع الديني المرجعي:

على مستوى المرجعية الدينية البديلة، هناك ثلاث مؤسسات حوزوية رأسية في قم سيكون لها دور في ترشيح المرجعية الجديدة في مرحلة ما بعد السيد الخامنئي، ومرجعيات الصفين الأول والثاني الطاعنة في السن، هي: جماعة مدرسي الحوزة العلمية، ومجلس الشورى العليا للحوزة العلمية، ومجلس الشورى العليا للحوزات العلمية في إيران. إلّا أنّ الدور المركزي سيبقى لجماعة مدرسي الحوزة العلمية في قم، والتي تتألف من (56) مجتهداً، أغلبهم من كبار أساتذة البحث الخارج، وهي المؤسسة الشيعية الدينية الأكثر نفوداً، والتي تمثل ما يعرف حوزوياً بـ «أهل الخبرة»، أي أنّها بمثابة مجلس شورى حوزوي ينظم عمل أهل الخبرة وجماعات الضغط الداخلي. ومما يزيد من نفوذ هذه الجماعة أنّ أغلب أعضائها هم في الوقت نفسه أعضاء في مجلس إدارة حوزة قم ومجلس الحوزات العلمية في عموم إيران من جهة، ومجلس الخبراء ومجلس صيانة الدستور التابعين للدولة من جهة أُخرى؛ أي أنّهم يجمعون بين قيادة الرأي العام الحوزوي وقيادة الرأي الديني السياسي الرسمي. وهو يساهم مساهمة أساسية ومباشرة في تنظيم عملية حسم موقع المرجعية في قم ويسهلها؛ بل حسم موقع ولاية الفقيه في مرحلة ما بعد السيد الخامنئي أيضاً.

وأول ما يتبادر إلى الذهن في هذا المجال هو أن يتم طرح أسماء مرجعيات الصفين الأول والثاني في حوزة قم؛ لتخلف مرجعية السيد الخامنئي، كما هو الحال مع النجف، وأبرزهم: الشيخ حسين الوحيد الخراساني (مواليد 1921= 103 عاماً)، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي (مواليد 1927 = 97 عاماً)، والسيد موسى الشبيري الزنجاني (مواليد 1928 = 96 عاماً) والشيخ جعفر السبحاني ( مواليد 1929 = 95 عاماً)، وهم المعوّل عليهم في تزعم المرجعية العليا في إيران؛ لكن العامل الأساس الذي يلغي هذا المشهد برمته، هو أن جميع هؤلاء المراجع طاعنون في السن ويعانون من أمراض الشيخوخة أيضاً، ويكبرون السيد الخامنئي في العمر. ولا يختلف الأمر عن المرجعيات الرديفة، كالشيخ حسين النوري الهمداني (مواليد 1925 = 99 عاماً)، والشيخ عبد الله الجوادي الآملي (مواليد 1934 = 90 عاماً)، والشيخ محمد علي گرامي القمي (مواليد 1938 = 86 عاماً)، والسيد محمد علي العلوي الگرگاني (مواليد 1939 = 85 عاماً).

أمّا الخطوط المرجعية الخاصة، كالمرجعية الشيرازية، أو الشخصيات التي طرحت مرجعياتها خارج السياقات المتعارفة، وبينهم علماء دين إيرانيين وعراقيين وأفغانستانيين وباكستانيين معروفين؛ فليس لها أية حظوظ في بلوغ المرجعية العليا أو مرجعيات الصف الأول في قم؛ لأنّ أعراف الحوزة القمية وسياقاتها لا تختلف كثيراً عن المعايير والسياقات النجفية.

ومن خلال التوقف عند أعمار مراجع الصفين الأول والثاني، يتبين أنّ السيد علي الخامنئي (مواليد 1939= 85 عاماً) هو أصغرهم سناً، وأنه يتمتع بصحة جيدة ولا يعاني من أمراض الشيخوخة، وأنه ربما يرث أغلب مقلدي هؤلاء مراجع إيران، وكثير من مقلدي مراجع النجف في بلدان العالم. لذلك؛ فإنّ الواقعية تستدعي هنا الحديث عن مرحلة ما بعد السيد الخامنئي ومرجعيات الصف الأول والصف الثاني، وليس مرحلة ما بعد السيد الخامنئي وحسب.

ويبدو أنّ الاحتمال الأقرب إلى التحقق في إيران، في مرحلة ما بعد السيد الخامنئي ومراجع الصفين الأول والثاني الطاعنين في السن؛ هو الاحتمال المرجح نفسه في النجف في مرحلة ما بعد السيستاني ومراجع الصف الأول؛ أي بروز فقهاء من أساتذة البحث الخارج المرموقين، ممن طرحوا أو لم يطرحوا أنفسهم مراجع تقليد حتى الآن، ومن المؤكد أنّ أغلبهم سينشر رسالته الفقهية العملية بعد رحيل مراجع الصفين الأول والثاني في قم، ومن هؤلاء: السيد علي المحقق الداماد، والشيخ علي كريمي الجهرمي، والسيد محمد جواد العلوي البروجردي، والسيد علي أصغر الميلاني، والسيد أحمد المددي، والشيخ صادق الآملي اللاريجاني، والشيخ مهدي شب زنده دار الجهرمي، وأغلبهم لم يبلغ السبعين من عمره.

  • السيد علي الحسيني المحقق الداماد، جده لأُمّه المرجع الشيخ عبد الكريم الحائري الذي أعاد تأسيس الحوزة العلمية في قم، ووالده الفقيه المعروف السيد محمد المحقق الداماد. ولد في مدينة قم في العام 1941. درس العلوم الدينية في حوزتي قم والنجف، وبعد بلوغه مرحلة البحث الخارج درس عند كبار فقهاء قم، كأبيه السيد محمد المحقق الداماد، والسيد محمد رضا الگلپايگاني، والميرزا الشيخ هاشم الآملي، وفي النجف الأشرف درس على السيد أبو القاسم الخوئي والشيخ حسين الحلي. شغل بين العامين 1981 و1991 عضوية مجلس إدارة الحوزة العلمية في قم، كما صب اهتمامه في الفترة نفسها على أسلمة وتدوين قوانين السلطة القضائية. وهو حالياً رئيس هيئة أمناء جامعة المفيد (أكبر جامعة دينية أكاديمية في قم).
  • الشيخ علي كريمي الجهرمي، وهو صهر المرجع الديني الراحل الشيخ لطف الله الصافي الگلپايگاني، أي أنّ زوجته حفيدة مرجع قم الأعلى الراحل السيد محمد رضا الگلپايگاني. ولد في مدينة جهرم (من توابع شيراز) في العام ١٩٤٠. بدأ دراسته الدينية في مدينتي جهرم وشيراز، ثم انتقل إلى قم ليدرس في حوزتها العلمية مرحلة السطوح ثم البحث الخارج، فحضر عند مراجع قم الكبار، كالميرزا الشيخ هاشم الآملي والإمام الخميني والشيخ محمد علي الآراكي والسيد محمد رضا الگلپايگاني. وبعد عشرين عاماً من تدريس مرحلة السطوح العالية، بدأ في العام 1992بتدريس البحث الخارج.
  • السيد محمد جواد العلوي الطباطبائي البروجردي، جده لأُمّه مرجع قم الأعلى السيد حسين البروجردي، وأبوه الفقيه السید محمد حسین العلوي البروجردي. ولد في مدينة قم في العام 1952. تدرج في الدراسة الدينية في حوزة قم حتى وصل إلى مرحلة البحث الخارج، فحضر عند الشيخ الوحید الخراساني والسید محمد الروحاني والشيخ عبد الله الجوادي الآملي. ثم بدأ البحث الخارج منذ العام 1991، وأعلن مرجعيته في العام 2018، رغم تحفظ جماعة مدرسي الحوزة العلمية في قم على ذلك.
  • السيد علي أصغر الحسيني الميلاني، من أُسرة دينية علمية إيرانية وعراقية عريقة، فجده المرجع الديني السيد محمد هادي الميلاني ووالده السيد نور الدين الميلاني من كبار علماء كربلاء. ولد في النجف الأشرف في العام 1947. درس مرحلتي المقدمات والسطوح في الحوزة العلمية في كربلاء، ثم انتقل إلى النجف الأشرف لإكمال دراسته في البحث الخارج، إلّا أنّ موجات التهجير التي شنها نظام البعث، ضد من أسماهم التبعية الإيرانية، طالته في العام 1970، فانتقل إلى مدينة مشهد وحضـر دروس البحث الخارج عند جده السيد محمد هادي الميلاني. ثم هاجر إلى مدينة قم، ومارس تدريس مرحلة السطوح إلى جانب حضوره دروس كبار فقهائها، كالسيد محمد رضا الگلپايگاني والشيخ حسين الوحيد الخراساني والسيد محمد الحسيني الروحاني والشيخ مرتضى الحائري. ثم بدأ بتدريس البحث الخارج في العام 1992.
  • السيد أحمد الموسوي المددي، جده لأُمّه مرجع النجف الأعلى السيد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني، وأبوه الفقيه السيد محمد المددي. ولد في النجف الأشرف في العام 1953. أكمل دراسة السطوح العالية في النجف، ثم حضر بحوث الخارج عند السيد أبو القاسم الخوئي بدءاً من العام 1969. وحين أراد العودة إلى العراق بعد أدائه فريضة الحج في العام 1980، منعته سلطات البعث، فاضطر إلى الذهاب إلى إيران، واستقر في مدينة قم، وحضر لفترة وجيزة دورس السيد محمد رضا الگلپايگاني والشيخ مرتضى الحائري والشيخ حسين الوحيد الخراساني والميرزا الشيخ جواد التبريزي، وما لبث أن بدأ بإعطاء دروس البحث الخارج.
  • الشيخ صادق الآملي اللاريجاني، من أُسرة علمية دينية عريقة، فأبوه الشيخ المیرزا هاشم الآملي، أحد كبار مراجع النجف وقم، وهو صهر الشيخ حسين الوحید الخراساني، أحد كبار مراجع قم. ولد في النجف الأشرف في العام 1960م. وبدأ دراسته الدينية في العام 1977 بعد تخرجه في الثانوية. وخلال سنوات قليلة أتم مرحلتي المقدمات والسطوح، وبدأ بحضور الدراسات العليا (البحث الخارج) على يد كبار فقهاء قم، أمثال: والده، والشيخ حسين الوحيد الخراساني. ثم بدأ بعد العام 1989 بتدريس البحث الخارج في الفقه وأُصوله. انتخب عضواً في مجلس خبراء القيادة لدورتين الثالثة والرابعة، وعضواً في مجلس صيانة الدستور، ثم رئيساً للسلطة القضائية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الفترة من 2009 إلى 2019، ثم رئيساً لمجمع تشخيص مصلحة النظام.
  • الشيخ مهدي شب زنده دار الجهرمي، من عائلة علمية دينية، أبوه الفقيه المعروف الشيخ حسين شب زنده دار. ولد في محافظة شيراز جنوب إيران في العام 1953، وانتقل مع والده إلى قم، وفيها بدأ دراسته في حوزتها العلمية، وتدرج في المراحل العلمية حتى بلغ مرحلة البحث الخارج، فحضر دروس الشيخ مرتضى الحائري والشيخ حسين الوحيد الخراساني والميرزا الشيخ جواد التبريزي. ثم أخذ يقدم دروس البحث الخارج منذ العام 1985. وبعد بضع سنوات أصبح عضواً في مجلس إدارة الحوزة العلمية في قم، إضافة إلى عضوية مجلس صيانة الدستور منذ العام 2013.

2- البديل القيادي الرسمي لآية الله الخامنئي:

من بين الفقهاء البارزين متوسطي العمر الذين شغلوا مواقع رأسية في الدولة، هو الشيخ صادق الآملي اللاريجاني، رئيس السلطة القضائية السابق ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام الحالي. وهو من الفقهاء الإيرانيين النشيطين فكرياً وبحثياً، فضلاً عن تميزه العلمي والفقهي. وإذا قُدّر للشيخ اللاريجاني أن يُنتخب ولياً للفقيه بعد السيد الخامنئي؛ فإنّه الوحيد القادر على الجمع بين المرجعية الدينية وقيادة الدولة، كما هو الحال مع السيد الخامنئي. لكن الذي يضعف حظوظه بعض الانتقادات لقدراته القيادية، حين كان رئيساً للسلطة القضائية، فضلاً عن عمامته البيضاء؛ لأنّ المجتمع الإيراني، ككل المجتمعات الشيعية، يميل بوضوح إلى العمامة السوداء، كعلامة فارقة للقيادة الدينية التي تذكّره بسلالة رسول الله وعلي وفاطمة.

ولذلك؛ فإنّ الأنظار تتجه إلى فقهاء آخرين من متوسطي العمر، ممن شغلوا مواقع رأسية في الدولة، ولعـل أبرزهم هـو السيد إبراهيم رئيسـي، رئيس الجمهورية الإسلامية وعضو مجلس الخبراء. والسيد إبراهيم الحسيني الرئيسي، من عائلة دينية، فوالده وجده كانا من علماء مشهد المعروفين. ولد في مدينة مشهد الإيرانية في العام 1960. دخل السلك القضائي في العام 1980 وتدرج فيه حتى أصبح رئيس السلطة القضائية بعد العام 2019. وكان يشغل منصب نائب رئيس السلطة القضائية في الفترة من 2004 حتى 2014، وانتخب عضواً في مجلس خبراء القيادة لدورتين، ما يعني أنه يحوز درجة الاجتهاد، لأن شرط الترشح الى المجلس هو الاجتهاد. كما شغل السيد رئيسي موقع سادن حرم الإمام الرضا. وفي العام 2017 خاض الانتخابات الرئاسية منافساً الرئيس حسن روحاني، وحصل على ما يقرب من 40% من الأصوات، رغم أنّه لم يكن يُعرف حينها كشخصية سياسية، بل قاض وشخصية دينية لكنه فاز في الانتخابات الرئاسية في العام 2021، وربما يتكرر معه مشهد القائد الحالي آية الله الخامنئي، الذي كان رئيساً للجمهورية حين توفي الإمام الخميني، وانتخبه مجلس الخبراء لمنصب الولي الفقيه وقيادة الدولة.

وقد بدأ السيد إبراهيم رئيسي دراسته الدينية في مسقط رأسه، ثم التحق بالحوزة العلمية في قم في العام 1975، ودرس على فقهائها كالشيخ علي المشكيني والشيخ محمد الفاضل اللنكراني والشيخ الخزعلي. وفي مرحلة البحث الخارج درس على الشيخ مجتبى الطهراني والسيد علي الخامنئي والسيد محمد حسين المرعشي الشوشتري والسيد محمود الهاشمي الشاهرودي. وإلى جانب نيله درجة الاجتهاد، فإنّه حصل على الدكتوراه في القانون الخاص. ولا يزال يقدم الدروس الدينية والأكاديمية في جامعات طهران وحوزتها العلمية.

وخلافاً لموقع المرجعية الذي يتم اختيار من يشغله وفق السياقات التقليدية المتعارفة؛ فإنّ الولي الفقيه في الجمهورية الإسلامية يختاره مجلسٌ رسمي من الفقهاء من أهل الخبرة، يُنتخب أعضاؤه انتخاباً شعبياً مباشراً كل ثمان سنوات، اسمه «مجلس خبراء القيادة»([3])، وهي سلطة خبروية فقهية مستقلة، تتألف من (88) مجتهداً، وتختص بانتخاب الولي الفقيه (قائد الدولة) ومراقبته وعزله.

 

 

([1]) طرحت الأوساط العلمية الدينية في إيران، وخاصة جماعة مدرسي الحوزة العلمية في قم وجماعة علماء طهران، مرجعية السيد الخامنئي بعد وفاة المرجع الأعلى السيد محمد رضا الموسوي الگلبايگاني في العام 1983 ثم المرجع الشيخ محمد علي الأراكي في العام 1984.

([2]) أُنظر: شروط الولي الفقيه في «دستور الجمهورية الإسلامية في إيران»، المواد 107 ـ 110. وعلي المؤمن، «الفقه والدستور»، ص272 ـ 273.

([3]) «دستور الجمهورية الإسلامية في إيران»، المادتان 107 ـ 108.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment