المرجعية الدينية قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي

Last Updated: 2024/05/30By

المرجعية الدينية: قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي

د. علي المؤمن

ثوابت المرجعية الدينية الشيعية

المرجعية الدينية في مدرسة أهل البيت، تمثل امتداداً موضوعياً للإمامة في عصر غيبة المعصوم، وما يترتب على ذلك من مسؤوليات وحقوق وواجبات علمية ودينية واجتماعية ومالية تقع على عاتق المرجع الديني. وعلى أساسها تكون للمرجع الديني بصفته النوعية، ولاية حصـرية على جملة من شؤون المجتمع الشيعي، كالولاية على إصدار الفتاوى والأحكام الشـرعية، والولاية على الحقوق والأموال الشرعية، جباية وتوزيعاً، كالخمس والزكاة والصدقات ومال مجهول المالك وغيرها، والولاية على القضاء والتحكيم بين أفراد المجتمع، والولاية على الأُمور الحسبية والنظام الاجتماعي العام. ويتوسع بعض الفقهاء في إعطاء مساحة أوسع للفقيه؛ لتشمل الولاية على الحكم والدولة. ومردّ الخلاف بين الفقهاء بشأن ولاية الفقيه هي هذه المساحة فقط.

وبالتالي؛ فإنّ المرجعية الدينية وولاية الفقيه مصطلحان مرادفان؛ فكل مرجع هو ولي فقيه أيضاً، بناء على إجماع الفقهاء، ولكن هناك ولي فقيه ذو مساحة مقيدة تقتصر على الفتوى والأموال والقضاء والحسبة، ولا تشمل الحكم، وهناك ولي فقيه ذو مساحة عامة تشمل ولاية الحكم أيضاً. وهذه الشمولية لا يختارها الفقيه بناء على رغبته الشخصية أو رؤيته السياسية؛ بل هي قضية علمية فقهية، يتوصل إليها الفقيه عبر الاستدلال والاستنباط العلمي الفقهي. وخلال هذا الجهد العلمي قد يتوصل الفقيه إلى شمول ولاية الفقيه على الحكم أو لا يتوصل. وحينها يحدد موقفه الواقعي حول نوعية تصدّيه للشأن العام؛ أي بناء على قناعته العلمية الفقهية.

وبصرف النظر عن القول بالعموم والخصوص؛ فإنّ المرجعية الدينية الشيعية ظلت ما يقرب من 1200 عام، أي منذ غيبة الإمام محمد بن الحسن المهدي المنتظر، تقف على رأس النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وهي التي أوجدت هيكلية هذا النظام بالتدريج وبلورته، وحفظت من خلاله الشيعة من الضربات المتوالية والانهيار. وتشكل الحوزة العلمية الشيعية ـ منذ تأسست ـ مركز هذا النظام؛ فهي ليست جامعة لتدريس العلوم الإسلامية وتخريج علماء الدين وحسب؛ بل هي مركز النظام الاجتماعي الديني الشيعي. ولذلك يقف المرجع الأعلى على رأس الحوزة العلمية والنظام الاجتماعي الديني الشيعي، ويقودهما على كل الصعد.

إنّ النظرة إلى المرجعية الدينية تتجاوز القناعات الفكرية والاجتماعية والسياسية، لتندك بالواقع ومتطلباته. وأهم قواعد هذا الواقع:

1ـ إنّ المرجعية الدينية العليا ليست مرجعية علمية فقهية وحسب؛ بل هي منظومة دينية اجتماعية، تقف على رأس النظام الاجتماعي الديني للطائفة الشيعية الإمامية في العالم. ولهذه المنظومة معادلات ثابتة وسياقات عمل ونظم فرعية وتقاليد، أهمها الموضوع العلمي الديني المرتبط بالفتوى، والموضوع الاجتماعي الديني المرتبط بإدارة الشأن العام الشيعي وحفظ النظام العام. ويترشح عن هذه القاعدة ثلاث قواعد فرعية:

أ ـ إنّ المرجعية وحوزتها العلمية هما الوجود الأصيل والثابت والجوهري الوحيد في النظام الاجتماعي الديني الشيعي منذ بداية عصـر الغيبة وحتى الآن.

ب ـ إنّ الوجودات والكيانات الشيعية الأُخر، سواء كانت سياسية أو علمية أو اجتماعية أو علاقاتية، مهما بلغ شأنها، هي وجودات عارضة متغيرة، ولا يمكن أن تتساوي مع المرجعية الدينية في مساحة القيادة والصلاحيات الدينية والاجتماعية والمعنوية.

ت ـ إنّ الإطار الذي ينبغي أن يضم جميع الكيانات الشيعية الفرعية العرضية، هو إطار النظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي تقوده المرجعية العليا. وفي داخل هذا الإطار تكون علاقة الكيانات الشيعية بالمرجعية الدينية هي علاقة المتغير بالثابت، والفرع بالأصل، والتابع بالمتبوع.

2ـ إنّ منظومة المرجعية الدينية بطبيعتها هي منظومة تقليدية في بناها وأساليب عملها وحركتها. أمّا المحاولات الإصلاحية في الحوزة فلم تلامس ثوابت هذه المنظومة يوماً، ولن تستطيع ملامستها؛ بل تلامس التفاصيل والمتغيرات. وما حركات المراجع المصلحين المعاصرين في الحوزتين النجفية والقمية وغيرهما؛ إلّا موجات وتيارات تأتي وتؤسس، ثم يبقى منها ما يتوافق مع ثوابت المنظومة المرجعية التقليدية. وهو ما ينطبق على المشاريع الإصلاحية التأسيسية المعاصرة في حوزة النجف في عهد مرجعية السيد محسن الحكيم([1])، وكذا ما أنجزه الشيخ محمد رضا المظفر([2])، والسيد محمد باقر الصدر([3]).

وحتى منظومة ولاية الفقيه؛ بالرغم من قوتها المعنوية والمادية، وكونها أكبر مرجعية دينية في إيران؛ فإنّ تدخلها في منظومة الحوزة ظل مقتصـراً على التوجيه ومأسسة النظم الفرعية العامة، ولم تتدخل في الثوابت التقليدية لمنظومة المرجعية ونظمها الخاصة؛ فبقيت المنظومة تقليديةً في ثوابتها، ومنظمةً ومؤسَسِية في متغيراتها، ومستقلةً في شأنها الإداري والمالي.

3ـ إنّ المرجعية تمثل دائماً الأبوّة لكل الوجودات الثقافية والسياسية والاجتماعية الشيعية، وإن كان بعضها ناقداً للمرجعية أو متمرداً على جزء من ثوابتها ومتغيراتها، أو كانت المرجعية لا تتوافق منهجياً مع هذه الوجودات المتغيرة العارضة. وبالتالي؛ فإنّ المرجعية العليا هي (أم الولَد) التي تستوعب أبناءها وتحتضنهم وتخشى عليهم الضرر، وتعمل على الحؤول دون انكفائهم خارج النظام الاجتماعي الديني الشيعي، حتى وإن أخطؤوا بحقها أو بحق الواقع الشيعي([4]).

المرجعية الدينية بين المنصب والموقع

هناك فرق بين منصب الفقيه وموقعه؛ فالمنصب محروز بالقوة لكل مجتهد عادل، وهو یتلخص في الولاية الحصرية على الفتوى والقضاء والمال الشرعي والحسبة والحكم، كما فصّلنا سابقاً، ولكن، هذا المنصب يبقى غير مفعّل، إلّا إذا امتلك الفقيه القدرة العملية على تفعليه كلياً أو جزئياً، وتتمثل هذه القدرة العملية في وجود الفقيه في موقع المرجعية العليا أو الولاية العامة اللذين يسمحان له بذلك، إضافة الى توافر الأدوات المطلوبة والظروف الإيجابية المحيطة التي تدعمه في موقعه لتفعيل المنصب كلياً أو جزئياً. فالفقيه الذي يحوز على هذا الموقع، وتكون الظروف الموضوعية المحيطة موائمة ومساعدة بالمطلق؛ فإنه يستطيع حينها تفعيل جميع ولايات منصبه؛ فيفتي ويصدر الأحكام، ويدير الحوزة العلمية، ويستلم الحقوق المالية ويوزعها، ويقضي بين الناس، وينفذ أحكامه القضائية، ويقود المجتمع بكل تفاصيله، ويمارس السلطة السياسية والجهادية.

أما إذا كان الفقيه يمتلك موقع المرجعية والولاية بالفعل، لكنه لا يمتلك أدوات التفعيل، وكانت الظروف ليست مساعدة على تفعيل منصبه؛ فإن قدرته تكون نسبية على ذلك، ولعله يستطيع الإفتاء وإصدار الأحكام في حدود ما تسمح به الظروف، ويقضي بين الناس في بعض القضايا وليست كلها، وربما لا يمتلك أدوات تنفيذ أحكامه القضائية، وربما يستطيع استلام قسم من الحقوق المالية ولكنه قد يعجز عن صرفها في جميع مواردها، وهكذا بالنسبة لقدرته الفعلية على إصدار التشريعات الولائية وقيادة المجتمع أو إدارة الدولة. وهذا يعني أن امتلاك الفقيه لمنصب الولاية أو موقع المرجعية العليا، لا يخلق القابلية الذاتية على تفعيلهما، كما لا يخلق لدى المرجع القابلية على تفعيلهما جزئياً أو كلياً. وبكلمة أخرى؛ فإن التفعيل النظري لمناصب الفقيه يكون عبر تفرده بزعامة المجتمع الشيعي، الأمر الذي يخوِّله امتلاك هذا الموقع نظرياً، وهي المرتبة الأُولى، ثم يكون هناك تفعيل عملي، وهي المرتبة الثانية، أي أن تفعيل منصب الفقيه بحاجة الى مرحلتين، وعلى النحو التالي:

التفعيل النظري: ويتمثل في امتلاك الفقيه موقع الزعامة التي تمكنه من تفعيل منصبه نظرياً، وذلك حين ترجع إليه أغلبية الشيعة بالتقليد أو ينتخبه أهل الخبرة، وحينها يتوقف الفقهاء الآخرون عن تفعيل مناصبهم المحروزة لهم جميعاً بالقوة، وهو ما يعني تخويل واحد من الفقهاء، دون غيره، بتفعيل تلك المناصب، والقيام بالدور الذي يترتب على ذلك، وهو الذي الموقع الذي يُطلق عليه سابقاً تسمية شيخ الطائفة أو سيد الطائفة، ولاحقاً زعيم الحوزة العلمية أو زعيم الطائفة أو المرجع الأعلى أو الولي الفقيه، وجميعها تسميات لمعنى واحد. وهذه التسميات التاريخية والحديثة تعني أن هذا الفقيه بات له موقعاً يختلف عن مواقع باقي الفقهاء؛ إذ أنه يمتلك المنصب الذي يمتلكه الفقهاء الآخرون، لكنه يتميز عن باقي الفقهاء بامتلاكه الموقع الأول في المجتمع الشيعي، وهو الموقع الذي يعطيه قدرة تفعيل منصبه، وهي في الحقيقة قدرة بالقوة وليس بالفعل، وهو ما يمكن تسميته بالتفعيل النظري.

التفعيل العملي: ويعني امتلاك المرجع الأعلى أو الولي الفقيه القدرة على تفعيل المنصب أو الموقع؛ إذ أنّ وجوده في موقع المرجعية والولاية يبقى بحاجة الى مرتبة متقدمة أُخرى، تتمثل في الظروف الموضوعية المساعدة والملائمة والموافقة، على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأي نوع آخر من الظروف، إضافة الى الأدوات التنفيذية التي تسمح له بتفعيل قدراته الكامنة في مناصبه وموقعه.

وما سبق يعني أن المرجع الشيعي الأعلى والولي الفقيه، إذا كان مسلوب القدرة على تفعيل مناصبه وموقعه، رغم كل ما يمتلكه من صلاحيات قيادية وولائية واسعة وتوصيفات وظيفية مهمة؛ فإنه سيتحوّل الى مجرد مفتي، وربما لا تصل صلاحيته إلى نصف صلاحية المفتي السني، رغم أن الأخير مجرد موظف لدى الدولة، لأنّ المرجع الشيعي الأعلى إذا كان يفتقد الى الأدوات ولا تدعمه الظروف؛ فإنه قد لا يتجرأ ــ في بعض الأحيان ــ حتى على إعلان يوم العيد، بما يخالف إعلان الدولة أو إعلان المفتي السني للدولة، بل لا يستطيع أن يفتي أو يقضي بين مقلديه حتى في موضوعات الأحوال الشخصية، وهو ما كان يحدث ــ مثالاً ــ في ثمانينات القرن العشرين في ظل نظام البعث، حين كان المرجع الأعلى يعيش في ظل القمع والتهميش والتلويح بالاعتقال والتسفير والإعدام(1)، ويصبح غالباً جليس داره، ولا يقدر على تفعيل ولايته على الفتوى والأحكام الشرعية؛ فكيف بولايته على القضاء والحقوق المالية والحسبة؟ وكيف سيتمكن من حفظ النظام العام، والدفاع عن حياة الأفراد والمجتمع، ودرء المفاسد العقدية والأخلاقية والمعيشية والسياسية عنهم، وجلب المصالح لهم؟.

وكمثال على قدرة الدولة على التعسف اللامتناهي حيال الصلاحيات الفتوائية للمرجعية الشيعية، ما ذكره الباحث البعثي بشار عواد معروف، الذي كان مستشاراً دينياً في وزارة الأوقاف العراقية في نظام البعث؛ إذ يقول بأنّ الوزارة منعت في ثمانينات القرن العشرين طباعة الرسالة الفقهية العملية للمرجع الأعلى السيد أبي القاسم الخوئي، لأنها تحتوي على مسألة فقهية حول مبطلات الصلاة، وأحدها التكتف، أي وضع اليدين على الصدر أو البطن أثناء الصلاة، وطلبت الوزارة من السيد الخوئي حذف هذه المسألة من الكتاب، لأنها تخدش في مذهب رئيس النظام ومسؤولي الدولة، لأنهم سنة ويتكتفون أثناء الصلاة، وقد شدد رئيس النظام صدام حسين على قرار وزارة الأوقاف البعثية، وصب جام غضبه على السيد الخوئي بسبب هذه المسألة الفقهية(2). فإذا كان مرجع الطائفة في العالم، لا يستطيع ذكر رأيه الفقهي في مسألة فقهية جزئية؛ فكيف بإمكانية ممارسة صلاحياته الأُخر في القضايا الكبيرة؟!.

والحقيقة أنّ سلب قدرة المرجع على تفعيل منصبه وموقعه في قيادة المجتمع وأداء وظائفه التي تفرزها مناصبه الحصرية، أو عجزه عن ذلك لأي سبب كان؛ يعني حصول فراغ فعلي في الموقع، لأن المرجعية حينها ستكون فاقدة لمضمونها، ويكون الحائز على موقعها مرجعاً اسمياً، وهو ما يقود الى نقاش نظري حول جدوى احتفاظ الفقيه بموقع المرجعية العليا والولاية والزعامة والقيادة، حين يكون مسلوب الصلاحية فعلياً، وعاجزاً عن ممارسة وظائفه، بالنظر للمقاصد العملية والتنفيذية العميقة التي يحتويها موقع المرجعية والولاية، وهي ليست مقاصد نظرية وعلمية وحسب، إنما مقاصد ترتبط بمصير الأُمة وواقع المجتمع على مختلف الصعد. وهذا الموضوع لا يختلف بين مرجع يعتقد بولاية الفقيه الخاصة ومرجع يؤمن بولاية الفقيه العامة؛ إذ أن الولاية الخاصة تتضمن جميع ولايات الفقيه، عدا ولاية الحكم، وبالتالي؛ فإن منصب الفقيه المرجع يتضمن ولايتي القضاء والحسبة، وكلاهما بحاجة الى ظروف اجتماعية وسياسية داعمة وأدوات تنفيذية عامة.

وفيما لو كان الولي الفقيه منتخباً من قبل فقهاء الأُمة المنتخبين شعبياً (مجلس الخبراء)؛ فإن هذا المجلس كفيل بعزل الولي الفقيه في حال عجزه عن أداء وظائفه لأي سبب(3)، لكن الإشكالية المهملة التي نطرحها هنا تتعلق بالمرجع الأعلى الذي يحوز موقع المرجعية وفق الأساليب التقليدية، حين يعجز عن أداء وظائفه، سواء لأسباب شخصية أو ظرفية، وهي إشكالية بحاجة الى مزيد من البحث والنقاش العلمي، بعيداً عن الإسقاطات الشخصية والسياسية والأحكام النمطية، من أجل تشخيصها وإيجاد البدائل والحلول لها.

ولعل هناك من يقلل من أهمية هذه الإشكالية، ويقيس حالة المرجع بالإمام المعصوم وعموم سيرة أئمة آل البيت؛ إذ أن أغلب الأئمة كان يعيش أيضاً حالة التهميش والقمع والتشريد، ولم يكن قادراً على العمل وفق موقعه وصلاحياته، لكنه ــ أي الإمام المعصوم ــ بقي في منصبه وموقعه، رغم الحصار المفروض عليه، ورغم وجوده في السجن أحياناً، وعليه؛ يمكن للمرجع الاحتفاظ بموقعه، وإن كان مسلوب الإرادة وعاجزاً عن ممارسة صلاحياته وفاقداً لأدوات أداء وظائفه، قياساً بسيرة الإمام المعصوم. وهذا القياس باطل بالجملة، بالنظر للفارق الجوهري بين نصب الإمام وتكليفه ونصب المرجع وتكليفه؛ فالإمام المعصوم منصوب بالاسم، وتكليفه إلهي، أي أن وجوده الشخصي ومنصبه وموقعه هو كيان واحد، كما أن تكليفه حيال كل القضايا ليس اجتهاداً وليس رؤية شخصية، بينما هذا الواقع والتكليف غير متحققين في الفقيه.

إن الفقيه الشيعي في موقع الولاية والمرجعية، يمتلك سلطة أساسية ترسم أُسلوب حياة الفرد والمجتمع والأُمة، ومصيرها الدنيوي والأُخروي، وتتمثل في «سلطة الفتوى»، والتي يستطيع الفقيه ــ من خلالها ــ قلب الموازين والأوضاع الاجتماعية والسياسية، لكن هذه السلطة تبقى حبراً على ورق أو مجرد مقولة نظرية، فيما لو افتقدت الى ظروف التطبيق وعناصر التنفيذ وأدوات التفعيل. ويمكن تلخيص هذه الظروف والعناصر والأدوات، في مثلث، يمثل كل ضلع منه سلطةً أو أداةً لتفعيل سلطة الفتوى والحكم الشرعي، وهي سلطة السياسة وسلطة المال وسلطة السلاح:

1- سلطة السياسة أو الأدوات السياسية: ونقصد بها الدولة بعقيدتها ونظمها القانونية والتنفيذية، إضافة الى الأحزاب والجماعات السياسية الشيعية الملتزمة الخاضعة لتوجيهات المرجعية، سواء كانت سرية أو علنية، وكذلك الجمهور الشيعي الواعي سياسياً. هذه السلطة إذا كانت، بإرادتها أو رغماً عنها، توفر الظروف الموضوعية لتفعيل منصب المرجع الأعلى وموقعه؛ فإنه سيمتلك القدرة على تحويل فتاواه وأحكامه وقيادته الى واقع قائم. أما إذا كانت سلطة السياسة تمارس دوراً سلبياً، أي تعمل على قمع المرجع وتهميش دوره؛ فإنه لن يتمكن من تفعيل منصبه وموقعه، سواء جزئياً أو كلياً. وبهذا يمكن القول بأن سلطة السياسة بإمكانها سلب سلطة الفتوى وولاية المرجع، وبإمكانها أيضاً تفعيلهما وتحويلهما من كونهما نظريات ومقولات مكتوبة أو شفاهية إلى واقع ميداني، وإلّا لن يكون هناك من ينفّذ حكم المرجع وفتواه وأمره وإرشاده. مع التأكيد على أن المقصود هنا ليس سلطة فرد أو سلطة حزب ينتميان الى الاجتماع الديني الشيعي، بل سلطة المكون من خلال الدولة أو عبر جبهة المعارضة.

2- سلطة السلاح أو الأدوات العسكرية: وهي الجيوش والقوات المسلحة والقوات الأمنية وجماعات المقاومة المسلحة الشيعية الملتزمة الخاضعة لتوجيهات المرجعية، سواء كانت تنظيمية أو شعبية، سرية أو علنية. هذه الأدوات تمثل سلطة قاهرة يستعين بها المرجع أو الولي الفقيه في تفعيل أحكامه الشرعية وفتاواه وأوامره المتعلقة بدفع الضرر الأمني والهجوم المسلح عن الأفراد والمجتمع والدولة، والذي يشنه عدو خارجي أو داخلي، فضلاً عن تفعيل الأحكام القضائية والحسبية. وهذا الدفع والدفاع والتفعيل والتنفيذ والتطبيق لا يتم إلّا بقوة السلاح. وهنا لا نتحدث عن سلاح فصيل أو جماعة، بل عن سلاح الدولة التي يغلب فيها المكون أو سلاح المقاومة والمعارضة. وبالنظر لحساسية موضوع السلاح والمقاومة والجهاد؛ فإن استخدام السلاح، بأي عنوان كان، دون إذن شرعي ودون تعريف شرعي لحالات الدفاع والمقاومة، سواء الفردية أو الجماعية أو المجتمعية، يعني سوء استخدام سلطة السلاح، وهو ما يعود بضرر أكبر على الواقع الشيعي. أما الذي يعطي الإذن الشرعي والتعريف الشرعي في هذا المجال؛ فهو الفقيه المتصدي حصراً، أي المرجع الأعلى المتصدي أو الولي الفقيه، أو من يوكلانه ويخولانه، وليس أي فقيه أو رجل دين.

3- سلطة المال أو الأدوات الاقتصادية: وهو المال الذي يتحرك في مفاصل الواقع الشيعي، وتستند إليه نشاطاته العامة، سواء كان ضمن الحقوق الشرعية المالية التي يستلمها المرجع ويوزعها، أو من خلال التبرعات والأوقاف الربحية والمؤسسات المالية والاقتصادية وغيرها، وهي عصب أساس أو سلطة مهمة يمكن للمرجع والولي الفقيه من خلالها تفعيل أوامره وفتاواه وأحكامه الشرعية على كل الصعد، سواء التكافلية الاجتماعية أو السياسية والعسكرية أو التبليغية والعلمية والبحثية والثقافية. وليس المقصود هنا المال الذي يدخل في حساب التاجر الشيعي أو الحزب الشيعي، دون أن يكون لهما تأثيراً في دعم الواقع الشيعي العام، إنما نقصد اقتصاد المكوّن الشيعي، سواء من خلال الدولة التي يغلب فيها المكوّن أو من خلال منظومة المرجعية العليا وولاية الفقيه، أو من خلال شبكات اقتصادية تضامنية عالمية.

ولا شك أن اجتماع هذه الأدوات أو السلطات الثلاث بين يدي الفقيه المتصدي؛ سيمكنه من إدارة المجتمع والدولة والحوزة ومنظومة المرجعية والنشاط التبليغي، على أفضل وجه، ولن يكون عاجزاً حينها عن أداء وظائفه أو أغلبها، وستكون فتاواه وأحكامه الشرعية سلطةً متحققةً قائمة، وليس مجرد سلطة نظرية.

وهنا؛ ربما يُطرح استفهام عن دور الأمة والشعب والجمهور، أو ــ على أقل التقادير ــ دور المتدينين المقلّدين للمرجع في تفعيل منصب الفقيه المتصدي وموقعه، وأين يكمن هذا الدور في مثلث السلطة وأضلاعه؟. الحقيقة أن الشعب أو الجمهور الشيعي هو مادة أضلاع المثلث المذكور، وليس سلطةً بذاته؛ فهو موجود في إطار السلطة السياسية للمكون وأحزابها، وفي إطار القوات المسلحة وجماعات المقاومة، وفي إطار مؤسسات المجتمع الشيعي الاقتصادية، وهو داعم ومقوم لها ومتفاعل معها، وبدون الأُمة أو الجمهور سيكون المثلث بلا مضمون ومحتوى.

وبالتالي؛ لا يستطيع الشعب أو الجمهور تحقيق مطلب تفعيل منصب المرجعية وموقعها، دون وجود أدوات السياسة والسلاح والمال، لأن الجمهور، وخاصة المؤمن بقيادة المرجعية ودورها، سيتفاعل ابتداءً مع أوامر المرجعية وفتاواها وأحكامها، لكنه سيُواجه بسلطة سياسية تعيق حركته، وإذا استمر في مقاومتها، بهدف تفعيل موقع المرجعية؛ فإن السلطة السياسية ستضربه بشده، وستلقيه في المعتقلات، وتقوده الى ساحات الإعدام. وهكذا بالنسبة للعدو الداخلي أو الخارجي المهاجم؛ فإن الجمهور لن يستطيع مواجهته بأيدٍ عزلاء وبالشعارات والهتافات. وهو ما يشبه دور المال؛ فإذا لم يكن هناك المال اللازم لأي مشروع تدعو إليه المرجعية؛ فإن الشعب سيكون عاجزاً عن تحويل المشروع الى واقع قائم. وفي النتيجة؛ ستتمكن السلطات السياسية والعسكرية والمالية المعادية أو المخاصمة، تحييد الجمهور وعزله عن قيادته المرجعية بكل سهولة، أي أنّ الرهان على الأُمة، دون وجود أدوات وظروف ملائمة، هو رهان خاسر أو مغامرة يصعب التكهن بنتائجها.

ومهما كانت شخصية المرجع الديني قوية وكان كفأً وعبقرياً، كالشيخ المفيد أو الشيخ الطوسي أو العلامة الحلي أو السيد محمد باقر الصدر أو الإمام الخميني؛ فإنه لا يستطيع تفعيل منصبه وموقعه المرجعي، ولا يستطيع تنفيذ أي من أفكاره ومشروعاته، دون توافر السلطة السياسية، أو الانفراج السياسي حداً أدنى، إضافة الى السلاح والمال، على حسب طبيعة المشروع أو الحكم الشرعي المراد تنفيذه.

وفي التاريخ الشيعي المعاصر هناك نماذج لها دلالات واضحة على هذه الحقيقة، أولها ثورة التنباك في إيران التي فجّرها الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي في العام 1890 من خلال فتوى من سطر واحد فقط، قال فيها بأن استخدام التنباك (التبغ) حرام، وذلك لإفشال اتفاقية حصر استثمار التبغ في إيران بشركة بريطانية؛ فامتنع الشعب الإيراني عن التدخين، وتحرك ضد السلطة، وكادت الثورة أن تزلزل عرش الشاه ناصر الدين القاجاري. وفي النتيجة؛ رضخ الشاه للفتوى، وفشلت حكومته في تمرير الاتفاقية مع بريطانيا، وحققت الفتوى كامل أهدافها، لأن الشاه كان شيعياً والسلطة شيعية، وإن لم تكن ملتزمة بأحكام الشريعة، لكنها تخشى سطوة المرجع الأعلى في تحريك الشارع الشيعي والجماعات الشيعية ضدها. ولو كان المرجع قد أصدر حينها فتوى مشابهة تخص تركيا العثمانية؛ لقام سلطانها عبد الحميد الثاني بتمزيق الفتوى واعتقال كل من يلتزم بتنفيذها، بل واعتقال المرجع نفسه.

وينطبق الأمر ذاته على فتوى الشيخ محمد تقي الشيرازي بإشعال ثورة العشرين في العراق في العام 1920 ضد الاحتلال الإنجليزي، والتي سبقتها فتاوى استنهضت الشيعة وسلاحهم وأموالهم ضد بريطانيا، منذ العام 1914. حينها أعلن المرجع الشيرازي الثورة لأنه يعلم أن العشائر الشيعية المسلحة ستلبي فتواه، وأن الأحزاب الشيعية ستمسك بزمام الثورة، وأن منظومة المرجعية تستطيع توفير المال اللازم، أي أن المرجعية كانت تحرز وجود الأدوات التي ستفعِّل الفتوى، وقبلها تفعِّل موقعه المرجعي. وكذلك كان الظرف السياسي مؤاتياً، وكانت أغلب الأدوات التنفيذية متوافرة للمرجع الأعلى السيد محسن الحكيم وباقي مراجع الشيعة حينها، حين أفتوا في العام 1960 بـ ((عدم جواز الانتماء إلى الحزب الشيوعي فإن ذلك كفر وإلحاد))(4). ثم فتاوى الإمام الخميني وتعاليمه التي فجّرت الثورة ضد الشاه محمد رضا بهلوي، لأنه كان يمتلك أدواتها، ولولاها ربما لم يكن سيعلن الثورة، رغم أنً الشعب كان مادة الثورة، لكنه ليس أدواتها وحسب.

وكذا الأمر بالنسبة للمرجعين السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد الصدر؛ فإنهما كانا يمتلكان كثيراً من أدوات التأثير والتغيير والثورة، لكن السلطة السياسية كانت تمارس التوحش وأبشع أساليب القمع الإجرامي؛ فأدّت فتاواهما إلى إعدامهما. وهو ربما ما كان يمنع المراجع السيد الخوئي والسيد السبزواري والسيد السيستاني والسيد الحكيم من إصدار فتاوى الجهاد ضد نظام البعث، رغم أنه دمر البلاد والعباد، وارتكب كل أنواع المحرمات والموبقات التي لم يشهد التاريخ البشري مثيلاً لها ضد الشيعي، بل كادت تقضي على النظام الاجتماعي الشيعي العراقي، وهو ما كان سيحدث لأول مرة منذ واقعة كربلاء في العام 60 للهجرة. ولعل هذا الموضوع ــ هو الآخر ــ بحاجة الى دراسة موضوعية معمقة، رغم حساسيته، لأن جدوى السكوت على السلطة السياسية المفرطة في الظلم وفي قمع الشيعة، أو التحرك ضدها، تكمن في مآلات ونتائج كل منهما، ومن هو أكثر ضرراً وأكثر نفعاً، وفقاً لأهداف الدين ومقاصد الشريعة.

ويقودنا هذا الحديث الى نموذج تطبيقي قائم، ظل الواقع الشيعي العراقي والإقليمي والعالمي يعيش تفاصيله ويتغنى بثماره طيلة مرحلة ما بعد العام 2014، وهي فتوى المرجع الأعلى السيد السيستاني في الدفاع الكفائي ضد خطر تنظيم (داعش) الوهابي، الذي كان يهدد استقرار العراق ووحدته ودولته. وقد نجحت الفتوى في تحقيق أهدافها، لأن المرجع الأعلى كان يحرز وجود الظرف والأدوات التي ستفعِّل فتواه، وهي الظروف والأدوات نفسها التي فعّلت منصب السيد السيستاني وموقعه بعد العام 2003، لأن موقع السيد السيستاني قبل 2003 هو غير موقعه بعد العام 2003؛ فخلال حكم النظام البعثي الطائفي، كان السيد السيستاني محاصَراً، وبلغ الأمر أن يغلق بابه ويمتنع عن التدريس وصلاة الجماعة، بعد قيام السلطة باغتيال المراجع الثلاثة في النجف (الشيخ الغروي والشيخ البجنوردي والسيد محمد الصدر)، رغم أن الغروي والبجنوردي لم يكونا يمارسان أي نشاط سياسي أو اجتماعي، وكان محتملاً تعرض السيد السيستاني للاغتيال أيضاً.

ولكن السيد السيستاني تحوّل بعد العام 2003 الى مرجع أعلى فاعل بقوة في الواقع السياسي والاجتماعي، وبكل صلاحيات منصب الفقيه وموقع المرجعية، حتى باتت لديه القدرة على تغيير أعلى مسؤول تنفيذي في الدولة، ثم يفتي في العام 2014 بالدفاع الكفائي ضد الخطر الداهم للعراق والشيعة، وهو ما يعني أن انقلاباً جذرياً حصل في الواقع العراقي بعد العام 2003، مكّن المرجعية من تفعيل موقعها. وهذا الانقلاب الكبير أو الصدمة التاريخية، كان عنوانها الرئيس التحول في السلطة السياسية، أي أن السلطة التي سقطت في العام 2003 كانت تحجر على المرجع الأعلى وتمنعه بالقوة من تفعيل منصبه وموقعه، في حين أن السلطة التي جاءت بعد العام 2003 تضع نفسها طوعاً تحت تصرف المرجع الأعلى، وهي التي وفرت ظروف تفعيل موقعه، لأنها سلطة تعتمد على أغلبية حكومية شيعية ملتزمة.

وهكذا بالنسبة لفتوى الدفاع الكفائي؛ فإن السيد السيستاني أصدرها لأنه كان يعلم بوجود أدوات وسلطات ستنفذ فتواه، وهذه السلطات ليس المقصود بها سلطة الشعب الذي استجاب للفتوى، لأن هذا الشعب كان موجوداً نفسه قبل العام 2003، لكن السيد السيستاني لم يحرك الشعب حينها بفتوى ضد حزب البعث، رغم أن خطر نظام صدام على العراق والشيعة والحوزة والمرجعية كان أكبر بأضعاف من خطر (داعش) و(القاعدة) وعموم الحركات التكفيرية الإرهابية الوهابية؛ فقد احتل نظام صدام الوسط والجنوب الشيعي العراقي بأكمله، طيلة (35) عاماً، احتلالاً لم يمر على العراق أبغض وأقسى منه، وكان يضع الشيعة بين خياري الاستعباد أو الذبح، كما يضع المرجعية بين خياري القتل والاعتقال والتسفير أو سلب الصلاحيات والمنع من أداء الوظائف الموكولة شرعاً لها، وهو ما لم يكن لتنظيم (داعش) من تكرار فعله إطلاقاً، وبالتالي؛ لا يمكن قياس خطر نظام البعث بخطر (داعش) وأمثاله.

إنّ فتوى السيد السيستاني تكشف عن الدور المصيري لأضلاع مثلث السلطة: السياسية والعسكرية والمالية، والتي توافرت حينها لتنفيذ الفتوى، وليس لإنجاحها وحسب، وهي نفسها التي فعّلت موقع السيد السيستاني بعد العام 2003؛ فسلطة السياسة في العام 2014 كانت ذات أغلبية شيعية، ورئيس الحكومة كان شيعياً، والأحزاب السياسية الأكثر تأثيراً وفاعلية كانت شيعية، وأغلبها تأسس قبل العام 2003(5)، وكانت أغلبية الشعب مسيّسة باتجاه الأحزاب الشيعية والعملية السياسية، وهناك أيضاً دولة شيعية داعمة في إيران. وكذلك على مستوى سلطة السلاح؛ فإن القائد العام للقوات المسلحة ورئيس هيئة الحشد الشعبي وأغلب قادة القوات المسلحة هم شيعة، وكانت هناك تشكيلات جهادية مسلحة كبيرة قائمة، يعود تاريخ بعضها الى الأعوام 1979 الى 1991(6)، وصولاً الى الأعوام 2003 الى 2006، والتي تشكلت فيها تنظيمات شيعية مسلحة كبيرة. وأغلب هذه التشكيلات قام بأذونات مراجع دين كبار، كالسيد محمد باقر الصدر والإمام الخميني والسيد علي الخامنئي والسيد كاظم الحائري. أما السلطة الثالثة، وهي سلطة المال؛ فقد وفرتها الدولة العراقية، ولولاها لما استطاعت القوات المسلحة العراقية وقوات الحشد الشعبي من تحشيد الملتحقين الجدد وتنظيم صفوفهم في فرق وألوية ووحدات تخصصية، إضافة الى شراء السلاح والذخيرة والمعدات، هذا فضلاً عن أموال الحقوق الشرعية والتبرعات التي كانت تضخها المرجعية الدينية وولاية الفقيه في جسد التشكيلات الجهادية المسلحة.

ولذلك؛ فإن دراسة الجهود المضنية للمرجعية الدينية المعاصرة في تحويل منصبها وموقعها من القوة الى الفعل، وخاصة جهود السيد محمد باقر الصدر والإمام الخميني والسيد علي الخامنئي والسيد علي السيستاني، وفتاواهم وإرشاداتهم الاستنهاضية، التي يتمثل حصادها على أرض الواقع في صعودٍ شيعي تاريخي غير مسبوق، وازدهارٍ لعصر الشيعة السادس الذي أسسه الإمام الخميني، هدفها تكريس رهان الشيعة على مثلث السلطة وأضلاعه، ولكي لا تتوقف هذه الفتاوى والأحكام التاريخية وتجف ثمارها، سواء بعد خمسين أو مائة أو خمسمائة سنة؛ فمن خلال الإمساك بسلطات السياسة والسلاح والمال، يستطيع الشيعة الاستمرار في عصرهم الجديد، وفاعلية نظامهم الاجتماعي الديني الشيعي بكل أجهزته ومؤسساته وأدواته ووسائله وسياقاته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • أنظر: علي المؤمن، سنوات الجمر، الفصول الثاني والثالث والرابع
  • من مقابلة د. بشار عواد معروف مع د. حميد عبد الله https://www.youtube.com/watch?v=BKj7vJUc0GQ

وهو ما مطبق في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وفق الدستور الإيراني، المادة 111.

  • أنظر: علي المؤمن، سنوات الجمر، ص 94.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تطوّر المفاهيم التدبيرية العقلائية

تستند أغلب المصطلحات والمفاهيم المتداولة في وصف ظواهر الاجتماع الديني الشيعي إلى قواعد عقلية، وليس لها أُصول تشـريعية نقلية، وهي مصطلحات عرفية تدبيرية تنظيمية عقلائية. ولعل مبدأ ولاية الفقيه هو من المفاهيم القليلة التي تمتلك أصلاً تشـريعياً، بوصفه الأساس لكل تفاصيل النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ ما يعني أنّ ولاية الفقيه هي الأصل التشريعي لكل المصطلحات والمفاهيم التنظيمية العقلية المذكورة، وفي مقدمها الاجتهاد والتقليد والمرجعية الدينية والأعلمية.

ويقترن مفهوم (الأعلمية) بتولي الفقيه موقع المرجع الأعلى الذي تقلده أغلبية الشيعة في فروع دينها، وتناط به قضايا الشأن العام. كما أنّ مفهوم (الأعلمية) لصيق بموضوع التعدد في مراجع التقليد؛ فالفقيه الأعلم وفق معايير أهل الخبرة (المجتهدون العدول)، هو الأعلم في الفقه والأكثر قدرة وعمقاً على استنباط الحكم الشرعي الأقرب إلى الخطاب الشـرعي الحقيقي، وهو صاحب الحق في تسنم منصب المرجعية العليا للشيعة وقيادتهم الدينية. ولا يعني هذا أنّ الإجماع سيحصل لدى أهل الخبرة؛ بل لدى أغلبهم، وهو ما يؤدي إلى استقرار رأي الأقلية من أهل الخبرة على مراجع آخرين، وبالتالي؛ تتعدد المرجعيات الرديفة؛ برغم وجود مرجع أعلى يؤكد أغلب أهل الخبرة مرجعيته.

وقد وُضع شرط (الأعلمية) ضمن شروط مرجع التقليد؛ ليكون تدبيراً عقلياً لفرز المرجع الأكبر المتصدّي، وحل مشكلة تعدد المرجعيات المتصدّية لزعامة الحوزة أو الشأن العام، والحيلولة دون تشتت قرار الحوزة والمجتمع. ونظراً لتفاوت المعايير واختلاف المخرجات؛ فإنّ (الأعلمية) تُعدّ أمراً نسبياً وإحرازها مستحيل. وبالتالي؛ فإنّ أهل الخبرة يختارون المرجع الأعلم بحسب قناعاتهم، وهي قناعات بشرية خاصة. بل إنّ متطلبات مأسسة المرجعية تتطلب إضافة معايير في الأعلمية تتجاوز الفقه والأُصول، ومن بينها الأعلمية في وعي مقاصد الشريعة ونظام الإسلام العام، والأعلمية في تشخيص المفاسد والمصالح وتشخيص الموضوعات ذات العلاقة بالشأن العام([5]).

أمّا مصطلح (المرجع الأعلى) فهو الآخر مصطلح عرفي وإجراء تدبيري وليس رتبة علمية. وقد أوجده بعض علماء الحوزة العلمية خلال القرن العشرين الميلادي لفرز المرجع الأعلم المتصدّي للشأن العام عن غيره من مراجع الصف الأول. وهو تمييز مقبول، بل ضروري. ولم يكن الفقهاء حتى زمن السيد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني والسيد حسين الطباطبائي البروجردي يحملون هذا اللقب؛ بل يحملون توصيفات «زعيم الشيعة» (لقب الشيخ المفيد)، و«شيخ الطائفة» (لقب الشيخ الطوسي)، و«الشيخ الأعظم» (لقب الشيخ الأنصاري). وربما يكون السيد محسن الحكيم أول مرجع حمل صفة «المرجع الأعلى».

وبالتالي؛ لا يوجد ما يمنع من استحداث مصطلحات وهياكل عقلائية مقبولة شرعاً، وتفي بالأغراض التدبيرية والتنظيمية، كما هو الحال مع مصطلح «الحوزة العلمية» في عصر الشيخ الطوسي، ثم مصطلحات «ثقة الإسلام» الذي استحدث في عهد الشيخ الكليني قبل أکثر من ألف سنة، و«العلّامة» الذي لقب به الشيخ الحلّي. ثم تمت استعارة لقب «حجة الإسلام» من الشيخ الغزالي، وبعدها استُحدث لقب «آية الله» للدلالة على المجتهد كرتبة علمية. وحين اضطرت الحوزة للتمييز بين عموم المجتهدين (آيات الله) وبين المرجع؛ أضافوا مفردة «العظمى» إلى آية الله؛ ليختص لقب آية الله العظمى بمراجع التقليد فقط. ثم تم استحداث مصطلح «زعيم الحوزة» و«المرجع الأعلى» للتمييز بينه وبين سائر مراجع التقليد؛ بوصفه المرجع العام الأول لكل الشيعة.

وليست هذه الإجراءات التدبيرية العرفية تقتصـر على الشأن المذهبي والديني؛ بل يعمل بها كل البشر منذ بدء الخليقة وحتى الآن. وكلما اتجهت الكيانات الدينية والعلمية والأكاديمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية نحو تطوير هيكلياتها ومأسسة سياقاتها وأدواتها؛ ازدادت الحاجة إلى المصطلحات والرتب والعناوين. ولكن ينبغي التنبه إلى حساسية الشأن الديني في مجال استحداث المصطلحات والرتب والعناوين العامة والخاصة؛ بوصفه شأناً يربط بين الدنيا والآخرة، ويختلف عن الشؤون الدنيوية البحتة، ولا يمكن التسامح في الاستحداثات التدبيرية؛ بل يحتاج على الدوام إلى إقرار من الشريعة، أي إلى مقبولية شرعية ودقة فائقة في الدلالات، ولا سيما في العناوين الخاصة ذات الدلالات المقدسة.

المرجع المتصدّي وتعدد مرجعيات التقليد

إنّ الجعل الشرعي، بأنّ يكون لكل الفقهاء ولاية الفتوى والقضاء والحسبة وتداول المال الشرعي، يخلق إشكالية لا تزال مدار بحث ونقاش. فإذا كان الفقيه منصوباً من قبل الإمام المعصوم نصباً عاماً، ومعيّن تعييناً نوعياً؛ فهذا يعني أنّ الولاية هنا تكون لجميع الفقهاء، ولهم حق إعمالها في الزمان والمكان نفسيهما؛ لأنّهم معينون تعييناً نوعياً دون استثناء. وهو ما جرت عليه العادة؛ إذ يطرح المرجع الديني نفسه، ويؤكد أعلميته في الساحة العلمية من خلال دروسه وأبحاثه، ومن خلال تلامذته وحاشيته؛ فيكون مرجعاً يقلّده قسم من الشيعة، دون أن يكون لهم دور في تعيينه، ودون أن يكون للكفاءة القيادية والقدرة على تلبية الحاجات الاجتماعية أثر في التعيين غالباً.

والرجوع إلى الفقهاء وتقليدهم لا يدل على رجوع الأُمّة في زمن معيّن إلى فقيه أو مرجع بعينه؛ بل لكل من اجتمعت فيه الشـروط المثبّتة في كتب الفقه والحديث، ولا سيما الفقاهة والعدالة. حتى إنّ الأعلمية غير مشـروطة بجعل الولاية للفقيه؛ بل تتحقق الولاية لكل فقيه، كما تدل ظاهر الأحاديث، وهو ما أدّى إلى تعدد مراجع التقليد في كل عصر([6]).

وحيال إشكالية تعدد مراجع التقليد؛ يرى المعنيون بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي ضرورة حصول إجماع نسبي لدى أهل الخبرة في الحوزتين الشيعيتين المركزيتين (النجف وقم) لطرح أحد المراجع وفق شرائط معينة؛ ليكون هو المرجع المتصدّي أو المرجع الأعلى؛ للحيلولة دون التعارض بين المراجع في قضايا الشأن العام والنظام المجتمعي، وهو أمر أساس ومصيري للنظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ لأنّ ممارسة جميع الفقهاء لولاية الحسبة في الشأن العام في وقت واحد ومكان واحد يؤدي إلى الفوضى وانهيار النظام العام. ولذلك؛ يمكن إضافة شرطي الكفاءة والمقبولية العامة إلى شرطي الاجتهاد والعدالة؛ ليكونا شرطين مرجِّحين في هذا المجال. أمّا إذا تحقق شرط الأعلمية النسبية؛ فستكون الشروط متكاملة في المرجع المتصدّي أو الأعلى الذي تكون له ولاية على النظام العام، كما الحاصل اليوم مع مرجعيتي السيد السيستاني والسيد الخامنئي.

وفضلاً عن أنّ هناك عرفاً موروثاً بحصر المرجع الأعلى والمرجعيات عامة، سواء في النجف أو قم؛ فإنّ دليل حصر المرجعية العليا المتصدّية للشأن العام وولاية الفقيه، كما هو السائد دائماً؛ هو الدليل العقلي التدبيري المقبول شرعاً؛ بل الواجب بالعنوان الثانوي، والذي يفرض وجـود مرجعية عليا تتولى حصراً شؤون حفظ النظام؛ لدرء المفاسد عن النظام الاجتماعي الشيعي، والحيلولة دون تمزق قراره وتشظيه، ودون تمرد الجماعات الدينية الخاصة على زعامة النظام المتمثلة بالمرجع الأعلى المتصدّي.

الخط العام للمرجعية والخطوط الخاصة

الخلاف داخل الحوزات العلمية لم يكن يوماً جغرافياً أو قومياً أو مناطقياً؛ إلّا في مخططات الخصوم والأنظمة ووسائل الإعلام الطائفية، أو لدى المنفعلين وأصحاب المصالح؛ لأنّ الحوزات العلمية في بغداد والنجف وقم والحلة وجبل عامل وكربلاء ومشهد وإصفهان وسامراء والكاظمية والأحساء والبحرين، لا تزال تستخدم المناهج الدراسية والسياقات العامة والأفكار نفسها، إلى حد التطابق غالباً، وتعتمد سبل التعاون والتبادل والتكامل نفسها، منذ 1200 عام وحتى الآن؛ حتى يمكن القول إنّها حوزة علمية واحدة، فيها فروع مناطقية منتشرة في بلدان الكثافة السكانية الشيعية. وقد يتألق فرع على حساب الفروع الأُخر في زمن معين، وقد يأفل ويضعف بعضها مقابل صعود آخر. وهذا التألق والصعود والنمو أو الأُفول والضعف والانكماش يرتبط بظروف خاصة بالفرع الحوزوي حصراً أو بانتقال بعض المراجع والفقهاء من فرع إلى آخر.

أمّا الخلاف الحقيقي داخل الحوزات العلمية، فهو يتصل بالخلاف حول تطبيقات الالتزام بمنهجية عمل الحوزة وسياقاته المتعارفة، وأهمها طريقة طرح بعض علماء الدين أنفسهم كمجتهدين ومراجع خارج السياقات والمعايير المتعارفة، وطرح بعض الأفكار المتعارضة مع مشهور المذهب، أو ممارسة سلوكيات ترتبط بالشأن العام تتعارض مع الخط العام الذي تمثله المرجعيات العليا المتصدّية؛ الأمر الذي يساهم في تمزيق الواقع الشيعي.

وقد يتفاقم هذا التعارض في الأفكار والسياقات والسلوكيات لدى بعض علماء الدين إلى المستوى الذي يحوّلهم إلى خط عرَضي خاص، مقابل الخط المرجعي العام في النجف أو قم. وهو ما حصل ـ مثلاً ـ مع الشيخ محمد الخالصي في الكاظمية خلال عقد الخمسينات وبداية عقد الستينات من القرن الماضي، مقابل مرجعية السيد محسن الحكيم التي تمثل الخط المرجعي العام؛ حتى أخذ خصوم الشيخ الخالصي يتهمونه بالتسنن، وهي تهم فيها كثير من المبالغة. وکان له جماعة خاصة تنسب إليه، عرفت بجماعة الخـالصي، وقد ضعف خط الخالصي كثيراً بعد وفاته في العام 1963.

وحصل الأمر نفسه مع السيد محمد الشيرازي([7]) في كربلاء منذ بداية عقد الستينات، حين كان شاباً (32 عاماً) وطرح نفسه مجتهداً ثم مرجعاً، خلفاً لوالده المرجع الديني السيد مهدي الشيرازي، خارج السياقات الحوزوية المتعارفة، وتحوّل تدريجياً إلى جماعة خاصة تعرف بجماعة الشيرازي، تقابل مرجعيات الخط العام المتمثلة في السيد محسن الحكيم والسيد الخوئي. وقد ظلت مرجعية النجف تشكك في اجتهاد السيد محمد الشيرازي، فضلاً عن مرجعيته. وبعد وفاته في قم في العام 2001، أصبح شقيقه السيد صادق الشيرازي خليفة له في المرجعية وقيادة الجماعة، انطلاقاً من حوزة قم. وفي الوقت نفسه استقل السيد محمد تقي المدرسي عن مرجعية خاله السيد صادق الشيرازي، وأعلن مرجعيته الخاصة التي استقطبت جزءاً من الشيرازيين أيضاً. وقد ظل العرف الحوزوي يطلق تسمية (جماعة الشيرازي) على نشاط السيد محمد الشيرازي منذ العام 1962. وبالتالي؛ مثّلت الجماعة خطاً خاصاً في مقابل الخط العام للمرجعية في النجف، وفق الأعراف الحوزوية وسياقاتها.

وهناك علماء دين آخرون يمارسون حالياً نشاطهم الديني في النجف وكربلاء وقم ولبنان ولندن، وبات لهم خطاً خاصاً يتعارض مع الخط العام للمرجعية الدينية والنظام الاجتماعي الديني الشيعي، إلّا أنّ هذه الخطوط لم تتحول بعد إلى جماعات مؤثرة دينياً في الشأن الشيعي العام، وليس لها امتدادات جغرافية ملموسة.

وقد ظلت بعض جماعات الضغط والمصالح في الحوزة العلمية تستغل معادلة الخط العام والخطوط الخاصة، وتحاول أن تعمم مفهوم الخط الخاص أو الجماعة الخاصة على فقهاء آخرين يتميزون بفاعليتهم الفكرية وحراكهم النهضوي الإصلاحي، برغم عدم انطباق معايير الخط الخاص عليهم بتاتاً. ولكن سبب هذا التعميم يعود إلى التعارض بين حراك هؤلاء الفقهاء والمراجع النهضويين، وبين مصالح بعض جماعات الضغط. وربما كان الشيخ فضل الله النوري في إيران والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء من أوائل الفقهاء المعاصرين الذين تعرضوا لهذا اللون من الشبهات. إلّا أنّ الإمام الخميني والسيد محمد باقر الصدر هما أكثر مرجعين معاصرين واجهوا شبهات تكوين خطوط عرَضية خاصة، منذ عصور مرجعيات السيد حسين البروجردي، والسيد محسن الحكيم، والسيد الخوئي.

والحال؛ أنّ ممارسة هذا اللون من الحراك المتمايز عن الحراك المرجعي السائد، هو نوع من أنواع الاجتهاد في تشخيص المصالح والمفاسد؛ لطالما كان هذا المرجع والفقيه قد درس في الحوزة بشكل طبيعي تقليدي، وحصل على درجة الاجتهاد من أحد أساتذته المعترف باجتهادهم وفق العرف الحوزوي، ثم طرح مرجعيته وفق السياقات التقليدية المتعارفة أيضاً. وبعد ذلك لا يضره أن يمارس الحراك العام وفق اجتهاده، في حدود عدم التضارب مع التوجهات العامة للمرجعية العليا، وعدم خلق شقاقٍ في المجتمع الشيعي.

وتتلخص معايير التزام عالم الدين الشيعي بالسياقات الحوزوية المتعارفة والخط المرجعي العام بما يلي:

1ـ التدرج الطبيعي لعالم الدين في الدراسة الحوزوية.

2ـ حصول عالم الدين على درجة الاجتهاد من أُستاذه المعترف باجتهاده حوزوياً، أو شهادة أهل الخبرة (المجتهدون العدول) باجتهاده.

3ـ عدم خروج عالم الدين على الإجماع العقدي والفقهي في القضايا الأساسية.

4ـ عدم خروج عالم الدين على المرجعية العليا في القضايا الأساسية ذات العلاقة بالشأن العام، حتى بعد أن يحصل على الاجتهاد ويطرح نفسه مرجعاً للتقليد وتتوسع مساحات نفوذه الديني.

5ـ إلتزام عالم الدين بالسياقات المتعارفة في مرحلة نشـر رسالته الفقهية العملية وإعلان مرجعيته ونشر وكلائه.

وإذا لم يلتزم عالم الدين الشيعي بهذه المعايير الخمسة؛ فذلك يعني أنّه يمثل خطاً خاصاً عرضياً لا ينسجم مع الخط العام للمرجعية والحوزة. ويمكن من خلال تطبيق هذه المعايير على بعض الحالات السابقة والقائمة، معرفة مصاديق الخطوط العرَضية الخاصة.

خلاف المنهجيات المحافظة والإصلاحية والثورية في الحوزة العلمية

الخلاف الاجتماعي أو السياسي أو السلوكي بين الفقهاء والمرجعيات الدينية أمر طبيعي ومتعارف، شأنه شأن أيّ خلاف إنساني، شرط أن لا يتسبب في انشقاق الواقع الشيعي وتشـرذمه؛ أي أن يبقى محصوراً في حدود الدوائر الحوزوية ذات العلاقة؛ بل إنّ من أكبر الكوارث أن يتم الاحتكام في الخلافات الحوزوية إلى الشارع المتدين أو جمهور المقلدين والأنصار؛ ليحولها المنفعلون والجهلاء إلى معارك، كما حصل في فترات زمنية سابقة ولاحقة، ومنها الخلافات بين الأخباريين والأُصوليين في كربلاء وإصفهان والنجف طوال قرن وأكثر، والخلافات بين أنصار المشـروطة والمشـروعة في طهران والنجف في أوائل القرن العشرين، والخلاف بين الخالصيين وأنصار مرجعية النجف في الكاظمية في خمسينات وأوائل ستينات القرن الماضي، والخلافات بين الشيرازيين وأنصار المرجعية النجفية في كربلاء والكويت والبحرين وقم طوال ستة عقود، والخلاف بين أنصار السيد محمد کاظم الشريعتمـداري (1906 ـ 1986م) وأنصار الثورة الإسلامية؛ لا سيما في تبريز وقم في أوائل ثمانينات القرن الماضي، ثم بين أنصار الشيخ المنتظري وأنصار المرجعية العامة في قم وإصفهان، أو بين أنصار السيد محمد حسين فضل الله وأنصار بعض مرجعيات النجف وقم في الفترة نفسها، وكذلك الخلاف في النجف وغيرها بين أنصار السيد محمد الصدر وأنصار بعض مرجعيات النجف في تسعينات القرن الماضي، ثم امتدادها إلى مرحلة ما بعد سقوط النظام البعثي في العام ٢٠٠٣.

هذه الخلافات، الصحية أحياناً؛ كونها تحرك الركود والجمود، كان يمكن أن تمر بشكل طبيعي، ككل الخلافات المتعارفة الأُخر بين الفقهاء والمراجع في المسائل الفقهية وفي تشخيص المصالح والمفاسد؛ فيما لو تمت إدارتها إدارة حكيمة، ولم تستثمرها جماعات الضغط والمصالح الداخلية، كمادة دسمة تعتاش عليها، ولم تنزل إلى الشارع وتتحول إلى فتنة اجتماعية، ولم يسمح للخصوم الخارجيين باستغلالها وتأجيجها بهدف تضعيف الحوزة والمذهب والطائفة.

بيد أنّ الجانب المهم في هذا اللون من الخلافات؛ هو أنّه لا يؤثر في الأبعاد العلمية وأحجام النفوذ الديني للفقهاء والمراجع المعترف باجتهادهم ومرجعياتهم حوزوياً، ولا يكرس توصيف بعضها خطاً عاماً والآخر خطاً خاصاً، كما فصّلنا سابقاً؛ أي أنّها لا تشبه الخلافات بين المرجعيات التي تمثل الخط العام، والخطوط الدينية العرَضية الخاصة التي لا يعترف الرأي العام الحوزوي باجتهاد أصحابها ومرجعياتهم.

وهناك أمثلة قريبة تاريخياً بشأن الخلاف الصحي المتعارف بين المرجعيات في الموضوعات الفقهية والنظرة إلى الشأن العام، ومن أهمها ظاهرة الثنائية بين مرجعية السيد محسن الحكيم الإصلاحية ومرجعية السيد الخوئي المحافظة في خمسينات وستينات ومطلع سبعينات القرن الماضي، والتي استطاع خلالها السيد محمد باقر الصدر إيجاد منهجية ثالثة فاعلة، لكنها لم تكن منظورة حينها؛ إذ ظلت تتمظهر ـ غالباً ـ في الفعاليات والنشاطات المحسوبة على مرجعية السيد الحكيم وجماعة العلماء في النجف الأشرف والحركة الإسلامية المنظمة ومؤسسات منتدى النشر. أي أنّ واقع الاجتماع الديني النجفي أصبح ينقسم في عقد الستينات ومطلع السبعينات من القرن الماضي إلى ثلاث منهجيات رئيسة:

1 ـ المنهجية الوسطية الإصلاحية المتمثلة في مرجعية السيد محسن الحكيم، وقاعدتها: ولاية فقيه واسعة في الأُمور الحسبية ورعاية النظام العام، وسمتها التطبيقية: إصلاح شامل في الأُمّة وإصلاح مقيد في السلطة. ومن الفقهاء المتماهين مع هذه المنهجية في النجف: الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والشيخ مرتضى آل ياسين، والشيخ محمد أمين زين الدين، والشيخ محمد رضا المظفر، والسيد عبد الله الشيرازي، وحالياً السيد علي السيستاني. وتماثلها في قم مرجعيات السيد محمد رضا الكلبايكاني، والسيد محمد كاظم الشـريعتمداري، والسيد شهاب الدين المرعشي النجفي. وهي منهجية متأثرة بمدرسة الشيخ الآخوند الخراساني، والشيخ فتح الله الإصفهاني، والشيخ الميرزا النائيني، والسيد أبو الحسن الإصفهاني.

2 ـ المنهجية التقليدية المحافظة المتمثلة في مرجعية السيد أبو القاسم الخوئي، وقاعدتها: ولاية فقيه محدودة في الأُمور الحسبية، وسمتها التطبيقية: إصلاح تقليدي في الأُمّة وانكفاء في موضوعة السلطة، وهي متأثرة بمدرسة السيد محمد كاظم اليزدي والشيخ ضياء الدين العراقي. ومن المتماهين مع هذه المنهجية في النجف: مرجعيتا السيد عبد الهادي الشيرازي، والسيد محمود الشاهرودي، وتماثلهما في قم مرجعيتا الشيخ عبد الكريم الحائري، والسيد حسين البروجردي سابقاً، والشيخ حسين الوحيد الخراساني حالياً.

3 ـ المنهجية التغييرية الثورية المتمثلة في الفقيه الشاب السيد محمد باقر الصدر، وقاعدتها: ولاية فقيه عامة ورعاية مطلقة للشأن العام، وسمتها التطبيقية: إصلاح شامل في الأُمّة وتحوّل جذري في السلطة وانخراط في العمل التغييري الثوري. أمّا في قم فإنّ هذه المنهجية أسسها الإمام الخميني، وأبرز المراجع المتماهين معها هم تلاميذ السيد محمد باقر الصدر والإمام الخميني، ولا سيما السيد محمد الصدر، والسيد محمود الهاشمي، والسيد كاظم الحائري، والشيخ حسين علي المنتظري، والسيد علي الخامنئي، والشيخ جعفر السبحاني، والشيخ محمد الفاضل اللنكراني، والشيخ عبد الله الجوادي الآملي. فضلاً عن مراجع آخرين أحياء تتلمذوا في مدرسة السيد حسين البروجردي؛ لكنهم خالفوا أُستاذهم في وسائل التعامل مع القضايا العامة، وفي مساحات مبدأ ولاية الفقيه؛ فقالوا بولاية الفقيه العامة، وانخرطوا في الحراك الثوري التغييري الذي قاده الإمام الخميني، كالشيخ ناصر مكارم الشيرازي، والسيد موسى الشبيري الزنجاني، والشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني؛ برغم أنّهم ليسوا من تلاميذ الإمام الخميني.

والملاحظ في النجف في ستينات القرن الماضي، أنّ المنهجيات الفقهية والتطبيقية المتفاوتة الثلاث، والمتمثلة في: السيد محسن الحكيم، والسيد أبو القاسم الخوئي والسيد محمد باقر الصدر، كانت تتبادل الحماية والدعم والتأييد. وحصل الأمر نفسه في أوائل عقد الستينات من القرن الماضي؛ حين مارست مرجعيات قم المحافظة والإصلاحية دور الحماية لمرجعية الإمام الخميني التغييرية الثورية.

وقد يرى بعض المراقبين مفارقة في هذا المجال؛ فكيف يدعم التيار الديني التقليدي المحافظ تياراً إصلاحياً وآخر ثورياً، أو العكس؟! لكن من يعرف قواعد تفكير المرجعية العليا التي تمثل الخط العام، وأساليب حركتها؛ سيدرك بأنّ هذه المرجعية تمارس ـ عادة ـ دور الأُبوة لكل التيارات والوجودات في الوسط الشيعي، وتعمل على حمايتها وعدم التفريط بها، وشدها إليها بهدوء وصبر؛ للحؤول دون انكفائها خارج النظام الاجتماعي الديني الشيعي، سواء كانت المرجعية العامة نفسها ثورية أو إصلاحية أو محافظة([8]).

علاقة المرجع الديني بالحركات الإسلامية السياسية

من الطبيعي أن يكون المرجع الديني الشيعي الأعلى أباً لكل مواطني بلده، وخاصة في البلدان التي يشكل فيها الشيعة أغلبية سكانية أو يتمتع فيها المرجع الشيعي بحرية الحركة ويتمتع بثقل اجتماعي ديني مميز، كما هو الحال مع ايران والعراق ولبنان، ولكن على مستوى الانتماء الديني والمذهبي؛ فإنّ المرجع الديني هو أب المؤمنين حصراً، بمن فيهم أبناء الحركات الإسلامية، التي هم من الملتزمين عادة بقضية تقليد المرجعية؛ إذ لا يمكن لمرجع الدين أن يكون مرجعاً للملحدين وأباً للشيوعيين والعلمانيين أيضاً، ذلك أنّه مرجع ديني إسلامي، هذا هو توصيفه الدقيق، وليس مرجعاً سياسياً وطنياً أو مرجعاً عشائرياً، بحيث تتسع أبوته لكل المنتمين للعشيرة، بصرف النظر عن انتماءاتهم الفكرية والعقدية؛ فهذا النوع من الأبوة يتناقض مع موقع المرجع الديني الإسلامي ووظيفته الشرعية، ولا يمثل مجرد تعارض أو خلاف في الرؤية بين المرجع الديني من جهة والشيوعيين والعلمانيين من جهة أخرى، وإلّا لما أعلنت المرجعية موقفها الشرعي من الشيوعية والعلمانية.

وبالتالي؛ فمن البديهي أن لا يكون تفاعل المرجع الأعلى مع التيارات الملحدة والعلمانية والليبرالية كتفاعله مع التيارات الإسلامية الشيعية السياسية، ولا يمكن أن يكون محايداً بين الطرفين في النظرية والغاية والهدف، أو ينظر اليهم نظرة واحدة متساوية، أو يكون على مسافة واحدة من الجميع، ذلك لأن المنظومة العقدية والفكرية والقيمية للحركات الإسلامية الشيعية تتطابق تماماً مع المنظومة العقدية والفكرية للمرجعية العليا، كما أن هذه الحركات هي جزء لا يتجزأ من النظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي يقوده المرجع الأعلى، مع الإذعان بأن بعض أفراد هذه الحركات فاسد ومنحرف سلوكياً وفكرياً. في حين أن التعارض بين المنظومة الفكرية والعقدية للمرجعية والمنظومة الفكرية السياسية للتيارات غير الإسلامية، يرتبط بالأصول والقواعد والغايات الدنيوية والأخروية، وليس بسلوك الأفراد والجماعة وحسب.

ومن البديهي أيضاً أن يكون المرجع الديني إسلامياً بالمعنى العقدي والفكري، ولا يكون شيوعياً أو علمانياً أو ليبرالياً أو مدنياً؛ إذ أن علمه بحقائق الشريعة الإسلامية، تجعله يؤمن تلقائياً بأنّ الإسلام نظام كامل شامل لكل شؤون الحياة، وأنّ الإسلام عبادة ومعاملة وسياسة واقتصاد، وأنّ الإسلام دين ودولة، ودنيا وآخرة، وأنّ تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وأبوابها لا يمكن أن يتجزأ. وهذه هي نفسها ايديولوجيا الإسلاميين وأفكارهم بتفاصيلها، والتي تجعلهم إسلاميين ويوصفون بالإسلاميين، مع فارق أن الإسلاميين يسلكون منهجاً حركياً تنظيمياً غالباً، ويمارسون العمل السياسي التفصيلي، بينما تسلك المرجعية سلوكاً عاماً.

كما أن وجود الإسلاميين الحركيين الشيعة هو وجود فرعي تنظيمي خاص، لا في طول المرجعية ولا في عرضها، بل هو كالرافد التابع الذي يصب في النهر الكبير التي هي منظومة المرجعية. ويمثل هذا الواقع حقيقة التبعية الشرعية أو التبعية الاجتماعية الدينية للمرجع الأعلى، والذي لا تؤمن به التيارات غير الإسلامية، وترفضه عملياً، بينما تتمسك به الحركات الإسلامية الشيعية، طوعاً أو رغماً عنها، لأن تنصلها عنه يجعلها منبوذة وخارج الخط الشيعي العام والنظام الاجتماعي الديني الشيعي.

ولا يقتصر التعارض مع فكر المرجعية والتزاماتها الشرعية، على التيارات السياسية والفكرية العلمانية، بل يشمل حتى (المعممين) العلمانيين والليبراليين الذين لا يؤمنون بكمال الإسلام وشمولية شريعته لكل نظم الحياة، وهم كثر، رغم شذوذ هذه الفئة دينياً؛ فالزي الديني العرفي، لا يعني الأصالة الدينية لمن يرتديه، ولا يعني أن من يرتديه من حقه أن يكون ناطقاً باسم الدين والحوزة، وممثلاً للمرجعية ومعبراً عن نهجها وأهدافها، وإن كان يعمل في أجوائها.

والغالب، أن ظروف الزمان والمكان تقتضي أن يتنزّل المرجع الأعلى عن العناوين الأولية في تطبيق نظم معينة، ومنها نظام السلطة الشرعية ونظام الاقتصاد الإسلامي وغيرهما، ويقبل ببدائل وأدوات وعناوين في إطار الأحكام الثانوية، بسبب عدم توافر الظروف الموضوعية، لكن؛ هذا لا يعني أنه لا يؤمن بأصل النظام الشرعي، سواء في الحكم أو الاقتصاد، أي أن غض المرجع نظره عن عدم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في مجال الحكم، يشبه غض نظره عن تطبيق أحكام الشريعة في مجال الاقتصاد، أو غض نظره عن الأدوات التنفيذية لأحكامه القضائية، فهل هذا يعني أن المرجع الديني يمضي المعاملات الربوية في البنوك؟ أم أن غض النظر يعني عدم توافر الظروف الموضوعية لإلغاء الربا المصرفي؟ وبالتالي؛ فإن من يتصور بأن المرجعية تؤمن بالدولة المدنية والحكم المدني؛ فإنه لا يعي بديهيات القواعد الفقهية والأصولية، وهو كمن يتصور بأن المرجعية تؤمن بالبنوك الربوية، وقوانين الأحوال الشخصية غير الإسلامية، وعدم مباشرة واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع والشارع.

ويفكر الإسلاميون الحركيون بالطريقة نفسها، لأنه منهج تفكير واحد، وقبولهم بالأمر الواقع الضاغط لا يعني التنازل عن الأصول الشرعية التي تأسست الحركات الإسلامية من أجل تطبيقها، وهو مؤشر آخر على أن منهج المرجعية هي بوصلة الإسلاميين؛ فهم أبناء المرجع الأعلى العقديون، وإن كان بعضهم عاقاً ومتمرداً على توجيهاته، وما يأمر به من تطبيق معايير النزاهة والتدين والإخلاص والخدمة للناس والنجاح في العمل وتوحيد الصفوف، وهذا ما يجعله يغضب على أبنائه أحياناً ويقاطعهم أخرى، حتى يبح صوته، لكنه لن يتخلى عن أبوته لهم إطلاقاً، ولا يأخذهم جميعاً بجريرة بعضهم. وإذا كان المرجع يغلق بابه بوجوههم يوماً؛ إعلاناً عن عدم رضاه على أداء أكثرهم، وتحذيراً للآخرين بأن لا يرتكبوا الأخطاء والانحرافات نفسها؛ فإنه لن يتركهم بدون تصويب وتوجيه ودعاء.

لقد تأسست الحركات الإسلامية الشيعية في وسط النظام الاجتماعي الديني الشيعي ولا تزال تعمل في إطاره؛ فهي جزء منه، وتخضع لمعادلاته. وكان عدم التفات بعض الحركات الإسلامية الشيعية إلى بعض هذه المعادلات أو تصور القدرة على تغيير بعضها الآخر؛ يتسبب في حدوث توترات بينها، وبين منظومة المرجعية الدينية، بصفتها رأس هرم النظام الديني الاجتماعي الشيعي. وعليه؛ فإن النظرة إلى المرجعية الدينية تتجاوز القناعات الفكرية والاجتماعية والسياسية؛ لتندك بالواقع ومتطلباته. وأهم فرضيات هذا الواقع:

1 – أن المرجعية الدينية العليا ليست مرجعية علمية فقهية وحسب، بل هي منظومة دينية اجتماعية، تقف على رأس النظام الديني الاجتماعي للطائفة الشيعية الإمامية في العالم. ولهذه المنظومة معادلات ثابتة وسياقات عمل ونظم فرعية وتقاليد؛ أقلها أهمية هو الموضوع العلمي المرتبط بالدراسة والفتوى، وأكثرها أهمية هو أسلوب إدارتها للشأن العام. وعمر هذه المنظومة أكثر من أحد عشر قرناً. أي أن المرجعية وحوزتها هو الوجود الأصيل والثابت الوحيد في النظام الديني الاجتماعي الشيعي. أما الحركات الإسلامية الشيعية السياسية؛ فهو وجود عارض متغير يعمل في إطار النظام الديني الاجتماعي الشيعي، ولا يتجاوز أكثرها سبعة عقود. وبالتالي؛ فالحركات الإسلامية والمرجعية الدينية ليسا متساويين في الشأنية الدينية الاجتماعية (الاجتماع الديني الشيعي) ولا مساحات العمل والتصدي، ولا التأثيرات المعنوية، ولا هما متشابهان في الوظيفة والماهية. ولذلك؛ لا يمكن القول بوجود علاقة متكافئة، أو علاقة ندية، أو إمكانية تبادل مواقع إدارة النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ بل هي علاقة المتغير بالثابت، والفرع بالأصل، والتابع بالمتبوع.

2 – بصرف النظر عن الأسانيد الروائية والعقلية لمبدأ المرجعية وولاية الفقيه، وتطبيقاته وتحولاته وتطور منظومته؛ فإنه ـــ قبل كل ذلك ــ يمثل أمراً واقعاً قائماً ضاغطاً، ولا تملك الحركات الإسلامية الشيعية خياراً غير التعامل مع هذا المبدأ تعاملاً واقعياً لا تعاملاً معيارياً؛ أي التعامل مع منظومة المرجعية العليا كما هي كائنة، لا كما ينبغي أن تكون من وجهة نظر الحركات الإسلامية، وأن لا يتعارض عمل هذه الحركات مع سياقات ونظم منظومة المرجعية العليا، سواء قبلت بتفاصيل هذه المنظومة أو لم تقبل. صحيح أن المدرسة التغييرية النهضوية في الحوزة العلمية، والتي أسسها الإمام الخميني والسيد محمد باقر الصدر، هي مدرسة ذات منهجية معيارية نقدية، ولكن؛ ليس من شأن الحركات الإسلامية الشيعية ووظيفتها الحديث عن إصلاح منظومة المرجعية وسلوكياتها؛ لأن إصلاحها شأن داخلي خاص بالمنظومة نفسها، ويمكن لعلماء الدين المنتمين الى الحركات الإسلامية من الصف الأول (المجتهدون والفضلاء) المساهمة في عملية الإصلاح والتقويم، والاستفادة من آراء المتخصصين الإسلاميين (أكاديميين وباحثين) ودراساتهم ونقودهم وتقويماتهم الداخلية الخاصة، إلّا أنّ من البديهي أن تكون مساهمة هؤلاء العلماء الحركيين في مجال الإصلاح والتجديد، بصفتهم الحوزوية وليست الحركية. ولكن في المقابل؛ فإنّ المرجعية العليا ومنظومتها تمتلك الحق في الحديث عن إصلاح الحركات الإسلامية وتقويم فكرها وسلوكها؛ بل إن هذا جزء من وظيفتها الدينية الاجتماعية.

3 – من أجل أن يكون تعامل الحركات الإسلامية مع المرجعية العليا تعاملاً واقعياً ومنتجاً ومثمراً؛ من البديهي أن يفهم الإسلاميون منظومة المرجعية وسياقات عملها وحركتها ونظمها الفرعية وتقاليدها، فهماً توصيفياً دقيقاً، بدءاً بمدخلية البيوتات، وأساليب تدوير الحقوق الشرعية، ودور الأصهار والأولاد، وأساليب اختيار المرجعية العليا، وطرق الاعتراف العرفية بمرجعية ما، وطبيعة وجود أبناء القوميات المختلفة في الحوزة أو على رأس منظومة المرجعية، وانتهاءً بالفرق بين المعمم و(الآخوندي)، ولهجة التخاطب والتدريس في الحوزة. وينبغي القبول بها جميعاً والتعامل معها كما هي.

4 – أن منظومة المرجعية الدينية بطبيعتها هي منظومة تقليدية في بناها وأساليب عملها وحركتها. أما المحاولات الاصلاحية في الحوزة فلا تلامس ثوابت هذه المنظومة عادة، بل تلامس التفاصيل والمتغيرات. وما حركات المراجع المصلحين المعاصرين في الحوزة؛ إلّا موجات وتيارات تأتي وتؤسس، ثم يبقى منها ما يتوافق مع ثوابت المنظومة المرجعية التقليدية. وحتى منظومة ولاية الفقيه المتمثلة بالإمام الخميني ثم السيد علي الخامنئي؛ بالرغم من قوتها المعنوية والمادية، وكونها أكبر مرجعية دينية في إيران، ومشاريعها لإصلاح الحوزة القمية؛ فإنّ تدخلها ظل يقتصر على التنظيم ومأسسة النظم الفرعية، ولا تتدخل في الثوابت التقليدية لمنظومة المرجعية؛ فبقيت المنظومة تقليدية في ثوابتها، ومنظمة ومؤسَسِية في متغيراتها، بل أنّ تدخل الولي الفقيه في هذا المجال، لا يتم بصفته سلطة الدولة، ولكن بصفته المرجعية، وكونه رأس هرم النظام الديني الاجتماعي الشيعي، وهي الصفة التي تجد قبولاً غالباً لدى الحوزة العلمية ومنظومة المرجعية.

5 – إنّ المرجعية تمثل دائما الأبوّة لكل الوجودات الثقافية والسياسية والاجتماعية الشيعية؛ وإن كان بعضها ناقداً للمرجعية أو متمرداً على جزء من ثوابتها ومتغيراتها، أو كانت المرجعية لا تتوافق منهجياً مع هذه الوجودات المتغيرة العارضة. فالحركات الإسلامية الشيعية الكبيرة، بوصفها كيانات حركية تغييرية ناقدة؛ تمتلك منهجيات في العمل قد لا تتطابق مع منهجية المرجعيات التقليدية، لكنها بقيت تحظى بحماية المدارس الإصلاحية والتقليدية الرئيسة في الحوزة العلمية، وهو ما يؤكد طبيعة موقع المرجعية العليا بوصفها (أم الولَد) التي تستوعب أبناءها وتحتضنهم وتخشى عليهم الضرر؛ وإن أخطأوا بحقها أو بحق الواقع الشيعي.

6 – أن الحركات الإسلامية الشيعية غير معنية بترجيح مرجع ديني على آخر في جانب التقليد، ولا ترجيح مبدأ فقهي على آخر ترجيحاً فقهياً، لأن هذه الحركات، وإن ضمّت علماء دين مرموقين، ليست مدارس فقهية أو مرجعيات علمية أو جهات خبروية، لكي ترجح – – قاعدة فقهية على أخرى ومبدأ فقهي على آخر، كترجيح ــ مثلاً ـــ مبدأ ولاية الفقيه العامة على مبدأ ولاية الفقيه الخاصة، أو العكس. قد يكون هذا الترجيح طبيعياً من قبل الفقهاء وعلماء الدين المنضمين الى الحركات الإسلامية بصفتهم العلمية الدينية كخبراء، وليس بصفتهم الحركية. أما اختيار هذه الحركات غطاءً شرعياً مرجعياً يتفق ومتبنياتها الفكرية، مفهوماً ومصداقاً؛ فهو أمر ضروري، من أجل ترشيد موقفها الشرعية وإخراجها من حالة الإحراج في الالتزام بجميع الآراء الفقهية ومصاديقها، وللتخلص من التجاذبات الداخلية والنقاش المستمر بين أعضاء الحركة الواحدة.

دور جماعات الضغط والمصالح

هناك جهتان نفعيتان داخلية وخارجية ظلتا تحاولان، ولا تزالان، خلق مرجعية أو رمزية دينية شيعية تنسجم مع إرادتها وتحقق مصالحها، وهما:

1ـ جماعات الضغط والمصالح داخل الحوزة العلمية.

2ـ الأنظمة السياسية المحلية والدولية، ولا سيما بريطانيا والنظامين الشاهنشاهي الإيراني والبعثي العراقي. ثم دخلت أنظمة السعودية وأمريكا والإمارات وإسرائيل على خط التدخل في الشأن الحوزوي والشيعي بعد سقوط النظام البعثي في العام 2003، وباتت أجهزة مخابراتها تتولى مهمة خلق الخلافات في الحوزة والواقع الشيعي، ومحاولة خلق رمزية شيعية تابعة لها.

وتستخدم هاتان الجهتان وسائل تأثير مهمة، أبرزها:

1ـ الدعاية والترويج والإعلام؛ لمصلحة الشخص الذي يريدون إيصاله إلى مستوى المرجعية والرمزية، وضد من يريدون تسقيطهم من الأشخاص المنافسين أو الذين يحولون دون ضرب سياقات الحوزة.

2ـ المال؛ لدعم الشخص الذي يريدون إيصاله، دعماً مباشراً أو غير مباشر، وشراء الذمم بمختلف الوسائل ، ومحاولة تسقيط الآخرين.

3ـ الضغوط الاجتماعية والسياسية والمخابراتية.

ودون شك؛ لا تستطيع الدول الأجنبية تحقيق أيّ هدف لها في هذا المجال دون وجود جماعات ضغط داخلية متعاونة. وبالتالي؛ فإنّ الخطر الأساس يكمن في جماعات الضغط الداخلية المتعاونة مع دول خارجية، لتحقيق هدف مشترك؛ لأنّ خطرها مركب. وأُنموذجها الجماعات التي كانت تعمل مع النظام الشاهنشاهي الإيراني والنظام البعثي العراقي، أو لا تزال تعمل بشكل مشترك مع بريطانيا وأمريكا والسعودية، وهي ظاهرة جديدة لم تعرفها الحوزة العلمية من قبل القرن العشرين الميلادي.

أمّا جماعات الضغط الداخلية التي تعمل بمفردها، ولأهداف حوزوية أو مصلحية محضة، ولا ينطوي حراكها على أهداف سياسية وارتباطات بالخارج؛ فهي موجودة منذ نشوء الحوزة، وضررها أقل بكثير؛ بل لا يتسبب بعضها بضرر؛ لأنه يعمل بنية الحرص على الحوزة غالباً. وهذه الجماعات هي أكثر قدرة على تحقيق أهدافها من جماعات الضغط المتعاونة مع دول أجنبية؛ لأنّ جماعات الضغط المستقلة أكبر عدداً وأكثر تأثيراً، وتستخدم وسائل تقليدية متعارفة، فضلاً عن أنّ أغلب أفرادها من أصحاب العمق الاجتماعي الديني في الحوزة.

وإلى جانب جماعات الضغط الداخلية المستقلة؛ هناك جماعات ضغط خاصة، تعمل لمصلحة جماعة أُخرى أكبر أو رمزية أو مرجعية معينة، كما ذكرنا سابقاً. هذه الجماعات تكون ـ غالباً ـ مكشوفة وتعمل بوسائل تتعارض مع الرأي العام الحوزوي. ولذلك يكون تأثيرها محدوداً، وإن حظيت بأدوات دعاية وميزانيات مالية كبيرة.

هذا الحجم الهائل من محاولات الاختراق التي تقوم بها الدول الأجنبية والخصوم السياسيين والإيديولوجيين الخارجيين، بالتعاون مع عناصر داخلية؛ يفرض السؤال التالي: هل حققت هذه المحاولات أهدافها في خلق مرجعيات دينية أو رمزيات حوزوية عبر الدعاية والمال والضغوطات؟

من خلال البحث في الوقائع التاريخية، والتقصي الميداني للحاضر القائم، يمكن الجزم بأنّ عناصر الدعاية والمال والعمل المخابراتي والضغوطات السياسية لم تنجح خلال المئة وعشرين عاماً الأخيرة في خلق مرجعية دينية أو رمزية حوزوية شيعية موالية لها إطلاقاً، وإنّ كل المحاولات كانت تفشل بمرور الزمن أو تموت في المهد. هذا من جهة محاولات الدول الأجنبية وجماعات الضغط المرتبطة بها.

أمّا من جهة جماعات الضغط الداخلية المصلحية التي تعمل بمفردها، سواء العامة أو الخاصة؛ فإنّها لا تستطيع تغيير المعادلات المرجعية والحوزوية، إلّا بمساحات محدودة. وكل ما يقال في هذا المجال إنّما هو حكايات وسرديات لا واقع لها، أو وقائع انتقائية جزئية لا تؤثر في الخط العام للمرجعية.

لقد بذلت السعودية ـ مثلاً ـ بعد العام 2003 مساعٍ كبيرة وبذلت أموالاً طائلة لخلق مرجعيات ورمزيات دينية شيعية عراقية وإيرانية ولبنانية؛ لكنها فشلت فشلاً ذريعاً، وتحوّل الأشخاص الذين تعاونوا معها وحصلوا على دعمها إلى أدوات مكشوفة للتخريب فقط، دون أن يكون لهم حضور ديني حقيقي. قد تستطيع حكومات السعودية وبريطانيا وأمريكا خلق وتحريك عشرات المعممين وبعض الخطباء ونجوم الإعلام الديني؛ لكنها لا تستطيع خلق رمزية دينية أو مرجعية معترف بها حوزوياً في العراق أو إيران أو أيّ بلد آخر، حتى لو أنفقت مليارات الدولارات، وخصصت ألف قناة فضائية ومؤسسة إعلامية.

وهو الحال نفسه مع جماعات الضغط الخاصة التابعة لجهة أو مرجعية غير مصنّفة وفق السياقات الحوزوية المتعارفة؛ فهي تفشل ـ عادة ـ في تحقيق أهدافها النهائية. نعم، ربما تحقق أهدافاً مقطعية مقبولة حوزوياً؛ لكنها لن تستطيع إيصال مرجعها ورمزيتها إلى موقع المرجعية العليا مهما بذلت من جهود. مثلاً؛ في الأعوام 1999 إلى 2001 كان اثنان من مراجع الدين في خارج العراق تصلهم أموال شرعية وتبرعات كبيرة من أنصارهم، ولديهم مؤسسات وأوقاف واسعة، تُعدّ ضمن المؤسسات الأكثر ثراءً على مستوى العالم الشيعي. وفي الوقت نفسه يمتلكان إعلاماً منظماً واسعاً، ويعيشان فضاءً منفتحاً وحراً، ويحظيان بدعم تيارات منظمة. بينما كان السيد علي السيستاني في النجف يعاني حصاراً وعزلة على يد النظام البعثي العراقي، وليس لديه فضائيات ولا وسائل إعلام ولا حرية حركة؛ لكن السياقات والأعراف الحوزوية أخذت مجاريها الطبيعية، وبرز السيد السيستاني مرجعاً أعلى دون أن يكون للمال والإعلام تأثير في فرزه، بل ولم يكن لجماعات الضغط الداخلية تأثير أساسي. نعم؛ كان لهذه الجماعات تأثير في الترويج لمرجعيته، وهو أمر طبيعي؛ إلّا أنّ دور أهل الخبرة والعرف العام الحوزوي كانا هما الأساس في تثبيت مكانة السيد السيستاني.

ولا تقتصر هذه الممانعة على الحوزتين المركزيتين في النجف وقم؛ بل تسـري على كل الحوزات العلمية الأُخر. فعلى مستوى الحوزة والمرجعية في إيران؛ فإنّ اختراق السياقات والأعراف الحوزوية بات شبه مستحيل بعد العام 1980، مع عملية المأسسة والضبط والتوسع. أمّا حوزة النجف؛ فبرغم ما قد يلاحظ عليها من بساطة التنظيم والضبط؛ إلّا أنّ هذه البساطة تخفي وراءها نظاماً في غاية التعقيد والضبط، وهو نظام يتمتع بسياقات وأعراف موروثة متراكمة حادة، تحول دون تمكن أية جهة أجنبية أو جماعة داخلية من تغيير معادلاتها وحرف مسارها. لذلك؛ فإنّ الكلام عن أنّ المرجعية العليا تصنعها الأموال والدعاية والأنظمة؛ إنّما هو كلام مبني على كثير من الوهم والخصومة، وقليل من التفاصيل التي تفتقد إلى الدلالة.

مفهوم (الحواشي) في مؤسسة المرجعية

يُطلق مصطلح (الحاشية) في الحوزة العلمية على الفريق الخاص بالمرجع الديني ومستشاريه والحلقة الخاصة الملازمة له، وهو يشابه مفهوم حاشية الرئيس وحاشية الزعيم وحاشية أيّ متصدٍ بارزٍ لشأن مهم من شؤون الحياة. ولا يقتصـر المصطلح على الحاشية الخاصة بالمرجع؛ بل يتسع أيضاً للمجموعات المحيطة بالكيان المرجعي للمرجع، والعاملة داخله. ومن شروط الحاشية: الملازَمة والحضور الشخصي والمعنوي في صلب هذا الكيان المرجعي، وخاصة في مكتبه أو ما يسمی بـ (البرّاني)، وليس بالضـرورة أن تكون ملازِمة لشخص المرجع، فضلاً عن الالتزام بحفظ مصالح هذا الكيان والترويج له والدفاع عنه.

ويشكل أعضاء منظومة الحاشية بمجموعهم فريق العمل المرجعي، وبينهم مستشارون في المجال الفقهي والعلمي، وآخرون في الشأن المالي، أو في شؤون الوكلاء والمعتمدين أو في شؤون الحوزة العلمية أو الشأن العام. ويعود حسن تنظيم عمل الحاشية وحجم تأثيرها في القرار إلى طبيعة شخصية المرجع نفسه، ووعيه وقدرته على الإدارة والتدبير؛ فكلما ضعفت هذه القدرة ازداد نفوذ الحاشية نفوذاً سلبياً.

ويختلف دور الحاشية ومهامها وتأثيرها وفق مراحل صعود المرجع وعمره البايولوجي والمرجعي؛ ففي بداية عهد الفقيه بالمرجعية يكون دور الحاشية تنفيذياً وترويجياً غالباً، وتحظى برقابة المرجع نفسه واهتمامه. ولكن بتقدم المرجع في العمر واتساع حجم مرجعيته؛ تنتقل هذه المسؤولية تدريجياً إلى أبناء المرجع، ولا سيما الابن الأكبر الفاعل الذي يقود مكتب إدارة المرجعية.

ووجود الحاشية كفريق عمل ملازم للمرجعية الدينية منذ نشأتها؛ أمرٌ طبيعي وضروري. إلّا أنّ تبلور عمل الحاشية واختصاصاتها بدأ مع ثورة المشروطة في إيران وارتداداتها في العراق. لذلك برزت الحواشي شبه المنظمة مع مرجعية السيد محمد كاظم اليزدي ومرجعية الشيخ الآخوند محمد كاظم الخراساني وقيادة السيد عبد الله البهبهاني الغريفي. ثم شهدت تطوراً ملحوظاً في زمان مرجعيتي السيد حسين البروجردي والسيد محسن الحكيم ثم الإمام الخميني. فمنذ عقد الخمسينات في القرن الماضي؛ توسع حجم الحواشي وانتظمت مهامها وتوصيفاتها الوظيفية؛ أي مع تضخم بيت المال الشـرعي بالواردات الانفجارية من تجار أسواق طهران وإصفهان ومشهد وتبريز المرکزية، ثم تجار بغداد والكويت ودبي، وهي نماذج مدن أثرياء الشيعة المتدينين.

وكانت حاشية السيد محسن الحكيم وحاشية الإمام الخميني من أكثر الحواشي تنظيماً وفاعلية وحجماً في وقتيهما، وهما أول من أدخل الاختصاصيين من غير علماء الدين ضمن صفوفهما؛ بل إنّ شؤون الثورة والدولة؛ كرست حضور غير علماء الدين في حاشية الإمام الخميني بعد العام 1979.

وتُعدّ محاولة السيد الشهيد محمد باقر الصدر لمأسسة عمل الحاشية رائدة في مجالها؛ فقد نظّر لتحويلها إلى لجان مؤسساتية أو مديريات متخصصة ترتبط بها دوائر وفروع، وترتبط جميعها بلجنة عليا يترأسها أو يشـرف عليها المرجع نفسه. وتقوم هذه اللجان بضبط أعمال المرجعية على كل الصعد، العلمية والإدارية والمالية والاجتماعية والسياسية؛ للحيلولة دون استفحال قوة جماعات الضغط والمصالح. وهذه المحاولة الرائدة كانت جزءاً من نظريته: (المرجعية الرشيدة) ([9])، التي طرحها بعد العام 1975، وأعلن عنها في العام 1979، وبدأ العمل بها بشكل مبدئي.

ولا شك أنّ تطور عمل المرجعية وكثرة عدد المقلدين واتساع مساحة الشأن العام؛ أدى تلقائياً أيضاً إلى تطور عمل مكاتب المراجع الإدارية، وبلوغها مستويات نسبية من المأسسة. فقد كان مكتب المرجع يسمى «البرّاني»، مقابل «الدخلاني» الخاص بالعائلة. و«البرّاني» هو الجزء الخارجي من بيت المرجع، ويمارس المرجع من خلاله عمله المرجعي ويستقبل ضيوفه. ويدلّ «البرّاني» على معنيين، الأول دلالة على المكان، والثاني دلالة على الاختصاص، أي أنّه بمثابة المكتب المركزي للمرجع. ولا يزال «البرّاني» يُستخدم كمصطلح يدل على المكان، بينما بات أغلب المراجع يستخدمون مصطلح المكتب للدلالة على الاختصاص. كما بات مصطلح «البيت» متداولاً في الوسط الحوزوي للدلالة على مكتب المرجع أيضاً.

وقد تطور شكل الحاشية أيضاً بمرور الزمن، وباتت فيها مراتب، على أُسس البعد والقرب من المرجع، والمستوى العلمي، والاختصاص:

1 ـ أُسرة المرجع: وهم عادة أولاده وأصهاره وإخوته من علماء الدين. ويكون الفاعل الأساس بينهم الابن الأكبر للمرجع عادة، أو الابن الأكثر فاعلية وتدبيراً وثقة عند أبية، والذي يكون في الوقت نفسه مسؤولاً عن الشؤون الخاصة بالمرجع، وعن المكتب (بيت المرجعية الخارجي أو ما كان يعرف بالبرّاني)، والرابط بين المرجع والحاشية والوكلاء ومسؤولي الدولة. وهو موضوع يتصل بالثقة التي يحظى بها الابن، والخصوصيات المتصلة ببعض مفاصل العمل المرجعي. وهذا التقليد في المنظومة الدينية الاجتماعية الشيعية ظل متوارثاً منذ بداية غيبة الإمام المهدي، أي منذ عهد السفراء الأربعة قبل 1250 عاماً تقريباً؛ فقد كان الشيخ محمد ابن الشيخ عثمان العمري الأقرب إلى أبيه السفير الأول، ثم أصبح السفير الثاني من بعده. وهكذا الشيخ حسن ابن الشيخ أبي جعفر الطوسي، والذي كان يسمى «المفيد الثاني»، ولا يزال هذا التقليد متبعاً حتى الآن.

ولعل من أكثر القضايا حساسية في مؤسسة المرجعية هي حركة أولاد المراجع وأصهارهم؛ فهي تحت المجهر والأضواء على الدوام، ويتم التفتيش عنها، ولا سيما من الخصوم النوعيين أو الفكريين؛ لتضخيم الأخطاء والمبالغة في الروايات، وتعميمها على شخص المرجع وكيان المرجعية والحوزة. وهذه الحساسية تجعل كثيراً من الناس (البسطاء منهم والمغرضون) تتلقى هذا اللون من الدعاية كمسلمات، وترددها دون تفحص.

2 ـ حاشية المرجع الخاصة: وهم فريقه الخاص الذي يتكون غالباً من عدد محدود من كبار تلاميذه القدماء الثقات المقربين، ويُطلق عليهم أيضاً «الخواص» أو «الطبقة الأُولى»، وهم عادة مجتهدون وأساتذة بحث خارج وعلماء دين مرموقون، ويتميزون بتقدم السن، وقدم العلاقة بشخص المرجع، والخبروية العلمية والاجتماعية. ويكون أولاد المرجع وأصهاره وإخوته من علماء الدين المرموقين ضمن الحاشية الخاصة عادة. ويتواصل «الخواص» مع المرجع بشكل مباشر ويحضرون مجلسه التداولي الخاص. وتدور مداولاتهم ـ عادة ـ حول أوضاع الحوزة والشيعة ومستحدثات المسائل الفقهية والرؤى العلمية الجديدة. وليس من الضـروري أن يعمل جميع أعضاء هذا الفريق الخاص في مكتب المرجع؛ بل يكون لبعضهم كياناتهم الخاصة. أمّا من يعمل منهم في المكتب فهم ـ عادة ـ المسؤولون عن لجان الاستفتاءات والأموال الشرعية وشؤون الحوزة والوكلاء وقضايا الشأن العام، وهي مسؤوليات ليست وظيفية؛ بل ترتبط بالجانب العلمي والاستشاري والتدبيري.

3 ـ حاشية المرجع العامة: وهم الفريق العام الذي يضم عدداً أكبر من الفريق الخاص، ويتكون من أبرز مسؤولي مكتب المرجع وأعضاء اللجان، وكذلك تلاميذ المرجع من الشباب أو الأدنى في المستوى العلمي؛ أي أساتذة السطوح العالية (المكاسب والكفاية)، ويسمّون: «الفضلاء»، وهؤلاء يحضرون المجلس العام للمرجع، وهم «الطبقة الثانية» من الحاشية، وهم الأقل تأثيراً في قرار المرجعية من الحاشية الخاصة؛ لكنهم أكثر عدداً وفاعلية في صناعة الرأي العام الحوزوي.

4 ـ حاشية الحاشية: وهم حاشية ابن المرجع (المسؤول عن المكتب) وفريقه، أو حواشي خواص المرجع، وهم «الطبقة الثالثة». وبرغم انعدام تأثير هؤلاء في القرار المرجعي؛ إلّا أنّهم الأعلى صوتاً في الأوساط الاجتماعية الحوزوية وفي المساهمة في صناعة الرأي العام الحوزوي. وهي تتألف غالباً من الفضلاء في المستوى الحوزوي (أساتذة السطوح).

وبين طيات الحواشي؛ تعمل جماعات الضغط والمصالح على مد نفوذها للتأثير في الرأي العام الحوزوي. وهي جماعات ينطلق بعضها مما تعتقده فهماً عميقاً لمصالح الحوزة والمرجعية والواقع الشيعي، وتعتقد أنّها تقوم بواجبها الشرعي حفاظاً على مصالح المذهب، أي أنّ منطلقاتها ليست لمصالح ذاتية خاصة بالفعل، بينما تعمل أُخرى لمصالحها الخاصة، وإن غلّفتها بمسوغات ترتبط بالمصلحة العامة.

وتتحمل الحاشية المسؤولية عن سمعة المرجعية وصورتها أمام الناس والعالم؛ فهي بأفعالها وتصرفاتها يمكن أن تتسبب في تشويه صورة المرجعية والحوزة، أو أنّها تحافظ على نقاء صورة المرجعية ولمعانها؛ لأنّ هذه الطبقة هي الفاعلة ميدانياً والنشطة في إطار كيان المرجعية، وتكون عادة على تماس مباشر مع الناس ومع السياسيين والحكومات والتجار.

وثمة مشكلة أساسية تختلقها بعض الحواشي من الطبقتين الثانية والثالثة، وهي أنّها تحوِّل الخلاف في الرأي الفقهي والسياسي والاجتماعي والفكري بين المراجع إلى خلاف مقدس وخلاف في صلب الدين، وليس في فهمه. ولذلك؛ فإنّ الخلافات بين حواشي المراجع أو بينها وبين الآخرين من أفراد وجماعات ثقافية وسياسية واجتماعية ومالية؛ إنّما هي خلافات شخصية أو مصلحية، ولا تعبر بالضرورة عن مواقف المراجع أنفسهم؛ وإن حاولت بعض جماعات المصالح والضغط نسبتها إلى المراجع أنفسهم؛ للوصول إلى أهداف نفعية؛ بل لعل المرجع لا يعلم بها أساساً. ومن هذا المنطلق؛ يؤكد حكماء الحوزة دائماً على ضرورة عدم الخلط بين رؤية المرجع والخط المرجعي العام من جهة، وبين سلوك الحواشي أو خطاب جماعات المصالح من جهة أخرى. وبالتالي؛ فإنّ ضبط سلوك الحواشي والخطوط الخاصة وجماعات الضغط لا يتيسّـر إلّا بمأسسة الحوزة العلمية ومنظومة المرجعية.

وكما ذكرنا سابقاً، ينبغي عدم الخلط بين الحواشي وجماعات الضغط التابعة للمرجعيات من جهة، وجماعات الضغط والمصالح المرتبطة بأجندات معادية للحوزة وللواقع الشيعي من جهة أخرى. ولعل الخطاب الأخطر في الوقت الحاضر، الذي تروّج له جماعات المصالح والضغط المرتبطة بمخططات خارجية معادية، عمل فجوة بين المرجعية العامة والحوزة في النجف من جهة، والجمهورية الإسلامية في إيران وحوزة قم والحركات الإسلامية الشيعية في العراق ولبنان والبحرين وغيرها من جهة أُخرى، من خلال اختلاق الخلافات وتضخيم الوقائع وانتقاء التفاصيل، من أجل تحقيق أهداف مشتركة مع البلدان المتخاصمة مع الشيعة، وتحديداً أمريكا وبريطانيا وإسرائيل والسعودية. وفي مقدمة هذه الأهداف الاستفراد بالمرجعية النجفية والواقع الشيعي العراقي، وتمزيق النظام الاجتماعي الديني الشيعي ومكوناته من داخله.

قدسية الدين ومهنية الفقيه

هناك خلط متراكم في المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بموضوعات الدين، والتفقه فيه، ومرجعيته، مثل: الدين، الشريعة، العلم الديني، عالم الدين، الحاكم الشرعي، الفقيه، المفتي، المرجع الديني، ولي الأمر وغيرها، وصولاً إلى مفاهيم النظام الاجتماعي الديني الشيعي. ومنطلقات الخلط هو الجهل حيناً أو اللبس حيناً آخر أو التعمد حيناً ثالثاً.

وكمدخل للموضوع؛ ينبغي توضيح المراد من بعض هذه المصطلحات والمفاهيم؛ لرفع اللبس وتوجيه الحديث نحو مقاصده المعرفية في فرز المقدس عن اللا مقدس، والثابت عن المتغير، والملزِم عن غير الملزم؛ لأنّ خطورة الخلط لا تكمن في الجدل النظري في المفردات؛ بل في مخرجاته العملية تحديداً، والتي تقود إلى تقديس اللا مقدس وتصنيم المتغير والدعوة إلى الالتزام بغير الملزِم.

باختصار شديد: «الدين» هو المصادر المقدسة أو الأُصول الإلهية الثابتة، والمتمثلة في القرآن الكريم والصحيح من سنة رسول الله وآل بيته. أي أنّ أحكام الدين وقواعده العقدية والتشريعية القطعية اليقينية؛ هي الدين وخطابه حصراً. وهذه المصادر والأُصول هي الثابت والمقدس، وقدسيتها تعني أنّها ملزِمة للمسلم نظرياً وعملياً ([10]). أمّا «علوم الدين» فهي أدوات معرفية للوصول إلى قراءة للدين والكشف عن موقفه العقدي وتكليفه العملي. ومخرجات هذا الفهم ليست مقدسة، وإلزامها ليس مطلقاً؛ إلّا بمقدار ما تحتويه من أُصول تشـريعية توقيفية. وما عدا هذه الأُصول؛ فإنّ ما تبقى هي مخرجات تعبر عن فهم بشـري؛ كونها أحكاماً ظنية لا نصّ فيها، وتعتمد على الاجتهاد، وتستند إلى مدارك ليست قطعية الصدور أو ليست قطعية الدلالة. وبالتالي؛ فالعلم الديني أو العلم الشرعي هو كأيّ علم آخر في مخرجاته. ولكن هناك قدسية نسبية أو مكتسبة تتعلق بالإلزام؛ كإلزام فتوى الفقيه بالنسبة لمن يقلده، وإلزام الحكم الثانوي والحكم الولائي للحاكم الشرعي لمن يخضع له زماناً ومكاناً([11]).

و«عالم الدين» هو المتخصص في العلم الديني أو معارف الدين، ومقتضى التخصص أن لا يُطلق مصطلح عالم الدين على كل من يرتدي الزي الديني؛ بل يطلق ـ حصراً ـ على الفقيه المتكلم المحدِّث، أي الذي يجمع بين الاجتهاد والتخصص في علم العقيدة والإجازة الروائية؛ لأنّ مفهوم «العالِم» مفهوم مركب وعميق في دلالاته الاصطلاحية.

و«التفقّه» في الدين ورواية الحديث وطلب العلم الديني ليس مهنة بالأساس؛ بل هو واجب كفائي على المسلمين؛ لأنّ المهنة هدفها التكسّب وطلب الرزق، وهذا الهدف غير منظور في مهمة التفقّه وطلب العلم. كما لا يوجد في الإسلام رجال دين معيّنون وظيفياً، ولا كهنوت ولا «إكليروس» ولا حراس معبد؛ بل يؤكد الإسلام ـ كما جاء في النصوص القرآنية والحديثية ـ على أنّ المتخصصين في علومه هم فقهاء وعلماء ومجتهدون ومحدِّثون. وحتى لو كان تطور الحياة ومتطلبات العصر وتوسع العلوم الدينية وثقل اختصاصات عالم الدين الموزعة بين الدراسة والتدريس والتبليغ والخطابة والإفتاء والتأليف والتحقيق ورعاية النظام العام؛ قد فرضت بمجموعها تحوّل طلب العلم والتفقّه في الدين إلى سلك مهني بحاجة إلى تفرغ كامل؛ لكنها لا تحوِّل طالب العلم وعالم الدين إلى كاهن أو رجل دين؛ بل يبقى عنوانه طالباً أو أُستاذاً أو عالماً أو فقيهاً أو مجتهداً.

والفرق بين عالِم الدين الإسلامي والعالِم في العلوم الوضعية، بكل فروعها، هو أنّ عالم الدين يجمع بين التخصص العلمي والعمل الديني، وما يترتب على العمل الديني من مهام تبليغية وتحكيمية وحِسبية، ومرجعية اجتماعية وسياسية. في حين أنّ عالم القانون أو عالم الاجتماع أو عالم الفيزياء هو متخصص لا أكثر، ولا يترتب على مهنته وظائف اجتماعية ووظائف عامة أُخر.

أمّا الفرق بين عالم الدين الإسلامي والكهنة والرهبان والقساوسة في الأديان الأُخر؛ فهو في المهام أيضاً؛ إذ تقتصر مهمة رجل الدين المسيحي أو اليهودي أو البوذي أو الهندوسي على الجانب الديني المحض. بينما تجمع مهمة عالم الدين الإسلامي بين الجانبين الديني والدنيوي. وهذا الجمع يختص به العلماء الشيعة دون السنة أيضاً؛ لأنّ علماء الدين السنة هم ـ عادة ـ موظفون في الدولة، ويعيشون على رواتبهم الوظيفية، وأن كبيرهم هو مفتي الدولة أو شيخ الإسلام التابع لرئيس الدولة. فضلاً عن أنّ المنظومة الدينية السنية هي جزء لا يتجزأ من النظام السياسي للدولة، سواء كان هذا النظام إسلامياً أو علمانياً. على عكس علماء الشيعة، المستقلون بمنظومتهم الدينية الاجتماعية ومواردهم المالية وإدارة حوزاتهم. بل حتى لو كانت الدولة إسلامية ونظامها ديني ويرأسها فقيه ومرجع ديني، كما هو الحال مع إيران بعد العام 1979؛ فإنّ المنظومة الدينية الشيعية بقيت محتفظة باستقلاليتها الإدارية والمالية والعلمية.

كما يمارس علماء الدين الشيعة واجبات الحِسبة ورعاية النظام العام للمجتمع أو الدولة؛ انطلاقاً من مهامهم الدينية الأصلية، وليس بصفتهم الشخصية. أمّا رجال الأديان الأُخر أو العلماء من أهل السنة الذين يمارسون عملاً عاماً أو سياسياً؛ فإنّما هي ممارسة شخصية مدنية لا علاقة لها بمهامهم الدينية الأصلية. وهذا هو الفرق البنيوي الأساس بين النظام الاجتماعي الديني الشيعي والمنظومات الدينية الاجتماعية الأُخر في جميع الأديان والمذاهب.

وحيال هذا الفرق البنيوي بين عالم الدين الشيعي ورجل الدين في المذاهب والأديان الأُخر؛ يكمن خطأ دعاة العلمانية الشيعة الذين يطالبون بعدم تدخل الدين في الشأن العام، وعدم تدخل عالم الدين الشيعي في قضايا السياسة والدولة؛ إذ يقيس العلمانيون المنظومة الدينية الشيعية وفقهاءها بباقي المنظومات الدينية والمذهبية الأُخر ورجالها؛ فيقعون في أخطاء معرفية فادحة؛ بسبب عدم معرفتهم بخصوصية عمل الفقيه الشيعي ومهام المنظومة الدينية الشيعية المستندة إلى أُصول تشريعية ثابتة، ويتخيلون أنّ بالإمكان تحويل هذه المنظومة إلى منظومة شبيهة بالفاتيكان أو مشيخة الإسلام أو دار الإفتاء، وأن يكون الفقيه الشيعي كأيّ عالم دين سني أو قس مسيحي أو كاهن بوذي.

وحيال دعوات العلمانيين إلى أن يكتفي عالم الدين الشيعي بالعمل داخل المسجد فقط؛ لأنّه مكانه الطبيعي الوحيد؛ أُسوة بالقس الذي يحصـر عمله في الكنيسة؛ فهناك دعوات شيعية دينية متطرفة مضادة تقابلها، تضع كل من يرتدي الزي الديني الشيعي في مقام وهمي غير مقامه الحقيقي. وهنا يقع الواقع الشيعي بين الإفراط والتفريط في موضوع صلاحيات عالم الدين. لذلك؛ ينبغي التأكيد على أنّ المعني بصلاحيات الحاكم الشـرعي والولي على الفتوى والقضاء ورعاية الشأن العام؛ إنّما هو المجتهد العادل الكفء حصـراً، وليس كل علماء الدين أو كل من وضع العمامة على رأسه. وقد خلق تفريط الخصوم وإفراط الموالين، رؤى وهمية متعصبة بعيدة عن الأُصول الشـرعية، كرّستها الظروف الاجتماعية التراكمية القاسية التي عاشها الشيعة قرون طويلة، وفي مقدّمها وهْمُ قدسية الزي الديني وقدسية من يرتديه، وأنّ من يرتديه هو ـ بالضرورة ـ مشـروع زعيم ديني وقائد اجتماعي، وأنّه الوحيد المخوّل بممارسة العمل التبليغي والتربوي الديني، وأنّ الزي الديني مدعاة للتمايز الديني والاجتماعي.

والحال أنّ الزي الديني لا يخلق عالماً دينياً، ولا يخلق إنساناً عادلاً ومتقياً وزاهداً ومستقيماً وواعياً؛ فهناك منحرفون فكراً وسلوكاً يرتدون الزي الديني؛ بل يدّعي بعضهم الاجتهاد والمرجعية. وليس الزي الديني أكثر من زي اختصاص؛ كأيّ اختصاص آخر، وهو ما يفرض احترام هذا الاختصاص من قبل غير المتخصص. وكما يجب احترام اختصاص الطبيب والمهندس وعالم الاقتصاد، والاستماع إلى توجيهاتهم والالتزام بها في حدود اختصاصهم؛ فإنّ الزي الديني كذلك؛ يفرض احترام تخصص من يرتديه، والالتزام بتوجيهاته في حدود اختصاصه.

وكما أنّ من يرتدي الزي الديني ليس بالضرورة أن يكون عالم دين؛ فليس بالضرورة أيضاً أن يكون كل عالم دين عادلاً ومتّقياً وكفءً؛ بل يمكن لأيّ غير متدين وأيّ علماني وأيّ غير مسلم أن يكون مجتهداً وعالماً متخصصاً في الدين الإسلامي، أي يمتلك القدرة على استنباط الحكم الشرعي من مصادره. وهناك مجتهدون ظلوا يرتدون الكوفية أو البدلة الحديثة؛ لأنّ الاجتهاد مرتبة علمية وليس مرتبة دينية، مثلها مثل درجة الدكتوراه والأُستاذية. لكن مرتبة الاجتهاد تتحول إلى رتبة دينية تؤهل حاملها لممارسة القيادة الاجتماعية الدينية، إذا توافرت فيه الشروط والمعايير المتعارفة، كالعدالة والتقوى وطهارة المولد والذكورة والإيمان (بمعناه الخاص، أي التشيع) وغيرها.

ومهما بلغ الفقيه من العلمية والتقوى والكفاءة؛ فإنّه لا يكون وكيلاً عن الله وممثلاً للدين ومعصوماً، أو يكون خطابه وسلوكه هو الدين ذاته؛ بل إنّه يمثل امتداداً موضوعياً لمنصب إمامة المعصوم، وإنه معين تعييناً نوعياً من الإمام، ولا يمتلك أية صلاحيات إلّا في حدود ما شرعه له المعصوم، كما في حديث «التحكيم» وحديث «التقليد» وحديث «الرجوع» وحديث «ورثة الأنبياء»([12])، وهو ما يجعله ـ على المستوى الشخصي ـ ليس مقدساً. ولذلك؛ إذا أخطأ عالم الدين أو أخطأت مجموعة من علماء الدين؛ فإنّما هي أخطاء بشرية، وليس خطأ الدين أو خطأ المنظومة الدينية. وفي هذا المجال يلعب نوعان من الناس تزييفاً خطيراً:

الأول: يرتدي زي علماء الدين، ويوحي للناس بأنّه يمثل الدين وأنّ كلامه هو كلام الدين؛ من أجل أن يغشهم ويبتزهم.

والثاني: خصم للدين، ويوحي أيضاً بأنّ كل من يرتدي زي علماء الدين يمثل الدين، وأنّ ما يفعله هو تعبير عن فعل ديني؛ ليحقق الخصم من خلال ذلك هدف تشويه قدسية الدين وضرب النظام الاجتماعي الديني الشيعي.

وينعكس هذا الأمر على موضوع الطاعة لعالم الدين، وهي طاعة نسبية خاصة بالفقيه العادل الجامع لشرائط التقليد، والمرجع الأعلى المتصدّي، والولي الفقيه الحاكم، وهي مناصب تجب طاعتها في حدود مساحة الولاية التي شرّع الرسول والإمام المعصوم صلاحياتها ووظائفها.

والحقيقة أن العمامة الشيعية الممثِلة للمذهب وللمكون الشيعي؛ أنّما عمامة المرجعية الدينية العليا حصراً، وهي الوحيدة التي تتمتع إرشاداتها وأحكامها العامة بالإلزام العام؛ كونها قائدة النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وأن تجاوز هذه الإرشادات والأحكام العامة، حتى من قبل باقي المراجع والفقهاء؛ يعني تشتيت قرار النظام برمته، وتعريضه للتمزق. أما باقي العمامات المرجعية والعلمية والخطابية؛ فهي مقدّرة ومحترمة في الوسط الشيعي، طالما تؤدي دورها الديني والاجتماعي بشكل صحيح، كما حددته الأصول الشرعية والعقلائية، لكن أحكامها وإرشاداتها العامة غير ملزمة، بل من الطبيعي ألّا تكون لها أية أحكام وإرشادات عامة لا تتفق مع رأي المرجع الأعلى وخطه العام، لأن ذلك يتسبب في مفاسد اجتماعية، أبسطها تمزيق المجتمع الشيعي وخلق بؤر فتنوية داخله. ووصولاً الى العمامة السياسية؛ فهي زي لا أكثر، حالها حال (العقال) و(البنطلون)، وأقصد بها عمامة المشتغلين في العمل السياسي والتنافس السياسي، وهي مقدّرة ومحترمة أيضاً، طالما تعمل على شد السياسة بالدين، والاستفادة من الموقع السياسي لخدمة الدين.

وشأن العمامة، بلونيها الأبيض والأسود، شأن أي زي مهني أو رمزي، ولا تعطي لمن يعتمرها أية قدسية أو تميّز أو جاهة، بل أن المحتوى العلمي والمعرفي والعملي والسلوكي هو معيار الاتّباع والتقدير والتبجيل، وهو ما يلخصه الموروث الديني بالفقاهة والعدالة. وبالتالي؛ هناك من يُحسن لرمزية الزي الديني ويعطيها حقها في الاتّباع والإجلال، وهناك من يسيء لها، ويجعلها سبباً في ازدراء الدين والابتعاد عنه، خاصة من الذين يعدون من يرتدي العمامة عنواناً للدين ورمزاً له، وهو فهم خاطئ للزي الديني؛ لأن الذي يمثل التشيع هي العقيدة والشريعة من جهة، والتطبيق والسلوك الحقيقي من جهة أخرى، بصرف النظر عن الزي ولون العمامة. أما على مستوى الواقع؛ فإن الذي يمثله هي الرمزية العليا التي تمثل العقيدة والشريعة وسلوكهما.

ولعل أكثر العمائم التي تسيء للتشيع، هي التي تنشر الخرافة والبدع بين الناس، من خلال الضعاف والمرسلات والإسرائيليات؛ بذريعة تقوية المذهب ورموز الدين، والعمامة التي تنشر الشكوك والطعون في الثوابت الدينية؛ عبر الخطاب الشعبوي الاستعراضي ووسائل الدعاية؛ بذريعة تنقية التراث، إضافة الى العمامة التي تستغل الخطاب الديني لتحقيق أهداف سياسية وسلطوية شخصية وفئوية؛ بذريعة حماية الدين والدولة.

أما العمائم التي تحسن الى التشيع؛ فهي التي تحارب الخرافة والبدع، وتعمل على تنقية التراث، وتجيب على أسئلة الواقع ومتغيراته، من خلال الاجتهاد المنسجم مع حركة العصر، والتجديد اللصيق بالثوابت، وعبر العمل العلمي الرصين الهادئ، بعيداً عن الخطاب الشعبوي ووسائل التهريج، وكذلك العمامة التي يكون سلوكها الفردي والجماعي انعكاساً لعلمها، ولتعاليم الدين ومقاصده وأخلاقياته وإنسانيتة، والعمامة التي تحمي الدين والدولة والمجتمع والإنسان، عبر استثمار قوة الدولة والدين ومقاصدهما.

النتيجة: إنّ الزي الديني وطلب العلم وبلوغ درجة الاجتهاد لا تمنح بمجموعها القدسية لصاحبها، ولا التميّز الديني والاجتماعي، ولا المرجعية الدينية، ولا الطاعة؛ بل إنّ القدسية هي للفتوى والحكم الشـرعي وفق شروطهما الموضوعية. كما لا يستطيع أي مخلوق أن يدّعي أنّه يمثل الدين؛ بل إنّ من يمثل الدين هي المصادر والأُصول التشريعية المقدسة، وإنّ تمثيل مرجع الدين للدين وللشريعة إنّما هو تمثيل نسبي، ينحصر في الكشف عن موقف المكلف تجاه الدين، وإنّ العدالة والتقوى والكفاءة هي شروط أساسية لكي يكون المجتهد مرجعاً دينياً، وإنّ شرط التصدّي يضاف إلى الشـروط الآنفة؛ لكي تمنح بمجموعها من يتمتع بها صلاحيات الولاية على الشأن العام، وهي التي تفرض على المؤمنين طاعته بقوة الفتوى والحكم الشرعي، أو بقوة القانون في حالة الولي الفقيه الحاكم. وبكلمة أُخرى؛ فإنّ الطاعة والقدسية في النظام الاجتماعي الديني الشيعي، هما عمليتان معقدتان وصعبتا المنال، ولا يستطيع أي عالم دين أن يتمتع بهما؛ سوى فقيه واحد أو اثنين في زمان واحد، هما المرجع الأعلى المتصدّي للشأن العام، والولي الفقيه الحاكم.

 

([1]) أُنظر: أحمد الحسيني ‌الأشكوري، «الإمام الحكيم السيد محسن الطباطبائي». صفاء الدين تبرائيان، «سيد محسن حکيم: إحياگر حوزه نجف». السيد محمد باقر الحكيم، «مرجعية الإمام الحكيم: نظرة تحليلية شاملة». عدنان إبراهيم السراج، «الإمام محسن ‌الحكيم». محمد هادي الأسدي، «الإمام الحكيم». هاشم فياض ‌الحسيني، «الإمام المجاهد السيد محسن الحكيم». علي المؤمن، «سنوات الجمر»، ص53 ـ 131.

([2]) أُنظر: محمد رضا القاموسي (إعداد وتعليق)، «من أوراق الشيخ محمد رضا المظفر 1904 ـ 1964م». الشيخ محمد مهدي الآصفي، «الشيخ محمد رضا المظفر وتطور الحركة الإصلاحية». د. علاء حسن مردان اللامي، «تجربة الشيخ محمد رضا المظفر في الإصلاح الديني».

http://alhudamissan. com/index.

php/2013ـ03ـ05ـ21ـ25ـ16/2013ـ03ـ05ـ21ـ25ـ11/5388ـ2019ـ01ـ09ـ13ـ39ـ41. Html.

علي المؤمن، «سنوات الجمر»، ص34 ـ 76.

([3]) أُنظر: السيد كاظم الحائري، مقدمة كتاب «مباحث الأُصول»، و«حياة وأفكار الشهيد الصدر». السيد محمد الحسيني، «الإمام السيد محمد باقر الصدر: حياة حافلة وفكر خلاق». أحمد أبو زيد العاملي، «السيد محمد باقر الصدر: السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق». نخبة من الباحثين، «محمد باقر الصدر: دراسات في حياته وفكره». علي المؤمن، «سنوات الجمر».

([4]) علي المؤمن، «جدليات الدعوة»، ص178 – 186.

([5]) أنظر للتفصيل حول الأعلمية: علي المؤمن، من كتاب الاجتماع الديني الشيعي، الفصل السادس.

([6]) أُنظر: الفصل السادس من هذا کتاب الاجتماع الديني الشيعي.

([7]) «الشيرازية» هو الخط الديني الخاص المنسوب إلى آية الله السيد محمد الشيرازي. أمّا مفردة «الشيرازي»، فهو لقب عام، ويطلق على المنتسبين إلى مدينة شيراز الإيرانية، وهي المدينة التي أنجبت فقهاء ومراجع شيعة كبار خلال القرنين التاسع عشـر والعشـرين الميلاديين، أبرزهم: الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي، والشيخ محمد تقي الشيرازي، والسيد عبد الهادي الشيرازي، والسيد عبد الله الشيرازي. وليس بالضرورة أن يكون الملقبون بالشيرازي من الأُسرة نفسها أو أنّهم أقارب، أو من المدرسة الفقهية نفسها، بل هو مجرد انتساب إلى مدينة شيراز.

([8]) علي المؤمن، جدليات الدعوة، ص178 ـ 186.

([9]) أُنظر: السيد كاظم الحائري، مقدمة تقريرات: «مباحث الأُصول للسيد محمد باقر الصدر»، ج1.

([10]) أُنظر: علي المؤمن، الإسلام والتجديد، ص14 ـ 32.

([11]) علي المؤمن، الإسلام والتجديد، ص14 ـ 32.

([12]) راجع الفصل الثالث من هذا الکتاب للتعرف على مصادر الأحاديث ودلالاتها.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment