القواعد الشرعية الإسلامية وقواعد القانون الوضعي

Last Updated: 2024/05/30By

قواعد التشريع بين الفقه والقانون

د. علي المؤمن

 

القاعدة الشرعية الإسلامية

تعرّف القاعدة بأنّها ((قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها))([1])، وبتعريف أشمل أنّها ((قضية كلية من حيث اشتمالها بالقوة على أحكام جزئيات موضوعها))([2]). وبذلك فالقاعدة هي الأساس؛ لأنّ جزئياتها تبنى عليها، وهي الأصل؛ لأنّ جزئياتها تتفرع عنها، وهي المعيار الذي يقاس به صدق الجزئيات من حيث انطباق المفهوم عليه أو عدم انطباقه. والغاية من تطبيق القاعدة على جزئياتها، معرفة أحكام تلك الجزئيات. ومن مرادفات مصطلح القاعدة أيضاً: الضابط والمبدأ([3]). وينطبق المصطلح على مختلف أنواع القواعد، كالقواعد الشرعية والقواعد اللغوية والقواعد السلوكية والقواعد القانونية وغيرها.

أمّا القاعدة الشرعية في الاصطلاح الإسلامي؛ فهي الضابطة الكلية المستمدة من أُصول الشريعة([4])التي تستفاد من القرآن والسنة والمصادر الأُخر المعتبرة شرعاً، ومنها العقل، والتي تنظم سلوك الأفراد وعلاقاتهم في المجتمع([5]).

والقاعدة الشرعية ليست الحكم الشرعي ولا مصدراً له، بل هي كاشفة عن الحكم الشرعي([6])، على اعتبار أنّ الحكم الشرعي يمثل ((المحدد الشرعي لصفة الواقعة الجزئية))([7])؛ فتكون القاعدة هي الأصل الكلي ويكون الحكم المصداق الجزئي.

ويذهب بعض الباحثين من خلال تعريف القاعدة الشرعية إلى أنّها إحدى صيغ الحكم الشرعي، فهي مرادفة له؛ فقال بأنّها: ((كلمة من الله في صورة خطاب لتنظيم الأفعال الإنسانية والأقوال وحتى الأفكار والنيات))([8]). ويؤيد هذا التعريف القاضي اللبناني الدكتور سمير عاليه في وصفه الحكم الشرعي بقوله: ((وأمّا الحكم الشرعي فهو خطاب الشارع المفيد فائدة شرعية أو القاعدة التي نص عليها الشرع الإسلامي في مسألة من المسائل))([9]).

ويميز الفقيه الإسلامي السعودي الدكتور عبد الهادي الفضلي بين التعريف القانوني للحكم الشرعي وبين التعريف الفقهي له؛ فيذهب إلى أنّ كلمة (قاعدة) في التعريفات القانونية للحكم الشرعي تعني الحكم؛ فيكون الحكم الشرعي هو خطاب الشارع في الاصطلاح الفقهي، ويكون الحكم الشرعي هو القاعدة الشرعية في الاصطلاح القانوني([10]).

ويقابل مصطلح القاعدة الشرعية في الفقه؛ القاعدة القانونية أو المبادئ القانونية في القانون الوضعي. وعبّر علماء القانون عن المبدأ القانوني بأنّه ما يصلح لتطبيقات لا حدّ لها، بينما القاعدة القانونية الفردية هي ما وضع لعدد معين من الأعمال أو الوقائع؛ فيكون المبدأ بذلك أعم من القاعدة الفردية، ويقوم بدور هام عند تفسير القاعدة الغامضة. ويعد المبدأ من عناصر المرونة في التشريع([11]). ووفقاً لذلك؛ يمكن مقابلة القاعدة القانونية بالقاعدة الفقهية، والمبدأ القانوني بالقاعدة الأُصولية. وعموماً فإنّ القواعد؛ سواء كانت شرعية أم قانونية؛ هي أُصول أو أُسس للتشريع، إسلامياً في الشريعة، ووضعياً في القانون الأرضي. وقد اهتمت الشريعة الإسلامية اهتماماً بالغاً بتقعيد مبادئها؛ لتسهيل عملية الكشف عن الحكم الشرعي والاستدلال عليه.

وفضلاً عن دور القاعدة الشرعية في الكشف عن الحكم الشرعي؛ فإنّ لها أهمية في حركة التنظير الفقهي([12])، أي وضع النظريات الفقهية في موضوع معين، كنظرية العقد، ونظرية الربا، ونظرية الملكية، ونظرية الحق، ونظرية الضرورة وغيرها، وهي تعبير عما يسميه الباحث الإسلامي العراقي الدكتور عبد الكريم زيدان بالنظام القانوني في الفقه الإسلامي([13]). وتقوم النظرية على مجموعة من القواعد والأحكام، فتكون بذلك قاعدة القواعد، بل إنّ بعض الباحثين جمع بين دلالة القاعدة ودلالة النظرية؛ فوصف النظريات بأنّها كبرى القواعد الفقهية، ومثّل على ذلك بنظرية الضرر، فذهب بأنّها تقوم على جملة من القواعد، أبرزها: (لا ضرر ولا ضرار)، (الضرر لا يُزال بمثله)، (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف) وغيرها([14]).

ويوجز الفقيه الإسلامي التونسي الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة أهم مساحات الاشتراك والافتراق بين القاعدة والنظرية، استناداً إلى آراء جملة من أهم الباحثين في الفقه الإسلامي، فيقول بأنّ النظرية الفقهية والقاعدة الفقهية يشتركان في اشتمال كل منهما على مسائل من أبواب متفرقة ويختلفان في ثلاثة وجوه، وهي أنّ النظرية أوسع نطاقاً من القاعدة، فتندرج القاعدة تحت النظرية الكبرى، فقاعدة (الأصل في العقود رضا المتعاقدين)؛ تمثل ضابطاً خاصاً في نظرية العقد. والقاعدة تتضمن حكماً ينتقل إلى الفروع المندرجة تحتها؛ في حين لا تحمل النظرية حكماً فقهياً. كما أنّ القاعدة لا تشتمل ـ غالباً ـ على شروط وأركان، بخلاف النظرية؛ فإنّها لا تكون نظرية بدون ذلك([15]). ونخلص إلى القول في موضوع النظرية بأنّ هناك نظريات فقهية موضوعية، ترتبط بمجال من مجالات المعرفة، كالسياسة والاقتصاد والإعلام والحقوق وغيرها، وهناك نظريات فقهية قواعدية ترتبط بموضوع محدد، ويمثل كل منها نظاماً حقوقياً وفقاً لتوصيف القانون الوضعي. ومن مجموعة من الأحكام الاستدلالية والقواعد تتكون النظريات الفقهية القواعدية، ومن مجموعة من الأخيرة تتألف النظريات الفقهية الموضوعية.

ويقسّم الباحث الإسلامي المصري الدكتور جمال الدين عطية القواعد الشرعية من حيث التجريد والشمول إلى أربعة أنواع، هي: القواعد الكلية الأصلية، القواعد المشتركة بين أبواب فقهية من أقسام مختلفة، القواعد المشتركة بين أبواب الفقه من قسم واحد، القواعد الخاصة بباب من أبواب الفقه([16]). وهو تقسيم يقتصر على نوع واحد فقط من القواعد الشرعية هي القواعد الفقهية. ولكن الدكتور عطية يعود ويقسّم القواعد على أساس نوعية القواعد وموضوعيتها إلى قواعد أُصولية، كلامية، لغوية وفقهية([17]). وهذا التقسيم يستبعد القواعد الأخلاقية، ويدخل القواعد اللغوية ضمن القواعد الشرعية.

أمّا القاضي اللبناني الدكتور سمير عاليه فإنّه يقسّم القواعد الشرعية إلى ثلاث فئات ـ كما يسمّيها ـ هي: قواعد العقيدة الدينية، وتتناول ما يتصل بذات الله تعالى وصفاته، والإيمان به وبرسله واليوم الآخر، ومحل دراستها علم الكلام؛ والقواعد الأخلاقية، وتتناول تهذيب النفس وإصلاحها وضرورة تمسك المسلم بالمثل العليا والفضائل، ومحل دراستها علم الأخلاق؛ والقواعد العملية، وتتناول العبادات والمعاملات، والتي سميت فيما بعد بالفقه، ومحل دراستها علم الفقه. ويعبَّر عن هذه القواعد بالأحكام([18]). ويرد على هذا التقسيم أنّه لم يتطرق إلى القواعد الأُصولية، وقصر قواعد التشريع على القواعد الفقهية، كما أنّه عدّ الأحكام هي القواعد ذاتها. وقد أشرنا إلى الفرق بينهما فيما سبق.

وهناك تقسيم آخر يتبناه الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة في إطار مشروع كبير قام به؛ بهدف حصر القواعد الشرعية من مختلف المذاهب الإسلامية، ويتمثل في تقسيمها إلى: القواعد الكلية، القواعد الأُصولية، الضوابط الفقهية، المقاصد الشرعية([19]). وهو تقسيم جديد من حيث إفراده مقاصد الشريعة قسماً خاصاً، إلّا أنّه لم يشر إلى القواعد الكلامية أو الأخلاقية، وساوى أيضاً بين الأحكام والقواعد. والأهم في مشروع الشيخ ابن الخوجة هو حصره لمجموع القواعد؛ فيقول بأنّها ((بلغت 14000 قاعدة، صارت بعد استبعاد المكررات وما يلحق بها من تطورات وتفريعات 6844 قاعدة ومسألة مفصلة كالتالي:

ـ 4610 جملة القواعد الكلية.

ـ 426 جملة القواعد الأُصولية.

ـ 1781 جملة الضوابط الفقهية.

ـ 27 جملة المقاصد الشرعية))([20]).

ولعلّ التقسيم الذي نرى أنّه الأكثر انسجاماً مع نوعية القواعد الشرعية وموضوعها؛ هو تقسيمها إلى:

1 ـ القواعد العقيدية، ومحل دراستها علم الكلام.

2 ـ القواعد الأخلاقية، ومحل دراستها علم الأخلاق.

3 ـ القواعد الأُصولية، ومحل دراستها علم أُصول الفقه.

4 ـ القواعد الفقهية، ومحل دراستها علم الفقه.

وما يعنينا هنا هو القواعد الأُصولية والقواعد الفقهية؛ لعلاقتهما المباشرة بعملية التشريع، وهي ما يقابل القواعد القانونية في القانون الوضعي. مع الأخذ بنظر الاعتبار أهمية القواعد الأخلاقية والقواعد العقيدية في الدلالة على روح الشريعة ومقاصدها العامة الكامنة في كل قاعدة فقهية وأُصولية، وهي دلالة يمكن الاهتداء بها في الاستدلال على القاعدة نفسها وفي كشف الأحكام من خلالها، ولا سيّما في الموضوعات التي لم يرد فيها نص، وهي ما نعبِّر عنه بمساحة التفويض التشريعي، وهو المجال الذي يتحرك فيه الاجتهاد بهدف وضع التشريعات (الأحكام الشرعية) اللازمة. وقد اهتم الفقيه الشيخ عبد الوهاب بن علي السبكي (ت 771 ه) بالقواعد الكلامية التي ينبني عليها فروع فقهية، مثل: الاعتبار في الأعمال بالخواتيم، العلة تسبق المعلول، والحسن والقبح شرعي لا عقلي([21]). وفي مجمل القواعد التي يذكرها السبكي هناك تداخل واضح بين القواعد الكلامية والمسائل الفلسفية والقواعد الأُصولية([22]).

ونعرض هنا للقواعد الأُصولية والفقهية؛ للوقوف على طبيعة عملها في التشريع؛ باعتبارها القواعد التشريعية التي يستند إليها الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية:

1 ـ القواعد الفقهية:

القواعد الفقهية هي الأساس الذي تستند إليه مجموعة الأحكام الفقهية؛ إذ يجمع هذه الأحكام قاسم مشترك أو أساس فقهي واحد مردّه القاعدة الفقهية. وتسمى القاعدة هنا بالضابطة أو القضية الكلية، والحكم الفقهي بالمصداق أو الجزئية الفقهية. وتنقسم القواعد الفقهية موضوعياً ـ وفقاً للمجال الذي تطبق فيه ـ إلى قواعد عبادية وسياسية واقتصادية واجتماعية وجهادية وثقافية وغيرها، كما تقسّم على أساس أبواب الفقه المتعارفة إلى قواعد عبادات وعقود وإيقاعات وأحكام عامة. كما تقسّم فنياً إلى قواعد عامة، مثل: قاعدة نفي الضرر، وقاعدة نفي السبيل، وقاعدة نفي العسر والحرج وغيرها، وقواعد خاصة، مثل: قاعدة الإتلاف، وقاعدة الحيازة وغيرهما([23]).

وذكر الفقيه الإمامي المقداد السيوري (ت826 ه) أنّ الفقهاء استنبطوا من الأدلة الشرعية خمس قواعد ردوا إليها كثيراً من الأحكام الفقهية([24])، وهي([25]):

أ ـ البناء على الأصل، ويعبر عنها باليقين لا يُرفع بالشك أو لا يُزال بالشك.

ب ـ العمل بحسب النية، استناداً إلى قوله تعالى: {ﮘ  ﮙ  ﮚ  ﮛ  ﮜ  ﮝ ﮞ ﮟ}([26])، وقول رسول الله(ص): «إنّما الأعمال بالنيات، وإنّما لكل امرئ ما نوى»([27]).

ج ـ المشقة سبب التيسير، استناداً إلى قوله تبارك وتعالى: { ﯗ ﯘ  ﯙ  ﯚ }([28]) ، وقول رسول الله(ص): «بعثت بالحنيفية السمحة»([29]).

د ـ تحكيم العرف والعادة عند انتفاء الدليل الشرعي، ويعبّر عنها بالعادة المحكّمة.

هـ ـ نفي الضرر، أو الضرر يزال، استناداً إلى قول رسول الله(ص): «لا ضرر ولا ضرار»([30]).

في حين حصر الفقيه الشافعي المروزي (ت 462 ه) القواعد الفقهية في أربع فقط، هي: (اليقين لا يزال بالشك)، (المشقة تجلب التيسير)، (الضرر يزال) و(العادة محكّمة). وجاء ابن السبكي من بعده ليضيف قاعدة (الأُمور بمقاصدها) ([31]). وهي القواعد ذاتها التي يذكرها المقداد السيوري. والتي يمكن تسميتها بالقواعد الكلية الأصلية. في حين هناك مئات القواعد الفقهية الفرعية([32])، التي تقسم بدورها إلى عدة أقسام كما مر من تقسيم الدكتور جمال الدين عطية([33]).

2 ـ القواعد الأُصولية:

يُعدّ علم أُصول الفقه علماً خاصاً بالقواعد الشرعية العقلية أو القواعد العقلية المشرعنة (المقبولة شرعاً أو المستندة إلى دليل شرعي)؛ فهو علم قواعد استنباط الأحكام الشرعية. ومصطلح الأُصول هنا يرادف مصطلح القواعد، حتى إنّ الفقيه الإسلامي المصري الشيخ محمد أبو زهرة يعرّف أُصول الفقه بأنّه ((العلم بالقواعد التي ترسم المناهج لاستنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية))([34]). فعلم الأُصول ـ إذاً ـ لصيق بقواعد التشريع أكثر من أي علم آخر من علوم الشريعة، وهو ما يمكن الوقوف عليه من هدف البحث في أُصول الفقه، والمتمثل في ((استخلاص القواعد الأُصولية من مصادرها النقلية أو العقلية بغية الاستفادة منها في مجال الاجتهاد الفقهي))([35])، إضافة إلى بيان دلالة القاعدة وكيفية تطبيقها. وقد تطور موضوع علم الأُصول من أدلة الفقه إلى القواعد التشريعية؛ إلى العناصر المشتركة للاستنباط.

وأدلة الفقه هي كل ما يصلح لأن يكون مستنداً للفتوى، سواء كان دليلاً أو أمارة أو أصلاً([36]). أمّا القواعد الأُصولية فهي ـ كما مر ـ القضايا الكلية التي تقع كبرى في قياس الاستنباط الفقهي. والعناصر المشتركة هي أعم من القواعد؛ فكل عنصر مشترك له دخل مباشر في عملية الاستنباط الفقهي([37])، وتمثل هذه العناصر القواعد الكلية الأصلية أو القواعد العامة، وهو ما انتهى إليه علم الأُصول؛ فأصبح علماً بالعناصر المشتركة أو القواعد العامة التي تدخل في عملية استنباط أحكام شرعية عديدة في أبواب مختلفة([38])، سواء كان استنباطاً قائماً على أدلة محرزة للحكم، كالاستنباط المستمد من نص دال على الحكم الشرعي، أو استنباطاً قائماً على أساس الأُصول العملية([39]).

ومصدر أُصول الفقه ـ بعد القرآن الكريم والسنة الشريفة ـ هي سيرة العقلاء، التي ترجع إليها كل المدركات العقلية التي يذكرها الأُصوليون في أبواب الأُصول. وما ورد من آيات وروايات في قواعد الأُصول هي إقرار لسيرة العقلاء([40]). أي أنّ سيرة العقلاء أو بناء العقلاء هو مصدر القواعد الأُصولية، والذي يمكن الاستناد إليه في إثبات حجية القاعدة ومشروعية العمل بها والاعتماد عليها في عملية الاستنباط. ويشترط بناء العقلاء أن يتوافر على أربعة عناصر: العقلانية؛ أي بصدوره عن عقل ووعي، والشمولية؛ أي بصدوره عن جميع العقلاء، والإلزام؛ أي أنّه ملزم للجميع، بحيث يتحملوا مسؤولياته وتبعاته، والشرعية؛ أي موافقة الشرع الإسلامي عليه وإقراره له([41]).

وتنقسم الأُصول العملية إلى أُصول عملية غير محرزة، وأُصول عملية محرزة أو تنزيلية؛ فالأُولى ومثالها: قاعدة أصالة الحِل، التي يلحظ فيها كون الحكم المجهول مردداً بين الحرمة والإباحة، ولم يلحظ فيها وجود كشف معين عن الحلية. أمّا الثانية فمثالها: قاعدة الفراغ، وفيها أنّ التعبد بصحة العمل المفروغ عنه يرتبط بكاشف معين عن الصحة، ولكن هذا الكاشف ليس هو الملاك، بل هناك دخل للكون المشكوك مرتبطاً بعمل تم الفراغ منه([42]).

كما تنقسم الأُصول العملية بلحاظ صدورها إلى أُصول عملية شرعية وأُصول عملية عقلية؛ فالشرعية مردّها إلى أحكام ظاهرية شرعية. أمّا الأُصول العملية العقلية، فهي وظائف عملية عقلية، ترجع إلى مدركات العقل العملي فيما يرتبط بحق الطاعة([43]).

وقد حصر الفقيه الإمامي المجدد الشيخ مرتضى الأنصاري (ت1281ه) الأُصول العملية العقلية في أربعة أُصول أو قواعد عامة([44])، وهي: (أصل الاستصحاب)، ويعني حكم الشارع على المكلف بالالتزام عملياً بكل شيء كان على يقين منه ثم شك في بقائه عليه([45])، أي العودة إلى حالة القطع عند الشك، ودليله قول الإمام علي: «لا ينقض اليقين بالشك»([46]).

و(أصل البراءة)، ويعني أنّ كل موضوع شك المكلف في حكمه (وجوباً أو تحريماً) أو لم يعلم بتحقق موضوع الحكم؛ فإنّه لا يكون ملزماً بالاحتياط تجاهه والتقيد به([47])، ودليله الحديث النبوي: «رفع عن اُمتي ما لا يعلمون»([48]).

و(أصل الاحتياط)، ويعني وجوب الاحتياط في موارد الشك حيال التكليف المحتمل؛ فيقوم المكلّف بالتكليف احتياطاً، إلّا إذا عرف برضى الشارع بترك الاحتياط([49]).

و(أصل التخيير)، الذي يعني أنّ التكليف حين يدور بين الحرمة والوجوب، أو الحرمة بين أمرين متضادين، أو الوجوب بين أمرين متضادين، وذلك عند الشك بينهما وعدم احتمال حكم آخر وعدم حالة سابقة لواحد منها؛ فإنّ المكلّف يتخير بينهما؛ لاستحالة الإتيان بهما معاً.

وبعد استعراض مفهوم القواعد الفقهية والأُصولية، نرى ضرورياً الوقوف على طبيعة الفروق بينهما، والتي يمكن تلخيصها في أربعة فروق:

أ ـ القاعدة الأُصولية تنتج حكماً كلياً أو وظيفة كلية، بينما ينحصر إنتاج القاعدة الفقهية في الأحكام والوظائف الجزئية المتصلة اتصالاً مباشراً بعمل المكلّف.

ب ـ القاعدة الأُصولية لا يتوقف استنتاجها والتعرف عليها على قاعدة فقهية، بينما القاعدة الفقهية وليدة قياس تكون كبراه قاعدة أُصولية.

ج ـ القاعدة الأُصولية لا تتصل بعمل المكلّف اتصالاً مباشراً ولا يهمه معرفتها؛ لأنّ إعمالها ليس من وظائفه، وإنّما هي وظيفة الفقيه، بينما تتصل القاعدة الفقهية اتصالاً مباشراً بالمكلّف، وهي التي تحدد له وظيفته، فهو ملزم بالتعرف عليها لأخذ حكمها من الفقيه([50]).

د ـ إنّ القواعد الأُصولية هي القواعد العامة (العناصر المشتركة) التي تدخل في عملية استنباط أحكام شرعية عديدة في أبواب مختلفة، بينما تمثل القواعد الفقهية قواعد خاصة (عناصر خاصة) تدخل في عملية استنباط حكم شرعي في مسألة واحدة، ومن هنا فهي تتغير من مسألة إلى أُخرى([51]).

القواعد القانونية الوضعية

يتمظهر القانون الوضعي ـ عادة ـ في صورة قواعد تتولى تنظيم سلوك الناس في المجتمع، وهي القواعد القانونية (Legal rules)، التي تمثل قواعد للتشريع أو تشريعات. ومن مجموعة القواعد يتكون القانون. فالقاعدة ـ إذاً ـ مفرد القانون أو الوحدة التي يتكون القانون من مجموعها([52])، وهي ذات الصيغة التي تتمظهر فيها القواعد الشرعية الفقهية والأُصولية.

وتتميز القاعدة القانونية بكونها صادرة عن سلطة عامة يخوِّلها النظام السياسي مهمة وضع القانون؛ الأمر الذي يعطي شكلها ومضمونها بُعداً قانونياً دقيقاً عادة، ويمنحها في الوقت ذاته صلاحية التطبيق والإلزام. كما تتميز القاعدة بخاصية صدورها في شكل مكتوب؛ لضمان استخدامها بشكل محدود وثابت ومستقر، فضلاً عن بقائها معروفة للجميع([53]).

وتنقسم القواعد القانونية ـ على أساس الفلسفة القانونية التي تقوم عليها نظرية القانون في الفقه الغربي الوضعي؛ باعتبار القانون تعبيراً عن إرادة الأفراد في صورتها الكلية، وأنّها تستمد سلطته من مجموع إرادات أفراد المجتمع ـ إلى قواعد آمرة وقواعد مكملة أو مفسرة؛ فالقواعد الآمرة ترتبط بالمصلحة العامة وتفرض سلطانها على حرية الأفراد؛ فلا يجوز لهم الاتفاق على ما يخالفها، كالقواعد المحرِّمة للقتل والسرقة أو القواعد الملزمة لدفع الضرائب. أمّا القواعد المكملة فترتبط بالمصالح الخاصة للأفراد، وهو ما يعبّر عنه بمبدأ سلطان الإرادة، على اعتبار أنّ العقد شريعة المتعاقدين، فيجوز للأفراد (المتعاقدين) الاتفاق على ما يخالفها، كالقاعدة التي تقضي بأنّ دفع الثمن يكون عند استلام المبيع وغيرها([54]).

ويذهب بعض الباحثين([55])إلى ضرورة استحداث تقسيم آخر لقواعد القانون، مستمد من تقسيم علماء أُصول الفقه الإسلامي للأحكام، ويتمثل بتقسيم القواعد القانونية إلى قواعد تكليفية وقواعد وضعية، على اعتبار أنّ قواعد القانون ليست كلها قواعد تكليف. والأحكام التكليفية الشرعية هي الأحكام المعبِّرة عن خطاب الشارع في أفعال الإنسان الشرعية، وهي خطاب الشارع المقتضي طلب الفعل من المكلف أو ترك الفعل أو التخيير بينهما.

أمّا الأحكام الوضعية فهي الاعتبار الشرعي الذي لا يتضمن الاقتضاء والتخيير، وتنقسم إلى السببية والشرطية والمانعية([56]). ويمكن التمثيل على الأحكام التكليفية بصورتها القانونية بالقوانين التي تقتضي الوفاء بالعقود (طلب الفعل) أو عدم التصرف في مال الغير (الترك) أو تفويض صاحب المال من يوكله ببعض الإجراءات بما يراه مناسباً (التخيير). أمّا التمثيل على الأحكام الوضعية بصورتها القانونية فهو في قانون الإرث، فالقرابة سبب للميراث (السببية)، وموت المورث في حياة الوارث شرط له (الشرطية)، وقتل الوارث المورث مانع منه (المانعية) ([57]).

وللقاعدة القانونية عدد من الخصائص، أهمها:

  • إنّها قاعدة وضعية، تنتمي إلى مرجعية أرضية في صياغتها وتقنيات إقرارها؛ سواء تمثلت هذه المرجعية في فرد أو مؤسسة أو جماعة. وحتى لو كانت الشريعة الإسلامية ـ أحياناً ـ مصدراً لهذه القاعدة أو أحد مصادرها؛ فإنّها تكون في هذه الحالة وضعية في صياغتها وتقنيات إقرارها، وإسلامية في جوهرها.
  • إنّها قاعدة للسلوك الاجتماعي، ترسم سلوك الأفراد في المجتمع وتفرض عليهم التقيد بها، وهي تقرر ما ينبغي أن يكون لا ما هو كائن. وتفارق القاعدة القانونية بين السلوك الصحيح والسلوك الخاطئ؛ فتجعل الأول مشروعاً والثاني غير مشروع، وتفرض على من يأتيه الجزاء المناسب. وهي في هذا المجال لا تهتم بالنوايا ولا تحاسب الإنسان عليها، بل إنّها تحكم على السلوك الخارجي الظاهر للأفراد.
  • إنّها قاعدة اجتماعية، تعنى بزمان ومكان محددين؛ على اعتبار أنّ القانون مرآة للبيئة الاجتماعية التي يطبق فيها؛ كي يستجيب لحاجاتها ويتواءم مع ظروفها.
  • إنّها قاعدة عامة ومجردة، فلا تنحصر بشخص معين أو حالة معينة، بل موجهة إلى جميع الأفراد على وفق معيار موضوعي لا شخصي، أي الأفراد الذين يواجهون موضوعاً واحداً.
  • إنّها ملزِمة ومقترنة بجزاء دنيوي؛ فهي واجبة الاتباع على الأفراد، ولا بدّ أن يتقيدوا بها، وبخلاف ذلك سيواجهون جزاءً من السلطة المعنية([58]).

بين القواعد الشرعية الإسلامية والقواعد القانونية الوضعية

المقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي ـ وقد مرت ـ لا تغني عن المقارنة بين القواعد الشرعية والقواعد القانونية؛ ففي الأُولى تكون المقارنة بين الفقه والقانون باعتبارهما جسمين كاملين لكل منهما مواصفاته وخصائصه العامة، بينما القواعد هي مجموعة الأعضاء أو الأجزاء والوحدات المكونة لهذا الجسم؛ فتكون المقارنة بينها على أساس المقارنة بين خصائص هذه الأجزاء، ولكن ليس خصائص كل جزء وما يقابله من خصائص الجزء المشابه في الجسم الآخر، بل الخصائص التي تشكل قاسماً مشتركاً بين أجزاء كل جسم. وسيتم معالجة مساحات المقارنة على أساس المحاور الستة التالية:

1 ـ المرجعية والغاية:

مرجعية القواعد الشرعية؛ دينية، وتتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية، إضافة إلى المصادر الكاشفة التي تقرها الشريعة الإسلامية، كالإجماع والعقل. وفي الحالات التي تكون فيها القاعدة مستندة إلى نص شرعي مباشر وقطعي؛ فإنّها تكون جزءاً من الشريعة. ومن مجموع هذه القواعد تتألف الشريعة الإسلامية. وفي حالات أُخر تكون القاعدة مستندة إلى نصوص شرعية غير مباشرة أو إلى القواعد العقلية المقبولة شرعاً.

أمّا القواعد القانونية فهي قواعد بشرية في مرجعيتها؛ نشأت نتيجة تراكم الخبرة القانونية الإنسانية، منذ العصر الروماني وحتى الآن، ويساهم في وضعها مجمل العناصر الواقعية، السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية وغيرها، وهذه العناصر التي يستنطقها العقل هي مصادر القواعد القانونية. وهذا يستدعي اقتصار القاعدة القانونية على غايات مادية وأرضية متمثلة في أهداف مادية نفعية؛ دون أن يكون لها صلة بأي بُعد عقائدي أو روحي.

كما أنّ سماوية القواعد الشرعية، واستيعابها لجميع جوانب حياة الإنسان، الروحية والمادية، يجعل غاياتها ومجالات تطبيقها مختلفة عن القواعد القانونية؛ فهي تهدف إلى الارتقاء بالإنسان والمجتمع نحو الكمال في كل مجالات الحياة؛ فهناك قواعد شرعية ترتبط بالبُعد الاعتقادي ذي الصلة بالاعتقادات الدينية النظرية، وأُخر بالبُعد العبادي الروحي ذي الصلة بالعلاقة الفردية مع الله (تعالى). وهذان النوعان لا وجود لهما في النظام القانوني الوضعي. وهناك قواعد شرعية ترتبط بالبُعد المادي التنظيمي الأرضي أيضاً، وهي التي تعرف بقواعد المعاملات، والتي تمثل البُعد القانوني في الشريعة، كما أشرنا سابقاً. وهذا البُعد ـ هو الآخر ـ لصيق بالغايات الدينية العليا وروح الشريعة، بالرغم من صفته التنظيمية العامة.

وبالنظر لاتساع نطاق تطبيق القاعدة الشرعية، ولا سيّما في مجال القواعد التي تنظم علاقة الإنسان بربه؛ فإنّ القاعدة الشرعية تنظر إلى البُعدين الخارجي والداخلي (الظاهري والباطني) في تصرف الإنسان؛ أي أنّها تنظر إلى النوايا فضلاً عن السلوك الخارجي. في حين تقتصر القاعدة القانونية على السلوك الظاهري ولا علاقة لها بالنوايا أو مقاصد النفس الإنسانية([59]).

ولعلّ من الاختلافات الماهوية الأساسية بين القواعد القانونية والقواعد الشرعية، هو انطباق مقومات القواعد الشرعية مع حقائق الواقع الاجتماعي ومقاصد الفطرة الإنسانية والتجربة العلمية؛ الأمر الذي يجعل القاعدة الشرعية لصيقة بمقاصد العدل والحقوق. أمّا ركيزة القاعدة القانونية الوضعية فهي الحريات غالباً، بصرف النظر عما يترشح عن حقائق العلم ومبادئ العدالة من تعارض ـ أحياناً ـ مع الحريات في مفهومها الليبرالي الغربي تحديداً([60]).

أمّا مساحات الاشتراك بين القاعدة الشرعية والقاعدة القانونية في مجال الغايات، فأهمها: أنّهما قواعد لتنظيم السلوك والعلاقات البشرية، وهذه القواعد هي قواعد عامة مجردة موجهة للجميع، وهدفها تقويم السلوك الإنساني، وتحقيق خير الإنسان واستقراره الفردي والاجتماعي، وتتميز بالوضوح والاستقرار وإمكانية التعرف عليها بسهولة([61]). كما تتألف بنية القاعدة من مضمون وشكل، والمضمون هو محتوى القاعدة وجوهرها، ويعرف في الاصطلاح القانوني بالمادة، وفي اصطلاح علم أُصول الفقه بالملاك. أمّا الشكل فهو صياغة القاعدة، أي الضبط العلمي والفني([62]) للألفاظ التي تتألف منها القاعدة، سواء كان الضبط قانونياً على مستوى القاعدة القانونية، أو فقهياً أو أُصولياً إذا كانت القاعدة شرعية، بالصورة التي تبيِّن إرادة المشرّع الدالة على مضمون القاعدة وملاكها.

2 ـ الأخلاق:

المبادئ الأخلاقية ملازمة للقواعد الشرعية، وهي من أهم مقاصدها والأُسس التي تستند إليها، بما في ذلك القواعد الشرعية ذات الصلة بجانب المعاملات([63])، إذ إنّ المعاني الروحية التي تستبطنها النصوص الإسلامية هي التي توجه هذه القواعد، وتمنحها هدفيتها، والتي تشكل بمجموعها هدف بعثة الأنبياء(ع). وأبرز ما يميز الشريعة في هذا المجال هو هذا البُعد الروحي الأخلاقي الذي يخلق وازعاً داخل النفس الإنسانية يجعل الصفات الأخلاقية مقدمة على الجانب القانوني في القاعدة الشرعية وحاكمة عليها؛ لتحول دون تحول القاعدة إلى مادة قانونية جامدة لا روح لها؛ ولا تعرف الرحمة والمروءة والعفو والصدق والمحبة، ونكران الذات والدوافع الضميرية، ولا تعي المقصد النهائي للحقوق.

ويقوِّي هذا الوازع طبيعة التلازم بين القواعد الشرعية في كل المجالات؛ فقواعد العبادات وما ترسخه من ضوابط أخلاقية تنهى الإنسان عن كل أنواع المنكر والانحراف، تكمل قواعد المعاملات وتضبط أخلاقياً وروحياً حركة المتعاملين بها، أو المكلفين حسب التعبير الفقهي.

أمّا القاعدة القانونية الوضعية فلها موقف متمايز عن الأخلاق؛ بالرغم من وجود مساحة مشتركة في المجال الاجتماعي بين القاعدة القانونية والعرف الأخلاقي العام، بالصورة التي تساهم فيها القاعدة في حماية الآداب العامة([64]). ولكن هذه المساحة تبقى محدودة، وتتضاءل كلما كان النظام الليبرالي أكثر ضغطاً على الواقع الاجتماعي.

ولا شك أنّ كثيراً من القواعد القانونية على صلة بالسلوك الأخلاقي الاجتماعي، كالحض على الوفاء بالعهود ومنع الاعتداء على النفس ومنع السرقة ووجوب رد الأمانة وغيرها، ولكن هذه الضوابط تبقى قانونية وليست أخلاقية، والمقصود بالأخلاق هنا الجوانب المعنوية التي يصعب على النظم الوضعية تقنينها.

وقد أصبح لهذه الجوانب قواعد خاصة بها هي القواعد الأخلاقية. وهناك أكثر من معيار يتم على أساسها التفريق بين القواعد القانونية والقواعد الأخلاقية، وهي ليست معايير جامدة، بل مرنة ومتحركة؛ أي أنّها غالبة وليست مطلقة، منها: معيار الجزاء ومعيار الموضوع ومعيار الغاية؛ فإذا توافر للقاعدة جزاء يكفل فعاليتها، عُدَّت قاعدة قانونية، وإذا تخلف عنها هذا الجزاء كانت قاعدة أخلاقية، ومعيار الموضوع، فإذا كانت القاعدة تعنى بالتصرفات الظاهرية أو السلوك الخارجي للإنسان فهي قاعدة قانونية، وإذا كانت تواجه مقاصد الإنسان ونواياه الداخلية فهي قاعدة أخلاقية، ومعيار الغاية، فالقاعدة القانونية غايتها اجتماعية وتتمثل في إقامة نظام اجتماعي، وغاية القاعدة الأخلاقية فردية وتتعلق بتحقيق الاستقرار والكمال النفسي. ويترتب على ذلك أنّ الإلزام في القواعد الأخلاقية هو ـ غالباً ـ إلزام داخلي ذاتي نابع من ضمير الفرد ذاته، بينما الإلزام في القواعد القانونية هو إلزام خارجي (اجتماعي) ([65]).

3 ـ التدرّج:

تختلف القواعد القانونية في الدولة وتتفاوت من حيث نسبة ثباتها ومصدرها، وبالتالي حجم قوتها الإلزامية وسلطتها في تنظيم الواقع السياسي والاجتماعي. وهذا الاختلاف هو الذي يعطي لكل قاعدة قانونية موقعها في النظام القانوني للدولة؛ فتكون هناك قواعد في قمة النظام وأُخر تليها، حتى يصل التدرج إلى نهايته في قاعدة النظام([66]). وهذا يقتضي شكلاً هرمياً للنظام القانوني، يكون فيه تسلسل القواعد القانونية مؤثراً في تحديد قوتها وسلطتها؛ إذ تكون القاعدة الأعلى حاكمة على ما دونها. وكلما اقتربت القاعدة القانونية من قمة النظام القانوني كانت أكثر ثباتاً وجموداً، وكلما ابتعدت إلى الأسفل كانت أكثر مرونة وتحركاً وتغيراً.

وكان “كلسن” ومعه “مركل” اللذان يمثلان مدرسة (فينا) القانونية، أكثر من اهتم بمبدأ تدرج القواعد القانونية؛ إذ يريان أنّ الوظائف القانونية للدولة هي وظائف تكوين القانون ذاته؛ فلا يوجد تمييز بين هذه الوظائف على أساس علاقتها بالقانون إنشاءً وتطبيقاً، وإنّما يُعدّ العمل قانونياً وفقاً للقاعدة التي تعلوه. فالقاعدة الأعلى تُعدّ منشئة لقاعدة أدنى أكثر تحديداً في موضوعها، وتكون القاعدة الأدنى مقيدة بالقاعدة الأعلى ومتفقة معها([67]) شكلاً ومضموناً. ودعم “كلسن” هذا المبدأ بنظرية الوحدة القانونية التي ابتكرها، والتي تقوم على أساس أنّ النظام القانوني هو نظام واحد في كل أجزائه وتفاصيله، ومؤدى هذه الوحدة ما أسماه الخضوع (Subordination) والتبعية، أي أنّ القواعد القانونية تأخذ موقعها ضمن نظام تسلسلي تلتزم بموجبه القاعدة الأدنى بالقاعدة الأعلى وتستمد منها سبب وجودها وشرعيته. وهذا يعتبر كافياً لتفسير شرعية النص على أساس التزامه بأحكام النصوص العليا([68])، بل وتفسير النصوص نفسها ووعي مقاصدها. ويقول الفقيه القانوني الفرنسي المعاصر “دومينيك روسو” في هذا المجال: ((إنّ أية قاعدة آمرة لا قيمة قانونية لها بحد ذاتها وبصورة منفصلة، ولا تتبدى هذه القيمة إلّا من خلال مقارنتها مع مضمون قاعدة أُخرى، بحيث ينطبق ذلك على هذه الأخيرة مقارنة مع قاعدة أعلى))([69]).

وتمثل القواعد الدستورية قمة هرم النظام القانوني، تليها القواعد التشريعية، أي القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية، ثم القواعد العادية، كالقرارات واللوائح التنظيمية الصادرة عن مؤسسات الدولة الدستورية، ولا سيّما الحكومة (السلطة التنفيذية).

ومن هنا؛ فإنّ الدستور هو أعلى القوانين وأقواها وأسماها، وهو السلطة القانونية الحاكمة على النظام القانوني للدولة، بما في ذلك القوانين العادية والتنظيمية. وبحسب تعبير “كلسن” فإنّ ((القانون هو الإرادة التي يتكون منها الدستور وكل ما يتفرع عن هذه الإرادة العليا من أوامر عامة أو خاصة… ويكون الدستور وما يتفرع عنه من قوانين وقرارات وأحكام أو أوامر؛ نظاماً قانونياً كاملاً متماسكاً ومتناسقاً؛ بحيث إنّ كل حلقة منه تستمد من الحلقة الأعلى منها الصلاحية والفعالية وتمد بهما الحلقة الأدنى منها))([70]).

ويذهب كثير من فقهاء القانون الدستوري إلى أنّ القواعد الدستورية تلتزم من جانبها بنصوص عليا أو أحكام تعلوها مرتبة دون أن تكون مدوّنة، يصطلح عليها (فوق الدستورية) (super constitutional) والتي تفرضها مسلمات منطقية أمكن اعتبارها من مقتضيات الفكر القانوني ولزومياته، ومن الواجب أن يراعيها واضعو الدساتير، باعتبارها ـ كما يرى “كلسن” ـ مصدر جميع القواعد الأُخر، وأنّها المعايير التي تحكم السياقات القانونية القائمة، وأنّ كل ما يخالفها يعد باطلاً. ومن هنا كانت استجابة القواعد الدستورية لهذه القواعد العليا (Suprame) لوناً من إسباغ الشرعية على القواعد الدستورية. وقد تتمثل القواعد العليا في مبادئ عامة، كحقوق الإنسان أو الحريات أو الديمقراطية، أو أيّة قواعد دينية أو عرفية أُخر([71]).

أمّا القواعد التشريعية (العادية) والتي تأتي في المرتبة التالية للقواعد الدستورية، فهي ما يصدر عن السلطة التشريعية في الدولة (البرلمان غالباً)، سواء كان قانوناً مقترحاً من السلطة التشريعية نفسها، أو اقترحته المؤسسات الدستورية الأُخر (التنفيذية والقضائية تحديداً) وسنّته السلطة التشريعية. وهناك دساتير تعطي رئيس الدولة أو الحكومة صلاحيات تشريعية أيضاً.

والتشريعات الفرعية (اللوائح والقرارات الإدارية التنظيمية) فهي القواعد التالية للقواعد العادية، ولكثير منها قوة القانون، وهي ـ عادة ـ من صلاحيات السلطة التنفيذية، أو أيّة مؤسسات دستورية يسمح لها الدستور أو القانون العادي بإصدار تشريعات فرعية([72]). وتلي التشريعات الفرعية ما يعرف بالمراسيم، وهي الصادرة عن مجلس الوزراء أو المؤسسات الدستورية الأُخر، ثم القرار الوزاري.

وينتج عن قاعدة التدرج في القوانين مجموعة مبادئ قانونية أساسية، منها: مبدأ (سمو الدستور)، الذي يعني أنّ الدستور يقف على رأس النظام القانوني، ويعلو كل القوانين والتشريعات والأنظمة. ومن تبعات هذا المبدأ: أنّ كل ما يصدر من قوانين وأنظمة مخالفة للدستور يقع باطلاً، وكذلك عدم جواز إلغاء الدستور أو أي من مواده بقانون عادي([73]). وتفرض قاعدة التدرج على كل سلطة دستورية أو إدارية أن تحترم القواعد القانونية الصادرة عن السلطة الأعلى منها، واحترام كل مؤسسة دستورية للقرارات الصادرة عنها والتزامها بها أولاً. ويذهب بعض الباحثين القانونيين أيضاً إلى أنّ السلطة الأعلى لا يمكنها إصدار قرار فردي مخالف لقاعدة صادرة بصورة قانونية عن سلطة أدنى([74]). فلطالما كانت القاعدة التي سبق أن أصدرتها السلطة الأدنى قانونية، فلا يحق للسلطة الأعلى منها نقض هذه القاعدة بقرار فردي.

وينطبق مبدأ التدرج على القواعد الشرعية أيضاً، من حيث تسلسلها ونسبة ثباتها ومصدرها وحجم قوتها الإلزامية. وتنقسم هذه القواعد إلى قرآنية وسننية واجتهادية. فالقواعد الشرعية القرآنية هي القواعد الإلهية الثابتة التي شرّعها الله (تعالى) مباشرة عبر نصوص واضحة في القرآن الكريم، وموقعها في قمة هرم نظام الشريعة الإسلامية، وهي حاكمة على جميع هذا النظام وقواعده التالية في المرتبة؛ فلا يمكن لأية قاعدة تليها أن تخالفها نصاً وروحاً ومقصداً. والقواعد الشرعية القرآنية هي مصدر جميع القواعد في هرم نظام الشريعة. وبعد القواعد القرآنية تأتي في المرتبة الثانية قواعد السنة النبوية، وهي القواعد التي قنّنها الرسول الأعظم(ص). وتخضع هذه القواعد لحاكمية القواعد القرآنية، فلو خالفتها تساقطت وفقدت شرعيتها([75])؛ فهي ـ إذاً ـ قواعد كاشفة ومفسرة للقواعد القرآنية، وتوضع في المنطقة التي لا توجد فيها قواعد إلهية؛ أي المنطقة المتروك أمر ملئها للنبي(ص).

وبعد القواعد النبوية؛ تختلف المذاهب الإسلامية في صفة القواعد التي تليها؛ فتذهب مدرسة الإمامة (التشيع) إلى أنّ القواعد التي يضعها الأئمة الاثني عشر هي امتداد للقواعد النبوية، وهي كاشفة عنها ومفسرة لها، فتدخل مصدريتها في ظل السنة الشريفة، وتعدّ جزءاً منها. وتخضع هذه القواعد ـ من جانبها ـ إلى المبادئ نفسها من حيث مستوى الثبات وقوة الإلزام، ونسبتها للقواعد النبوية هي نسبة القواعد النبوية للقواعد الإلهية نفسها. فتكون المحصلة أنّ أية قاعدة منسوبة إلى الإمام(ع) تسقط إذا عارضت قاعدة صحيحة صادرة عن النبي(ص)، وأيّة قاعدة منسوبة إلى النبي(ص) تسقط إذا عارضت قاعدة قرآنية.

أمّا مدرسة الخلافة (التسنن) فذهبت إلى اعتماد القواعد التي تترشح عن سيرة الصحابي كقواعد شرعية تلي القواعد النبوية مباشرة. ودخلت مدرسة التشيع في خلاف مع مدرسة التسنن بسبب عمل الأخيرة بسيرة الصحابي؛ لأنّ مدرسة التسنن أعطت لسيرة الصحابي القوة الإلزامية التي تجعلها تنقض ـ أحياناً ـ القواعد الأعلى؛ فيما لو افترضنا أنّ سنة الصحابي يترشح عنها قواعد اجتهادية، وذلك ما يسميه الفقهاء بالاجتهاد مقابل النص؛ وهو تقنين فيه تعطيل لمبدأ التدرج.

وبعد قواعد السنة الشريفة، تأتي القواعد الاجتهادية في المرتبة الثالثة، وهي القواعد التي يضعها الفقهاء في الحالات التي تفتقد إلى القواعد القرآنية والقواعد السننية. وقواعد الفقهاء ليست من الثوابت، بل هي متغيرات؛ بالرغم من أنّ القواعد الأعلى هي مصدرها ومرجعيتها. ومن بديهيات قاعدة التدرج هنا أن لا تصدر أيّة قاعدة اجتهادية تتعارض مضموناً وروحاً مع القواعد القرآنية والقواعد السننية، وإذا صدرت فهي باطلة ولا تكون قاعدة شرعية.

والفرق الكبير في موضوع التدرج بين القواعد القانونية والقواعد الشرعية، هو أنّ القواعد القانونية لا توجد فيها ثوابت بالمطلق، بل ثوابت نسبية تتغير، ويمكن أن تصدر قواعد عليا جديدة بمرور الزمن (دستورية تحديداً)، ووفقاً لذلك يمكن أن تتغير القواعد الأدنى التي كانت ثابتة في وقت ما؛ بسبب التزامها بالقواعد الأعلى. أمّا القواعد الشرعية؛ ففيها قواعد ثابتة بالمطلق لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وهي القواعد القرآنية والصحيح من القواعد السننية. وتبعاً لذلك تكون القواعد الأدنى، أي القواعد الاجتهادية، تحظى بثبات أقوى من القواعد القانونية، بسبب ثبات مصادرها.

4 ـ الإلزام:

الإلزام بالقانون تفرضها طبيعة القانون نفسه وأساسه وجوهره؛ فلو لم يكن ملزماً للفرد والجماعة؛ لما تحوّل إلى قاعدة سلوك واجب، ولما أمكن تطبيقه. وهناك أكثر من معيار يعتمده علماء القانون وفلاسفته في معالجة موضوع الإلزام وأساسه في القانون، أولها: المعيار الشكلي، ويذهب أنصاره إلى أنّ القاعدة القانونية تكتسب قوة إلزامها من السلطة التي تسنّها، أي أنّ المصدر الرسمي أو الشكلي للقاعدة هو أساس الإلزام فيها. ومن أبرز القائلين بهذا المعيار الفيلسوف الإنجليزي “جون أوستن” صاحب نظرية إرادة الحاكم، ومؤسسو مدرسة تقديس النص الفرنسية (نظرية إرادة المشرِّع) ([76]).

والمعيار الثاني هو المعيار الموضوعي الذي يهتم بالجوهر وليس الشكل؛ فأنصار هذا المعيار ((ينظرون إلى المادة الأولية المكونة لجوهر القاعدة القانونية وينفذون إلى طبيعتها، ويتعرفون إلى القانون من مصادره الموضوعية أو المادية. ومن أنصار هذا الاتجاه الموضوعي: المدرسة المثالية أو مدرسة القانون الطبيعي، والمدرسة الواقعية، وتتفرع عنها المدرسة التاريخية ومدرسة التضامن الاجتماعي))([77]).

ولا تختلف القاعدة الشرعية من جانب الإلزام عن القاعدة القانونية؛ لأنّ الإلزام يكمن في أساس القاعدة الشرعية، وقد صدرت لتلزِم المكلفين بالعمل بها. ولكن دوافع الالتزام تختلف بين القاعدتين، فالالتزام بالقاعدة القانونية من قبل الفرد أو المجتمع يخضع لرقابة السلطة، وبالتالي ينطلق من تجنب العقاب ـ غالباً.

أمّا الالتزام بالقاعدة الشرعية من قبل المسلم المكلف فمردّه إيمانه بالله (تعالى) وامتثاله لأوامره، على أساس حق طاعة الله، أي وجوب إطاعة الإنسان للشارع([78])، وهو تعبير عن انتمائه الديني؛ لأنّ هذه القواعد هي بشكل وآخر تعاليم دينية {ﭡ ﭢ ﭣﭤ  ﭥ  ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ  ﭫ}([79])، فضلاً عن دافع تجنب العقاب الدنيوي والأُخروي وطلب الثواب الأُخروي. ومن هنا يوصف إلزام القاعدة القانونية بأنّه إلزام خارجي، وإلزام القاعدة الشرعية بأنّه إلزام داخلي وخارجي([80]).

كما أنّ للإلزام الشرعي مراتب غير موجودة في الإلزام القانوني، فهناك إلزام بالعمل لا يمكن تركه (الواجب)، وإلزام بالعمل فيه رخصة على الترك (المستحب)، وإلزام بترك العمل فيه رخصة على عدم الترك (المكروه)، وأخيراً الإلزام بالترك (الحرام). بينما الإلزام القانوني يركز على الإلزام بالعمل (الواجب) أو الإلزام بالترك (الممنوع) فقط، ولا وجود للمستحب والمكروه فيه([81]).

5 ـ الجزاء:

القواعد القانونية والقواعد الشرعية ـ كما مرّ ـ هي قواعد ملزِمة، وهذا الإلزام يقترن بالضرورة بوجود جزاء. ففي حالة القواعد القانونية التي تركز على الإلزام بالعمل أو الترك؛ فإنّ مخالفة ذلك يستلزم جزاءً (عقابياً) توقعه السلطة بالإكراه والقهر على الفرد أو الأفراد المخالفين. ويمثل الجزاء رد فعل من جانب القانون على فعل المخالف. وإيقاع الجزاء ـ من جانبه ـ يستلزم وجود سلطة تقوم بذلك، وإلاّ فلا معنى للإلزام في القانون. والجزاء في القاعدة القانونية هو جزاء أو عقاب مادي، ويتم على نحوين: منع وقوع المخالفة والردع بعد وقوعها، أي الوقاية من المخالفة والتعويض عنها.

إلّا أنّ قسماً من فقهاء القانون والفلاسفة ومنهم (هيغل)، يعتقد بأنّ وظيفة الجزاء أو العقاب ليست وقائية؛ أي منع وقوع المخالفات، بل تعويضية، وتهدف إلى إعادة سلطان القانون في حالة إنكاره أو الإخلال به([82]).

ولا شك أنّ الجزاء يتخلف في القاعدة القانونية غالباً، ولكنه ليس مطلقاً؛ بالنظر لوجود قواعد جزائية تسبق وقوع المخالفة وتتزامن معها وتعقبها؛ مثل منع التظاهر ومنع السفر وغيرهما.

أمّا الجزاء في القاعدة الشرعية فيختلف في بعض صوره ومساحاته عن الجزاء في القاعدة القانونية؛ تبعاً للخلاف في الغايات والمصادر والإلزام؛ فالجزاء القانوني هو دنيوي مادي أرضي، وذو طبيعية تجريمية عقابية تعويضية غالباً؛ بينما الجزاء الشرعي دنيوي وأُخروي، وذو طبيعة مركبة: وقائية إصلاحية تطهيرية تعويضية ثوابية؛ لأنّه قبل المخالفة يهدف إلى الحؤول دون ارتكاب الفرد والمجتمع للمخالفة. وحال المخالفة يعمل على ردع المخالف وإرجاعه عن فعله، وبعد المخالفة يهدف عبر العقوبة إلى إصلاح الفرد والمجتمع، وإعادة تربيته وتطهيره وتخليصه مما علق به من انحراف وذنوب.

وإلى جانب هذا الجزاء المادي الروحي؛ فهناك الجزاء الوجداني؛ الذي يتمظهر في إحساس المخالف بمشاعر الذنب وعذاب الضمير؛ سواء كانت المخالفة ذات صلة بجانب العبادات أو المعاملات. وهناك جزاء إلهي تظهر آثاره في الدنيا وهي مثوبة أو عقوبة غيبية لا تحصل بيد السلطة، بل بيد الغيب. ويحتاج قسم من الجزاء الدنيوي في القاعدة الشرعية إلى سلطة شرعية لتنفيذه([83])، وهو ما يرتبط بتطبيق العقوبة المادية.

أمّا ما يرتبط بالجزاء الوجداني أو الجزاء الإلهي في الدنيا فهما لا يحتاجان إلى سلطة. وفي حال عدم وجود سلطة لتنفيذ الجزاء المادي؛ فإنّ الجزاء الشرعي يبقى غيبياً وأُخروياً. فمساحة الاشتراك في موضوع الجزاء بين القاعدتين القانونية والشرعية ـ إذاً ـ هي الجزاء المادي الدنيوي، مع الاختلاف في بعض الدوافع والغايات.

وعلى مستوى الآخرة؛ فإنّ القاعدة الشرعية تحدد جزاءً من نوع خاص للمحسن والمسيء؛ فالمحسن يُثاب على إحسانه، والمسيء يلقى عقابه العادل. وعدالة الله (تعالى) تتجسد في الجزاء الأُخروي بأظهر صورها؛ فالمسيء إذا أفلت من العقاب المادي الدنيوي؛ فإنّ الله (تعالى) يعلم بنواياه وفعله، وسيعاقبه في الآخرة. وهناك مخالفات تسقط عقوبتها الأُخروية ـ غالباً ـ إذا نال المخالف عقوبته في الدنيا. والجزاء الشرعي (دنيوياً أو أُخروياً) يرتبط أيضاً بأنواع القواعد الشرعية؛ ففي الواجبات، التي تعبر عن مصلحة ملزِمة؛ يعاقب من يتركها ويثاب من يلتزم بها. والمحرمات، التي تُعبِّر عن مفسدة متزايدة؛ يعاقب من يمارسها ويثاب من يتركها، والمباحات، التي تتساوى فيها المصلحة والمفسدة؛ يترتب عليها الأثر وفقاً للنوايا، والمكروهات، التي تترجح فيها المفسدة على المصلحة؛ يُعاتب من يعمل بها ولا يعاقب (وفي الشبهات عتاب)، والتي فيها ترجيح للمصلحة على المفسدة، يثاب من يعمل بها ويُعاتب من يتركها. وبشكل عام فإنّ هذا الجانب الغيبي الأُخروي هو مساحة اختلاف أساس بين الجزاء الشرعي والجزاء القانوني.

 

 

 

([1]) الجرجاني، «التعريفات»، نقلاً بالواسطة عن: الفضلي، د. عبد الهادي، «الوسيط في قواعد فهم النصوص»، ص103.

([2]) أبو البقاء، «الكليات»، نقلاً بالواسطة عن: الفضلي، د. عبد الهادي، «الوسيط» (مصدر سابق)، ص103.

([3]) اُنظر للمزيد: الفضلي، د. عبد الهادي، «الوسيط» (مصدر سابق)، ص104 ـ 105.

([4]) اُنظر: زاهد، د. عبد الأمير (مصدر سابق)، ص20.

([5]) اُنظر: زيدان، د. عبد الكريم، «نظام القضاء في الشريعة الإسلامية»، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1984، ص5 ـ 6.

([6]) يعرِّف السيد محمد باقر الصدر الحكم الشرعي بأنّه «التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان وتوجيهه»، «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ج2 ص13.

([7]) اُنظر: زاهد، د. عبد الأمير (مصدر سابق)، ص20 ـ 23.

([8]) عبد الوهاب، د. صلاح الدين، «الأُصول العامة للقانون»، ص119.

([9]) عاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص16.

([10]) الفضلي، د. عبد الهادي، «دروس في أُصول فقه الإمامية» (مصدر سابق)، ج1 ص390.

([11]) حجازي، د. عبد الحي، «المدخل لدراسة العلوم القانونية»، ص493 ـ 497، نقلاً بالواسطة عن: عطية، د. جمال الدين، «التنظير الفقهي»، مطبعة المدينة المنورة، المدينة، 1987، ص213.

([12]) عطية، د. جمال الدين، «التنظير الفقهي» (مصدر سابق)، ص211.

([13]) زيدان، د. عبد الكريم، «المدخل الفقهي» (مصدر سابق)، ص88.

([14]) إمام، د. محمد كمال الدين، «نظرية الفقه في الإسلام»، 318 ـ 353، نقلاً بالواسطة عن: ابن الخوجة، د. محمد، «الفقه الإسلامي» من كتاب «الاجتهاد والتجديد» (مصدر سابق)، ص51 ـ 52.

([15]) المصدر السابق، ص53 ـ 54.

([16]) عطية، د. جمال الدين، «التنظير الفقهي» (مصدر سابق)، ص77.

([17]) المصدر السابق.

([18]) عاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص49.

([19]) ابن الخوجة، د. محمد الحبيب (مصدر سابق)، ص74 ـ 75.

([20]) المصدر السابق، ص75.

([21]) القاعدة الأخيرة التي يذكرها ابن السبكي (الحسن والقبح)؛ يختلف فيها الشيعة والمعتزلة مع الأشعرية (المدرسة الكلامية التي تنتمي إليها معظم المذاهب السنية)؛ إذ يعتبر الشيعة والمعتزلة أنّ الحسن والقبح عقليان وليسا شرعيين. أمّا تأثير هذه القاعدة الكلامية على الفروع الفقهية فهو أمر لا خلاف فيه بين مجمل المذاهب الإسلامية.

([22]) للمزيد من بيان أثر بعض هذه الآراء والقواعد الكلامية على الفروع الفقهية اُنظر: عطية، د.جمال الدين، «التنظير الفقهي» (مصدر سابق)، ص107.

([23]) الزرقا، د. مصطفى أحمد، «المدخل الفقهي العام»، دار القلم، دمشق، 1989، ج2، ص942.

([24]) السيوري، الشيخ المقداد، «نضد القواعد الفقهية» (مصدر سابق)، ص13.

([25]) اُنظر: الشهرستاني، د. محمد علي (مصدر سابق)، ص136 ـ 137.

([26]) سورة البينة، الآية5.

([27]) أخرجه البخاري، محمد بن إسماعيل في صحيحه، باب بدء الوحي، تحقيق: رائد صبري، دار الحضارة، بيروت، ط3، 2015.

([28]) سورة البقرة، الآية 185.

([29]) السيوطي، عبد الرحمن، «الجامع الصغير»، ج1، ص486، ح3150.

([30]) الكليني، الشيخ محمد بن يعقوب، «الكافي»، دار التعارف، بيروت، ط4، 1410ه، ج5، ص292.

([31]) عطية، د. جمال الدين، «التنظير الفقهي» (مصدر سابق)، ص78.

([32]) من المصادر التي اهتمت بموضوع القواعد الفقهية، اُنظر: الشيخ محمد بن مكي العاملي، «القواعد والفوائد». الشيخ المقداد السيوري، «نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية». الشيخ ابن رجب الحنبلي، «القواعد الفقهية». الشيخ أبو زيد الدبوسي، «تأسيس النظر». الشيخ عبد العزيز عبد السلام السلمي الشافعي، «قواعد الأحكام في مصالح الأنام». محمد بن محمد المقري المالكي، «القواعد». الشيخ محمد بن عمر الشافعي والشيخ عبد الوهاب بن علي السبكي والشيخ عبد الرحمن السيوطي والشيخ زين الدين بن إبراهيم الحنفي، لكل منهم مؤلفاً في القواعد الفقهية يحمل عنوان: «الأشباه والنظائر»، الشيخ محمود حمزة، «الفوائد البهية». الشيخ أحمد الزرقا، «شرح القواعد الفقهية». الشيخ ناصر مكارم الشيرازي والسيد حسن الموسوي البجنوردي والشيخ الفاضل اللنكراني والشيخ محمد صالح المنجد والشيخ محمد باقر الإيرواني والسيد محمد الشيرازي، لكل منهم مؤلفاً يحمل عنوان: «القواعد الفقهية». الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة، «النظرية الشرعية».

([33]) اُنظر: عطية، د. جمال الدين، «التنظير الفقهي» (مصدر سابق)، ص78 ـ 95.

([34]) اُنظر: أبو زهرة، الشيخ محمد، «أُصول الفقه»، دار الفكر العربي، بيروت، 2009، ص8.

([35]) الفضلي، د. عبد الهادي، «دروس في أُصول فقه الإمامية» (مصدر سابق)، ج1 ص375.

([36]) الدليل يقصد به ما يدل على الحكم الشرعي، سواء كان دليلاً قطعياً يدل دلالة مباشرة على الحكم الشرعي، أو دليلاً ناقصاً تثبت حجيته بدليل قطعي، فيقال: «الأصل في الظن هو عدم الحجية إلّا ما خرج بدليل قطعي». وينقسم الدليل إلى دليل شرعي أو دليل حكم، وهو كل ما يصدر من الشارع، ويختص بالقرآن والسنة، ودليل عقلي أو دليل وظيفة، وهو ما يسمى بالأصل، الذي يدركه العقل، ويمكن أن يُستنبط حكم عقلي، كقضية (مقدمة الواجب واجبة)، أو (أصالة البراءة). والأصل لا يحرز الواقع، وإنّما يحدد الوظيفة العملية تجاه الواقع، أو اتجاه الحكم الشرعي المجهول، ولذا يسمى بالأصل العملي؛ للتفرقة بينه وبين الأصل بمعناه العام الذي هو مطلق الدليل ومطلق القاعدة. والأصل العملي يقابل الدليل والأمارة. أمّا الأمارة فهي الدليل الظني الذي له درجة كشف عن الحكم الشرعي؛ فتكون الحجية هنا للأمارة، في تحديد موقف المكلّف.

اُنظر: الصدر، السيد محمد باقر، «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ج1، ص263 ـ 264، ج2، ص361 و269، ج3، ص23 ـ 24. والفضلي، د. عبد الهادي، «دروس في أُصول فقه الإمامية» (مصدر سابق)، ج2، ص387.

([37]) الفضلي، د. عبد الهادي، «دروس في أُصول فقه الإمامية» (مصدر سابق)، ج1، ص100.

([38]) الصدر، السيد محمد باقر، «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ج1، ص242.

([39]) المصدر السابق، ج1، ص264.

([40]) تعرَّف سيرة العقلاء أو (بناء العقلاء) بأنّها صدور العقلاء عن سلوك معين تجاه واقعة ما، صدوراً تلقائياً، شريطة أن يتساووا في صدورهم عن هذا السلوك، على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم وتفاوت ثقافاتهم ومعارفهم وتعدّد نحلهم وأديانهم. اُنظر: الفضلي، د. عبد الهادي، «دروس في أُصول فقه الإمامية» (مصدر سابق)، ج1، ص117 ـ 119.

([41]) اُنظر: الفضلي، د. عبد الهادي، «الوسيط في فهم النصوص الشرعية» (مصدر سابق)، ص106 ـ 108.

([42]) للمزيد اُنظر: الصدر، السيد محمد باقر، «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ج2، ص361 ـ 362.

([43]) للمزيد اُنظر: المصدر السابق، ج3، ص308 ـ 310.

([44]) اُنظر: الأنصاري، الشيخ مرتضى، «فرائد الأُصول» (مصدر سابق).

([45]) الصدر، السيد محمد باقر، «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ج2، ص333.

([46]) رواه زرارة بن أعين، عن الإمام الصادق، ونقله الشيخ المفيد في كتاب «الإرشاد»، الباب 33، ص126.

([47]) الصدر، السيد محمد باقر، «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ج1، ص263، وج2، ص325 ـ 326.

([48]) رواه ابن ماجه في سننه، ج2، ص 214. والشيخ الكليني في «الكافي»، ج2، ص 411. والبهيقي في «السنن الكبرى»، ج7، ص 47. والشيخ محمد رضا المظفر في «أُصول الفقه»، ج2، ص236. والشيخ مرتضى الأنصاري في «فرائد الأُصول»، ج1، ص 203.

([49]) يختلف السيد محمد باقر الصدر مع كثير من علماء الأُصول في اتباع (قاعدة البراءة) على أساس مسلك (قبح العقاب بلا بيان)، وهو المسلك الذي يؤدي إلى عدم الاحتياط حيال التكاليف المشكوكة، ولو احتمل أهميتها بدرجة كبيرة، وبالتالي نفي المسؤولية عن المكلف في هذا المجال. في حين يتبنى الشهيد الصدر (قاعدة الاحتياط) على أساس مسلك (حق الطاعة)، وهو المسلك الذي يقول بأنّ حق الطاعة لله لا يختص بالتكاليف المقطوعة، بل يشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالاً. ويعدّ (قاعدة الاحتياط) أو (أصالة اشتغال ذمة المكلف) هي القاعدة العملية الأولية، ما لم يثبت شرعاً للمكلف إمكانية ترك الاحتياط، وهنا يتم الاستناد إلى (قاعدة البراءة الشرعية) التي يعدّها قاعدة عملية ثانوية. اُنظر: «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ج2، ص325 ـ 326 وج3، ص321 ـ 324.

([50]) الحكيم، السيد محمد تقي، «الأُصول العامة للفقه المقارن» (مصدر سابق)، ص43. ويكتفي السيد الحكيم بذكر الفروق الثلاثة (أ، ب، ج)، فيما يثبت السيد محمد باقر الصدر الفرق الرابع (د).

([51]) الصدر، السيد محمد باقر، «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ج1، ص242.

([52]) اُنظر: الجمال، د. مصطفى؛ و د. عبد الحميد (مصدر سابق)، ص11. وعامر، د. عبد العزيز، «المدخل لدراسة القانون المقارن بالفقه الإسلامي»، دار الغريب، بيروت، 1978، ص8. وعاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص42 و79.

([53]) الجمال، د. مصطفى؛ و د. عبد الحميد (مصدر سابق)، ص187 ـ 188.

([54]) اُنظر: المصدر السابق 50 ـ 51. وسعد، جورج، «دولة القانون»، منشورات الحلبي، بيروت، 2000، ص38.

([55]) الجمال، د. مصطفى؛ و د. عبد الحميد (مصدر سابق)، ص50 وص57 ـ 64.

([56]) اُنظر: الصدر، السيد محمد باقر، «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ج3، ص14 ـ 15. والحكيم، السيد محمد تقي، «الأُصول العامة للفقه المقارن» (مصدر سابق)، ص57 ـ 71.

([57]) الجمال، د. مصطفى؛ و د. عبد الحميد (مصدر سابق)، ص58 ـ 59.

([58]) للمزيد اُنظر: عاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص79 ـ 84 (المصدر الأساس الذي اعتمدناه هنا). والجمال، د. مصطفى؛ و د. عبد الحميد (مصدر سابق)، ص17 ـ 18 و22 و37 ـ 44. وعامر، د. عبد العزيز (مصدر سابق)، ص16 ـ 19. والبكري، د. عبد الباقي (مصدر سابق)، ص55 ـ 69.

([59]) اُنظر في هذا المجال: عاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص90 ـ 109. وسعد، د. جورج (مصدر سابق)، ص36. والبكري، د. عبد الباقي (مصدر سابق)، ص123 ـ 148.

([60]) مثالاً: إقرار القواعد القانونية لكثير من السلوكيات التي أثبتت التجربة العلمية خطورتها وضررها على الصعد الاجتماعية والصحية وغيرها؛ كشرب الخمر وممارسة الزنا، وهي في جانب منها تخالف مبادئ العدالة. فركيزتها ـ إذاً ـ الحريات الشخصية.

([61]) عاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص109.

([62]) سلطان، د. أنور، «المبادئ القانونية العامة»، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2005، ص67.

([63]) اُنظر: جعفر، د. علي محمد (مصدر سابق)، ص56 و187.

([64]) اُنظر: عطية، د. جمال الدين، «الواقع والمثال في الفكر الإسلامي المعاصر»، دار الهادي، بيروت، 2001، ص203 ـ 207.

([65]) الاستثناءات الموجودة في هذه المعايير لا يعني أنّها غير صحيحة، كما يذكر بعض الباحثين (مثالاً: الجمال، د. مصطفى؛ و د. عبد الحميد، «النظرية العامة للقانون» (مصدر سابق)، ص44)، بل يعني أنّها مرنة ومتحركة كما أشرنا؛ كتوافر الجزاء لبعض القواعد الأخلاقية وتوافرها، وكذلك لبعض القواعد القانونية، مثل قواعد القانون الدولي، وعناية بعض القواعد القانونية بالنوايا والمقاصد، كاشتراط القصد الجنائي في الجريمة، ووجود قواعد أخلاقية ذات غايات اجتماعية تنظيمية. اُنظر: الجمال، د. مصطفى؛ و د. عبد الحميد (مصدر سابق)، ص44 ـ 45.

([66]) اُنظر: الجمال، د. مصطفى؛ و د. عبد الحميد (مصدر سابق)، ص44 ـ 45. وحجازي، د. عبد الحي (مصدر سابق)، ص164 ـ 167. وعاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص123.

([67]) اُنظر: نعمة، د.عدنان، «دولة القانون في إطار الشريعة الإسلامية» (مصدر سابق)، ص23 ـ 24.

([68]) اُنظر: الطباطبائي، د. عادل، «مفهوم الطعن المباشر في النظام الدستوري»، مجلة الحقوق، جامعة الكويت، العدد الأول، السنة 23، مارس 1999، ص12 ـ 13.

([69]) نعمة، د. عدنان (مصدر سابق)، ص24 ـ 25.

([70]) نقلاً عن: صليبا، د. أمين عاطف، «دور القضاء الدستوري في إرساء دولة القانون»، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس، 2005، ص89.

([71]) مرقس، د. سليمان (مصدر سابق)، ص240.

([72]) نعمة، د. عدنان (مصدر سابق)، ص25.

([73]) الصدة، د. عبد المنعم فرج، «أُصول القانون»، مكتبة الحلبي، القاهرة، 1971، ص99 ـ 102.

([74]) عاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص350.

([75]) نعمة، د. عدنان (مصدر سابق)، ص24.

([76]) لا يصدر عن الرسول(ص) أي فعل أو قول أو تقرير يخالف نصوص القرآن الكريم ومقاصدها؛ لأنّ الرسول(ص) لا ينطق عن الهوى، بل المشكلة تكمن في نقل السنة النبوية وروايتها من الرواة والمحدّثين؛ فتعرضت السنة للتحريف والوضع، الأمر الذي حمل علماء الشريعة على التأسيس لعلوم ومناهج مهمة، ولا سيّما دراية الحديث والرجال، بهدف تنقية السنة مما عرض لها من تحريف ووضع. اُنظر: المؤمن، علي، «من المذهبية إلى الطائفية»، دار الكواكب، بيروت، 2007، ص54 ـ 70.

([77]) عاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص146.

([78]) اُنظر: الصدر، السيد محمد باقر، «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ص323 ـ 324.

([79]) سورة الأعراف، الآية 3.

([80]) يذهب الباحثان القانونيان المصريان الدكتور عبد الحميد والدكتور مصطفى الجمال إلى أنّه «كلما كان هناك إلزام خارجي لا يصاحبه إلزام داخلي كانت هناك قاعدة قانونية. وكلما كان هناك إلزام داخلي لا يصاحبه إلزام خارجي كانت هناك قاعدة دينية»، «النظرية العامة للقانون» (مصدر سابق)، ص46. وهذا القول يصدق على القاعدة القانونية، كما يصدق على القاعدة الشرعية ذات الصلة بالبُعد الروحي أو العبادي، أمّا قواعد المعاملات ففيها إلزامان داخلي وخارجي، من خلال وجود سلطة شرعية توقع الجزاء بمن يخالف القاعدة، فضلاً عن اعتقاد الإنسان المكلّف بأنّ هذا الإلزام جزء من إيمانه الديني.

([81]) اُنظر في هذا المجال: جعفر، د. علي محمد (مصدر سابق)، ص57 ـ 65. والجمال، د. مصطفى؛ و د. عبد الحميد (مصدر سابق)، ص46. وزاهد، د. عبد الأمير (مصدر سابق)، ص9. وعاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص145 ـ 146 و159 ـ 160.

([82]) اُنظر: سعد، د. جورج (مصدر سابق)، ص36 ـ 37. ومرقس، د. سليمان (مصدر سابق)، ص217.

([83]) في حال عدم وجود دولة تطبق القواعد الشرعية؛ فإنّ كثيراً من المجتمعات المسلمة تلزم نفسها بقواعد الجزاء الشرعي، عبر تطبيقها من قبل المجتهد الذي يصطلحون عليه: الحاكم الشرعي؛ لأنّه يحكم ويقضي بين الناس ويلزمهم بالجزاء، طواعية منهم، من خلال ولايته على الأُمور الحسبية وحفظ النظام العام. وهو ما تتعارف عليه المجتمعات الشيعية.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment