المسلمون والعلاقة المتوازنة بين الحضارات

Last Updated: 2024/05/30By

المسلمون والعلاقة المتوازنة بين الحضارات

دراسة مشتركة بقلم: الشيخ محمد علي التسخيري وعلي المؤمن

إنّ التحركات الجادة التي شهدتها الساحة العالمية خلال الأعوام الماضية؛ بهدف بلورة فكرة الحوار بين الحضارات بصيغتها العلمية الموضوعية، تمثل نقلة أساسية في أساليب تفكير البشرية الرامية إلى تحقيق التوازن في العلاقة بين التيارات الحضارية والدينية والفكرية والقومية التي تتقاسم البشرية، وبالتالي العمل على تحقيق الطموح الذي طالما حكم به الإنسان منذ بزوغ فجره، وهو حلم تحقيق الأمن والسلام في الأرض. ومهمة كبرى بهذا الحجم، تستدعي التعامل معها بمزيد من التنظير العلمي الجاد والتخطيط الموضوعي، ومن ثم التنفيذ الواقعي الذي يستبعد التحركات الانفعالية السطحية أو الخطاب الإعلامي الدعائي؛ إذ إنّ المشاريع التي تتعامل مع مصير الإنسانية وتعتمد الشعار والأهداف الدعائية؛ تؤول ـ دون شك ـ إلى الإخفاق، بل وقد يكون لهذا الإخفاق مردودات سلبية.

ومن هنا؛ فنحن نكرر التأكيد على ضرورة التعامل مع موضوع الحوار بين الحضارات تعاملاً علمياً عقلانياً، ينطلق من مساحات الاشتراك التي تقف عليها البشرية، وينظر إلى التقسيمات الحضارية والمدنية والأثنية والدينية نظرة واقعية تستبطن كل عوامل الاختلاف وإمكانيات اللقاء، ولا يتجاوز المسلم فيها مبادئه العقائدية وأُسسه الشرعية.

وسنحاول في هذا البحث الانطلاق من هذه الحقائق في النظر إلى موضوع العلاقة بين الحضارات؛ بهدف تركيز دعائم الطريق الذي يوصل البشرية جمعاء إلى التفاهم من أجل أمنها وسلامها. وهذا الطريق محفوف بالمخاطر والصعوبات والعقبات، وقضية إزالتها تحتاج إلى تعاضد الجهود، وتلاقي الرؤى الخيّرة لأبناء الإنسانية الذين يجمعهم مصير مشترك وواقع مشترك، سواء في حياتهم على الكرة الأرضية التي يتقاسمون تاريخها وجغرافيتها، أو في حياتهم الآخرة التي سيحصلون فيها على نتائج ما كسبت أيديهم.

الحوار حاجة إنسانية

منذ أن أحس الإنسان بحالة التنوع في المعتقد والمستوى المعيشي والتوزيع الجغرافي والعمق التاريخي والانتماء الأثني، مع الإنسان الآخر، فإنّه دخل في حلبة الصراع من أجل البقاء ومن أجل حياة أفضل أو من أجل فرض واقعه على الآخرين. وأثبتت هذه التجارب للإنسان طوال الآلاف من السنين أنّه بحاجة إلى تقنين حالة الصراع والتدافع، وخفض نسبة سلبياتها إلى أدنى حد. ودفعته هذه الحاجة إلى تفهم وجهة نظر الآخر، من خلال الحوار وتبادل الرؤى والأفكار. ثمّ أخذت أساليب الحوار مظاهر وألواناً مختلفة، وقد تناولها كثير من المفكرين والباحثين وعلماء الدين ورجال السياسة من منطلقات مختلفة ولغايات متنوعة، ولكن القاسم المشترك الذي كان يجمع هذه الرؤى والدعوات هو ضرورة الحوار الإنساني بشتى مضامينه ومجالاته.

فظهرت دعوات للحوار بين الثقافات، وأُخرى بين الأديان، وثالثة بين المذاهب، وهكذا بين الشعوب والحكومات والقوميات وغيرها، فضلاً عن الحوار بين الحضارات، والتي ظلت من الدعوات الأساسية والمهمة. وفي هذا المجال، ثمّة رؤى متنوعة أيضاً، فهناك من يرى بأنّ حوار الحضارات يجب أن يتم بين الحضارات المتماثلة موضوعياً، مثلاً بين الحضارات الدينية أو الحضارات القديمة أو الحضارات القائمة أو المستمرة في وجودها أو بين المدنيات وغيرها. ولا شك أنّ لكل مجال أو مضمون من مضامين الحوار أساليبه ومناهجه المستنبطة من طبيعة موضوع الحوار نفسه.

ولا يفوتنا هنا أن أذكر بأنّ الإمام الخميني كان داعية الحوار الأول، إذ لم تقتصر دعواته على الحوار بين المسلمين، بل إنّه تجاوزها إلى الحوار مع غير المسلمين، بل ومع غير المتدينين، وأبرز مثال في هذا المجال هو رسالته إلى آخر رئيس للاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف، والتي فتح فيها باب الحوار مع الحضارات والمدنيات والقوى الدولية. ولكن الموت حال بينه وبين إكمال هذا المجال. تغمده الله بواسع رحمته.

الحوار مبدأ إسلامي

من خلال نصوص القرآن الكريم والصحيح من الحديث الشريف، إضافة إلى سيرة رسول الله وأهل بيته، نجد أنّ الإسلام دعا ـ وبصيغ مختلفة ـ إلى الحوار. كما دعا إلى التعاون مع الآخر المختلف دينياً وأثنياً، كمقدمة ضرورية للحوار، فالتعارف هو مدخل الحوار {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا…}([1]). ويتمثل التعارف بدراسة كل طرف لمتبنيات وأفكار الطرف الآخر من مصادره نفسها؛ لتكون حجة عليه، فضلاً عن تبادل المعلومات ولقاءات المجاملة؛ لتكون مقدمة للحوار.

أمّا الحوار الذي يدعو إليه الإسلام، فهو حوار هادف، ويتسم بالتجرد والموضوعية والعلمية. وقد وضع الرسول قواعد هذا الحوار في دعوته أهل الكتاب عبر آية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}([2])، ويريد بذلك الاتفاق على حدّ معين من مباني الحوار الموضوعي. كما أنّ الرسول في قوله لنصارى نجران: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}([3])، فإنّه يقصد التجرد في الحوار للوصول إلى الحقيقة مهما كانت، برغم يقينه بصحة معتقداته، وهو الشرط الأساس لدخول مثل هذا الحوار؛ لأنّ الحضارات تتباين فيما بينها في حجم القوة، ونوعية الامتداد والاستمرار، وطبيعة أدوات التعبير التي تمتلكها.

والمناخ المناسب الذي يتمثل في الحوار المتوازن هو الوجه الآخر للعلاقة المتوازنة المتكافئة بين الحضارات، والتي تختفي فيها أدوات الضغط ومنطق الترغيب والرهيب. ولا نقصد هنا بأدوات الضغط الأدوات العسكرية فحسب، بل أدوات الضغط بكل أشكالها ومضامينها، والتي تعبر عن تفوّق طرف على آخر، ومنها الأدوات السياسية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، وصولاً إلى أدوات الاتصال والتعبير عن الرأي، بل حتى مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية، التي تؤسس لإيديولوجية التفوق والقوة لدى عرق دون آخر، ولون دون آخر، فهذه المناهج يمكنها أيضاً أن تكون أدوات للضغط خلال الحوار، فيستثمرها المتفوق في هذه المرحلة الزمنية([4])؛ للقيام بالتأثير النفسي على الأطراف الأُخر ومحاولة مصادرة آرائها، وإيقاع الهزيمة بها بسلاح المنهج العلمي المزعوم.

الحوار وهدف تحقيق الأمن والسلام

الأمان مطلب إنساني فطري يستمد جذوره من أهم غريزة وجدت في فطرة الإنسان، وهي غريزة (حب الذات). وتعمل هذه الغريزة مع باقي الغرائز الأُخر بشكل متناسق؛ لتحقيق سير إنساني متوازن نحو الأهداف التكاملية العليا للإنسان؛ ولا يكفي وجود الدوافع الغريزية لتأمين المسير المتوازن، وإنّما يجب تأمين جو طبيعي للذات الفردية وللذات النوعية؛ كي تدفعها ـ تلك الدوافع ـ نحو أغراضها المنشودة.

وتأكيداً من الفطرة نفسها على توفير الجو الآمن، نجد العناية الإلهية قد غرست فيها بديهيات الحكمة، والميول نحو العدل، والنفور من الظلم والاعتداء، بل ومنحتها القدرة على تعيين الكثير من مصاديق العدل والظلم، مما يمهد لها السبيل للاتصال بالخالق العظيم وتقديم معاني الولاء له، وحينئذٍ تنفتح لها آفاق الوحي، وتكتشف الأُطروحة السماوية الرحيمة التي تعطيها المخطط الكامل للمسيرة، وتضمن لها كل ما يوصلها إلى أهدافها.

فالأمن ـ إذاً ـ حاجة إنسانية دائمة لا تغيرها الظروف، وليست ظاهرة عرضية حتى يقال؛ بأنّها معلومة لوضع اجتماعي معين إذا ما تبدل تبدلت هذه الظاهرة معه. ومن هنا فمن الطبيعي أن نتصور الحاجة إلى نظام شامل يتكفل حماية الأمن الفردي والاجتماعي على مدى مسيرة الإنسان الطويلة.  ولا يمكننا أن نتصور حدوداً لمسألة حماية السلام والأمن إلّا في إطار مسألة التكامل الإنساني ذاتها. وذلك أمر طبيعي، بعد أن ندرك أنّ الفطرة هي ـ إجمالاً ـ معيار الحقوق الإنسانية كلها، وأنّها أيضاً تحدد إنسانية الإنسان وأهدافه، وتفرض حماية الأمن الإنساني لتحقيق الهدف الكبير. وحينئذٍ لن يقبل الأمن تحديداً إلّا إذا خرج عن وظيفته الحياتية، وعاد عنصراً ضد الأمن نفسه، فلا معنى ـ إذاً ـ لضمانه. وإلّا فكيف نتصور الفطرة التي أعلنت الحاجة إلى الأمن وهي تسمح للفرد بالقضاء على أمن نفسه هو، أو أمن الآخرين، وبالتالي على أمن المسيرة الإنسانية كلها دون أن تحدده بما يردعه عن فعلته، حتى لو أدّى ذلك إلى تهديد أمنه؟

وإذا شئنا أن نتّبع المحاولات الإنسانية الحضارية الجادة لتوفير نظام آمن للبشرية جمعاء، فإنّ علينا أن نتّبع ـ أولاًـ محاولات الأديان، باعتبارها أقدم الظواهر في حياة الإنسان وأكثرها دعوة للكمال كهدف إنساني، وأشدّها سعياً لتحقيقه، ثم نستعرض ـ ثانياً ـ محاولات الفلاسفة المتنوعة لبناء القوة العادلة العاقلة التي تضمن للبشرية هذه الحاجة، ونصل ـ ثالثاً ـ إلى المحاولات الشخصية والجماعية ـ منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا ـ لضم العالم تحت حكومة واحدة، بشتى الحجج والدوافع والشعارات، وفي طليعتها شعار تأمين العدل لكل البشرية، والدفاع عن حقوق المحرومين وتوفير السلام العالمي.

خيارات البشرية لتحقيق الأمن والسلام

هناك عدة خيارات أمام البشرية، متمثلة في الأُطروحات التي جربتها البشرية أو لم تجربها، وكلها ترفع شعار تحقيق الأمن والسلام العالمي، ولكنها تختلف في المضامين والوسائل والأساليب، وأهمها:

1ـ السيطرة الدكتاتورية على كل العالم بالحديد والنار، بذريعة أنّها الوسيلة الوحيدة لضمان الأمن العالمي. وهذه الأُطروحة ـ كما نرى بوضوح ـ تحمل في داخلها تناقضاً يصعب إزالته أو تسويغه، حتى من قبل الذين يتبنونها؛ الأمر الذي يضطرهم لرفع شعارات أُخر لتسويغ نواياهم الحقيقية غير السليمة. وأبرز من تبنى هذه الأُطروحة النازية.

2ـ السيطرة الطبقية، أي سيطرة طبقة معينة على باقي طبقات المجتمع العالمي؛ باعتبارها المقدمة الوحيدة لخلاص البشرية من شرور الاستغلال والعدوان والاستعمار، والتي تحقق الانسجام الوحيد مع نوعية الإنتاج الاقتصادي؛ الأمر الذي يؤدي إلى توفير كل حاجات الناس دون استثناء، وقيام المجتمع الشيوعي الذي يحقق كل الرغبات العامة، وتختفي فيه (الأنا) الذاتية وتسوده الـ (نحن) الإنسانية، حتى لا تبقى هناك أيّة حاجة للقانون أو القضاء أو الدولة. وهذه الأُطروحة ليست إلّا ضرباً من الخيال لا ينسجم مع فطرة الإنسان وأصالتها؛ بل إنّه ينفي أيّة جذور فطرية، مما يؤدي بالتالي إلى نفي إنسانية الإنسان نفسها. وهذه النتيجة يرافقها ـ بطبيعة الحال ـ اعتداء تاريخي مرير على كل مرافق الأمن ووسائل السلام، وسلب قاس للحريات والحقوق الإنسانية، وهو ما حفلت به التجربة التاريخية للأُطروحة، من ممارسات عنف واضطهاد وسفك للدماء، وصادرت كلّ دعامة للأمن والسلام، برغم أنّها تجربة انهارت قبل أن تحقق أيّاً من أهدافها الأساسية.

3ـ الشعوب الحرة المتعايشة التي تحكمها النظم الديمقراطية، والتي تتنافس فيما بينها تنافساً حراً يعود على الإنسانية جمعاء بالخير والأمان. وبرغم أنّ هذه الأُطروحة لم يصرح بها أحد بصورة نظرية متكاملة([5])، ولكنها تعبير عن الواقع الذي تدعو له الأُطروحة الرأسمالية بركنيها: الليبرالية والديمقراطية، وتعتقد هذه الشعوب بأنّ الحرية هي أساس السعادة الإنسانية، وهي التي تكفل تحقيق التكافؤ بين الشعوب، وبالتالي تعميم السلام في الأرض. وتفسر هذه الأُطروحة الحرية بما ينسجم وتحقيق الفرد لطموحاته؛ باعتبارها مدخل تحقيق المجتمع لطموحاته وتقدّمه على المدى البعيد. وتفترض هذه الأُطروحة إمكانية قيام حكومات ديمقراطية ـ بكل ما للديمقراطية من معنى نظري ـ في كل أنحاء العالم، وأنّ هذه الحكومات تتعامل مع بعضها على أساس التنافس البنّاء دون تعدٍّ على الحدود والحقوق، ويتم ذلك في إطار عرف دولي مدوّن يضمن طرح أُسس عادلة للعلاقات الدولية. وهذه الافتراضات هي ـ في حقيقتها ـ مجرد خيال؛ لأنّها لا تمتلك أيّ أساس إنساني واقعي، ولا تؤيدها التجربة التاريخية الحضارية الإنسانية. إذ إنّ الإنسان الذي يملك أبعاده النفسية ونزعاته الذاتية، إذا لم نضمن التربية الروحية التامة له، وسلبنا كل ما يؤدي إلى تربية إنسانيته، وسرنا به نحو حيوانية منظمة، فإنّ من المستحيل تصوّر سير تكاملي طبيعي ومتوازن له. وإذا تجاوزنا الجانب النظري إلى الجانب التطبيقي، فسنرى أنّ التجربة التي مارستها الأنظمة الديمقراطية التقليدية منذ انبثاقها وحتى الآن، وما أسفر عن ذلك من حروب وحركات استعمارية وانتهاك لحقوق الشعوب الأُخر، وعدوان على الحريات الإنسانية، لا يمكنها خلق أيّة أرضية للأمن والسلام العالمي.

4ـ القبول بالواقع القائم على ما هو عليه، ولكن شريطة إصلاح منظمة الأُمم المتحدة، لكي تأخذ على عاتقها تنظيم العلاقات بين الدول والشعوب، وإصدار بيانات وقرارات وبروتوكولات عالمية ملزمة، بهدف ضمان السلام العالمي، ومن ثم السهر على استمراره من خلال مختلف الآليات. الى جانب إلغاء الآليات التي ترهن مصير الشعوب والبلدان بقرارات الدول الكبرى؛ فنرى ـ مثلاً ـ إنّ المنظمة منحت كل الدول على اختلاف سكانها وحجم مساحتها وقوتها مقعداً واحداً وصوتاً واحداً في الجمعية العامة. بينما منحت كلّاً من القوى الكبرى الخمس حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، الأمر الذي جعل هذه الدول تسعى لتحقيق مصالحها على حساب الدول الأُخر. إضافة إلى أنّ هذه المنظمة لم تُوجِد أيّة آلية لإلزام الدول بقوانينها، وبذلك يمكن لأيّة دولة أن لا تنضم للمعاهدة أو البروتوكول الذي لا تجده منسجماً مع أهدافها ورؤاها. وإذا ما وجدت قوانين عقوبات دولية رادعة ـ وهي نادرة ـ فإنّ القوى الكبرى هي التي تنفذها وفقاً لرغباتها ومصالحها وليس وفقاً لمصلحة الأمن العالمي. وبذلك فإنّ السلام العالمي في هذه الأُطروحة ينظر إليه من خلال مصالح القوى العظمى فقط، فهو ـ إذاً ـ سلام ضد السلام.

5ـ الدولة العالمية الواحدة، القائمة على أساس التوحيد الإلهي والقسط والعدل، والشورى، والقيادة الإنسانية الرشيدة، والنظام الإنساني الذي يقر حرية الإنسان وحقوقه في مضامينهما وأشكالهما التكاملية الطبيعية. وهذه الأُطروحة تتمتع بكل نقاط القوة التي تجعل منها الضامن الوحيد للسلام العالمي، فضلاً عن أنّها لا تحتوي على نقاط الضعف الموجودة في الأُطروحات الأُخر التي استعرضناها. إلّا أنّ هذه الأُطروحة برغم واقعيتها ووجود الإمكانية الكاملة لتحققها تواجه عقبات كأداء، وتحتاج إلى تضحيات جسيمة، واكتشاف المبدأ الأصلح الذي ينسجم مع أُسسها ومعالمها وروحها، ثم التعرف إلى الأُمّة التي تحمل هذا المبدأ، والعمل على تأصيل خصائص هذه الأُمّة، والانطلاق ـ بعد ذلك ـ لنشر حالة الإيمان بهذه الأُطروحة بين أبناء البشرية. ولكيلا نتّهم بأننا نجنح إلى الخيال في عرضنا لهذه الأُطروحة، فإنّنا نؤكد على أنّ هذه الأُطروحة هي الخيار الذي يطرحه الإسلام نفسه لإنقاذ البشرية ونجاتها من الظلم والجور ونشر القسط والعدل والسلام في ربوع الأرض. وينبغي هنا التنبيه إلى حقيقة مهمة، وهي أنّ مثل هذه الدولة العالمية لا توجب ـ بالضرورة ـ أن يكون أتباعها على دين واحد أو مذهب واحد، وإن كانت الوحدة في هذا الجانب من مقومات الترابط بين المجتمع العالمي الذي تستوعبه هذه الدولة، إلّا أنّ ذلك ليس شرطاً ضرورياً لقيام هذه الدولة. ونحن نعتقد بأنّ البشرية ستسير باتجاه تحقيق هذا الهدف ـ عاجلا أم آجلاً ـ إذا أرادت لنفسها أن تضمن مسيرة متوازنة واحدة متكاملة تحقق أهداف الإنسان، وتضمن تناسباً بين الثروة الموجودة في الطبيعة وسرعة التكاثر الإنساني واحتياجات الأجيال الجديدة، وتضمن سلاماً عالمياً يغني العالم عن الحروب والنزاعات التي لا طائل من ورائها غير إفناء الإنسانية وإهدار ثرواتها، وتضمن ـ أخيراً ـ الحقوق والحريات للإنسان بصورة حقيقية، وفقاً للموازين المعنوية العادلة التي تخدم تقارب البشرية عموماً. وبالتالي فإنّ هذا التصور هو طموح نسعى إليه ويجب أن نعمل للتمهيد له([6]).

حكومة السلام العالمية والتمهيد لها

إنّ حكومة السلام العالمية هي حقيقة إنسانية، كما هي حقيقة دينية وإسلامية، فالبشرية على مختلف معتقداتها وإيديولوجياتها تراهن على الزمن الذي تقوم فيه حكومة العدل العالمية، وهو رهان يستند إلى قاعدة الوعود التي تحتويها الفلسفات والأديان، والمتمثلة بحتمية استتباب السلام في أرجاء العالم في ظل حكومة ترابط عدالة الأرض بتعاليم السماء. وهذه الوعود لا تقتصر على الإسلام فحسب برغم أنّ الإسلام يعطيها شكلاً ومضموناً عقائدياً في غاية الوضوح، ويتحدث عنها كحقيقة تربط بين ماضي الإنسانية وحاضرها ومستقبلها، ويطلق على هذه الحقيقة اسم حكومة المهدي المنتظر، والتي ستعم العالم أجمع، وتنشر العدل والقسط والسلام فيه، وتقضي على كل ألوان الظلم والجور والعدوان. ومن هنا، فقضية المهدي ترتبط بمصير الإنسانية جمعاء أو مصير الأرض برمتها، وحري بجميع سكان الأرض أن يجعلوها مادة للحوار فيما بينهم. ونحن كمسلمين مكلفون بالتمهيد لعصر ظهور هذه الحكومة، وهو ما أطلقت عليه الأدبيات الإسلامية مصطلح (الموطؤون)([7]).

ونطرح هنا مجموعة من المقدمات التي ينبغي بـ (الموطئين) توفيرها في إطار عملية التمهيد لتحقيق الحتمية الموعودة:

1ـ إعادة القيم المعنوية التي تدفع الإنسان باتجاه التخلص من المعايير والقيم المادية الأرضية، والتمسك بالقيم الروحية السامية، وهي مهمة تقع على عاتق كل الأديان والمعتقدات الروحية والإنسانية الصافية.

2ـ تركيز حالة الحوار بين الأديان، دون أن تقتصر محاوره على القضايا اللاهوتية، بل تتعدّاه إلى التعاون في جميع قضايا الإنسان، ومحاولة تلبية حاجاته المادية والروحية.

3ـ معالجة المشاكل الاجتماعية معالجة عصرية وافية، من خلال دراستها بعمق ودقة وموضوعية.

4ـ العمل الجاد على تطبيق مبادئ حقوق الإنسان وتوسيعها ورفع ما يشوب نظريتها من نقاط ضعف واستغلال، ومنها إمكانية الاستغلال السياسي والازدواجية بين النظرية والتطبيق وسياسة الكيل بمكيالين.

5ـ إشاعة مفهوم الحكومات القائمة بصورة حقيقية على إرادة الشعوب، والتي تحفظ للإنسان كرامته وحقوقه.

6ـ الدفاع عن الثقافة العالمية القائمة على الفطرة الإنسانية، أي الثقافة التي تنسجم مع فطرة سكان الأرض وتمثل المساحة الإنسانية المشتركة فيما بينهم، وفي الوقت نفسه الذي تحترم الخصوصيات الثقافية للشعوب، وهذا يعني رفض ما يعرف بالعولمة بكل ألوانها، ولا سيّما العولمة الثقافية التي تقوم على أساس هيمنة ثقافة المتفوقين سياسياً وعسكرياً وإعلامياً واقتصادياً، أو التي تضمن مصالح القوى العظمى بذريعة عولمة الثقافة.

7ـ إشاعة روح التسامح الديني والثقافي بين أتباع مختلف الأديان والمعتقدات، مع الاحتفاظ بالقيم الفطرية، وهذا لا يعني توزيع الحقيقة بنسب متوازنة على الجميع بالصورة التي تقول بها فرضية التعددية بمناهجها الغربية، بل يعني سماع الرأي الآخر، والقبول به كرأي مختلف، والتحاور معه، للوصول إلى مساحات وقناعات مشتركة.

8ـ تقوية بنية العائلة وتركيز قيم التعاضد والتكافل والتعاون فيها، باعتبار العائلة اللبنة الأساسية للمجتمع الإنساني.

عالمية الإسلام وطموح تحقيق الأمن والسلام

لا شك أنّ الإسلام يحمل في داخله القابلية المطلقة على تحقيق كل طموحات الإنسان في حكومة الأمن والعدل التي تنشر السلام في كل الأرض، ويعلن الإسلام عن هذه القابلية ويقيم الأدلة على صحتها وإمكان تحققها. فالإسلام ـ ابتداءً ـ هو دين عالمي، ورسالته موجهة لكل البشرية، فهو ـ إذاً ـ الصيغة التي يريدها الله تعالى للبشرية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}([8])، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}([9]). كما أنّه الصيغة التي تنسجم مع الفطرة بكل أبعادها وقيمها: {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}([10]).

وهو دين التكامل والحياة الحقة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}([11]). والإسلام أيضاً هو الدين الذي يدعو إلى تشكيل دولة عالمية تقوم على أساس التوحيد، وتسعى لبناء القسط، ونشر العدل، وتحقيق مبدأ الشورى في شتى نواحي الإدارة ونظم  الحياة، ويضع نظاماً لقيادة عادلة رشيدة، ويعترف بالحرية الإنسانية الفكرية والشخصية والسياسية والاقتصادية، وضمن أُطر عادلة حكيمة تضمن بقاء الحرية دعماً لأركان هذه المسيرة، بدلاً من تحوّلها إلى معول يهدم أركانها، كما تضمن حقوق الإنسان كأروع ما يكون الضمان، بعيداً عن الادعاءات الفارغة والتناقضات التي ابتلي بها ( الإعلان العالمي لحقوق الإنسان )، بالرغم مما فيه من جوانب إيجابية. ومن تلك الحقوق حقوق أتباع الأديان الأُخر التي تعيش في كنف الإسلام، وتتنعم بما يضمنه لها من قوانين تجعلها تحيا حياة ملؤها الأمان والرقي.

كما أنّ الإسلام بعد أن ينفي كل معايير التمايز المادية، من قبيل التمايز العرقي، واللوني، والمالي، والجغرافي، والمقامي، وغير ذلك، یقیم بناءه الاجتماعي طبق معايير الالتزام المبدئي، والعلم، والخدمة التضحوية في سبيل الإنسان، وعلی أساس: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}([12])، و{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}([13])، و{وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً}([14]). هذا، في حين يركز على المحرومين والمستضعفين من الناس، ويعمل على إنصافهم من ظالمیهم المستكبرین، ويقاتل في سبیلهم حتی يستنقذ حقوقهم.

وبالنسبة للسلام والأمن في العالم، نجد الإسلام بمقتضى انسجامه مع الفطرة، يعتبر (الأمن) من نعم الله الكبرى على الإنسان، {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}([15])، ويعتبر الأمن العبادي من أرقى حالات الإنسانية التي وعد المؤمنون بها عبر التاریخ: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}([16])، ولكي یوفر لكل المؤمنين في الأرض ميداناً حراً يلتقون فيه في ظل ولاية الله تعالى وفي ظل رحمته، ويقولون فيه كلمتهم الحقة، فقد جعل الله البيت الحرام مثابة للناس وأمناً: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}([17]).

فالأمان هبة الله للبشرية، يجب أن يتوفر لها دائماً، اللهم إلّا أن يعمل بعضهم على محاربة دين الأمان، والوقوف في وجه التكامل الإنساني، وتهديم المسيرة المتوازنة، وحينئذٍ فلا معنى للأمان، ومع ذلك نجد الإسلام يدعو الدولة الإسلامية إلى الجنوح للسلام إن بدت مثل هذه الرغبة من الطرف الآخر بشكل صادق، فقال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ}([18]).

ولكيلا يتحول الاختلاف العقائدي إلى صدام دموي عنيف، يدعو الإسلام مخالفيه إلى كلمة سواء بينه وبينهم، فيقول في كتابه الكريم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.

كما يربي الإنسان المسلم دائماً على الدفع بالتي هي أحسن؛ لنفي العداوة والبغضاء، إلّا أنّنا نؤكد أنّ هذا كله إنّما يتم مع أُولئك الراغبين في السلام.

أمّا المحاربون لله ورسوله ونظامه، والساعون للفساد في الأرض من المستكبرين، فليس لأحد أن يهادنهم ويسالمهم في مسعاهم الهدّام.

الأمة الإسلامية والمسؤولية تجاه السلام العالمي

إنّ الأُمّة الإسلامية ـ بطبيعة الحال ـ هي حاملة رسالة الإسلام، وهي الأجدر بالسعي الحثيث لتنفيذ توجهات الإسلام الإنسانية على الصعيد العالمي. فالإسلام يصف هذه الأُمّة بأنّها خير أُمّة: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ}([19]). وهل هناك شيء أعرف للنفوس السليمة من السلام والأمن القائم على أُسس رصينة؟

إنّ الإسلام يعطي مفهوم الأُمّة مساحة إنسانية واسعة تتجاوز الحدود الزمانية والمكانية عندما يخاطب مجموع الأُمم الموحدة بقوله في كتابه المجيد: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}([20])، وعندما يجعل كل الأنبياء في مسار واحد لتحقيق هدف واحد: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}([21])، و{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}([22])، وهو يحمّلها المسؤولية العالمية في شتى المجالات عندما يجعلها الأُمّة الشاهدة على الناس، وهو مفهوم حضاري واسع: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}([23]).

وتعرف هـذا المضمون الحضاري من التقابل بین شهادة الرسول على الأُمّة وشهادة الأُمّة على الناس، باعتبارها شهادة النموذج والمعيار على كل السلوكات الأُخر، وعلى هذا الغرار تأتي الأوصاف الأُخر من قبیل: الأُمّة الخليفة، والأُمّة المرابطة القائمة بالقسط، وغير ذلك.

وعليه، فمسؤولية الأُمّة الإسلامية كبيرة تجاه السلام بمعناه الحقيقي وهي كمسؤوليتها تجاه توفير الأجواء المناسبة لمجموع البشرية؛ لتتجلى طاقاتها البشرية في مجال عبادة الله ونفي مظاهر الطاغوت (وهو المرض الخطير الذي يعمي الفطرة)، وبالتالي السير لإعمار الأرض وتكوين المجتمع العالمي الذي يعبد الله آمناً ولا يشرك به شيئاً: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}([24]).

وعندما نتصور المسؤولية، يتبادر إلى الذهن تصور الشروط الطبيعية التي يجب أن تتوفر أولاً للقيام بالمسؤولية الجسيمة. والتناسب بينها وبين شروطها أمر طبيعي، وما نتصوره من شروط يتلخص فيما يلي:

1ـ وعي الأُمّة الإسلامية سيّما ـ بكل تأكيد ـ لإسلامها بأُسسه العقائدية ومفاهيمه ونظمه التي تمتد إلى كل مجالات الحياة.

2ـ سعيها الحثيث لتطبيق التعاليم الإسلامية، وتجسيدها في حركتها الاجتماعية، وتحكيم النظم الإسلامية سياسياً وفردياً.

3ـ وجود سعي حثيث ـ أيضاً ـ لبناء الذات المسلمة بناءً أخلاقياً يضمن لها الرقي المعنوي والتكامل النفسي، كما يغذّيها بكل عناصر تغليب المصلحة الاجتماعية على المصلحة الفردية الضيقة، وذلك عبر اليقين بسعة الحياة إلى حدّ الخلود، وتركيز الحب الإلهي في النفوس بشكل يسمو بالإنسان على أنماط التعلقات الشديدة بالدنيا، وهي أكثر ما يخاف منها على الإنسان المسلم.

إنّنا نؤكد على ضرورة توفر عنصـر البناء الروحي باعتباره المموّن الرئيس للإنسان بعناصر الصبر والتضحية في سبيل المبدأ وتجاوز العقبات الكبرى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالمَرْحَمَةِ}([25]).

4ـ على أنّ البناء الأخلاقي يجب أن يصاحبه بناء نفسي ثوري عاطفي حار، يدفع المسلم للتحرق الدائم لإسلامه ولقرآنه وقوانينهما، والمجاهدة لتطبيق هذه التعاليم، والتفاعل العاطفي مع كل الحوادث التي تلمّ بالرسالة وبالأُمّة، ولا يقف منها موقف اللامبالاة والرهبنة والانعزال عن التيار العام، فيجب أن يؤرّقه كل توجه للمستضعفین في الأرض، ویجب أن تؤلمه كل خطوة ظالمة يفعلها المستكبرون الظالمون، ويجب أن لا يقرّ له قرار عندما ينتهك حكم من أحكام الله، أو يسلب منصب إسلامي من قبل المتسلطين، أو تهدر ثروة إسلامية في سبيل تحقيق الأهداف المحرّمة، أو تنهب أرض أو يقتل شعب، أو تنتهك حقوق مسلّمة. ونحن نعتقد أنّ فقدان مثل هذه الروح الثورية يعني فقدان خصيصة حركية ضخمة، قد تؤدي إلى موت الأُمّة أو قعودها عن واجباتها التاريخية.

5ـ حصول التقدم العلمي والحضاري المطلوب، فلا تستطيع أُمّة أن تدّعي لنفسها أنّها الأُمّة الطليعية، في حين تسبقها الأُمم الأُخر في المضمار العلمي والتقني والتنظيم الإداري، وفي مجال إدارة دفة السياسة الخارجية، ووعي الأحداث العالمية، واتخاذ المواقف المناسبة منها.

6ـ الوحدة الإسلامية هي أهم عامل يجب توفره في الأُمّة الإسلامية، وبدونها لن تستطيع الأُمّة أن تحقق أيّاً من أهدافها الحضارية، بل ستبقى لقمة سائغة بيد أعدائها. وقد وضع الإسلام خطة واسعة الأبعاد لتحقيق هذه الوحدة الإسلامية بأمتن ما يمكن، وأهم هذه الأبعاد:

أـ وضع الإسلام تصوراً كونياً موحداً، وركزه في أذهان المسلمين؛ ليشعروا بوحدة الكون وترابطه في إطار التوحيد الإلهي الخالص.

ب ـ أقام العلاقة بين حلقات التاريخ الإنساني على أُسس واحدة.

ج ـ وحّد بين المنطلقات الإنسانية والأهداف والسبل.

د ـ أقام دوائر متداخلة من العلاقات الاجتماعية التي تعمل مجتمعة على تحقيق أهداف الإسلام.

هـ ـ ركّز نوعاً رائعاً من الترابط في المشاعر والمقاييس الموحدة.

وقامت النظم الإسلامية المختلفة بعملية تقوية الأواصر الإسلامية في شتى المجالات العبادية والاجتماعية والحقوقية والاقتصادية وغيرها بما لا يتسع المجال له هنا.

وأخيراً؛ فإنّ مجمل هذه التصورات نضعها بين أيدي دعاة الحوار بين الحضارات للتأمّل فيها وتدارسها؛ بغية الوصول إلى مساحات مشتركة تقف عليها البشرية، وتحقق من خلالها الأمن والسلام في العالم.

 

([1]) الحجرات: 13.

([2]) آل عمران: 64.

([3]) سبأ: 24.

([4]) ونقصد به المتفوق عسكرياً وسياسياً واقتصادياً في هذه البرهة الزمنية التي نعيشها الآن، وهذا التفوق النسبي الزمني يحاول المتفوق أدلجته في إطار ما يسميه بمناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية، واعتباره حقيقة علمية ثابتة على مستوى المكان والزمان، بيد أنّ حقائق الزمان والمكان تشير إلى عكس ما تذهب إليه تلك المناهج.

([5]) هناك بعض النظريات أو الأُطروحات الحديثة تحاول التصريح بهذا الرأي بشكل مباشر، كنظرية: (نهاية التاريخ) لفوكوياما، و(صراع الحضارات) لهانتغتون.

([6]) أُنظر: الشيخ محمد علي التسخيري، «الإسلام والأُمّة والسلام العالمي»، بحث ألقاه في مؤتمر عقد في عام 1988 بمدينة لاهاي بهولندة.

([7]) أُنظر: الشيخ محمد علي التسخيري، مقدمة كتاب «بحث حول المهدي» للإمام الشهيد محمد  باقر الصدر.

([8]) الأعراف: 158.

([9]) سبأ: 28.

([10]) الروم: 30.

([11]) الانفال: 24.

([12]) الزمر: 9.

([13]) الحجرات: 13.

([14]) النساء: 95.

([15]) قريش: 3 ـ 4.

([16]) النور: 55.

([17]) البقرة: 125.

([18]) الأنفال: 61.

([19]) آل عمران: 110.

([20]) الأنبياء: 92.

([21]) النحل: 36.

([22]) الحديد: 25.

([23]) البقرة: 143.

([24]) النور: 55.

([25]) البلد: 11ـ 17.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment