المرجعية الدينية وإشكالية الخطاب القومي والمناطقي

Last Updated: 2024/05/30By

المرجعية الدينية وإشكالية الخطاب القومي والمناطقي

د. علي المؤمن

     إن عالمية «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» وتماسكه ووحدة مساراته، هي جزء من ثوابت النظام، التي إذا تغيرت سينهار ركن أساس منه؛ فهو منذ تأسيسه في عصر الغيبة الكبرى قبل ما يقرب من (1100) عام على يد نواب الإمام الخاصين ثم الفقهاء، نظام اجتماعي ديني عالمي متماسك. وأهم ركائز هذه العالمية هي عالمية المرجعية الدينية ومنظومتها وسياقات عملها، والتي تتمثل في الاستفتاءات الواردة الى المرجع من كل شيعة العالم، والفتاوى والأحكام والتوجيهات الصادرة منه الى كل شيعة العالم، وعبر شبكة الوكلاء العالمية، وعبر المال الشرعي الذي يدار عالمياً أيضاً، ويصل الى المرجع من كل شيعة العالم، ثم يوصله المرجع الى مستحقيه في كل العالم، وعبر المؤسسات والمشاريع المرجعية المنتشرة في كل العالم، ويتم الإشراف عليها مركزياً، وعبر الحوزات العلمية الفرعية والمدارس الدينية المنتشرة في أغلب بلدان العالم، وهي تابعة الى المرجع، وعبر التوجيهات الصادرة من المرجع في الشأن العام الى الشيعة، وكثير منها توجيهات سياسية أو تدخل في دائرة إدارة المجتمع الشيعي المحلي، فضلاً عن التوجيهات التي تدخل في دائرة الأحكام الولائية.

وكنماذج من التاريخ القريب على موضوع عالمية إشراف المرجعية على قضايا الشيعية السياسية والإدارية ورعايتها الشأن الشيعي العام في البلدان الأُخر؛ ما كان يحدث في الدولة الصفوية؛ حين كان المرجع الديني للدولة الإيرانية لبنانياً أو عراقياً، وكانت الشاه يأخذ شرعيته منه، وكذلك بالنسبة للدولة القاجارية الإيرانية التي كان ملكها يستمد شرعيته من مرجع عراقي، ومثال ذلك تفويض الحكم وإجازة التصرف بالأموال والأراضي الخراج وقيادة الجيش التي منحها مرجع النجف الشيخ جعفر كاشف الغطاء الى الشاه فتح علي القاجاري، وكذلك الممالك الشيعية في شبه القارة الهندية، قبل الاحتلال البريطاني، والتي كان يرعاها من الناحية الشرعية، مرجع إصفهان اللبناني أو مرجع النجف العراقي.

وفي ثورة النجف (1918) أو ثورة العشرين (1920) في العراق، كانت الجماعات المسلحة والعشائر المسلحة عبارة عن حركات مقاومة تابعة الى من المرجع الأعلى وتأخذ فتواها وتوجيهاتها في العمل والحركة منه، وهو مرجع إيراني. وهكذا الأمر بالنسبة لثورة التنباك ثورة المشروطة في ايران، وصولاً الى الثورة الإسلامية في ايران، والجماعات الإسلامية العراقية في زمن النظام البعثي، والتي كانت تعمل بفتوى المرجع في ممارسة العمل المسلح، وهكذا جماعات المقاومة الشيعية اليوم في العراق وايران ولبنان وسوريا واليمن وأفغانستان؛ حيث لا يزال هذا الثابت الشرعي وجميع سياقاته العرفية قائمة حتى الآن، وهي واحدة من أهم التمايزات ذات العلاقة أيضاً بعالمية النظام الاجتماعي الديني الشيعي، والمتمثلة في استمداد الحكومات والأحزاب والجماعات والمؤسسات الشيعية، شرعيتها من المرجع الأعلى، بغض النظر عن جنسيته.

ومن البديهي أن يفرض ظهور الدولة القومية الوطنية التي لديها حدود جغرافية سياسة وقوانين وجنسية محلية؛ على المواطن الشيعي أن يتقيّد بانتمائه الى وطنه الذي يحمل جنسيته، وأيضاً يتقيد بقوانين دولته، في حدود ما يحقق له حريته في التمذهب وفي انتمائه الطبيعي الى المرجعيته الدينية، بغض النظر عن جنسيتها ومحل إقامتها، وكذلك في التعبير عن انتمائه الى النظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي، أيا كانت جغرافيا مركزيته. ولم يعد التقيد بهذه الأمور عملية عسيرة ومعقّدة؛ فحتى الأنظمة الطائفية بات لديها تفّهم نسبي لهذه الانتماءات الاجتماعية الدينية العالمية المركبة للشيعي.

ولعل هناك من يتساءل عن احتمال تقديم المرجع مصالح البلد الذي يحمل جنسيته على البلدان الأخرى التي يتواجد فيها الشيعة، وهذا التساؤل يصح حيال أي شخص عدا المرجع الديني الشيعي الأعلى، لأنّ من أهم شروط المرجع الشيعي أن يكون عادلاً، أي أن يتمتع بالعدالة والتقوى والقابلية على تقدير مصلحة الشيعة في كل البلدان؛ فالمرجع الأعلى ليس رجل سياسة، حتى وإن كان على رأس دولة، ولا تاجر، ولا زعيم ساذج، لكيلا يعي خصوصيات كل مجتمع شيعي في بلده، ولا يعي الالتزامات القانونية والوطنية للشيعة في بلدانهم. كما أن المرجع الديني لا يربط مواقفه وأحكامه الشرعية وتوجيهاته في الشأن العام، بسلطة أو دولة؛ فهو مستقل في مواقفه، بغض النظر عن جنسيته. وعندما يقوم المرجع بإصدار توجيه للشيعة في أي بلد من البلدان؛ فلا شك أنّه يراعي مصالحهم والتزاماتهم الوطنية، وعندما يتعرضون الى القمع والاضطهاد؛ فإنه يعمل بتكليفه الشرعي في متابعة شؤونهم ومطاليبهم والدفاع عنهم، وربما يشير عليهم بردع الحاكم الظالم والدفاع عن أنفسهم، وغالباً ما يترك المرجع لحكماء الشيعة في بلد ما، وهم وكلاؤه غالباً، أن يتصرفوا بما يرون فيه مصلحة الشيعة، وبالتالي؛ فهو يوجه الأمور وفق مصلحة شيعة البلد، لأن وظيفته الشرعية أن يدفع عنهم السوء والمفاسد ويجلب لهم المنافع والخير والصلاح، وفي مقدمة ذلك أنه لا يدفعهم الى الاصطدام بقوانين بلدانهم، إلّا إذا كان في ذلك دفعاً لضرر أكبر يتعرضون له.

والمشكلة ليست في تبعية الشيعي لمرجع من جنسية أخرى أو يقيم في بلد آخر، لأنه أمر عقدي، وسياقاته متوارثة منذ مئات السنين، بل المشكلة في الأنظمة الطائفية التي تقمع المجتمع الشيعي، ولا تريد له أن يندمج في واقعه، ولا تريد أن تجعل أبناءه مواطنين من الدرجة الأولى، بل تعمل على الإبقاء عليه مهمّشاً؛ فمن الطبيعي أن يتدخّل المرجع للدفاع عن هؤلاء الشيعة جراء ما يتعرضون له من قمع وإقصاء وظلم، وهذا واجبه، سواء كان هذا المرجع عراقياً أو إيرانياً أو لبنانياً أو هندياً، وسواء كان يقيم في بغداد أو قم أو النجف أو طهران أو البحرين أو لبنان، وإذا لم يفعل فهذا يعني أنه تخلى عن واجباته البديهية في حماية المذهب وأبنائه.

وعندما يقوم المواطن الشيعي بفعلٍ يتعارض مع سياسة هذه الحكومة وتلك، بضوء أخضر من المرجع؛ فهو يدافع عن نفسه، للتخلص من ضغط الاستبداد وضغط الانحراف، وبما يتفق ومصلحة المجتمع الشيعي التي يشخّصها المرجع الديني باستشارة حكماء البلد المعني، انطلاقاً من واجبه الديني كقائد للنظام الاجتماعي الديني الشيعي. وهذا ليس فيه أي تعارض مع وطنية الشيعي وانتمائه لدولته؛ فإذا كانت الأُمم المتحدة ومؤسسات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية، بل حكومات الدول، تتدخل وتدافع عن حقوق الإنسان وتطالب بالعدالة والديمقراطية؛ فكيف يمكن للمرجع الشيعي أن يصمت إزاء ما تتعرض له رعيته في أي بلد كان؟. وبالتالي؛ فإنّ المرجع يدافع عن مصلحة المواطن الشيعي والمجتمع الشيعي، بصرف النظر عن هويته وجنسيته، وهذه المصلحة تشكل أولوية في واجبات المرجع.

ونتيجة الضغوطات الفكرية والسياسية التي تركتها أحداث عقد التسعينات من القرن الماضي وما بعد، والتي تمثل ارتدادات لسياسات نظام البعث وأفكاره، وصعود الجمهورية الإسلامية الإيرانية والتحول السياسي القومي في آذربيجان؛ فقد ظهرت نزعة لدى بعض الشيعة، وخاصة بعض العراقيين الذين طالبوا بمرجعية عربية أو مرجعية عراقية، فيما يطالب بعض الإيرانيين بأنّ يكون تقليدهم لمراجع قم دون غيرهم، ويصـر بعض الآذربيجانيين على تقليد مراجع من القومية الآذربيجانية حصراً، وإن كانوا من آذربيجان إيران. ولا شك أنّ منطلق هذا الخطاب هو النزعة القومية والمناطقية التي تفتقر إلى أي أصل ديني، أو دفع خصوم خارجيين، أو الجهل بطبيعة عنوان المرجعية. وبرغم أنّ هذا الخطاب العنصري والمناطقي لا يشكل ظاهرة عامة، وليس له عمق نوعي أو عددي؛ لكنه تحول بعد العام 1980 إلى موجة انحرافية خطيرة ذات صوت عال، تزامناً مع التحولات السياسية في العراق وإيران؛ بل بات جزءاً من أجندة نظام البعث بعد العام 1991، وأخذ بعض علماء الدين يتبنونه جهاراً لأول مرة في تاريخ الشيعة، برغم الرفض العام له من الأغلبية الساحقة لشيعة البلدين.

ويغفل أصحاب هذا الخطاب أن شيعة الهند وباكستان ـ مثلاً ـ يبلغون حوالي مئة مليون نسمة، أي أنّهم يشكلون كتلة عددية تفوق عدد شيعة العراق وإيران والدول العربية مجتمعة، فلماذا ـ إذاً ـ لا يطالب شيعة باكستان والهند ـ مثلاً ـ بمرجعية هندية أو باكستانية تحصر مهامها في شبة القارة الهندية فقط؟! خاصة وأنّ هناك فقهاء مرموقين ومراجع تقليد هنود وباكستانيين يقيمون في الهند وباكستان وقم والنجف. لكن وعي شيعة باكستان والهند بعنوان المرجعية يجعلهم لا يقيمون وزناً للتمايز القومي والوطني، ولذلك تجد أنّ 80% منهم يرجعون في التقليد إلى السيد السيستاني في النجف والسيد الخامنئي في طهران.

وإذا كان مبنى هذا الخطاب أن يكون المرجع عراقياً إلزاماً، فهل سيتم إضافة شرط القومية والجنسية إلى شروط المرجعية الأُخر، كالاجتهاد والعدالة والكفاءة، ويكون التقليد حينها للمرجع العربي العراقي وليس للمرجع الأعلم؟ وما هو تكليف باقي شيعة العالم إذا لم يکن في بلدانهم مرجع تقليد؟ وهل سيكون لكل بلد ولكل قومية مرجعاً دينياً؟ هذه الأسئلة الواقعية وغيرها تؤكد أنّ الأُمور الدينية العلمية لا تؤخذ بالعواطف والنزعات الذاتية.

إنّ المرجعية القومية والمناطقية التي يحاول مروجوها تمرير مصطلح المرجعية العراقية، والمرجعية العربية، والمرجعية الهندية، والمرجعية الإيرانية، والمرجعية اللبنانية؛ ليس لها أيّ أصل ديني تشريعي، وليس لها سابقة في تاريخ النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ لأنّ هذا النظام يشكل نسيجاً مذهبياً وعلمياً واجتماعياً ومالياً واحداً، وأن المرجع الديني الأعلى هو مرجع غالبية شيعة العالم، من أستراليا وإندونيسيا والصين وتايلند والهند وباكستان وأفغانستان وروسيا، مروراً بآذربيجان وإيران وتركيا وسورية ولبنان والكويت والسعودية والبحرين وعمان ومصر، وصولاً إلى نيجيريا والمغرب والجزائر وأوربا وأمريكا. وفي أغلب هذه البلدان يمتلك الشيعة مؤسسات دينية وعلماء دين، ومن حق المجتهدين ذوي الخبرة منهم أن يكون لهم دور في فرز مراجع التقليد والمرجع الأعلى، بغض النظر عن جنسية المرجع ومكان إقامته.

ففي العراق ـ مثلاً ـ يتحدث بعضهم عن ضرورة عرقنة المرجعية وقومنتها، ووجوب أن يكون المرجع الأعلى عراقياً عربياً؛ وإن كان هذا المرجع لا يقلده حتى شيعي واحد خارج العراق. ويتّهم آخرون السيد محمد الصدر (ت 1999) بأنّه كان يدعو إلى مرجعية عراقية أو عربية، وهو تقوّل غير صحيح، والدليل أنّه أوصى قبل اغتياله بالرجوع إلى مرجعين غير عراقيين، هما الشيخ إسحاق الفياض (الأفغانستاني) في النجف، والسيد كاظم الحائري (من أصل إيراني) في قم، واللذين كان السيد محمد الصدر يعتقد بأعلميتهما من بعده. كما ينقل بعض ملازميه أنّه قال: لو بلغ أحد تلاميذي مرحلة الاجتهاد؛ لكان هو الأعلم، ولم يقل لأنّ تلميذي هذا عربي وعراقي الجنسية؛ أي أنّه استند إلى شرطي الأعلمية والعدالة، وليس إلى شرطي القومية والجنسية، وهو دليل وعيه العميق بمفهوم المرجعية.

ويسيء الخطاب العنصـري والمناطقي إساءة شديدة لمركزية النجف، بوصفها العاصمة الدينية التاريخية لكل شيعة العالم، وليس لشيعة العراق وحسب، وأنّ مرجعها هو مرجع شيعة العالم، وليس شيعة العراق وحسب. وبالتالي، فإنّ المطالبة بعرقنة المرجعية وقومنتها يؤدي إلى ضرب النجف في صميم عالميته وزعامته العابرة للحدود والقوميات؛ لأنّه سيُفقد النجف مركزيته في النظام الاجتماعي الديني الشيعي، ويقزِّمه، ويحوله إلى مؤسسة دينية محلية، كما سيقود إلى تأسيس مرجعية محلية في كل بلد؛ الأمر الذي يقوِّض دعائم النظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي أسسه أئمة آل البيت، وبنيت بجهود وأقلام وعقول ودماء الآلاف من المراجع والفقهاء والمحدثين والمحققين والباحثين والشهداء، طوال 1200 عام.

وسيؤدي هذا الخطاب أيضاً إلى أن يكون للشيعة أكثر من (100) مرجع أعلى، على عدد الدول التي يتواجد فيها الشيعة؛ بل على عدد القوميات؛ إذ سيكون لشيعة العراق مرجع عربي ومرجع كردي ومرجع إيراني ومرجع شبكي ومرجع فيلي ومرجع تركماني. وحينها سيظهر مفهوم جديد أكثر خطورة، هو مفهوم التشيع العراقي والتشيع الباكستاني والتشيع الإيراني والتشيع اللبناني والتشيع البحراني، وهو الخطاب الذي تعمل قوى طائفية وعنصرية واستعمارية إقليمية ودولية على الترويج له بكل الوسائل؛ بهدف تمزيق النسيج الديني الاجتماعي الشيعي.

إنّ من أهم القواعد الوجودية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي تقف المرجعية على رأسه، هي وحدة النظام وعالميته واستحالة تجزئته، وإذا ما انهارت هذه القاعدة؛ فإنّ النظام الشيعي سينهار برمته؛ لأنّ عالمية الإسلام ومذهب آل البيت تؤسس لعالمية النظام الاجتماعي الديني الشيعي تلقائياً. أمّا خطاب الانتماءات القومية والمناطقية الذي يستهدف عالمية المرجعية الدينية الشيعية فإنّه يدل على أنّ أصحابه ومروجيه غافلون عن حقيقة التشيع ومنظومته، ومساحة قيادته المرجعية، أو أنّهم مدفوعون بمخططات خارجية؛ لأنّ الخطاب العنصـري والمناطقي يستهدف نقطة القوة الأساسية للنظام الديني الاجتماعي الشيعي، والمتمثلة بنسيجه المتراص العابر للحدود والأوطان والقوميات. وبالتالي، فإنّ من يقلد مرجعاً دينياً على أساس جنسيته وقوميته؛ فإنّه يبتعد عن أُصول مدرسة آل البيت، بل عن مفهوم الدين بشكل عام.

وبنظرة سريعة إلى المسار التاريخي لتأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة الصغرى، سنجد أنّ ثلاثة من السفراء الأربعة للإمام المهدي كانوا عرباً عراقيين، وواحداً فارسياً إيرانياً هو الشيخ النوبختي، وأن اثنين من الزعماء الأربعة المشـاركين في التأسيس (السيد المرتضى والشيخ المفيد) كانا عربيين عراقيين، والاثنين الآخرين (الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي) كانا فارسيين إيرانيين؛ أي أنّ الثمانية المؤسسين لهذه النظام، كان خمسة منهم عراقيين وثلاثة إيرانيين، وأنّ حاضرة النجف العلمية أسسها فارسي إيراني مشهدي، هو الشيخ الطوسي، المعروف بشيخ الطائفة، وأن مرجعية قم أسسها عربي عراقي كوفي، هو الشيخ محمد بن عيسى الأشعري، المعروف بشيخ القمّيين، وكان بعض زعماء الشيعة في العالم عرباً عراقيين يقيمون في مدينة الحلة، كابن إدريس والعلامة الحلي والمحقق الحلي، كما كان بعضهم لبنانياً عربياً، كالشيخين العامليّين المقيمين في جنوب لبنان، وكان آخرون إيرانيين يقيمون في النجف، كالمقدس الأردبيلي والأنصاري والإصفهاني.

وكان مراجع الدولة الصفوية الإيرانية ومفتوها وقضاتها، بمن فيهم من شغل منصب شيخ الإسلام الرسمي، هم من العرب العراقيين واللبنانيين والبحرانيين([1])، وكان الشيخ جعفر كاشف الغطاء بمثابة الولي الفقيه في عهد الدولة القاجارية الإيرانية([2]). ووصولاً إلى العصر الحاضر؛ إذ كان السيد عبد الله البهبهاني الغريفي، البحراني أصلاً والنجفي مولداً، هو قائد ثورة المشروطة الإيرانية، وقد حكم إيران عملياً أكثر من سنة (خلال العامين 1908 و1909)، وكان يلقّب بـ (الشاه الأسود)؛ بسبب سحنته البحرانية العراقية شديدة السمرة. وفي مرحلة لاحقة تبوّأ السيد حسين البروجردي، الإيراني المقيم في قم منصب مرجع الشيعة الأعلى، ورجع إليه أغلب العراقيين بالتقليد، وأعقبه السيد محسن الحكيم، العراقي النجفي، في موقع مرجع الشيعة؛ فرجع أغلب الإيرانيين إليه بالتقليد؛ بل كانت له دالة حتى على الدولة الإيرانية.

وإذا كانت ظروف المواصلات والاتصالات، وتبادل الرسائل والفتاوى والتأليفات والتوجيهات الدينية والسياسية والأموال الشـرعية؛ غاية في الصعوبة في السابق؛ أي منذ نشأة النظام الاجتماعي الديني الشيعي وحتى بدايات القرن العشرين الحالي؛ فإنّ ذلك لم يمنع أن يكون الشيخ الصدوق الساكن في قم هو مرجع شيعة العالم، ثم الشيخ المفيد الساكن في بغداد هو زعيم الشيعة، ويكون الشيخ الطوسي المقيم في النجف هو شيخ الطائفة المطلق، ويكون الشيخ محمد بن مكي العاملي الساكن في جنوب لبنان زعيما لشيعة العالم، وصولاً إلى السيد مهدي بحر العلوم والشيخ جعفر كاشف الغطاء والشيخ مرتضى الأنصاري الساكنين في النجف، ثم الميرزا الشيرازي الساكن في سامراء، والشيخ محمد تقي الشيرازي الساكن في كربلاء. فإذا كان هؤلاء يقودون شيعة العالم، في ظل الصعوبة البالغة لوسائل الاتصال والمواصلات والإعلام، فكيف الآن وقد أصبح العالم قرية واحدة، بل بيتاً واحداً؟!

ولعل بعض من يتبنّى الخطاب المناطقي، يتذرع بوجود مسطرة عنصـرية يمسك بها من يرشح مرجعيات النجف وقم. لكن هذه الذريعة لا تملك حظاً من الواقعية؛ لأنّ للحوزة معاييرها العلمية والدينية وسياقاتها الخاصة خارج التأثيرات القومية والمناطقية والحكومية. هذه المعايير هي التي تجعل كثيراً من المجتهدين الإيرانيين والعراقيين في قم والنجف، خارج التصنيف المرجعي أو خارج المنافسة على موقع المرجعية العليا؛ ليس بسبب جنسيتهم أو قوميتهم؛ بل لأنّ معايير الرأي العام الحوزوي هي الحاكمة، وليس الترجيحات القومية والمناطقية لهذا اللوبي وذاك، أو هذا الحزب وتلك الجماعة.

ولعل من الخطوات المهمة التي ينبغي أن تتخذها جماعات أهل الخبرة في قم والنجف؛ من أجل سد ذرائع الخطاب المناطقي، هو الانفتاح على مرجعيات الحوزتين؛ فلا تقتصر جماعة مدرسي الحوزة في قم على ترشيح فقهاء قم للمرجعية، وتنفتح على فقهاء النجف أيضاً، كما فعلت حيال السيد السيستاني؛ حين طرحت مرجعيته إلى جانب مراجع قم؛ بل تنفتح أيضاً على المراجع العراقيين والعرب والباكستانيين والأفغانستانيين. وفي المقابل؛ ينبغي ألّا يقتصر أهل الخبرة في النجف على الترويج لمراجع النجف فقط، ويغفلون مراجع قم الكبار وغيرهم. فلطالما أنّ شروط المرجعية هي الأعلمية والعدالة والكفاءة والمقبولية العامة؛ فلا بدّ من شمول جميع الفقهاء بعملية الغربلة والترشيح والترجيح.

ولا تزال أغلبية شيعة العالم، منذ تأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة، قبل حوالي (1200) سنة، تعي بعمق معنى المرجعية الدينية وعالميتها؛ برغم كل المحاولات الحثيثة لقومنة المرجعية وتمنطقها، والتي ظهرت خلال القرن العشرين الماضي، وتكرّست بقوة بعد العام 1999، ثم بعد العام 2003، بدعم مالي وتخطيطي ودعائي ومخابراتي هائل من حكومات البعث والسعودية وبريطانيا وأمريكا؛ بهدف تمزيق نسيج النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وضرب أهم دعائم قوته وسر ديمومته وصعوده الجديد. ولعل توجهات شيعة العالم في مجال التقليد؛ دليلٌ واقعي ميداني على امتناع تحقق ذلك الهدف؛ فالإحصاءات التقريبية ـ كما أسلفنا في فصل سابق ـ تشير إلى أنّ 80 % من شيعة العالم يقلدون السيد السيستاني والسيد الخامنئي، وهما سيدان حسينيان عربيان، أحدهما يمثل حوزة النجف ويقيم فيها، والآخر يمثل حوزة قم ويقيم في طهران؛ دون أن يلتفت أي شيعي إلى جنسيتهما وقوميتهما؛ ما يدل على عدم وجود توجه شيعي شعبي لقومنة المرجعية وتمنطقها؛ كما تزعم أقلية مدفوعة بعواطفها ونزعتها القومية من أنصار بعض المراجع العراقيين والإيرانيين واللبنانيين.

وإذا أخذنا العراق مثالاً؛ سنجد أنّ حوالي 65 % من شيعته يرجعون بالتقليد إلى السيد السيستاني، و10 % إلى السيد الخامنئي، و10 % إلى السيد كاظم الحائري والسيد صادق الشيرازي والسيد محمد تقي المدرسي والشيخ بشير حسين النجفي والشيخ إسحاق الفياض والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهم من المراجع الذين يحملون جنسيات غير عراقية. أمّا المراجع العراقيين، كالشيخ محمد اليعقوبي والسيد علاء الدين الغريفي والسيد كمال الحيدري وغيرهم؛ فيبلغ مقلدوهم حوالي 15 % من شيعة العراق. وهو ما يعني أن 85 % من شيعة العراق يقلدون مراجع غير عراقيين.

 

([1]) أُنظر: الشيخ جعفر المهاجر، «الهجرة العالمية إلى إيران في العصر الصفوي». الدكتور جودت القزويني، «تاريخ المؤسسة الدينية الشيعية من العصر البويهي إلى نهاية العصر الصفوي الأول». كمال السيد، «نشوء وسقوط الدولة الصفوية».

([2]) أُنظر: إجازة تفويض الشيخ جعفر الجناجي النجفي المعروف بـ «كاشف الغطاء» إلى شاه إيران فتح علي القاجاري، والتي يمنح فيها مرجع النجف شاه إيران حق التصرف في الشأن السياسي العام والخراج والزكاة، وجاء فيها: «ولما كان الاستيذان من المجتهدين أوفق بالاحتياط، وأقرب إلى رضا رب العالمين، وأقرب إلى الرقي، والتذلل والخضوع لرب البرية، فقد أذِنتُ… للسلطان… فتح علي شاه… في أخذ ما يتوقف عليه تدبير العساكر والجنود، ورد أهل الكفر والطغيان والجحود، من خراج أرض مفتوحة بغلبة الإسلام، وما يجري مجراها، وزكاة». ثم يأمره بتنفيذ عدد من القضايا ذات العلاقة بالجوانب السياسية والمالية والدعوية. وهذه الإجازة منشورة في كتابه «كشف الغطاء»، باب الجهاد.

أُنظر: علي المؤمن، «الفقه والسياسة»، ص62.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment