الممارسة الديمقراطية في ايران

Last Updated: 2024/05/30By

الممارسة الديمقراطية في المشهد السياسي الإيراني

د. علي المؤمن

(مجلة النور، لندن، 2002)

تُعد مقولة الحقوق والحريات السياسية القاعدة التي تقوم عليها الممارسة الديمقراطية، إذ تنهار العملية الديمقراطية وتفقد مضمونها مع حرمان الشعب من حقوقه وحرياته. ويقوم الفكر الديمقراطي في نظرته إلى موضوع الحق والحرية على أساس فلسفي يتمثل بأصالة الفرد، والذي تبلور في المذهب الفردي، الذي يعتبر الإنسان الفرد الحقيقة الأساسية الأولى في الاجتماع الإنساني، وإن هذا الإنسان الفرد يتمتع ـ بحكم الطبيعة نفسها ـ بحقوق وحريات طبيعية مقدسة، قبل وجود الدولة وسلطتها بهدف حماية هذه الحقوق والحريات. ومصلحة الفرد ـ في المذهب الفردي مقدمة على مصلحة الجماعة، ومن مجموع المصالح الفردية تتشكل المصالح الجماعية. ويطرح المذهب الفردي مبدأً أساسياً يشكا الإطار العام لمصدر الحقوق والحريات، وهو مبدأ المساواة القانونية والاجتماعية بين الأفراد؛ إذ إنّ الأفراد ولدوا وهم متساوون في الحقوق الطبيعية(1). ويرجع بعض الباحثين في الكفر السياسي مبدأ المساواة إلى نظرية القانون الطبيعية التي يقول فيها جون لوك بأن الناس قد خلقوا بطريقة واحدة، ومن نوع واحد، ولهم القدرات الطبيعية نفسها، فيكونون حينها متساوين بلا تبعية أو خضوع. بينما يرجع آخرون هذا إلى نظرية العقد الاجتماعي التي بلورها جان جاك روسو(2).

بالنظر إلى تنوع الحقوق والحريات في الديمقراطيات التقليدية وتعددها وتباين أشكالها، فإن علماء القانون والسياسة قد يختلفون في تقسيمها وتبويبها. وهي تشتمل عموماً على المجالات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والشخصية. ويمكن القول بأن إعلان حقوق الإنسان الذي أصدرته الثورة الفرنسية (1789) هو الذي بلور طبيعة هذه الحقوق والحريات من وجهة نظر الديمقراطية. ثم جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة (1948) ليوضح أنواعها وطبيعتها على نحو الدقة.

وقد سبق الإسلام جميع الأنظمة الحديثة، بما في ذلك الديمقراطية، بالتأسيس لحقوق الإنسان وحرياته، ثم حددت الشريعة الإسلامية هذه الحقوق وكفلت تطبيقها.

إلا أن التجربة التاريخية لدول المسلمين التي أعقبت الخلافة الراشدة، اتجهت في مسار معاكس لا يختلف كثيراً عن تعامل الحكومات المطلقة والشمولية مع قضايا الحقوق والحريات. ومن هنا فالاشتراك بين الأنظمة الديمقراطية والنظام الإسلامي في إقرار مبادئ الحقوق والحريات يرتكز في الجانب الإسلامي على المجال النظري ـ أولاً ـ وتجربة النظام السياسي الإسلامي الحديث المتمثل بالجمهورية الإسلامية الإيرانية ـ ثانياً ـ.

الحقوق والحريات الإنسانية تعدها الشريعة الإسلامية منحة إلهية، أي إن جذورها تعود إلى اللَّه تعالى، ومن هنا لا يحق لأي إنسان أن يسلب هذه المنحة من إنسان آخر، إلا في الإطار الذي حددته الشريعة الإسلامية نفسها. إذ يذكر دستور الجمهورية الإسلامية بأن «السيادة على مصيره الاجتماعي، ولا يحق لأحد سلب الإنسان هذا الحق الإلهي أو تسخيره في خدمة فرد أو فئة ما، والشعب يمارس هذا الحق الممنوح من اللَّه بالطرق المبينة»(3). وتتمثل التجسيدات الأساسية لهذه الحقوق في جملة مبادئ، أهمها: المساواة بين البشر أمام اللَّه والشريعة وأمام بعضهم الآخر، كما في قول الرسول الأعظم(ص): «كلكم لآدم وآدم من تراب»(4)، دون أي تمييز في الجنس واللغة واللون، وقوله: «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى»(5). وعدم التقوى لا يغلي ـ من جانبه ـ الحقوق الأساسية الإنسانية.

وحق الحريات والمشاركة السياسية والاجتماعية هي من أهم الحقوق والحريات التي أكدها دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الفصل الثالث تحت عنوان «حقوق الشعب»، وتحديداً المواد 23، 24، 25، 26، 27 و32(6).

وتتلخص الحقوق والحريات السياسية في الأنظمة الديمقراطية في المشاركة السياسية للشعب؛ باعتباره المعني بحكم نفسه وتقرير مصيره السياسي، ويتجسد ذلك على أرض الواقع بحق المواطن ـ دون الأجنبي ـ في الترشيح لأي منصب من مناصب الدولة التي يقررها القانون، وفي التصويت في مختلف الانتخابات، كانتخاب رئيس الدولة أو رئيس السلطة التنفيذية وأعضاء المجالس النيابية، كالمجالس التشريعية والبلدية وغيرها، وكذلك التصويت في الاستفتاءات العامة، وحق تشكيل الأحزاب والجمعيات أو الحصول على عضويتها، وإصدار الصحف. أما الحريات السياسية فهي إفراز لهذه الحقوق وتتداخل فيها، ومنها حرية المعتقد والفكر والتعبير. وتؤكد الديمقراطيات من خلال هذه الحقوق والحريات دور الشعب، وكونه مصدر سيادة الدولة وشرعية الحكومة وشرعية المجالس النيابية. كما تؤكد أنّ مشاركة الشعب في التصويت والترشيح والاستفتاء وغيرها من الأدوار السياسية، هي الآليات التي تجعل من الشعب ذلك المصدر.

ويلتقي النظام الديمقراطي بالنظام السياسي الإسلامي في مجال تمتع الشعب بهذه الحقوق والحريات السياسية، إذ عدّ دستور الجمهورية الإسلامية أنّ «ضمان الحريات السياسية والاجتماعية في حدود القانون» هو من واجبات الدولة الإسلامية(7). وأكد وجوب «أن تدار شؤون البلاد في جمهورية إيران الإسلامية بالاعتماد على رأي الأمة الذي يتجلى بانتخاب رئيس الجمهورية الإسلامية، وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي وأعضاء سائر مجالس الشورى ونظائرها، أو عن طريق الاستفتاء العام»(8).

وبرغم أن دور الشعب في النظام الإسلامي، يختلف من الناحية النظرية عنه في النظام الديمقراطي، إلاّ أنه لا يختلف من ناحية الممارسات العملية. إذ إنّ هذا الدور ـ نظرياً ـ هو أساس شرعية النظام الديمقراطي، أما في النظام الإسلامي فإنّه نوع من التكليف والتعهد على الشعب، لأنه هنا يمارس دوره المكلف به من قبل الله سبحانه وتعالى؛ باعتباره المستخلف على الأرض، والأساس الواقعي الذي يقف عليه النظام الإسلامي، والقدرة التي تفعِّل ولاية الحاكم الشرعي. وهذا الدور يلتقي عنده المؤمنون بنظام ولاية الفقيه ونظام الشورى، وكذلك غير المؤمنين بالنظام الإسلامي. واللافت أن الإمام الخميني كان دائماً يحتج برأي الشعب وإرادته على غير المؤمنين بالنظام الإسلامي، إذ يقول في إحدى خطبه مخاطباً معارضي نظام الجمهورية الإسلامية: «الشعب هو الذي يحدد ما نقوم به. افترضوا أنّ الذي يريده الشعب يعتبر كارثة بالنسبة لكم!، فما العمل والشعب هو الذي يريد ذلك؟!(9) تعالوا نحتكم إلى الشعب، ونجري استفتاءً عاماً نقول فيه: أيها الناس إنّ السادة [المعارضين] يقولون إنّ ولاية الفقيه كارثة فهل تؤيدونها أم لا؟ وعندئذ سترون كم هم الموافقون وكم هم الرافضون»(10).

ويذهب أحد المفكرين الإسلاميين، ممن يؤكدون خيار الأمة، إلى أنّ الدولة الإسلامية هي النظام الذي يختاره المسلمون، وإنّ أغلبية الأنظمة السياسية في البلدان الإسلامية تخرج عن هذه الدائرة؛ لأنها أنظمة لم يخترها المسلمون، «أما النظام السياسي في إيران فهو نظام إسلامي؛ لا بسبب خصوصياته ومميزاته في تطبيق أحكام الإسلام؛ بل بسبب كونه نظاماً (مختاراً) من الناس ـ الأمة»(11). فهو يعتبر أنّ خيار الأمة هو الذي منح النظام الإسلامي في إيران شرعية كونه نظاماً إسلامياً.

وقد بيّن دستور الجمهورية الإسلامية طبيعة الحقوق والحريات السياسية التي أقرّها النظام الإسلامي وألزم نفسه بتطبيقها وحدد آليات ذلك، على النحو التالي:

أولاً: حرية المعتقد: «تمنع محاسبة الناس على عقائدهم، ولا يجوز التعرض لأحد أو مؤاخذته لمجرد اعتناقه عقيدة معينة»(12).

ثانياً: حرية الصحافة: «الصحافة والمطبوعات حرة في بيان المواضيع، ما لم تخل بالقواعد الإسلامية والحقوق العامة»(13).

ثالثاً: حرية الاتصال: «الرسائل والمكالمات الهاتفية، والبرقيات، والتلكس لا يجوز فرض الرقابة عليها، أو عدم إيصالها، أو إفشاؤها، أو الإنصات والتجسس عليها»(14).

رابعاً: حرية تشكيل التنظيمات: «الأحزاب، والجمعيات، والهيئات السياسية، والاتحادات المهنية، والهيئات الإسلامية، والأقليات الدينية المعترف بها، تتمتع بالحرية، شرط أن لا تُناقض أُسس الاستقلال، والحرية، والوحدة الوطنية، والقيم الإسلامية، وأساس الجمهورية الإسلامية، كما أنّه لا يمكن منع أي شخص من الاشتراك فيها، أو إجباره على الاشتراك في إحداها»(15).

خامساً: حرية الاعتراض والتظاهر: «يجوز عقد الاجتماعات وتنظيم المسيرات بدون حمل السلاح»(16).

وتجسدت هذه الحقوق والحريات في جملة من المظاهر، شهدتها إيران منذ تأسيس النظام الإسلامي فيها، كحرية المعتقد والتدين بأحد الأديان المعترف بها: الإسلام، المسيحية، اليهودية والزرادشتية، والتعبد والتقاضي والفصل في الأحوال الشخصية وفقها، وكذا الأمر بالنسبة إلى المذاهب الإسلامية (الشيعية والسنية). وتشكيل الأحزاب والجمعيات بمختلف اتجاهاتها وتياراتها، وقد بلغ عددها أكثر من (50) حزباً وجماعة سياسية مرخّصاً لها حتى عام 2002، فيما بلغ عدد الصحف والمجلات في العام نفسه أكثر من (1000) عنوان، بينها نحو (60) صحيفة يومية، تمثل اتجاهات وتيارات مختلفة ومتعارضة. وتمارس هذه التيارات دورها في الحياة السياسية بصورة واسعة، إذ تشهد الانتخابات الرئاسية والنيابية والبلدية تداولاً دائماً للسلطة، ينتقل بعدها بعض الأحزاب من السلطة إلى المعارضة أو العكس. ومفهوم المعارضة في النظام الإسلامي يشبه إلى حد كبير الأنظمة الديمقراطية التقليدية، فالمعارضة داخل نظام الجمهورية الإسلامية، لها حضورها في مجلس الشورى الإسلامي كأقلية، وكذلك في أجهزة الدولة الأخرى، أو تكون المعارضة هي الأكثرية في مجلس الشورى الإسلامي، في حين تكون السلطة التنفيذية (رئاسة الجمهورية والحكومة) بحوزة حزب أو تيار آخر. فمثلاً: كان ما يعرف بتيار اليسار الديني (تيار مجمع العلماء المجاهدين [روحانيون] ومنظمة مجاهدي الثورة الإسلامية) يسيطر على مجلس الشورى الإسلامي في دورته الثالثة، فيما كان ما يعرف بالتيار المحافظ (تيار جماعة العلماء المجاهدين [روحانيت] وجمعية المؤتلفة) يمثل المعارضة والأقلية في المجلس. وتغيّرت المعادلة تماماً في انتخابات الدورة الرابعة عام 1994. وفي الحكومة الأولى للشيخ أكبر هاشمي رفسنجاني (1989) اشتركت معظم التيارات في تشكيل الحكومة (تيار جماعة العلماء، تيار مجمع العلماء، منظمة مجاهدي الثورة، جمعية المؤتلفة، التكنوقراط)، فيما انحسر وجود تيارات اليسار الديني في الحكومة الثانية للرئيس رفسنجاني لمصلحة تيارات المحافظين والتكنوقراط وحزب كوادر البناء، وتزامن ذلك مع سيطرة التيار المحافظ على مجلس الشورى الإسلامي في دورته الخامسة. ثم عادت المعادلة إلى سابق عهدها، بعد فوز السيد محمد الخاتمي برئاسة الجمهورية الإسلامية في انتخابات عام 1996، إثر تحالف تيار اليسار الديني وتيار الوسط (حزب كوادر البناء الذي انفصل عن التيار المحافظ خلال التحضير لانتخابات الدورة الخامسة لمجلس الشورى الإسلامي). وأعقب ذلك ظهور قوى سياسية جديدة ذات ميول إسلامية قومية ووطنية، شكّلت مع القوى القديمة جبهة سياسية كبيرة عرفت بـ«جبهة الثاني من خرداد»(17). وقد سيطرت هذه الجبهة على مجلس الشورى الإسلامي في دورته السادسة عام 1998، كما اكتسحت الانتخابات البلدية في عام 1999. خلال ذلك تحول التيار المحافظ إلى صف الأقلية في مجلس الشورى الإسلامي (في دورتيه السادسة والسابعة)، وشكّل جبهة سياسية معارضة عرفت بـ«جبهة خط الإمام والقائد». وعادت الأخيرة لتفوز في الانتخابات البلدية التي جرت في أوائل عام 2003.

وتضم «جبهة الثاني من خرداد» ما مجموعه (17) حزباً وجماعة سياسية ودينية ومهنية، وهي تمثل جبهة السيد محمد خاتمي، أي الجبهة الحاكمة، إذ سيطرت على السلطة التنفيذية (منذ عام 1996) والسلطة التشريعية (منذ عام 1998). والمشتركات بين هذه الأحزاب والجماعات قليلة، فهي تبدأ في اتجاهاتها الفكرية والسياسية والاقتصادية من أقصى اليمين وتنتهي بأقصى اليسار. إلاّ أن لديها قاسمين مشتركين، هما: شخصية السيد محمد خاتمي، والتخندق في مواجهة جبهة المحافظين. وقد تحالف بعض فصائل هذه الجبهة مع بعض الحركات الدينية الليبرالية (والتي تعرِّف نفسها بالتيار الوطني الديني) الذي ظل خارج السلطة منذ حل حكومة الثورة الإسلامية الموقتة في مطلع عام 1980، ودخل معه بقوائم مشتركة في انتخابات مجلس الشورى الإسلامي (الدورة السادسة 1998 والسابعة 2001) وانتخابات المجالس البلدية (الدورتان الأولى 1999 والثانية 2003).

أما «جبهة خط الإمام والقائد» فإنها تضم (18) حزباً وجماعة سياسية ودينية ومهنية، وهي جبهة المعارضة ابتداءً من عام 1988، وإن كانت تحظى بتعاطف أكثرية مجلس الخبراء ومجلس صيانة الدستور، كما يقول معارضوها بأن لها امتدادات في السلطة القضائية.

ولكلا الجبهتين (جبهة الثاني من خرداد وجبهة المعارضة) امتداداتهما الاجتماعية والدينية، في المنظمات المهنية والشبابية والنسوية والطلابية، في المساجد والحسينيات، وكذلك في المؤسسات الدينية والحوزات العلمية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات

(1) انظر: د. يحيى الجمل، الأنظمة السياسية المعاصرة، ص 156 ـ 157.

(2) انظر: عبد الله بسيوني، النظم السياسية، ص 353.

(3) المادة 56، ص 47.

(4) رواه ابن شعبة الحراني في تحف العقول، ص 30.

(5) رواه البخاري في صحيحه.

(6) الدستور، ص 39 ـ 48.

(7) المادة الثالثة، ص 25.

(8) المادة السادسة، ص 28.

(9) أي: يريد النظام الإسلامي ويريد نظام ولاية الفقيه.

(10) من خطبة له في 4/10/1979، صحيفة نور، ج 9 ص 255.

(11) السيد محمد حسن الأمين، من تقديمه لكتاب سلطة الفقهاء، فرح موسى، ص 13 ـ 14.

(12) المادة 23، ص 34.

(13) المادة 24، ص 35.

(14) المادة 25، ص 35.

(15) المادة 26، ص 35.

(16) المادة 27، ص 35.

(17) خرداد هو الشهر الثالث من أشهر السنة الإيرانية، والثاني من خرداد هو اليوم الذي انتخب فيه السيد محمد خاتمي رئيساً للجمهورية (1996).

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment