المثقف الاسلامي ووعي التراث

Last Updated: 2024/06/18By

المثقف الإسلامي ووعي التراث

(كلمة تحرير مجلة التوحيد، 1993)

بقلم: علي المؤمن

رئيس التحرير

 

اتهامات متناقضان يواجهان المثقف الإسلامي على صعيد الوعي، فالخطاب العلماني يتهمه بأنه تراثي عقلاً وخطاباً وحركة، ويعيش الماضي بكل تفاصيله، في حين يتهمه آخرون بأنه عصري وسطحي عقلاً وخطاباً وحركة، ويعيش قطيعة مع أمسه.

وبالطبع فإن لكل من الاتجاهين (العلماني والآخر) منطلقاته، فهما ـ وإن أخطأ في تشخيصهما ـ إلاّ أنّهما ينطلقا من فراغ على العموم، ولعل مردَّ ذلك إلى طبيعة تعامل أكثر المثقفين الإسلاميين مع التراث، وهو تعامل يشوبه الارتباك وعدم الوضوح في الرؤية، ومعادلته العلاقة الهامشية وغير المنهجية. فتكون النتيجة إما إسلامياً جامداً على التراث دون وعي حقيقي بالعصر، أو إسلامياً (عصرياً) يعاني نوعاً من الانفلات الفكري والثقافي. وهذا المستوى من العلاقة هو أحد أهم أسباب أزمة المثقف الإسلامي في هذه المرحلة. في حين أن بعض المثقفين الإسلاميين الذين تعاملوا بعمق ومنهجية مع التراث، استطاعوا أن يعيشوا توازناً رائعاً في أساليب تفكيرهم ورؤيتهم، وينتجوا خطاباً إسلامياً واعياً وأصيلاً.

إن الحديث عن هذه الإشكالية التي يعاني منها واقعنا الإسلامي، هو استمرار لما سبق (كلمتي التوحيد السابقتين)، فهذه الإشكالية وإن كانت مستقلة في كثير من أبعادها، إلاّ أنها ـ في الحقيقة ـ جزء من إشكالية كبرى، تتمثل في وعي التراث والعصر، وطبيعة العلاقة بهما، بالنسبة للفقيه والمفكر الإسلامي، والأدوار الاجتماعية والثقافية لكل منهم.

* * *

المراد من التراث هنا هو التراث الإسلامي، أي العلوم والمعارف الأساسية التي تدخل في فهم «النص المقدّس»، وتبنى على أساسها المعتقدات والنظريات والأحكام الشرعية. وهي العلوم التي أسسها السلف الصالح، ثم تبلورت وأخذت شكلها الحالي عبر مئات السنين من البحث والتأمل والتصنيف، وتخصيصاً علوم القرآن الكريم وعلوم الحديث الشريف. وعلى أساس من هذه العلوم تبنى العقائد والنظريات والأحكام، التي يستوعبها علمان كبيران، هما: الكلام (العقيدة) والفقه (الشريعة). إضافة إلى علوم أخرى مساعدة، كعلم أصول الفقه وعلم المنطق وعلوم اللغة العربية. وهذه العلوم هي المساحة القابلة للتحوّل والتجديد. في حين أن النص المقدس (القرآن الكريم والصحيح من السنة الشريفة) ليس جزءاً من التراث، لأن النص هو الثابت بالمطلق في الماضي والحاضر والمستقبل، والذي لا يخضع لظروف الزمان والمكان. ويتضح من خلال ذلك أن التراث هو قوام حضارتنا في الماضي، وأساس هويتنا في الحاضر، ومنطلق نهوضنا المستقبلي.

والتعامل الانفعالي الهامشي لمعظم المثقفين الإسلاميين مع هذا التراث، ظهرت نتائجه في خطابهم الذي يشكل جزءاً أساسياً من الخطاب الإسلامي الحديث، وظهرت نتائجه أيضاً في فكرهم الحركي، وأخيراً في الواقع الإسلامي المعاصر عموماً، مسبباً في انحراف بعضهم فكراً أو سلوكاً،وبروز القلق العقيدي والفكري لدى آخرين، أو إلغاء الكثير منهم من قبل أصحاب الاختصاص.

وعدم اهتمام المثقف الإسلامي بتراثه، بل والقطيعة معه ـ أحياناً ـ عزّزه الانفعال في مواجهة الخطاب العلماني والغربي الذي يتهمه بـ(السلفية) و(الماضوية) و(الأصولية) و(اللاعقلانية) و(الجمود) و(التخلف)، وبكلمة واحدة: يتهمه بمقاطعة العصر وثقافاته وتحولاته، ورفض الواقع وحيثياته، مما تسبب في لهاث بعضهم وراء تشرب معاني كلمة (المثقف) لدى المتغربين والعلمانيين فكانت النتيجة أن أصبحت أشهر المناهج والنظريات والأسماء المعاصرة، وآخر المصطلحات الوافدة والهموم اليومية، والمشكلات الثقافية الآنية، هي الشغل الشاغل لهذا البعض، بقصد أو بدونه، بالطبع مع قدر من المعالجات الإسلامية.

بل يحاول مثقفون إسلاميون آخرون (كتّاب أو صحفيون أو أكاديميون أو سياسيون) التأسيس لنظريات إسلامية في مجالات تخصصية، وتحديد موقف الشريعة منها، ووضع معالجات إسلامية لقضايا وإشكاليات فكرية وواقعية ملحّة. في الوقت الذي تستدعي هذه الحالات وعياً منهجياً مستوعباً للتراث الإسلامي، يفتقر إليه المثقف المسلم غالباً.

* * *

اقتران حركة المثقف الإسلامي بالعلم وبوعي التراث الإسلامي، ضرورة ملحة بكل المعايير. يقول الرسول الأعظم(ص): «من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح». كما يقول حفيده الإمام جعفر الصادق(ع): «لا يقبل اللَّه عملاً إلا بمعرفة». والعلم والمعرفة المقترنان بالعمل والحركة والفعل، كما ورد في الحديثين الشريفين، ليسا مطلق العلم والمعرفة، كما يتبيّن من أحاديث أخرى، بل هما العلم الديني والمعرفة الدينية تخصيصاً، كما يشير إلى ذلك ما يروى عن الرسول(ص): «إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، وما خلاهن فهو فضل». وهذا المبدأ الشرعي (وجوب اقتران حركة المثقف الإسلامي بالعلم الديني) له معايير مصداقية عديدة مستلة من الواقع، وهي تمثل ضرورات لا مناص منها أبداً: ـ الاستقامة على الدين وعدم الانحراف عنه. يقول الإمام علي(ع): «لا ترتابوا فتشكّوا، ولا تشكّوا فتكّفروا… وإن من الحق أن تفقّهوا». فالارتياب هو مدخل الشك والانحراف والكفر، وبكلمة أخرى الابتعاد عن الحق والحقيقة، في حين أن التفقّه هو الموصل إلى الحقيقة. وغير بعيد عن أحد، المصير المؤلم الذي انتهت إليه بعض الجماعات ذات البدايات والمنطلقات الإسلامية. فقد كان من أبرز أسباب انحرافها، ضعف الثقافة التراثية والعمق الإسلامي العلمي لمؤسسيها وقادتها، ولا سيما الشباب منهم، إذ قرأوا الإسلام قراءة سطحية هامشية، ومن خلال بعض الكتابات الثقافية والفكرية المعاصرة السائدة، ثم أسسوا ونظّروا لعملهم في ضوئها. وكانت النتائج أن وضعوا أنفسهم في أقصى يسار الإسلام أو أقصى يمينه، فتطرّفوا في الانفتاح على العصر والآخر وأفكارهما وسلوكياتهما، وتشرّبوا منها، أو تطرفوا في الانغلاق على الواقع والعالم، وتحنَّطوا في أطر الماضي. ومن النماذج في هذا المجال الجماعات التي بدأت إسلامية نقية، أو كان أفرادها أنقياء قبل التأسيس للجماعة، ثم انتهوا إلى إسلاميين ـ ماركسيين، أو إسلاميين ـ قوميين، أو إسلاميين ـ ليبراليين، أو إسلاميين ـ سلفيين.

وقد لفت نظري وأنا أقرأ مذكرات أحد قادة الجمهورية الإسلامية، وصفه لعناصر إحدى الجماعات التي انتهى بها المطاف إلى الانحراف الشديد، بل وإلى ارتداد وكفر قسم منهم، إذ عاش معهم زنزانة واحدة في عهد بهلوي، وعرفهم عن قرب، فكان يمتدح فيهم الحماس والإخلاص والنقاء، وهم شباب في العشرين من عمرهم، معظمهم جامعيون أو خريجو جامعات، ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ كان يخشى كثيراً من ضعف الثقافة الدينية لهؤلاء، وانفتاحهم على الثقافة العصرية دون حصانة علمية وثقافة إسلامية أصيلة، فكانوا ـ مثلاً ـ يجتهدون في أمور عقائدية تخصصية، وينظِّرون لقضايا فكرية ولحركتهم في الواقع ولعلاقاتهم بالآخرين، ويعطون لكل ذلك عناوين إسلامية، لكنه ـ كما يقول ـ اجتهاد وتنظير مفتقر إلى أبسط المعايير العلمية الإسلامية والقواعد الشرعية، ومليء بالإشكالات والانحرافات. وأبرز أسباب ذلك ـ حسب ما يقول ـ عدم اطلاعهم المنهجي حتى على واحد من النصوص الإسلامية التراثية والعلمية. بل وتبلغ بهم الجرأة أن يصدروا فتاوى في مسائل فقهية. فكانت نهايتهم كما ورد عن رسول اللَّه(ص): «من أفتى الناس بغير علم وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك». والفتوى هنا تشتمل على كل المجالات الشرعية الخاصة والعامة، الفردية والاجتماعية.

ـ الانسجام مع الموقع والدور، فالموقع التغييري والتبليغي الذي يتبوأه المثقف الإسلامي في المجتمع، ودوره الطليعي في حركة الأمة، يحتِّمان عليه أن يكون بمستوى متطلباتهما العلمية والثقافية والاجتماعية.

ـ مواجهة تحديات العصر وإشكالياته الكبرى، على مستوى الفكر والثقافة، وصولاً إلى بناء خطاب إسلامي أصيل ومعاصر في الوقت نفسه، يجيب على تساؤلات الإنسان الجديد، ويلبي حاجاته الثقافية. فبدون الانطلاق من تراثنا الإسلامي العظيم، بعد استيعابه واستنطاقه، لا يمكن بناء ذلك الخطاب بناءً متكاملاً ومشتملاً على نظريات متكاملة في الفكر والحركة، ومعالجات لكل إشكاليات الفكر (الآخر) وشبهاته، وفي مقدمتها المعاصرة والتحديث والتنمية والمشروع الحضاري. فقد يطالع أحد المثقفين الإسلاميين ـ مثلاً ـ تفسيراً لآية قرآنية معينة في كتاب ثقافي، فإنه إن وجد هذا التفسير قريباً إلى ذهنه وقناعته ونفسه، فربما يؤسس عليه حقيقة أو رأياً عقائدياً أو فكرياً معيناً، دون مراجعة للمصادر الأساسية في التفسير، ودون أن يكون على اطلاع بالعلوم القرآنية الأخرى وقواعدها وأصولها. وهكذا الأمر بالنسبة للحديث الشريف.

ـ مواجهة محاولات الإلغاء، فهناك من المتخصصين من يرى أن المثقف ممنوع عليه الخوض في الموضوعات الإسلامية التي فيها نوع من التخصص، بل وحتى الاقتراب منها أو الكتابة والحديث فيها. وهؤلاء ينطلقون من حكم مسبّق على المثقف، لا يخلو من الموضوعية. والمسوِّغ هو ضعف الوعي التراثي لدى أكثر مثقفينا. ومن هنا فإن القراءة الواعية المتأنية في التراث وامتلاك أدواته، ستمكِّن المثقف من تجاوز تلك الحواجز، والانطلاق في آفاق المعرفة الإسلامية، دون أية عقبة موضوعية تلغي حركته وتصادر رأيه.

* * *

نفهم من خلال ما سبق، أن الضرورة لا تكمن في فهم الأفكار الإسلامية العامة أو الأحكام الشرعية التي يحتاجها المثقف الإسلامي، فهذا المقدار لابد منه لكل مكلّف، بل الضرورة هي في تفقّه المثقف الإسلامي. ولكن في الوقت نفسه لا يعني تفقه المثقف الإسلامي أو وعيه للتراث السعي لبلوغ مستوى القابلية على الاستنباط والتخصص في العلوم الإسلامية، أو الانخراط في سلك الدراسات الشرعية وارتداء زيه، رغم أنه طموح مشروع وغير مستحيل. كما لا يعني أن يعيش المثقف التراث بكل تفاصيله، جامداً على نصوصه وغارقاً في شكلياته، بل الأصل هو قراءة مكوناته قراءة منهجية، واستيعابها إلى مستوى الفهم الجيد والقابلية على التحاور والاستنطاق. مثلاً معرفة آلية الاستفادة من الآية القرآنية، من خلال فهم علوم القرآن، ومعرفة المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ. أو معرفة كيفية الاستشهاد بالحديث الشريف، واعتماده في فكرة أو موقف، ولا سيما في القضايا التي تشتمل على أبعاد فقهية وعقائدية تبنى على القطع، والتفريق بين الحديث المسند والمتواتر والضعيف، ومستويات اعتماد خبر الواحد وغيرها. أو تقرير الموقف العقائدي من قضية معينة، فكرية أو سياسية أو سلوكية. فهذه المحاور وغيرها تستدعي استيعاب النصوص العلمية المثبتة في كتب علوم القرآن والحديث والكلام والرجال والفقه وأصول الفقه والمنطق واللغة العربية، إضافة إلى السيرة والتاريخ والفلسفة والأخلاق وغيرها.

يبقى أن هناك عقبة تواجه المثقف الإسلامي في هذا المجال، وهي صعوبة فهم النصوص التراثية، بل وصعوبة فهم حتى النصوص الجديدة ـ أحياناً ـ والتي تكتب خصيصاً لطلبة العلوم الدينية في الحوزات العلمية، وخاصة في علم الدراية وأصول الفقه والمنطق والفلسفة وأبواب الإلهيات في علم الكلام. وحل هذه المشكلة يقع على عاتق العلماء المتخصصين، ويتلخص في كتابة مناهج جديدة بلغة حديثة وبأساليب تتلاءم والمستوى العلمي العام. وهناك محاولات رائدة في هذا المجال، يمكن الاقتداء بها، كمناهج منتدى النشر وكلية الفقه في النجف الأشرف، وخاصة ما كتبه العلامة الشيخ محمد رضا المظفر، ومناهج العلوم الشرعية في جامعة الأزهر، وكتابات الإمام الشهيد محمد باقر الصدر، والعلامة الشهيد مرتضى المطهري، وما صدر عن المجمع العلمي للعلامة مرتضى العسكري، وجامعة الإمام الصادق في طهران، وجامعتي المفيد والصدوق في قم، والكتب التي صدرت أخيراً بقلم الدكتور عبد الهادي الفضلي والعلامة الشيخ جعفر السبحاني.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment