النظام الإسلامي وإشكالية الاقتباس من الأنظمة السياسية الوضعية

Last Updated: 2024/05/30By

النظام الإسلامي وإشكالية الاقتباس من الأنظمة السياسية الوضعية

د. علي المؤمن

معايير التعامل مع التجارب البشرية

للإسلام – عموماً – والنظام الإسلامي – خصوصاً – معايير محددة في التعامل مع التجارب التي أبدعها العقل الإنساني أو أفرزتها مسيرة البشرية، على مختلف الصعد؛ ونحصرها هنا في المجالين السياسي والاجتماعي، وبكلمة واحدة: الفكر والتنظيم السياسي والاجتماعي. والمحاولة هنا تدور حول الكشف عن هذه المعايير، وهي معايير شرعية، أي إنها تستند إلى المصادر الشرعية المتفق عليها(*). وليس المراد من ذلك القيام بمقاربة فقهية؛ بل عرض لوجهات نظر، تستبطن موقفاً فكرياً إسلامياً؛ لأن الإشكالية المطروحة هنا على جانب كبير من التعقيد، ولا يمكن وصف المعالجة التي نحن بصددها إلا بأنها محاولة في إطار مقاربة فكرية؛.بيد أن التوقف عند هذه الإشكالية وتفكيكها والتأمل في أجزائها يشكل مدخلا نظرياً أساسياً لمجمل البحث، يوضح طبيعة المساحات التي يمكن للنظام الإسلامي دخولها، بهدف استثمار التجارب البشرية والاقتباس منها. ومن شأن هذه الإشكالية أن تفرز عدداً من الأسئلة، أهمها:

1 – هل هناك ضرورة تدفع النظام الإسلامي للاقتباس والأخذ من الأفكار والنظم الأخرى؟ وهل هذه الضرورة محكومة بعاملي الزمان والمكان، أم أنها تعبّر – في الأساس – عن حاجة؟

2 – هل هذا الاقتباس هو – في الأصل – مباح شرعاً؟ ألا يستبطن ذلك قولاً بوجود نقص في الشريعة الإسلامية؟

3 – هل بوسع النظام الإسلامي أن يصرف النظر عن كل التجارب والأفكار البشرية؟ ويعتمد على نفسه بالكامل في الاكتشاف وممارسة التجربة، لا سيما أن حقل التجربة هو حقل عملي في معظم تفاصيله.

بداية لا بد من القول: إن الشريعة لا يمكن أن تكون ناقصة؛ بل إن انحسار مدونة الأحكام في مقابل تزايد الوقائع مرده إلى قصور المسلمين في إعمال الاجتهاد لكشف حكم ما استجد منها، أي إن النقص في الأحكام هو تجسيد لمحدودية ما تمّ استنباطه منها فليست الشريعة هي ما لدينا فحسب؛ بل هو جزء منها، وهو المكتشف حتى الآن، وكمال الدين «اليوم أكملت لكم دينكم..»(*) يعني استيعاب الشريعة كل أصول وقواعد الحرام والحلال والمكروه والمستحب والمباح، ويبقى على الإنسان الاكتشاف والتأصيل. من جهة أخرى، إن الشريعة الإسلامية تتعامل مع التجارب البشرية عموماً – والأفكار خصوصاً – بحياد وتجرد وواقعية، ولا تقرأها قراءة سلبية، أي إنها لا تنطلق في قراءتها لها من منطلق الأحكام المسبقة أو الرفض والمعارضة، فيكون كل ما لدى الآخرين حراماً وسيئاً وضاراً، أياً كان هؤلاء الآخرون.. على امتداد التاريخ والجغرافيا؛ بل إن الشريعة الإسلامية تعرض بضاعتهم، تجاربهم، أفكارهم ونظمهم، وتزنها بميزان أصولها ومصادرها. والمسار التاريخي يشهد على انفتاح الفكر الإسلامي ومرونته في التعامل مع الشرعي والمفيد من الفكر الإنساني، ومثال ذلك تفاعل المسلمين (علماء ومفكرين وحكّاماً) مع الفلسفة والمنطق والعلوم والنظم الإنسانية والاجتماعية التي ترعرعت في بلاد اليونان وبلاد فارس (الغرب والشرق).

وهكذا، فالإنسان المسلم ظل مجبولاً على التعرّف إلى الأفكار والأساليب والأشياء الجديدة، وأخذ المشروع والمفيد والمناسب منها، لاستثمار التجارب التي مرّت بها البشرية وخبرتها وأخطأت فيها أو أصابت، حتى وصلت إلى الفكرة أو التجربة الأفضل، مع التأكيد على أن يكون الاقتباس غير متعارض مع العقيدة والشريعة. ولعل من المستحيل على الإنسان المسلم الانكفاء على الذات والانعزال في عالم يتطور بسرعة فائقة ويتقدم بمسافات هائلة كل يوم وساعة؛ بل إن الاعتدال في الانفتاح سيحقق له نتائج مطلوبة، وفقاً للضوابط الشرعية، التي تشكل قاعدتها الآية الشريفة: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}(*) والحديث النبوي: «اطلبوا العلم ولو في الصين»(*).

من هنا فإن النظام الإسلامي ينظر إلى التجارب الإنسانية وإنجازاتها الفكرية والحضارية نظرة معيارية فاحصة، وليست نظرة أحادية تعتمد الرفض المطلق أو القبول المطلق؛ بل إنه يفرق – أولاً – بين الأجزاء المستقلة لكل تجربة وفكرة، ويفرق – ثانياً – بين التجارب التي تشكل هوية أو مذهباً فكرياً أو مجالاً اجتماعياً روحياً، وهي التجارب المنحازة، وبين التجارب التي تشكل مجالاً تقنياً وآلياً وتنظيمياً، وهي التجارب المحايدة. ويذهب المفكر الإسلامي اللبناني الشيخ محمد مهدي شمس الدين (ت2001) إلى أن أحسن القول في الآية الكريمة: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ..} لا يقتصر على كونه الأحسن في الدين وحسب؛ بل هو القول المطلق الذي هو الفعل البشري والإنجاز العلمي والممارسة والشكل التنظيمي، وهو كل إنجاز بشري في حياة الناس على الأرض وفي علاقاتهم في ما بينهم(*).

وعلى هذا الأساس يكون اتباع الأحسن بمثابة اقتناء للإنجاز الأفضل، ومن ذلك ما أنجزته المدنيات والحضارات الإنسانية في الماضي والحاضر في مختلف المجالات وتحديداً في مجال الأفكار والعلوم والنظم الاجتماعية، إذ لا يمكن أن نعد أي حضارة شراً مطلقاً وخيراً مطلقاً، بما في ذلك الحضارة والمدنية المنسوبة إلى الإسلام. فمعيارية النظرة الإسلامية تسمح لها بالتفريق بين الخطأ والصواب، الشر والخير، الشرعي واللا شرعي، والقبيح والحسن في ما أنجزته كل مدنية وحضارة إنسانية.

وإذا ما نظرنا إلى الغرب – مثلاً – ومدنياته وحضاراته، فسنجد أنه قدَّم ألواناً مختلفة ومتضادة من الأفكار والعلوم والنظم والفنون، الأمر الذي يستدعي التفريق بينها، وعدم اتهامها لمجرد أنها صادرة من الغرب، فالغرب أنتج الفلسفة اليونانية التي مثّلت ذروة إبداع العقل الإنساني، كما أنتج أسوأ ما عرفته البشرية من فكر شمولي، تمثّل في الدكتاتوريات الفردية والنظم الثيوقراطية، وقدّم الفكر الليبرالي الديمقراطي والعلماني، الذي دعا فيه إلى حرية الإنسان وإرادة الجماعة والتمسّك بالتجربة البشرية في الحكم، كما أنه من خلال أفكار ونظريات ونظم أخرى كالنازية والفاشية والماركسية والكولونيالية الاستعمارية أراد حرق الكرة الأرضية وسكانها، فضلاً عن أن ما يراه علوماً كالأنثروبولجيا والاثنولوجيا وكثيراً من العلوم الاجتماعية والإنسانية هي – بمجملها – إنجازات معرفية تعبّر عن الغرب المتعدد المتناقض، وتؤكد هويته أو هوياته(*) التي تكشف عن نظرته للأنا والآخر.

والحقيقة أن جميع تلك الإنجازات الفكرية والمعرفية لا يمكن تجريدها عن البيئة التي ولدت فيها، فهي تعبّر عن حاجات ونزعات، فيها الخاص والخاص جداً وفيها العام والأكثر عمومية. وهو ما يسمح بمراجعتها، ولا سيما الإنجازات الفكرية والمعرفية العامة والأكثر عمومية، بهدف الإفادة منها. ونقصد هنا بالعام: الأفكار والنظم المحايدة، أي تلك التي «تشمل العلوم البحتة والإدارة والتنظيم والتقنيات، وهذه الإنجازات لا تتضمن موقفاً من الكون والحياة والإنسان والوجود، أي إنها لا تحمل بالضرورة سمات الهوية الحضارية والثقافية للشعوب التي تنتجها أو تستخدمها»(*)، ما يعني أن الخاصة هي المنحازة «التي تعبّر عن الهوية الفكرية والروحية للحضارة الإنسانية، كالفلسفة والعلوم الإنسانية والفنون والآداب ومبادئ التشريع وقواعد السلوك»(*). وإذا كانت هذه القاعدة المعيارية صحيحة وكان هناك اتفاق حولها، فإن الاختلاف بين المفكرين والباحثين أو بين الاتجاهات الإسلامية سيدور حول مصاديق هذه القاعدة، وحول ما يعبّر عن هوية خاصة وما يعبّر عن تقنية عامة. ومن تلك المصاديق: الثيوقراطية والديمقراطية، النزعتان الفلسفيتان والفكريتان والنظامان الاجتماعيان السياسيان، اللذان يعدّان من أهم الإفرازات التاريخية للفضاء الفكري والاجتماعي الأوروبي، وهما من أكثر ما عنى بهما الفكر الاجتماعي والسياسي الإسلامي خلال السنوات المائة الأخيرة. وبالتالي، فهما محور الإشكالية التي يسعى هذا البحث للإجابة عنها، من خلال تفكيك عناصر النظامين وأركانهما وتحليلهما وعرضهما على معايير الشريعة الإسلامية.

لو حصرنا البحث بتجربة النظام الإسلامي في إيران، فسنجد أنه بعد – دراسة مجمل الإنجازات البشرية في مجال النظم الإدارية والسياسية والدستورية(*) – توقّف عند التجارب والنتاجات والخبرات الحيادية، واستثمر المفيد منها وأدخله في تجربته. ولعل الأسس التالية بإمكانها أن تكون معايير عامة في تعامل النظام الإسلامي مع التجارب الإنسانية في مجال الحكم وإدارة السلطة:

1 – أن تكون الشريعة الإسلامية هي مرجعية قبول أو عدم قبول أي تجربة أو نتاج بشري، فليس هناك تعادل أو تساو بين مرجعية الشريعة ومرجعية التجربة الوافدة، ففي حال التعارض تسقط الأخيرة، وهذا الأساس تتفرع منه باقي الأسس.

2 – وقوع التجربة البشرية في دائرة «التفويض التشريعي» التي تركها الإسلام للإنسان ليتحرك فيها ويتصرف من خلال الاجتهاد بما يتناسب وواقعه زماناً ومكاناً.

3 – حياد التجربة أيديولوجياً، أي أن لا تشكل هوية ومذهباً فكرياً وفلسفياً أو مجالاً روحياً لا ينسجم مع الإسلام، وكونها نتاجاً تقنياً وتنظيمياً وآلية إدارية.

4 – ضرورة التجربة وفائدتها ونجاحها وانسجامها مع روح النظام الإسلامي، قياساً بما أنجزته البشرية في المجالات نفسها، وكونها ستضيف جديداً للنظام الإسلامي، يساهم في خدمته وتحقيق أهدافه واستقراره واستمراره، وإلا لن يبقى أي معنى لإقحام تجربة بشرية معينة – حتى وإن كانت حيادية ومباحة – إذا لم تكن ضرورية ومفيدة.

إن تطويع مثل هذه النتاجات والتجارب البشرية واستخدامها لا يعني – أيضاً – تبني النظام الإسلامي لها بالكامل، بما في ذلك مبانيها النظرية والفكرية، والتشبّه بجذورها وخلفياتها التاريخية والظروف الاجتماعية التي أدت إلى ظهورها. فمثلاً: إن استخدام النظام الإسلامي بعض آليات الديمقراطية وتقنياتها لا يجعل منه نظاماً ديمقراطياً بالمعنى الفكري والفلسفي للديمقراطية، كما لا يعني أنه نظام غير ديمقراطي في أساليب أداء السلطة وفي تنظيم قضايا الحقوق والحريات العامة والسياسية. وكذلك فإن التقاء النظام الإسلامي ببعض أسس الأنظمة الثيوقراطية لا يعني أنه نظام ثيوقراطي. وهكذا الأمر بالنسبة إلى استخدام النظام الإسلامي الشكل الجمهوري في الحكم، واستخدام بعض أساليب النظام الرئاسي، أو الشكل المركزي والموحد للدولة. ومن هنا لا يرفض النظام الإسلامي الديمقراطية بالمطلق ولا يقبلها بالمطلق، كما لا يقبل الثيوقراطية وغيرها أو يرفضها كلياً. فربما تلتقي معه الديمقراطية في بعض أساليبها وربما تتعارض. بيد أن مجالات اللقاء هذه تذوب في الإطار العام للنظام الإسلامي وتستحيل جزءاً من أساليب النظام الإسلامي في ممارسة السلطة، الأمر الذي تفرضه ضرورات محافظة النظام السياسي الإسلامي على أصالته، وكونه نظاماً غير مختلط وغير توفيقي أو توليفي. فمثلاً الشكل الجمهوري المتبنّى من قبل النظام الإسلامي مقيد بعقيدة وقواعد فقهية، تتدخل في التعبير عن مبادئه وأهدافه، وفي صياغة شكل نظامه السياسي. كما أن نظام ممارسة السلطة يختلف عن النظم السائدة التي تطرحها الديمقراطيات التقليدية، كالنظام الرئاسي أو النظام البرلماني وغيرهما، وإن تشابه معهما في بعض الوجوه.

وبالتالي فإن نظام الحكم وشكل الدولة وشكل الحكومة والنظام السياسي ومؤسساته الدستورية في الدولة الإسلامية، ليست مجرد آليات لممارسة السلطة أو هي حيادية عقائدياً؛ بل إنها في الأطر العامة والخاصة تنطلق من العقيدة والشريعة الإسلامية، أو لا تتعارض معهما.

كما أن كثيراً من الآليات والتقنيات التنظيمية التي استخدمها النظام السياسي الإسلامي خاضعة للتجربة، وتدخل في إطار المتغيرات، لأنها في الأساس تعبّر عن رأي بشري وموقف اجتهادي، ومن ذلك – مثلاً – أسلوب الانتخابات، ومساحات الفصل بين السلطات، ووجود بعض المناصب، كمنصب رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء وغيرهما، والتقسيمات الإدارية – السياسية، ومعظم التسميات التي تطلق على المناصب الحكومية. يقول المفكر الإسلامي الإيراني الشيخ عباس علي عميد الزنجاني: «التجارب المثمرة في مجال بناء النظام أشارت لنا بأن الانتخاب أفضل، إلا أن الإمامة ذاتها لا انتخاب فيها، ولكن ما دمنا قد نظمنا هذا البيت الشعري فلا بد لنا من الحفاظ على قافيته، فاتجهنا صوب الانتخابات، لأننا وجدناها تضمن دعائم استقرار النظام السياسي للإمامة. ونحن لسنا مكلّفين بإقامة نظام الإمامة فحسب؛ بل يجب علينا صيانته والإبقاء عليه. إذا أريد لنظام الإمامة الاستمرار فلا بد لنا من الاستفادة من التجارب الغنية التي تؤكد ضرورة قيام النظام السياسي على الإيمان وعلى آراء الشعب، أما النظام الذي لا يقوم على هذه الأسس فلا يكتب له البقاء. لهذا السبب رأى الكثيرون ومن جملتهم العلماء الغربيون وجود تناقض بين المادتين الخامسة والسادسة من الدستور [دستور الجمهورية الإسلامية].

المادة الخامسة تقول بمبدإ ولاية الفقيه، والمادة السادسة تؤكد إرادة الشعب. يقولون كيف التوفيق بينهما؟ يمكن التوفيق بينهما من ناحية أن الإسلام دعا إلى التجربة، والتجربة أثبتت أن النظام السياسي إذا أريد له الاستمرار فلا مناص من الرجوع إلى أصوات الشعب. وعلى هذا الأساس فإن الانتخابات منبثقة من جوهر الإمامة، ومنبثقة من التجارب الغنية وتمنح النظام الثبات والاستقرار. مع أنه قائم على نظرية التنصيب التي تقود إلى نظرية الإمامة»(*).

هذه القاعدة قد تقود إلى وضع جديد يكون فيه استخدام بعض الآليات والأساليب التي تعبّر عن تجارب بشرية محايدة وشرعية ومفيدة، ويكون مستحباً إذا أدّى إلى تحسين أداء النظام الإسلامي واستمرار تمحور الأمة حوله؛ بل يكون واجباً إذا أدّى إلى المحافظة على النظام الإسلامي واستقراره في مقابل احتمالات تزعزعه وانهياره. ولا يقتصر هذا – بالطبع – على التجارب البشرية الوافدة أو المستخدمة في الأنظمة الوضعية؛ بل ينطبق – أيضاً – على التجارب العقلية الجديدة (الممارسات) التي يكتشفها النظام السياسي الإسلامي نفسه، وهو ما يشير إليه مفكر سياسي إيراني بالقول: «إن الجاري حالياً هو أن يكون اشتراك الشعب في انتخابات رئاسة الجمهورية ومجلس الشورى اشتراكاً مباشراً. وهذا مجرد أسلوب، ولا يعني هذا أن هذا الأسلوب استنبط من الفقه؛ بل إننا نستخرج ولاية الفقيه من الفقه، ثم تقوم ولاية الفقيه بالتخطيط لأفضل أنواع الحكومة، بالصورة التي يكتشفها عقلاء الزمان. إن عقلنا المعرفي يحكم بهذا. ومن هنا فبابه مفتوح للتكامل في المستقبل(*).

ولا شك في أن حساسية هذه القضية ودقتها العقائدية والفقهية والدستورية والسياسية، تجعل كثيراً من الباحثين يتوقفون عندها، وتتنوع آراؤهم حيالها، ويعدّونها إشكالية يصعب الإجابة عنها، نتيجة ما قد يتصورونه من وجود تعارض في مضامين النظام السياسي الإسلامي وأشكاله وأساليبه. هذا الواقع يختصره باحث أردني بكلمة «المرونة»، أي المرونة في هيكلية النظام الإسلامي ودستوره، فيقول: «أرى بأن عامل المرونة الذي تميّز به الدستور [دستور الجمهورية الإسلامية] هو الذي أدّى بالعلمانيين إلى وصفه بأنه دستور لدولة ثيوقراطية، مثلما أدّى بالمسلمين الأصوليين السنة(*) إلى وصفه بأنه دستور موضوع لدولة علمانية مستقى من الأنظمة الغربية الديمقرطية»(*).

محاولات التوليف بين النظام الإسلامي والأنظمة الوضعية

هناك فرق دقيق بين الاستفادة من التجارب البشرية والتوليف بين النظام الإسلامي والأنظمة الوضعية، فالاستفادة من التجارب البشرية وفقاً للقواعد والمفاهيم التي سبق الحديث عنها يحفظ للشريعة الإسلامية مرجعيتها في بناء النظام الإسلامي ويضمن خضوع كل فكرة وتجربة لمعاييرها. بينما يعني التوليف أن تكون هناك فكرتان أو تجربتان بمستوى واحد من المقبولية والشرعية، دون أن تكون إحداهما مرجعية والأخرى تابعاً؛ ودون وجود ثوابت ومتغيرات؛ بل إن كل شيء خاضع لمعيار المتغيرات، ثم تتم عملية التوفيق بين الفكرتين والتجربتين ليخرج الناتج هجيناً ومشوهاً. وقد تسقط، في هذه الحال، مضامين أساسية للنظام الإسلامي ضحية ضغط الواقع الذي ربما يؤدي إلى تحويل التجربة أو النظام الوضعي مرجعية واقعية لا مفر من الاستسلام لها. وفي أفضل الحالات يكون العقل المولّف هو المرجعية، فيتحول إلى مشرِّع من دون الشريعة الإسلامية.

بينما ترفض الشريعة الإسلامية هذا اللون من التوليف الذي يجعل من النظام الإسلامي مخلوقاً هجيناً ومشوهاً، لأن مؤداه الإيمان بجزء من الشريعة ورفض جزء منها، والجزء المرفوض يستبدل به جزء مستورد من نظام وضعي أرضي. إن الشريعة الإسلامية تعالج أي حاجة جديدة أو وضع مستحدث في عملية بناء النظام الإسلامي، من خلال تحكيم موقع الاجتهاد في دائرة التفويض التشريعي، ولا تلجأ إلى استيراد جزء كامل جاهز من نظام آخر لتسد به تلك الحاجة.

وعلى مستوى الواقع الإيراني، فقد دعا بعض التيارات السياسية في بداية انتصار الثورة الإسلامية إلى ابتداع نظام توليفي في شكله ومضمونه ومسمياته، يتم فيه الأخذ من الأنظمة المعاصرة، ولا سيما الديمقراطية الغربية، مع استخدام بعض التسميات الإسلامية. إلا أن قيادة الثورة المتمثلة بالإمام الخميني كانت ترفض كل تلك المشاريع، وتؤكد أصالة النظام الإسلامي واستقلاليته النظرية والفكرية، وذلك من منطلق الوضوح الشامل الذي كان يمتلكه الإمام الخميني في الأبعاد العقائدية والفقهية للنظام الإسلامي ومقاصده. ويقول في إحدى كلماته متحدّثاً عن هذه التيارات: «إنهم يريدون تحقيق غاية أخرى، ولا يريدون أن يبقى هذا النظام ولا الإسلام. إنهم يريدون جمهورية ديمقراطية، وديمقراطية بالمعنى الذي جلبه الغربيون إلى هذا البلد، ولا حتى بالمعنى الذي يوجد في الغرب نفسه، فشكل الجمهورية التي أقاموها في هذه الدول الغربية لم يأتوا به إلى إيران حتى الآن… فلا تسيروا على هذا المنهج ولا تقلّدوا الغربيين والشرقيين»(*).

وكان معظم أولئك التوفيقيين يتذرعون بمنع الاستبداد والحيلولة دون قيام حكومة استبدادية في إيران، جازمين بأن الحكومة الدينية (الإسلامية) لا يمكن أن تكون شعبية، مستحضرين بذلك التجربة التاريخية للحكومات الدينية (الثيوقراطية) المسيحية التي قامت في الغرب خلال العصور الأوروبية المظلمة، والتجربة التاريخية للحكومات السلطانية المسلمة، وآخرها الصفوية وكذلك التجربة التاريخية للحكومات السلطانية المسلمة، وآخرها الصفوية والعثمانية. هذا الواقع يصفه آية الله السيد الخامنئي بقوله: «إن الأحداث التاريخية أدّت إلى ظهور نمط من الأفكار بين صفوف الباحثين والعقلانيين، يقوم على أساس الزعم بأن الحكومة الإلهية (أي الدينية) لا يمكنها أن تكون شعبية. أي إن الحكومة الدينية حكومة استبدادية بالضرورة، وبالتالي فإنه إذا قامت حكومة شعبية في مجتمع ما، فلا مجال فيه لحكم الدين»(*). وحينها تكون المرجعية البديلة هي مرجعية الديمقراطية التي يعدونها الخيار الوحيد الذي يقابل الاستبداد، وسيسقط أي حكم شرعي – وإن كان من الثوابت القطعية – إذا تعارض مع هذه المرجعية. وهو ما ظل يتسبب بضجيج إعلامي وسياسي مستمر في إيران. فمثلاً عندما تمّ طرح مسودة لائحة القصاص للنقاش في المنتديات والصحف عام 1980، بهدف تنضيجها ثم إقرارها من قبل مجلس الشورى الإسلامي، كانت الحجة الأبرز التي تذرع بها الليبراليون ودعاة التوليف هي أن قانون القصاص يتعارض ومبادئ الديمقراطية، على اعتبار أن الديمقراطية هي مرجعية نهائية، وحينها سيكتشفون أن كثيراً من الأحكام والثوابت الشرعية تتعارض والمبادئ الفلسفية للديمقراطية وأسسها الفكرية. هذا فضلاً عن الجدل الساخن الذي لا يزال دائراً في إيران حول تحديد مساحة الثوابت والقطعيات والأصول، وإمكانية النصوص المقدسة أو تاريخانيتها أو انهيار حجيتها بالتقادم، وغيرها من محاور الاختلاف التي تبدأ بالسياسة ويومياتها، وتمرّ عبر الفلسفة السياسية وتنتهي بالفقه أو العقيدة.

وكثير من هذه التيارات التوليفية تعود جذورها الفكرية إلى سنين طويلة، سبقت انتصار الثورة الإسلامية، ثم تأكدت لديهم صوابية آرائهم بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية واصطدامهم بعقبات الواقع وضغوطه، الأمر الذي أدّى إلى حصول انقسامات فاصلة في الخارطة السياسية للنظام، انتهت إلى خلافات حادة. وحتى التيارات الجديدة في تشكيلها السياسي أو التي مرت بمخاضات فكرية جديدة في مرحلة التسعينات، فإنها لم تأت بجديد على الصعيد الفكري؛ بل حدّثت المقولات السابقة وطرحتها ممزوجة بخلافاتها السياسية مع التيارات الأخرى في النظام.

وقد ظل هؤلاء المفكرون والباحثون، سواء في إيران أو غيرها من البلدان العربية والإسلامية، يرهقون الفكر الإسلامي والنظرية السياسية الإسلامية بمفاهيم ومصطلحات ونظم مستوردة من الفكر الغربي التقليدي أو الفكر الاشتراكي، بسبب محاولاتهم المضنية للتوفيق بينها وبين النظم الإسلامية(*). وقد اختلفوا باختلاف نياتهم، فمنهم المنبهر بالفكر المستورد ويعتقد أن فيه الحل الوحيد لمعضلات المجتمع الإسلامي والإنسان المسلم، ومنهم من يدافع عن الإسلام بإخلاص، ولكن بهذا الأسلوب المرهق والنهج الصعب، ليقول: إن الإسلام هو دين الاشتراكية، أو إنه أول من قال بالديمقراطية أو إن بإمكان النظام الإسلامي تبني هذه النظم وغيرها، ويدعو بعدها لطرح الإسلام والنظام الإسلامي على العالم (الغرب تحديداً) بالصورة التي يفهمها ويرتضيها، حفاظاً على سمعة الإسلام واسمه، وسيكون مقتضى ذلك الدخول في صراع فكري وسياسي مع التيارات التي تدعو إلى المحافظة على الثوابت، بهدف تجميد بعض الأحكام الشرعية الاجتماعية والسياسية. وستكون النتيجة ولادة مقولات فكرية منهوكة تعاني الشيزوفرينيا النظرية أو الازدواجية في مضامينها وشكلها، وكأنها فسيفساء من الأفكار المؤلفة قسراً.

وبعيداً عن الواقع الإيراني، فقد صدر في خلال القرن العشرين الكثير من الدراسات المهمة في البلدان العربية والإسلامية، كرست جهدها العلمي للمقارنة بين النظم الإسلامية من جهة والنظم الوضعية، وتحديداً الاشتراكية والديمقراطية والثيوقراطية. ويمكن القول إن محمد ضياء الدين الريس في كتابه «النظريات السياسية الإسلامية» الذي صدر عام 1952 عدّ أحد أهم رواد الدراسات المقارنة بين الإسلام والديمقراطية، فقد حاول فض الاشتباك بين الإسلام والديمقراطية، والخروج بنتيجة مفادها أن الإسلام لا يتعارض والديمقراطية؛ بل يدعو إلى معظم أفكارها(*).

أما المفكر الباكستاني الشيخ أبو الأعلى المودودي (ت 1979) فإنه أول من قال بثيوقراطية النظام الإسلامي، وأطلق تسمية «الثيوقراطية الإسلامية»، آخذاً بالاعتبار اشتراك النظام الإسلامي والنظام الثيوقراطي في استمداد مشروعيتهما من الله تعالى. ولكنه من أجل تنزيه النظام الإسلامي عن شبهة الاستبداد والشمولية وعن سلبيات الأنظمة الثيوقراطية المسيحية في أوروبا وممارساتها غير الإنسانية والمخالفة للتعاليم الإلهية، ابتدع مصطلحاً جديداً أطلق عليه «الثيوقراطية الديمقراطية» أو «الحكومة الإلهية – الديمقراطية»(*). وهذا هو ما نعنيه بإرهاق الفكر الإسلامي بمصطلحات ومفاهيم هو في غنى عنها، فضلاً عن الإقحام القسري للنظام السياسي الإسلامي في مصالحة مع المذاهب السياسية الغربية، قد لا تكون ذات أهمية، باستثناء ما يرتبط بالبعد العلمي للمقارنة وإمكانية استثمار بعض الأدوات والتقنيات المفيدة، في إطار الأسس التي مرّ ذكرها وهذا الاستثمار يختلف عن الإقحام، لأنه تطويع وإخضاع لهذه التقنيات بحيث لا تضطر النظام الإسلامي إلى التسمي بأسماء المذاهب والأنظمة الوضعية، وبالتالي ستحافظ على رؤية الإسلام لمضامين نظامه السياسي وأهدافه.

كما أن الفقيه الإيراني الشيخ حسين علي المنتظري ذهب إلى أن النظام الإسلامي يعدّ نظاماً ثيوقراطياً في موضوع السيادة، من منطلق انتساب الدولة الإسلامية إلى الحاكمية الإلهية، ولكنه فرّق بالكامل بين النظامين الإسلامي والثيوقراطي وأكد على خصوصيات النظام الإسلامي في جانب المصطلحات والمفاهيم والأدبيات، ولا سيما ركيزتا الشورى والأمة(*).

وكان المفكر الإسلامي المصري الشيخ محمد الغزالي من أكثر القيادات الإسلامية الحركية انفتاحاً على الفكر الديمقراطي في بعده التطبيقي، ففي كتابه «دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين»، رد على الباحث الإسلامي المصري محمد قطب الذي رفض أي توليف بين النظام الإسلامي والأنظمة الوضعية، وتحديداً الديمقراطية والاشتراكية، وعدّ ذلك باباً من أبواب الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه(*). فجاء في رد الشيخ الغزالي: «ذلك الكلام يحتاج إلى ضوابط فالديمقراطية ليست ديناً، يوضع في صف الإسلام، وإنما هي تنظيم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، ننظر إليه لنطالع كيف توفرت الكرامة الفردية للمؤيد والمعارض على السواء، وكيف شيّدت أسواراً قانونية لمنع الفرد أن يطغى.. وأن الاستبداد كان الغول الذي أكل ديننا ودنيانا، فهل يحرم على ناشدي الخير للمسلمين أن يقتبسوا بعض الإجراءات التي فعلتها الأمم الأخرى.. وأن الوسائل التي نخدم بها عقائدنا وفضائلنا هي جزء من الفكر الإنساني العام، لا علاقة له بالغاية المنشودة، وقد رأينا أصحاب الفلسفات المتناقضة، يتناقلون الكثير في هذا المجال دون حرج. الحرج كله أن ندع ديننا وقيمه، إيثاراً لوجهة أخرى، مجلوبة من الشرق والغرب»(*). ويلاحظ أن الشيخ الغزالي يرفض التوليف والتنازل عن أي قيمة إسلامية لقيمة مستوردة من الغرب أو الشرق، ولكنه لا يعارض الأخذ من الإنجازات المفيدة للأمم الأخرى. وهذا التنظير يتطابق إلى حد كبير مع ما كان يدعو إليه الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الذي يقول: «إننا نختار الشورى» كفلسفة حكم، ونختار آليات الديمقراطية كأدوات وأجهزة ومؤسسات.إن الديمقراطية هي «أحسن القول الغربي» من الناحية التنظيمية للمجتمع ومن ناحية إدارة عملية تداول السلطة وانتقالها. لكن ثمة اختلاف بين مرجعيتي الشورى والديمقراطية. مرجعية الشورى دينية، ومرجعية الديمقراطية علمانية. بهذا الاعتبار يختلفان. ولكن لدينا محاولة فذلكة قلنا على أساسها «ديمقراطية قائمة على مبدإ الشورى»(*).

لقد باتت قضية تشبيه النظام الإسلامي بأحد الأنظمة أو النظريات المتداولة في الغرب، معضلة فكرية وعلمية، وكأنها أمر محتوم ليأخذ النظام الإسلامي مشروعيته ويمتلك القدرة على التوصيف، نموذج ذلك ما يقوله المفكر الأمريكي المسلم (التنزاني الأصل) الدكتور عبد العزيز ساشادينا الذي يعترض على مصطلح النظام «الثيوديمقراطي»(*). الذي اخترعه بعضهم لتوصيف النظام الإسلامي، ويقول: إن نظام ولاية الفقيه «يعني» ولاية المتخصص في كشف المشيئة الإلهية وتنفيذها. وإذا أردنا أن نوضح للغربيين ذلك، فإنني أرى أن مصطلح «النموقراطية» الذي اختاره الدكتور حميد عنايت هو الأفضل؛ إذ إن كلمة «نمو» تعني الفقاهة، و«قراطي» تعني الحكومة أو المسؤولية، ما يعني «القانون» الإلهي الذي يجعل الفرد مسؤولاً، ومسؤولية الحكم يدفعها إلى شخص «الفقيه»(*).

ولا نريد هنا الاستغراق في عرض الرؤى والتصورات التي تمثل الريادة في مجال التنظير والتأصيل للعلاقة بين النظام الإسلامي والأنظمة الوضعية، وهي كثيرة جداً، ولكن البحث يهدف إلى عرض نماذج منها فقط، بغية الدخول من خلالها إلى وجهات النظر التي يطرحها البحث في هذا المجال. وقبل ذلك تنبغي الإشارة إلى نموذج مختلف في هذا المجال، يمثل وجهة نظر علمانية، وهي وجهة نظر تعد محاولات الإسلاميين للتقرب من الديمقراطية غير مجدية ولن تسدي لهم أو للنظام الذي يتبنونه أي خدمة، إذ يقول الباحث السوري برهان غليون «ولا تستطيع الديمقراطية الإسلامية، كما حصل بالنسبة للديمقراطية المسيحية في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية أن تحلم بقيادة الدولة والنجاح فيها، وتطبيق برنامج مستوحى من القيم والتقاليد والمفاهيم الإسلامية، وهو ما ينبغي أن يصبح أمراً عادياً في المجتمعات الإسلامية، وما سوف يحصل بشكل طبيعي فيها، أيضاً، إلا عندما تنجح الحركات الإسلامية السياسية في تجاوز العوائق والانسدادات الفكرية والنفسية التي تمنعها من تبني مفهوم الدولة السياسية بدل الدولة العقائدية، وبالتالي تقبل بأن تخضع برنامجها السياسي نفسه لآليات التصويت الشعبي… فلا بد لها أن تدرك أيضاً أن التقدم الفعلي الذي عرفه مفهوم الدولة السياسي الحديث، نابع بالضبط من تجاوز فكرة الدولة العثمانية… أي دولة السياسة وتنظيم انتاج الإجماع العام والوحدة الوطنية»(*). والدكتور غليون يتناول قضية لها علاقة بالمنهج، ولكنه يطرحها في إطار الممارسة والأداء والأنساق النفسية، فهو يفصل بين السياسي والعقائدي ويدعو للواقعية السياسية والنظام العملاني، لتصوره وجود تناقض بين السياسي والعقائدي في البنية النظرية للنظام السياسي الإسلامي. وهو بذلك يعبّر عن الطوق الفكري والنفسي الذي ضربه الفكر العلماني حول نفسه، ليمنعها من الانفتاح على ما تعنيه الدولة والسياسة وغاياتهما وأهدافهما العامة والخاصة في التصور الإسلامي ومنهجه الديني. وبذلك يكون حساب الفكر العلماني لنسبة الخطأ في الفكر الإسلامي السياسي يرتبط بمقدار المسافة التي تفصل بينه وبين الفكر العلماني، فكلما ابتعد الفكر الإسلامي عن الفكر العلماني كثرت أخطاء الفكر الإسلامي وازداد تعصبه وانغلاقه ولا إنسانيته ولا واقعيته كما يرى العلمانيون.

والمفارقة أن لا نجد هذا الانغلاق والانكفاء وتلك العقدة في الفكر الإسلامي الذي ينفتح على أي مصطلح ومفهوم وتجربة بالمقدار نفسه الذي يحافظ فيه على مرجعيته وثوابته، ويعطي نفسه الحرية في التحرك في دائرة المتغيرات والمباحات، وهي دائرة لا وجود لها في الفكر العلماني، إذ يعد رجاله انفتاح الفكر العلماني على أي اتجاه آخر، ولا سيما الفكر الديني، خطاً أحمر. ففي مقابل هذا الانكفاء يقول الإمام الخميني: «لا تخافوا من كلمة الديمقراطية»، إنها نظام غربي، ونحن لا نقبل بالنظام الغربي. نحن نقبل الحضارة الغربية ولكن لا نقبل بمفاسدها»، ويضيف: «الديمقراطية الغربية فاسدة والديمقراطية الشرقية فاسدة أيضاً، والديمقراطية الصحيحة هي الديمقراطية الإسلامية. وإذا وُفِقنا فسوف نثبت للشرق والغرب بعدئذ أن ديمقراطيتنا هي الديمقراطية.. لا التي عندهم»(*).

الإسلامية الانتقائية

التوليف الذي سبق الحديث عنه، والذي يسقط مرجعية الشريعة الإسلامية، يمثل أحد أهم صور الإسلامية الانتقائية أو العلمانية الانتقائية. ويمكن أن نعد حكومات البلدان الإسلامية نماذج تطبيقية لهذه الفكرة، فهذه الحكومات ليست حكومات علمانية لا شكلاً ولا مضموناً، وإن أعلنت هي ذلك؛ بل هي علمانية بنسبة معينة وإسلامية بنسبة أخرى. بالطبع لا نقصد هنا جانب الممارسة بل بنية النظام الفكرية والواقعية.

إن علمانية حكومات البلدان الإسلامية ليست علمانية حقيقية؛ بل هي علمانية هجينة، فالأفكار التي استوردها المسلمون أو صدّرت إليهم، كالعلمانية والديمقراطية والليبرالية والرأسمالية والاشتراكية والشيوعية والمجتمع المدني والعقلانية والتنوير والثيوقراطية والقومية أو الدولة القومية وغيرها، دخلت وعي المسلمين بطرائق خاصة، يغلب عليها الطابع المزاجي، فقد أدخلوا فيها إرثهم التاريخي والثقافي والاجتماعي، وأنتجوا من خلال ذلك أفكاراً ونظماً لا تشبه أياً من تلك الموجودة في الغرب أو الشرق، رغم أنهم يطلقون عليها الأسماء نفسها. بينما انطلق آخرون من خلفياتهم الإسلامية وأضافوا على مولوداتهم أسماء إسلامية، وكانت المحصلات: ديمقراطية إسلامية، وإسلامياً متنوراً، ورجل دين شيوعياً، وماركسية إسلامية، ومجتمعاً مدنياً دينياً وغيرها، وهم بذلك يعبّرون عن ألوان من العجز والهزيمة، بعد أن قرروا تطويع الواقع الإسلامي لفكر لم يفرزه ولنظم لم تنتجها البيئة الإسلامية، وذلك لتحقيق هدف أساس، يتمثل بإظهار الواقع الإسلامي أو الفكر الإسلامي بمظاهر متحضرة ومتمدنة، وإبعاد شبهة الانغلاق والتعصب والتطرف والتخلف عنهما؛ وهو أمر لا يمكن إقناع الغرب به؛ لأن الأخير – بنخبه السياسية والثقافية – يدرك مدى التشويه الذي تلحقه عمليات التطويع تلك بفكره ونظمه، وبذلك لا يعترف الغرب بعلمانية حكومات البلدان الإسلامية ولا بديمقراطيتها ولا باشتراكيتها(*).

لا شك في أن وجهة النظر الغربية في هذا المجال هي أقرب إلى الموضوعية، فالعلمانية الحقيقية التي أنتجتها البيئة الغربية بفعل تراكمات فكرية وواقعية لازمت الصراع بين الأنظمة الثيوقراطية الكنسية والفردية، من جهة، والمعادين لها من جهة أخرى، وهي تعبّر عن فصل شبه كامل بين(*) العقيدة الدينية والدولة وتشريعاتها ونشاطاتها السياسية والاقتصادية والثقافية. وهذا الفصل تحوّل من أفكار وتشريعات إلى مؤسسات ونظم صارمة على الأرض. وبالتالي فالدولة العربية العلمانية حيادية بين الدين واللا دين في كل المجالات. أما علمانية حكومات البلدان الإسلامية – باستثناء علمانية الدولة التركية(*) – فهي علمانية من نوع خاص، يمكن أن نطلق عليها مصطلح «العلمانية المتدينة» أو «الإسلامية المعلمنة»، فهذه الحكومات ليست حيادية بين الدين واللا دين، كما هو مقتضى العلمانية؛ بل إنها حكومات متدينة في بنيتها، فهي تولي الدين أهمية كبيرة، ليس على صعيد النشاط الاجتماعي؛ بل على صعيد حركة الدولة وتشريعاتها وعملها أيضاً، أي إنها لا تفصل بين الدين والدولة ولا تفصل بين الشريعة والسياسة، ولكنها تنتقي مجالات اللقاء والفصل، وفقاً لما تقتضيه مصالحها ووجهتها. فمثلاً: معظم دساتير البلدان الإسلامية تؤكد أن الإسلام هو دين الدولة، أو أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع أو أحد مصادر التشريع في الدولة، وهذا هو التناقض الأهم مع جوهر العلمانية وفلسفة المذهب الديمقراطي وأي مذهب أرضي؛ إذ إن السلطات التشريعية لن تكون حرة أو مطلقة اليد في تشريعاتها، وإنما ستكون ملزمة (نظرياً كحد أدنى) برعاية أحكام الشريعة الإسلامية، فهي المرجعية وليس الشعب. كما أن لكل دولة مرجعاً دينياً رسمياً – يحمل لقب «المفتي» – يمتلك صلاحيات محددة، لها علاقة – أحياناً – بعمل الدولة وسياساتها العامة؛ بل إن بعض الحكومات تستند في بعض ممارساتها السياسية إلى فتاوى هذا المفتي، لإضفاء طابع الشرعية الدينية على تلك الممارسات وتخصص هذه الحكومات – أيضاً – مؤسسات دينية لها حق الرقابة الكاملة على قسم من النتاجات الثقافية والفكرية والفنية التي تتطرق للموضوعات الدينية. هذا على مستوى السطلتين التشريعية والتنفيذية، أما القضاء فهناك دول تحيل حالات الإعدام على مفتي الدولة لإقرارها وإمضائها، ما يعني أن الأحكام القضائية، ولا سيما ما يرتبط بالقوانين المدنية والجزائية خاضعة لأحكام الشريعة الإسلامية.

وفي الوقت نفسه، لا يمكن إطلاق صفة «الحكومة الإسلامية» على مثل هذه الحكومات، فهي نفسها لا تدعى ذلك، فضلاً عن وجود اختلاف في البنية، بينها وبين الحكومة الدينية، فالأخيرة خاضعة للدين والعقيدة الدينية في كل المجالات، بما في ذلك الأهداف والغايات والسيادة والمشروعية والأركان والسلطات والتشريعات والممارسات، وبالتالي فهي الحكومة أو الدولة التي لا تفصل – بأي نحو كان – بين العقيدة والشريعة من جهة، والدولة وأهدافها وقوانينها ونشاطاتها من جهة أخرى؛ لأنها دولة تأسست على الدين وليست دولة سياسية.

خصوصية المشروع الحضاري

إن وجود مساحات مشتركة بين نظامين لا يتيح لأحدهما أن يحمل الاسمين، كما أن استثمار نظام معين بعض آليات نظام آخر لا يعني أنه يتنازل عن اسمه وخصوصياته لنظام آخر، ولا سيما إذا كان النظام السياسي يعبّر عن مشروع حضاري مستقل، فلكل منظومة فكرية أو مشروع حضاري خصوصياته التي يتميز فيها عن غيره من المشاريع؛ لأنه نتاج بيئة معينة مختلفة عاشت مخاضات وحوادث وتجارب وجدالات داخلية واسعة، ولم يأت نتيجة بحوث نظرية مجردة. وإذا تصورنا وجود مساحات مشتركة بين النظامين الإسلامي والديمقراطي، وأن النظام الإسلامي استثمر بعض آليات الديمقراطية، فهذا لا يجعل النظام الإسلامي نظاماً ديمقراطياً ولا النظام الديمقراطي إسلامياً، فلكل منهما خصوصياته ومخاضاته. وقد دعا بعض التيارات السياسية الفكرية في إيران – بعد انتصار الثورة الإسلامية، إلى إضافة كلمة الديمقرطية إلى الجمهورية الإسلامية، محتجين بأن «الإسلامية» و«الديمقراطية» فكران ونظامان، يكمّل أحدهما الآخر؛ ومن خلال اجتماعهما، يمكن تحقيق أهداف الثورة في الاستقلال والحرية والجمهورية. بينما أصر آخرون على لفظ «الجمهورية الديمقراطية» متذرعين بأن الديمقراطية يمكنها استيعاب الأهداف السياسية للإسلام، في محاولة لتطويع هذه الأهداف الديمقراطية. ولكن الإمام الخميني رد على هذه الدعوات بقوله: إنهم يقولون: ضعوا لفظ الديمقراطية بدلاً من الإسلام، ليكون اسم البلد «الجمهورية الديمقراطية». إن هؤلاء لا يفهمون أين هي الديمقراطية التي ملأ اسمها العالم؟ وأي البلدان تعمل وفقاً للديمقراطية؟ وهذه القوى الكبرى، أيها تعمل بموجب الموازين الديمقراطية؟ فللديمقراطية معنى مختلف بين بلد وآخر… نحن نقول إنه شيء مجهول ولها في كل مكان معنى معين، ولا يمكننا أن نضمها في دستورنا، بحيث يستطيع كل واحد الاستفادة من أحد معانيها وصياغتها بشكل ينتهي لمصلحته. لذلك فإننا نقول: «الإسلام، ونكتفي به»(*).

هذا المبدأ الذي ظل الإمام الخميني يعبّر عنه في خطبه ورسائله، ولا سيما خلال عام 1979، أعاد التأكيد على استقلال المشروع الحضاري الإسلامي الذي تطرحه الدولة الإسلامية ونظامها السياسي تحديداً، وقدرته على استيعاب إشكاليات الفكر الاجتماعي السياسي، وهو الأمر الذي يمكّن دعاة المشروع الإسلامي الحضاري من نفي الذرائع التي تدفع الآخرين للتشبث بالأفكار والمشاريع المستوردة الأخرى، والتسمي بأسمائها. وهذا من جهته لا يعني عدم وجود نقاط ومساحات للقاء بين النظام الإسلامي والأنظمة الأخرى – كما مر – ولا شك في أن قبول النظام الإسلامي بهذه الحقيقة وعمله بما تمليه عليه، هو تعبير عن احترامه للتجربة البشرية المحايدة الناجحة، وعدم رفضه الاستفادة منها، انطلاقاً من الاشتراك في مجموعة القيم العامة والمثل العليا التي يؤمن بها كل عقلاء البشر، والتي تنسجم مع الفطرة الإنسانية.

إن خصوصية المشروع الحضاري تنطلق من خصوصية الإنتاج النظري والتجربة الاجتماعية، فالنظرية والتجربة المؤسستان على العقل والواقع البشريين لا بدّ أن يتميزا بخصوصيات ذاك العقل وهذا الواقع، بحيث «يكون هذا الإنتاج العلمي معبّراً، في معظم مقولاته، عن ثقافة المجتمع التي صيغ وتشكّل فيها العقل البشري الذي أنتجه، وعن الواقع الاجتماعي الذي ألقى بظلاله وفرض قضاياه وأولياته وأزماته عليه، فلا يستطيع أن يتجرد – مهما سعى لذلك – تجرداً كاملاً، وإنما يظل هناك قدر يمكن إرجاعه إلى خصوصية الزمان والمكان والإنسان»(*).

هذه الخصوصية الملتصقة بالزمان والمكان وأهواء الإنسان ومزاجه وأساليب حياة المجتمع، ترتبط بالفكر الإنساني الوضعي، أما المعتقد والتشريع المعبّران عن نصوص وتشريعات دينية ثابتة فهما خارج إطار المكان والزمان والأهواء؛ بل هما للإنسانية كافة في أي زمان ومكان. في حين تظل هناك خصوصية زمانية ومكانية، وإن كانت باهتة وضعيفة، للفكر والتجربة المستندين إلى الأصول والمصادر الدينية(*).

وهذه القضية تحدث عنها – بإسهاب – كثير من الفلاسفة والمفكرين السياسيين، منذ بروز الفكر السياسي الوضعي بصوره المنهجية خلال العصر اليوناني وحتى الآن. كما نظّر لها فلاسفة عصر النهضة الأوروبية وطلائعها، ومنهم الفرنسيان «مونتسكيو» و«جان جاك روسو»، فالأخير في كتابه «العقد الاجتماعي» خصص الفصل الثامن لهذا الموضوع وأعطاه عنوان «في أن كل شكل من أشكال الحكومة لا يلائم كل بلد»، ويعدد الأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية والجغرافية التي تجعل لكل بلد ظروفه في اختيار النظام السياسي الذي يلائمه. وروسو بذلك يؤيد مونتسكيو الذي يعتقد بأن الحرية ليست ثمرة جميع الأقطار، ولذلك ليست هي في متناول أيدي جميع الشعوب(*). ويؤكد روسو: «في كل قطر وتحت كل جو، دواع طبيعية يمكن بها فرض شكل الحكومة، تدفعها قوة طبيعة القطر إلى اختياره، دون إغفال النظر إلى نوع السكان الذين يسكنون هذا القطر»(*). أما المجتمعات التي تتبنى أنظمة وأفكاراً غريبة عن وضعها وواقعها فهي تمثل حالات شاذة، ولكن ما تلبث هذه الحالات أن تنتهي عاجلاً أم آجلاً، بما تثيره «من ثورات تعيد الأشياء إلى نظامها الطبيعي»(*).

ويطرح عالم الاجتماع الألماني «كارل مانهايم» (1893 – 1947) رأياً معتدلاً في مجال العلاقة بين الفكر والواقع أو العقل والوجود، إذ يرفض أن تكون هذه العلاقة آلية وميكانيكية بحتة، ويعتقد بأن الفكر يرتبط بالظروف والأوضاع الاجتماعية، بمعنى أن حيوية الوضعية الاجتماعية وفاعليتها، إنما تثير الفكر حتى لا يتوقف أو يتجمد، وإنما يعتدل ويتبدل، مع تغيّر وتبدّل الظروف الثقافية والأوضاع التاريخية. فالصلة بين الفكر والواقع عند مانهايم – إذن – هي صلة انسجام وليست صلة جبرية حتمية؛ بل هي حركة تبادلية منسجمة. وحين تلتحم التصورات والأفكار بالظروف الاجتماعية، تحدث المعرفة، وحين يتصل الفكر بالظروف الوضعية، تتكوّن الحقائق وتتألف المعارف، ولذلك يكون المجتمع هو مصدر المعرفة (الأرضية – الوضعية) ومبعث الحقيقة. وعلى هذا الأساس تصدر المعارف والحقائق عن الواقع الاجتماعي وعلى نحو مباشر(*). وهو ما تؤكده – أيضاً – مدارس وضعية أخرى، كالمدرسة الماركسية، التي عبّرت على لسان الزعيم الروسي لينين (1870 – 1924) عن ضرورة الصلة بين النظرية والتطبيق، والفكر والواقع، فالثورة يستحيل وجودها دون نظرية ثورية تستند إلى الواقع(*).

ولا يقتصر هذا على الأفكار والتجارب السياسية المرتبطة بالواقع فحسب؛ بل ينطبق أيضاً على الاتجاهات الطوبائية والمثالية، إذ تبقى الفكرة السياسية مرتبطة بالتجربة الاجتماعية فنظرية أفلاطون – مثلاً – في جمهوريته برغم طوبائيتها، إلا أنها صدرت عن التجربة السياسية اليونانية. ونظرية المفكر الانجليزي «جون لوك» انطلقت من واقع التجربة الثورية البريطانية، ومبدأ فصل السلطات (الديمقراطي) لدى مونتسكيو مأخوذ من النظام السياسي البريطاني(*). والفكر الماركسي أيضاً هو فكر نظر إلى الواقع الأوروبي، ولا سيما الألماني. أما تجربة التطبيق الماركسي في روسيا فهي لينينية – ستالينية قبل أن تكون ماركسية، وكذا الحال بالنسبة إلى التجربة الماركسية – الصينية، فهي إفراز لفكر ماوتسي تونغ (1893 – 1976) اللصيق بالواقع الصيني، ودون شك فإن من غير الممكن نقل الفكر الماركسي الماوي إلى بيئة أخرى وتطبيقه في تجربة شبيهة بالتجربة الصينية. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الفكر الرأسمالي الليبرالي الديمقراطي الغربي، فإن تطبيقه – بكل أبعاده – في بيئة أخرى غير البيئة التي ولد فيها، يعد تشويهاً لهذا الفكر وعملية قهر للبيئة الجديدة.

والحقيقة أن النظام الغربي التقليدي المعاصر يمثل تجربة تاريخية عميقة في جذورها الزمانية والمكانية، وفكراً تراكمياً مرتبطاً بالتاريخ الغربي والبيئة الاجتماعية الغربية والجغرافية السياسية والسكانية الغربية. فأهم عوامل ولادة هذا النظام تتمثل بما يلي:

1 – الصراع بين المجتمع من جهة وسلطة الكنيسة من جهة أخرى، في مجالات الفكر والعلم والسياسة والدين.

2 – الاستبداد السياسي والحكومات الشمولية المتمثلة بالملكيات المطلقة.

3 – القهر الاجتماعي والاقتصادي المتمثل بهيمنة أصحاب رؤوس الأموال والإقطاع والنبلاء على ثروات الشعب ومناصب الدولة.

هذا الواقع الذي عاش صراعاً داخلياً عنيفاً امتد مئات السنين، هو الذي أفرز النظام الغربي المعاصر بأسسه وعناصره المعروفة، وأبرزها: العلمانية، الاستعمار، العقلانية، أصالة الفرد والإرادة العامة. وتبلورت هذه العناصر في ثلاث منظومات فكرية وتجارب واقعية، ففي البعد السياسي تبلورت الديمقراطية، وفي البعد الاقتصادي الرأسمالية، وفي البعد الاجتماعي الليبرالية. ثم أفرزت هذه المنظومات مجموعة كبيرة من الأفكار والتجارب، كالحداثة والمعاصرة والمجتمع المدني وغيرها كثير، وما زالت الأفكار والتجارب التي تنتجها البيئة الغربية تتوالد وتفرز المزيد كأي بيئة أخرى. فالأحداث الكبرى والتجارب المتراكمة تؤدي إلى توالد وتناسل متواصل للأفكار، إذ ولدت العلمانية – مثلاُ – من رحم الصراع بين الكنيسة والمجتمع، والديمقراطية ولدت من رحم دعوات الإرادة العامة والحقوق والحريات، اللذين ولدا – بدورهما – من رحم الصراع بين الشعوب الأوروبية والاستبداد السياسي الذي تمارسه الحكومات الشمولية. وعلى هذا الأساس فإن الرأسمالية والليبرالية والديمقراطية وغيرها، التي هي نتاج سلسلة واسعة من التفاعلات والجدل السياسي والفكري والاجتماعي والثقافي والديني والفلسفي في الغرب، قد تكون صالحة للتطبيق في الغرب، باعتبارها نتاجات غير مستوردة وليست نظرية مجردة؛ بل فرضتها حاجات البيئة الغربية ومستلزماتها. ومن هنا، فليس من الضروري أن تكون مجمل التجارب الغربية وأفكارها صالحة للبيئات والمجتمعات الأخرى، ومنها المجتمع المسلم، الذي لم يمر بمعظم المخاضات والأحداث التي مرت بها المجتمعات الغربية. وقد تكون الرأسمالية والليبرالية والديمقراطية أفكاراً ونظماً إنسانية راقية، حققت إنجازات مهمة في الغرب ولكنها تبقى على مقاس الغرب، ولا يمكن تفصيلها على مقاس آخر(*).

هذه القضية تنسحب على النظام الإسلامي الحديث أيضاً، في البعدين الفكري والتطبيقي، فهو خاضع لمعادلات التطور والتوالد والتراكم في البيئة التي نشأ فيها. ومع أنه يستند إلى مصادر دينية، إلا أن بعض الصيغ التي يعتمدها، والتي تعبّر عن ثقافة محلية قد لا تصلح لمجتمعات أخرى؛ إذ يمكن استناداً إلى مبدأ ولاية الفقيه، الذي يعد مبدأً فقهياً عاماً، استنباط عدة نظم سياسية ودساتير، وفقاً لمتطلبات الزمان والمكان. وقد ذكر الشيخ عباس علي عميد الزنجاني في موسوعته «الفقه السياسي» خمسة أنواع من النظم السياسية التي يمكن تصورها في ضوء مبدأ ولاية الفقيه(*).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات

(1) المراد هنا: المصادر الشرعية المتفق على حجيتها، وليس على النتائح التي تستنبط منها.

(2) سورة المائدة، الآية 3.

(3) سورة الزمر، الآية 18.

(4) رواه الشيخ المجلسي في بحار الأنوار، ج1 ص 57.

(5) انظر: الشيخ محمد مهدي شمس الدين، العلمانية.. الشورى.. المجتمع المدني والشريعة (حوار)، مجلة منبر الحوار، العدد 34، خريف 1994، ص22.

(6) الهوية الغربية – الأوروبية بدأت بالتقارب والتوحد بعد دخولها ما عرف بعصر النهضة الأوروبية، وهي في المرحلة الحالية شبه موحدة.

(7) السيد محمد حسن الأمين، بين الشورى والديمقراطية، مجلة المنطلق، العدد 98، رجب 1413 ص 42.

(8) المصدر السابق.

(9) وهو ما ظهر من خلال مئات الدراسات والكتب التي صدرت والحلقات الدراسية والندوات والمؤتمرات التي عقدت في إيران، ابتداءً من عام 1979، بهدف دراسة الإنجازات البشرية في هذا المجال.

(10) عميد الزنجاني، الإسلام والنمط القديم الحديث للدولة (حوار)، قضايا إسلامية معاصرة، العدد الأول، ص 242 – 243.

(11) د. محمد جواد لاريجاني، حكومت ديني كار آمد يا دمكراسي مشروع (الحكومة الدينية الفاعلة أم الديمقراطية المشروعة)، مجلة كيان، العدد 30، أرديبهشت وخرداد 1375ش (1996م).

(12) مثل حزب التحرير في دراسته: نقض مشروع الدستور الإيراني.

(13) محمد عبد الكريم عتوم، النظرية السياسية المعاصرة للشيعة، ص 189.

(14) من خطبة له في 4/10/1979، صحيفة نور، ج9 ص 254.

(15) الإمام الخامنئي، الحكومة في الإسلام، ص31.

(16) في ببليوغرافيا تحليلية أصدرتها لجنة تطبيق الشريعة الإسلامية في الكويت تحت عنوان «الشورى»، كان هناك أكثر من (100) عنوان كتاب أكّد مؤلفها على أن الإسلام هو دين الشورى والديمقراطية، وأن الشورى هي الديمقراطية: انظر: اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، الشورى، ببليوجرافيا تحليلية. انظر أيضاً: عبد الجبار الرفاعي، موسوعة مصادر النظام الإسلامي، الجزء الثامن، الإمامة والسياسة، مدخل حرف الدال وحرف السين. وكذلك: سيد صادق حقيقت، انديشة سياسي در إسلام. كتابشناس توصيفي (الفكر السياسي في الإسلام: ببليوغرافيا وصفية).

(17) انظر: فهمي هويدي، الإسلام والديمقراطية، مجلة المستقبل العربي، العدد 166، 12/1992 ص 22.

(18) انظر: الشيخ المودودي، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون، ص 35.

(19) آية الله المنتظري، دراسات في فقه الدولة الإسلامية، ج 1 ص 538.

(20) محمد قطب في كتاب له حول التربية الإسلامية. انظر، فهمي هويدي، الإسلام والديمقراطية، مجلة المستقبل العربي، العدد 166، 12/1992، ص 26.

(21) الشيخ محمد الغزالي، دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص 211.

(22) الشيخ شمس الدين، العلمانية.. الشورى، مجلة منبر الحوار، العدد 34، خريف 1994، ص 19.

(23) أي: النظام الثيوقراطي – الديمقراطي.

(24) د. عبد العزيز ساشادينا، ولي فقيه: اختيارات ومسؤوليتها (الولي الفقيه: الصلاحيات والمسؤوليات)، مجلة كتاب نقد، 1376ش (1997م).

(25) د. برهان غليون، نقد السياسة: الدين والدولة، ص 544.

(26) من خطبة له في3/3/1997، مختارات من كلام الإمام الخميني، ص 31.

(27) من خلال حث البلدان الإسلامية على تبني العلمانية في الحكم بكل تفاصيلها الموجودة في مفاهيم العقلانية والديمقراطية والليبرالية والعصرنة والتحديث الشامل، تطمح الدول الغربية إلى توصّل المجتمعات الإسلامية إلى علمانية أصيلة كالتي تحكم المجتمع السياسي الغربي، وليست العلمانية المشوهة على طريقة حكومات البلدان الإسلامية.

(28) نقول شبه كامل، بسبب الأمور الشكلية والرمزية، ومنها – مثالاً – وحدة منصب الملك ورئيس الكنيسة في بريطانيا.

(29) الدولة التركية العلمانية هي الأخرى تعيش تناقضاً أكثر تعقيداً، فبعض الحكومات التي وصلت إلى السلطة، كحكومة حزب الرفاه وحكومة حزب العدالة والتنمية، تنتمي إلى التيار الإسلامي، أي أنها ترفع شعارات إسلامية سياسية تهدف إلى تحقيق أهداف إسلامية في الحكم والسياسة، الأمر الذي يؤدي إلى صراع كبير بين الدولة وقوانينها التي تبالغ في علمانيتها ومؤسساتها التي تدافع عن العلمانية المعادية للدين، وفي مقدمتها الجيش، من جهة، والحكومة وتشريعاتها الإسلامية ومؤسساتها التي تدافع عن الدين من جهة أخرى.

(30) من خطبة له في 7/1/1979، صحيفة نور،ج10، ص154.

(31) د. نصر محمد عارف، نظريات التنمية السياسية، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد الأول، 1995، ص 145.

(32) المصدر السابق، ص 160.

(33) جان جاك روسو، العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة: بولس غانم ص 105.

(34) المصدر السابق، ص106.

(35) المصدر السابق، ص 107.

(36) د. قباري محمد إسماعيل، علم الاجتماع السياسي، ص 99.

(37) المصدر السابق، ص 119.

(38) المصدر السابق.

(39) وهذه القضية – كمثال حسي – شبيهة ببدلة نفترض أنها جميلة وراقية، مفصّلة على مقاس رجل معين، ولكن عندما يرتديها رجل آخر له مقاسات مختلفة، فإن البدلة ستكون بشعة ومثيرة للاشمئزاز، رغم أنها جميلة كما افترضنا، ولكنها تبقى جميلة فقط على صاحبها الذي فصّلها على مقاسه.

(40) الشيخ عميد الزنجاني، النظام السياسي في الإسلام (حوار)، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد الثاني، 1996، ص 234.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment