الفكر الإسلامي ومتطلبات المستقبل

Last Updated: 2024/05/30By

الفكر الإسلامي ومتطلبات المستقبل

د. علي المؤمن

الفكر الإسلامي وظواهر الحاضر والمستقبل

هل هناك فكر إسلامي معاصر؛ حتى نتحدث عن فكر إسلامي مستقبلي، أو عن عملية نقل الفكر الإسلامي من مقولة المعاصرة إلى مقولة المستقبلية؟!

لا يمكن الإجابة عن السؤال بنعم أو لا؛ لأن هناك نتاجاً فكرياً إسلامياً يلتزم بمقومات الانسجام مع العصر، وهناك فكر تجاوزه العصر؛ ولا يزال كم هائل من المسلمين يتمسكون به. ومن هنا؛ فالأفضل أن يتركز الحديث عن المقولة وليس عن الإنتاج. وبناءً على حقيقة التبدل والتغير في الموضوعات الحياتية؛ على مختلف أسمائها ومضامينها؛ فإن نوعية الناتج الفكري، أو بالأحرى، الحلول والمعالجات التي يطرحها؛ ستكون هي الأخرى عرضة للتبدّل والتطور. وقد تكون الظروف المحيطة بصاحب الإنتاج ضاغطة إلى درجة تجعل هذا التطور قهقرائياً وتراجعياً، أو تجعله قفزة غير موضوعية إلى الأمام؛ فيكون في كلا الحالتين هروباً من الواقع وحرفاً لحقائقه. وهذا – دون شك – لا ينطبق على الإبداع الفكري والتجديد الموضوعي الذي يلتصق بالواقع ويعمل على تطويره وتحديثه، وهذا ما يمكن تسميته بالفكر الإسلامي العصري الواقعي والعملي والتطبيقي؛ حتى وإن كان يعالج موضوعات كلامية نظرية.

والفكر الإسلامي الإبداعي العصري هو فكر للحاضر والمستقبل؛ وليس فكراً للواقع المعاش وحسب؛ لأنه فكر لصيق بالزمان والمكان. وإذا كان الواقع يعيش – بشكل أو بآخر – في المستقبل؛ فإن ذلك الفكر سيكون فكراً ينطلق من الحاضر لمعالجة إشكاليات المستقبل، والإجابة على تساؤلات الإنسان المستقبلي. وهذا ما يؤكد بقوة جدوى الفكر الإسلامي وأنه ليس أدبيات ترفيّة.

ويتمتع الفكر الإسلامي بجملة من العناصر التي تؤهله لتطويع الواقع وضغوطاته، والاستجابة لتحديات المستقبل أياً كان شكلها أو مضمونها؛ فيما لو أحسن أصحاب الاختصاص التعامل مع القواعد الأساسية التي يستند إليها والتي تتدخل في تشكيل بنيته. ولعل الدينامية والمرونة والحصانة من أهم هذه العناصر، والتي تدفع الفكر الإسلامي باتجاه التجدد والاكتشاف والتأسيس، وتحول دون خشيته من المراجعة المستمرة؛ هذه المراجعة التي تضمن له احتفاظه بعناصر القوة فيه وبقابليته على إخضاع الزمان والمكان للشريعة وأحكامها.

ولا شك في أن معرفة العصر الذي نعيش فيه أو سنعيش فيه هو مدخل تطبيق معادلة دور الزمان والمكان في العملية الاجتهادية. كما أن للتخطيط وتوفير الشروط علاقة مباشرة ولصيقة بالفكر والنظرية والمنهج، فنحن لا نتحدث عن تخطيط فني أو تقني فقط، بل تخطيط شامل ينتج عنه البديل الحضاري المستقبلي المطلوب، والذي يستند إلى قواعد الفكر والمنهج. وهنا تكمن مساحة المراجعة التي ننشدها. فنحن لا نهدف إلى أن تقوم الشريعة بملاحقة تطورات الزمن، ولا نريد للفقه أن «يتعصرن»، ولا للشريعة وعلومها أن يلاحقا الزمن، بل أن يسبقاه، كما نريد للعصر أن يتفقه، أي أن يجد أمامه فقهاً قائماً سبقه يجيب على كل تساؤلاته ويستجيب لكل تحدياته. حينها، لن يجد الزمن والعصر أمامهما سوى الانحناء أمام الشريعة والفقه والخضوع لهما. هذا الهدف ليس ضرباً من الخيال أو الترف العلمي، بل هو الحقيقة القائمة الآن بكل تفاصيلها، فقضايا المستقبل حاضرة أمامنا.. نشاهدها ونلمسها، رغم أنها لم تتحول إلى واقع فعلي؛ لأننا نعيش في المستقبل، أقصد أن العالم المتقدم علمياً ومنهجياً يعيش في المستقبل الآن، وليتنا كنّا أيضاً نعيش الزمن نفسه، ولكن، متلفعين بأصالتنا ومتسلحين بشريعة الله الخالدة التي لا يحدها زمان أو مكان. وبالتالي، فالمراجعة تهدف إلى التحول في النظرية وإلى الإصلاح في الفكرة من خلال الأدوات والآليات التي تقرها الشريعة؛ للدفع نحو المستقبل والإمساك بعملية التغيير الاجتماعي والبناء الحضاري، وانتهاءً بتحقيق مقولة: «الإسلام يقود المستقبل».

ومقدمة تطبيق مقولة «الإسلام يقود المستقبل» هي أن تكون الشريعة والفقه مؤثرين وليسا متأثرين، مع الإقرار بأهمية التأثر الإيجابي وواقعيته وعدم إمكانية الفرار منه، وأن يصنع الإسلام التغيير لا أن يلاحقه، فملاحقة التغيير وتطورات الزمن تعني أنه سيبحث عن إجابات لأسئلتها وسيضطر لمواجهة ضغوطها، أما إذا صنع الإسلام التغيير والتطور والمستقبل وصاغ الزمان والمكان وفقاً لرؤيته، فإن كل الإشكالات الفكرية وكل التساؤلات الفقهية والعقيدية ستكون واضحة أمامه إن لم تكن جاهزة.

ثمّ، إنّ تناول الشريعة وعلومها ومجمل الفكر الإسلامي لقضايا المستقبل، ليس عبوراً على الزمن ولا تجاوزاً للحاضر، ولا نقصد بذلك مجرد صوغ فرضيات وهمية أو موضوعات غير واقعية، بل نقصد به استعداد الفكر الإسلامي للمستقبل، بعد أن فرضت ظواهر الحاضر وتطوراته السريعة والتخطيط الذي تستند إليه – أن تعيش البشرية في المستقبل. وكمثال – في سياق ما تقدّم – فإنَّ تناول الفقه لما ستفرزه مخططات وبحوث علماء الهندسة الوراثية (الجنتيك) والبايولوجيا والفضاء والمعلوماتية والاتصالات والتنمية والسكان والطب وغيرها، من أسئلة وإشكالات كبيرة، تعنى أنه مندك في الواقع؛ إذ إنّ البشرية ستقطف ثمار هذه المخططات والبحوث بعد 30 أو 20 عاماً، لا سيما وأنّ بعض هؤلاء العلماء قد فتحوا باب البحث والتجربة على مصراعيه، دون محددات أخلاقية أو حتى إنسانية، وبذلك تجاوزوا السماء وتعاليمها، بل تجاوزوا حتى التعاليم الإنسانية التي تعارف عليها سكان الأرض.

وباعتبار أن هذه المشاهد المستقبلية من جملة المشاهد التي لا يستطيع المسلمون صنعها أو المساهمة في صنعها، بالنظر لعدم مواكبتهم التطور الذي تعيشه هذه العلوم، فمن المفروض – إذن – أن يجد الفقه حلولاً وتكييفات لإشكالياتها. وينسحب هذا الواقع على الجانب الفكري أيضاً، فمثلاً تطورات المستقبل (المنظور) سينتج عنا واقع فكري جديد، سواء على مستوى النظام السياسي للدولة ونظمها التقليدية في الاجتماع السياسي والاقتصاد والإعلام والثقافة والتعليم أو على مستوى العلاقات الدولية وغيرها، وما سيترتب على ذلك من نهاية للسياسة، ونهاية للايديولوجيا، ونهاية للتاريخ، ونهايات أخرى، كما يقول مفكرون غربيون(1). ولعلّ التغيير العملي سيسبق الفكر والنظرية والايديولوجيا بمراحل طويلة، وستكون النظرية إفرازاً للتطبيق، والفكر إفرازاً للواقع العملي، وليس العكس، مما يعني أن العلوم الإنسانية والاجتماعية والأفكار والفلسفات والمناهج النظرية سيقتصر دورها على المتابعة والتحليل، وستفقد قدرتها على التنظير و«الأدلجة» وصناعة الواقع والتغيير. بيد أن الفكر الإسلامي وعلوم الشريعة يمكنها تجاوز هذه الأزمة والقفز على تحدياتها، من خلال المراجعة المستمرة للفكر والاطلاع الدقيق على الواقع، بل يمكن للتحول النظري فيهما أن يكون أساساً للتغيير (العملي)؛ بالنظر للبُعد الإلهي الذي يدخل في تكوين بنية الفكر الإسلامي وعلوم الشريعة.

يفرض هذا التحول أن يعيش علماء الشريعة والمفكرون المسلمون قضايا العصر بكل تفاصيلها، ويفهموها فهماً شمولياً، ويستعدّوا لتطوراتها ومعطياتها المستقبلية؛ لكي يجتنبوا ما سيتسبّب فيه المستقبل لهم من صدمات وذهول، ومن ثم تراجع قياسي وضياع وهزيمة شاملة للأمة. وأؤكد على أنها ستكون هزيمة شاملة؛ لأن التشابك المستقبلي في القضايا والظواهر والأشياء سيأخذ مسارين أفقي وعمودي، وسيرمي التشابك الأفقي بظلاله على الجغرافيا السياسية والسكانية والثقافات والمجتمعات والأفكار والأديان والمذهب، أما التشابك العمودي فسيشتمل على الموضوعات والمشاكل والتحديات. ومن هنا فأي تراجع في أي مجال سيترتب عليه تراجع وهزيمة في المجالات الأخرى.

إن جملة الأدوات والآليات التي تنظم عملية المراجعة ومراحلها وتحدد مساراتها، هي التي تتدخل في تشكيل بنية المنهجية التي تتخذها عملية المراجعة، وهي منهجية تجمع بين كونها فنية وتقنية من جهة وفكرية ونظرية من جهة أخرى، أي أنها منهجية مستنبطة من ثوابت الشريعة أو مقبولة لديها، وليست مستعارة من علوم ونظريات وضعية أخرى. وبالتالي؛ يمكن لأصالة المنطق والهدف والوسيلة أن تضمن أصالة النتاج. وتحتوي هذه المنهجية على جملة من المسارات المتكاملة:

  • مسار «الإحياء» و«الإصلاح» و«التجديد»، ويتمثل بتمحيص الفكر الإسلامي، التراثي والمعاصر، وتنقيته، واستخراج المادة التي تدخل في البناء الفكري الجديد.
  • مسار ملء المساحات التي تركتها الشريعة الإسلامية لأصحاب الاختصاصات، وهي مساحات فراغ تشريعي وفكري أو تفويض تشريعي وفكري، وترتبط بالموضوعات المستجدة والمتحوّلة، أو التي ستستجد وتتحول، وهو مسار مفتوح لعمليات «التنظير» و«التأسيس» و«الاستنباط»، وأداته الرئيسة: «الاجتهاد».
  • مسار «التأصيل» و«الأسلمة» من خلال استطلاع الأفكار والنظريات والموضوعات الجديدة التي أفرزتها بيئات فكرية أخرى، والتي يمكن أن تشكل إضافات ضرورية للفكر الإسلامي، بعد عرضها على مبادئ الشريعة وأحكامها ومقاصدها، وتحييدها ثم تأصيلها وأسلمتها، بالصورة التي تجعل منها رؤية جديدة مختلفة تنسجم مع التصور الإسلامي.
  • مسار التطبيق وإسقاط الفكر عملياً، ويختص باكتشاف الأساليب التي من شأنها إخضاع الواقع للنظرية أو إخضاع الزمن للشريعة.

وفقاً لهذه المنهجية فإن عمليات الإحياء والإصلاح والتجديد والتأسيس والتنظير والتأصيل والأسلمة، لها مصاديقها ومجالات إطلاقها وتطبيقها، كما أن لكل منها مساحاتها الفكرية والواقعية الخاصة، ولا يمكن تعميمها جميعاً على كل مساحات الفكر والواقع؛ لأن حقائقها نسبية، ولكن يبقى أن جميع النتاجات التي تفرزها هذه العمليات، والتي تشكّل بنية الفكر الإسلامي وفقاً لاستدعاءات المستقبل، لابد من صياغتها صياغة موحّدة؛ ليكون الفكر المنتَج عبارة عن منظومة فكرية واحدة مترابطة في مضامينها ومتناسقة في شكلها.

والحقيقة، إن التجديد وكذلك الإصلاح الفكري سنة إلهية تحدثت عنها النصوص الإسلامية بوضوح تام، وفتحت لها الشريعة أبوابها؛ ليبقى البناء الخالد بمرونته واستحكامه، فهو بحيث تتحطم على ثباته كل التحديات المعرفية والفكرية والحضارية التي تهدد كيان الإسلام؛ ولتصوغ (الشريعة) بناءها الحضاري الذي يناسب كل زمان ومكان. ولعل أحاديث شريفة مثل: ((العلماء ورثة الأنبياء))(2) و((إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)) (3) و((إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا)) (4)، هي أدلة واضحة على دعوة الإسلام لتجديد معارفه وفكره في مساحة المتغيرات، وتجديد وعي الأمة وخطابها، واستمرار حركة الاجتهاد والاستنباط، والانفتاح على الحياة ومراقبة الواقع وتطوراته. كما أنها تدل على وجود مرجعية ثابتة للإصلاح والتجديد والتنظير والأسلمة، وتتمثل في الأصول المقدسة: القرآن الكريم والسنة الشريفة (الصحيحة)، وهي مرجعية لا يمكن تجديدها أو الاجتهاد في مقابلها. وهناك مرجعيات أخرى لا تمثل سلطة ثابتة، بل هي مرجعية متحرّكة للتكامل، كالتراث الكلامي والفكري والفقهي، وما يضمه من نظريات وآراء وقواعد ومناهج، إضافة إلى أدوات فهم الأصول المقدسة، كالعقل والإجماع وغيرها.

من التراث إلى المستقبل

التراث الإسلامي العلمي هو مساحة المراجعة الأساسية، ولا نقصد به التراث الكلامي والفكري والفقهي والأصولي الذي خلّفه علماء الكلام والفقهاء والمحدّثون والرجاليون والمؤرخون والمفسرون والحكماء والمفكرون من السلف الصالح وحسب، بل يشتمل التراث أيضاً على ما وضعه المعاصرون؛ إذ أن مسار المعرفة الإسلامية مسار واحد ممتد، وهو حصيلة جهود متواصلة وتراكم معرفي غير منقطع، وفهم تكاملي يعبر عن مسيرة الوعي والاجتهاد والعقل الإسلامي عبر مراحل التاريخ المختلفة، وهذا التلازم هو الوجه الآخر لقانون «الوراثة الحضارية»(5). ولا نقصد بالتراث ثوابت الشريعة فقهاً وعقيدة، فهي – كما ذكرنا – لا تنتمي إلى تراث المسلمين ولا تشكل مساحات للمراجعة؛ لأنها ليست إفرازاً لزمن أو عصر أو بيئة، ولا تتأثر بقواعد التاريخ والجغرافيا.

وتعاملنا مع التراث وأنماطه ومعارفه لابد أن يتضمن أدق ألوان الاعتدال والتوازن: إذ أن الإفراط والتفريط والانفعال والنظرة المبتورة ستؤدي إلى نتائج قاصرة تماماً عن تحقيق الهدف المطلوب من المراجعة. ففي الوقت الذي لا يعدّ فيه التراث سلطة معرفية ثابتة وقاهرة، فإنه – لا شك – يشكل جزءاً من هوية الأمة وتكوينها العقيدي والثقافي والاجتماعي والنفسي. ومن هنا، فالتراث هو قوام حضارتنا في الماضي وإطار هويتنا في الحاضر ومنطلق دخولنا عالم الغد. ولكن يبقى أن هذا التراث يعبّر عن فهم عصر آخر وزمن مختلف، وكان تعبيراً عن التجديد والإبداع في البيئة التي أنتجته، ولا ينبغي أن تبقى نظمه المعرفية والعقلية وأدواته ومناهجه، التي صاغتها عقول المبدعين والمجددين في أزمنتهم، عائقاً أمام المراجعة والإصلاح والتطور الفكري، والتنمية الشاملة، والتغيير والنهوض الإسلامي الذي يكفل التأسيس للبديل الحضاري الإسلامي المستقبلي.

والظواهر الفكرية والحركية المتنوعة التي تشهدها الساحة الإسلامية، منذ بدايات القرن الميلادي الماضي وحتى الآن، هي – في معظمها – إفراز لأنماط التعامل مع التراث، والذي كشف عن ثلاثة تيارات رئيسية، بغض النظر ن أسمائها ومسمياتها وطبيعة انتماءاتها وزمن انبثاقها:

الأول: تعامل تعاملاً انفعالياً، غير متوازن ولا واقعي مع التراث ومعارفه وعلومه، وجمد على فهم السلف وأدواته ونتاجاته، ولم يع حقائق العصر ومتطلباته وضرورات استمرار الاجتهاد والاكتشاف والتأسيس.

الثاني: تعامل أيضاً تعاملاً انفعالياً، غير متوازن ولا واقعي مع التراث ومعارفه وعلومه؛ لكنه ـــ على العكس من التيار الأول ـــ أدار ظهره للتراث ومعارفه وتمسك بالعصر ومشاكله وأفكاره. وهذا التعامل غير المتوازن مع التراث والعصر تسبب في ألوان من القلق والانحراف والانفلات العقيدي والفكري والسلوكي.

الثالث: عاش توازناً منهجياً وواقعياً في تعامله مع قضايا التراث والعصر؛ فأنتج نمطاً متوازناً أيضاً من الفكر والرؤى والخطاب والسلوك، حفظ له أصالته الإسلامية ومكنه من معالجة كثير من تحديات العصر، من خلال خطاب عصري في لغته وشكله، وأصيل في بنيته ومضامينه. ويبقى أن رهان بناء المستقبل الإسلامي ومشروعه الخضاري هو على التيار المتوازن.

وهذا الاختلاف في فهم الأصول المقدسة وقواعد التعامل معها، وفي نوعية النظرة إلى الإنتاج العلمي والفكري للمسلمين، وإلى قضايا العصر ومتطلباته، هو المؤشر الأبرز على الجانب البشري في التراث. والذي يسمح لأهل الاختصاص بالمراجعة والتنقية والتجديد والتأسيس وإعادة البناء.

علم الكلام ومواجهة تحديات المستقبل

علم الكلام هو من أبرز مفردات الفكر الإسلامي التي تواجه تحدي الحاضر والمستقبل؛ لأنه يمثل الجبهة الأمامية المعنية بمواجهة الضغوط والتحديات الفكرية والعقيدية التي يتعرض لها الدين وأصوله ومقولاته وشريعته. ومع تراكم هذه الضغوط والتحديات وظهور ألوان معقدة منها تبعاً للتطور الهائل الذي شهدته أو ستشهده الحياة، فإن مهمات علم الكلام ووظائفه تتضاعف أيضاً، بهدف مواكبة هذا التطور ومحاولة استباقه، وبالتالي العمل على ردم الفجوة بين العقيدة والشريعة من جهة، وبينهما وبين الواقع من جهة أخرى. ويستدعي ذلك مراجعة لمقولات علم الكلام ووظائفه ومناهجه ولغته، وهو ما طرحه على طاولة البحث العلمي في العقد الأخير – وبشكل مكثف – عدد من علماء الدين والمفكرين والباحثين. ولكي نتجاوز المقولات التي تطرفت في دعوتها لعلم جديد في موضوعاته ومنهجه وتوجهاته وأهدافه، وكذلك ردود الأفعال غير الموضوعية التي قررت الجمود على التراث الكلامي بموضوعاته ولغته ومبانيه، فإننا نتجه بحديثنا نحو الواقع وما يتطلبه؛ لتأخذ الدعوة لتجديد التراث الكلامي مسارها الموضوعي.

إن التحديات الجديدة التي تواجه الدين ومعارفه وفكره، من خلال الشبهات والتساؤلات المعقدة التي تفرزها الدراسات ذات العلاقة بالدين والفكر الديني، وكذلك الأفكار والنظريات والعلوم والفلسفات الحديثة التي تجاوزت المجالات العقيدية إلى القيم والأخلاق والسياسة والاقتصاد والثقافة، تجعل مهمة الكلام التقليدي ومقولاته ومناهجه في غاية الصعوبة؛ بالنظر إلى أنها وصلتنا وهي مفصّلة على مقاس بيئات مختلفة، كان لها موضوعاتها وشبهاتها وأساليبها في الاستدلال. بل لا يمكن لواقعنا الإسلامي أن لا يكون معنياً بالتحولات الكبرى التي يعيشها الغرب منذ ثلاثة قرون وحتى الآن؛ وصولاً إلى تحولات الغد، على صعيد الفكر الديني والنظرة إلى الدين ومناهج تحليله وتفسيره، وليس آخرها فلسفة الدين والهرمنوطيقيا؛ لأن مساحات واسعة من هذا الواقع باتت تتعاطى هذه الأفكار وتحاول تطبيقها على الإسلام وعقيدته وأصوله ونصوصه أيضاً، فضلاً عن أساليب قراءته وفهمه؛ الأمر الذي يضاعف من التحديات التي تواجه الدين، بعد أن أصبحت تنبثق من داخل الواقع الديني. وهذا كله يدفع علم الكلام إلى الانفتاح المنهجي والعميق على كل قضايا العصر والمستقبل، وصولاً إلى تشكيل منظومة كلامية جديدة؛ متماسكة وشاملة في موضوعاتها، ومركزة وعميقة في استدلالاتها، ورصينة ومقنعة وجذابة في خطابها ولغتها.

والحقيقة، إن تجديد علم الكلام لا يقتصر على الموضوعات والمسائل الكلامية المستحدثة، بل يشتمل على بعض أركانه الأخرى أيضاً، فالمسائل والموضوعات الجديدة التي أفرزت أساليب أو مناهج جديدة في العرض والاستدلال، تستدعي أيضاً مناهج وأساليب أخرى غير تقليدية، وهو تنويع منهجي تتطلبه طبيعة كل مسألة وموضوع. كما أن التطور الذي تشهده اللغة، والتحول المعرفي والثقافي الذي نتج عنه هذا التطور، بسبب تدخل العلوم والأفكار الجديدة في صياغة اللغة المعاصرة، وظهور وعي جديد وفهم مختلف، أدى إلى حدوث فاصلة بين لغة الكلام التقليدي واللغة المعاصرة، الأمر الذي يحتم انفتاح علم الكلام على لغة العصر والمعارف والثقافات التي أنتجها، بهدف إيجاد لغة مشتركة مع أصحاب الوعي الجديد. كما يمكن لتجديد علم الكلام أن يتسع ليشمل الأهداف أيضاً، ولكنه لا يتمدد على حساب الهوية المعرفية له، إذ أن غاية علم الكلام تشتمل على عرض العقيدة الدينية وأصولها من خلال الاستدلال عليها وتحليلها وتفسيرها، ودحض الشبهات والإشكالات التي تواجهها، وتقديم هذه العقيدة للناس، بالصورة التي تجتذبهم إليها عن قناعة، وتكوين تصور كوني ومعرفة بعالم الوجود من خلال تعاليم الوحي. ويمكن إضافة مهام وأهداف أخرى تنسجم مع نوعية أهداف التحديات الجديدة أو التي ستستجد.

وبناءً على ذلك، فالتجديد لا ينزع إلى تشكيل علم جديد، بل ينزع إلى التكامل مع الموروث، أي أنه إضافة وتطوير. ويبقى أن التسميات غير ذات أهمية، فالمهم هو تحقيق الكلام – الذي يطمح إليه المسلمون – لغاياته، برغم أن التسميات بذاتها قد تحمل فهماً مختلفاً ودلالات أخرى.

بين علم الكلام الجديد وفلسفة الدين

أشرنا الى إن غاية علم الكلام تشتمل على عرض العقيدة الدينية وأصولها من خلال الاستدلال عليها وتحليلها وتفسيرها، ودحض الشبهات والإشكالات التي تواجهها، وتقديم هذه العقيدة للناس، بالصورة التي تجتذبهم إليها عن قناعة عقلية، وتكوين تصور كوني ومعرفة بعالم الوجود من خلال تعاليم الوحي.

والتحديات الجديدة التي تواجه الدين ومعارفه وفكره، من خلال الشبهات والتساؤلات المعقدة التي تفرزها الدراسات ذات العلاقة بالدين والفكر الديني، وكذلك الأفكار والنظريات والعلوم والفلسفات الحديثة التي تجاوزت المجالات العقيدية إلى القيم والأخلاق والسياسة والاقتصاد والثقافة، تجعل مهمة الكلام التقليدي ومقولاته ومناهجه في غاية الصعوبة؛ بالنظر إلى أنها وصلتنا وهي مفصّلة على مقاس بيئات مختلفة ومتباينة أحياناً، كان لها موضوعاتها وشبهاتها وأساليبها في الاستدلال. بل لا يمكن لواقعنا الإسلامي أن لا يكون معنياً بالتحولات الكبرى التي يعيشها الفكر الغربي منذ ثلاثة قرون وحتى الآن؛ سيما في مجال الفكر الديني والنظرة إلى الدين ومناهج تحليله وتفسيره، وليس آخرها فلسفة الدين والهرمنوطيقيا؛ لأن مساحات واسعة من هذا الواقع باتت تتعاطى هذه الأفكار وتحاول تطبيقها على الإسلام وعقيدته وأصوله ونصوصه أيضاً، فضلاً عن أساليب قراءته وفهمه؛ الأمر الذي يضاعف من التحديات التي تواجه الدين، بعد أن أصبحت تنبثق من داخل الواقع الديني. وهذا كله يدفع علم الكلام إلى الانفتاح المنهجي والعميق على كل قضايا العصر والمستقبل، وصولاً إلى تشكيل منظومة كلامية جديدة؛ متماسكة وشاملة في موضوعاتها، ومركزة وعميقة في استدلالاتها، ورصينة ومقنعة وجذابة في خطابها ولغتها.

إذاً؛ “العقيدة الدينية” هي موضوع علم الكلام، والاجتهاد في مناهجها ومساحاتها هو أداة التجديد في علم الكلام. وبالتالي فعلم الكلام الجديد هو علم ديني، ومنهجه منهج نقلي عقلي ذو محددات دينية وغايات دينية.

أما فلسفة الدين فهي منهجية عقلية محضة لا علاقة لها بإنتاج مقولات دينية، وهي ليست علماً؛ بل فلسفة موضوعها ما وراء العقيدة وليس العقيدة نفسها، وتهدف الى اكتشاف مناشىء الدين ونزوع الإنسان نحو التدين وممارسة التدين، وغايات الدين ومقاصده ومساحة حركته وعلاقته بتطور الخبرة الإنسانية والعلوم البشرية، وأساليب فهم النص الديني، وتأثير الرؤية الكونية والقبليات العقيدية والفلسفية والفكرية والثقافية على هذا الفهم. أي أن أهدافها معرفية محضة.

ولا شك أن مقولات علم الكلام الجديد تأثرت بمقولات فلسفة الدين، ولكنه ليس تأثراً بمعنى التشبه بهذه المقولات أو التماهي معها؛ بل بمعنى أن فلسفة الدين أنتجت أسئلة وجد علم الكلام نفسه مجبراً للإجابة عليها؛ بل وجد نفسه عاجزاً عن الإجابة عليها بمقولاته ومناهجه التقليدية؛ الأمر الذي اضطره لتجديد نفسه تبعاً لذلك.

فقه المستقبل

ما يرد على علم الكلام يرد على علم الفقه أيضاً، من ناحية آفاقه ومنهجه في رؤية الواقع، وما ينطوي عليه هذا الواقع – الجديد أو الذي سيستجد – من موضوعات هائلة في حجمها وسرعة حركتها وتزايدها؛ الأمر الذي يستدعي إعادة الاكتشاف في الشريعة وأبعادها، بعيداً عن بعض زوايا النظر التي تحول دون استيعاب الفقه لكل قضايا الحياة وتعقيداتها؛ باعتباره قانون الحياة الذي ينظم علاقة الإنسان بنفسه وربه وبالطبيعة وبالإنسان الآخر. ومن هنا فإن هذا القانون يتسع لكل قضايا الفرد والمجتمع، وعلى صعد الحياة كافة، السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والأمنية والدفاعية والعلمية والتكنولوجية وغيرها. ولا شك أنّ ما يضمّه الإنتاج الفقهي (المورث والمعاصر) في هذه المجالات لا يمكن أن يعتد به قياساً بالأبواب التقليدية. فضلاً عن أن هذه المجالات لم يتم تأصيلها فقهياً بالشكل الذي تتحول فيه إلى نُظُم فقهية متكاملة ومستقلة، ربما باستثناء الفقه السياسي، والذي لا يزال – هو الآخر – بحاجة إلى المزيد من الجهد الفقهي الذي يستوعب النظم الأخرى للدولة الإسلامية، فضلاً عن حل الإشكاليات التي ظلت عالقة في مجال النظام السياسي، وازدادت تعقيداً بفعل ما يطرأ على الواقع الإسلامي والعالمي من موضوعات جديدة يصعب اللحاق بها.

وفهم الموضوعات المتحولة والمتغيرة التي كانت أحكاماً سابقة، وفهم خلفيات هذا التحول، وفهم موضوعات الحوادث الجديدة الواقعة أو التي ستقع، أي الواقعة بالفعل أو بالقوة، وفي مختلف المجالات، ومن ثم إصدار الأحكام الشرعية المناسبة لها، بصورة إجابات متناثرة أو منظومات فقهية، مع الأخذ بنظر الاعتبار مقاصد الشريعة وما يتطلبه ذلك من وعي فقهي شمولي واجتماعي بالواقع، يستدعي إضافات نوعية لآليات الوصول إلى الحكم الشرعي، وأبرزها آلية الاجتهاد، بهدف تحقيق مقولة «الاجتهاد الجديد»(6)، ليس بمعنى استعارة مناهج جديدة غريبة عن بنية الفقه، وإنما بمعنى تطوير هذه الآلية فنياً ومنهجياً بما يتلاءم وحركة الحياة المتجددة. ويمكن في هذا المجال استعراض أهم الأفكار التي يرددها بعض الفقهاء والمفكرين، باعتبارها عينات مطروحة على طاولة البحث والحوار بين أصحاب الاختصاص:

1 – تفعيل دور الزمان والمكان في تغيير موضوعات الأحكام، وفهم هذه الموضوعات وفهم الفقيه للدليل، ووعي مقصد الشريعة حيال الموضوعات الجديدة. ويتدخل هذا الدور في وعي الفقيه، من خلال الانفتاح على علوم العصر وثقافاته وحقائقه ومتغيراته؛ ليكون فهمه لموضوعات الأحكام فهماً واقعياً وميدانياً وحسّياً، ووعيه أكثر التصاقاً بالحقيقة الدينية وبمقصد الشريعة. ولعل الإمام الخميني في مقولته: ((المعرفة الدقيقة في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تحوّل الموضوع الأول – الذي لم يتغيّر في الظاهر – إلى موضوع يستلزم حكماً جديداً بالضرورة))(7) يعبّر بوضوح عن هذا الاتجاه. كما أنه – في مقولة أخرى – يستشرف ضغط عامل الزمان والمكان في بروز الحاجات الجديدة، ويؤكد على ضرورة استعداد الفقه للتعاطي المباشر مع هذا العامل: ((سيتغيّر الكثير من الطرق السائدة في إدارة أمور الناس في السنوات القادمة، وستحتاج المجتمعات الإنسانية إلى المسائل الإسلامية الجديدة لحل مشاكلها، ويجب على علماء الإسلام التفكير بهذا الموضوع من الآن))(8).

وبذلك فإن عدم معالجة الفقهاء لدور عامل الزمان والمكان في إعادة تشكيل وعي المجتمعات الإسلامية وحاجاتها سيؤدي إلى تطفّل غير المتخصصين، بدعوى ملء هذا الفراغ، ليس بإصدار الفتاوى والأحكام وإنما للمطالبة بآليات ومناهج جديدة للتفقه ولقراءة الشريعة!، ومحاولة العبور على ثوابت الشريعة. ولعل من أخطر هذه المناهج منهج «القراءة التاريخية للنص الديني»، أو «تاريخانية الدين»، والذي يدعو إلى حصر دلالة النص في زمنه.

2 – الانفتاح الفقهي بين المذاهب الإسلامية، والوقوف على إمكانية الاستفادة من بعض آليات الاجتهاد وقواعده وأدلته لديها، بهدف تكييف المعضلات التي يجد الفقيه نفسه مُحرجاً أمامها، ولا سيما المعضلات المستحدثة. ويستدعي هذا عودة أخرى للأصول المقدسة ومحاولة إعادة اكتشاف الأدوات والقواعد والأمارات الفقهية والأصولية، فضلاً عن التأصيل المذهبي لبعض الأدوات التي تستخدمها المذاهب الأخرى.

3 – الاجتهاد الجماعي أو ما يسميه بعض الفقهاء بالاجتهاد المجمعي، وهو الاجتهاد الذي يمارسه مجموعة من الفقهاء بصوت عالٍ وهم مجتمعون حول طاولة واحدة، سواء بهدف الخروج بحكم شرعي أو التأسيس لمنظومة فقهية في أحد المجالات. وهذا اللون من الاجتهاد ضروري جداً في الموضوعات التي تستدعي إحاطة واسعة ومعمقة بها وبالأدلة الشرعية وقواعدها، ولا تكتفي بالحكم بل بالمعالجة الموسعة التي قد ينتج عنها باب فقهي جديد، وهي موضوعات تتوالد بشكل يومي. وتتمثل آليته في البحوث التي يطرحها الفقهاء، والتي يكمل بعضها الآخر موضوعياً ومنهجياً، ثم مناقشتها مناقشة وافية من خلال الحوار المباشر، ثم تدوين المحصلة أو النتائج التي يخرجون بها، سواء اتفقوا على نتائج موحّدة أو متقاربة، أو نتائج مختلفة تمثل عدداً من الاحتمالات (الاجتهادات). وقد يستدعي الحوار الفقهي الجماعي هذا حضور متخصصين بالموضوع من غير الفقهاء، كالأطباء وعلماء الفيزياء والكيمياء وغيرهم، أو المفكرين والمثقفين الدينيين، من المحيطين بأبعاد الموضوع ومصاديقه وخلفياته وآفاقه.

وفي الاتجاه نفسه تبرز ضرورة التخصص الفقهي الموضوعي، فتشعب العلوم وتراكم الموضوعات يتطلب فقهاء متخصصين في مجال أو باب محدّدين، مع استيعاب عام – بالطبع – للمسائل الفقهية الأخرى. هذا التخصص سيخلق عمقاً في فهم الموضوع والدليل والمنهج ومقصد الشريعة، ووعياً كافياً بالواقع ومقتضياته. وإذا وضعنا آلية الاجتهاد الجماعي أو البحث الفقهي المجمعي وأسلوب الاستعانة بالمتخصصين إلى جانب آلية التخصص الفقهي الموضوعي فستكون النتائج منسجمة مع نوعية الموضوعات الجديدة وحجمها.

4 – اكتشاف مساحات الفراغ التشريعي أو التفويض التشريعي القائمة أو التي ستطرأ، في إطار ما يقدمه السيد محمد باقر الصدر من تفسير متكامل لاستراتيجيا الشريعة في استيعاب تطورات العصر، إذ يقول: ((الإسلام لا يقدم مبادئه التشريعية… بوصفها علاجاً مؤقتاً، وإنما يقدمها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور. فكان لابد لإعطاء الصورة هنا العموم والاستيعاب أن ينعكس تصور العصور فيها، ضمن عنصر متحرك يمد الصورة بالقدرة على التكيّف وفقاً لظروف مختلفة. ولا تدل منطقة الفراغ على نقص في الصورة التشريعية، بل تعبّر عن استيعاب الصورة، وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة))(9).

لا يعني ذلك قدرة الشريعة على تكييف تلك المساحات بالصورة التي تستوعب التطور في الواقع وحسب، بل تعني أيضاً إعطاء الإنسان، في أي زمن أو مكان عاش، الفرصة لتكييف واقعه الجديد وفقاً للعناصر المتحركة في الشريعة، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه «التفويض التشريعي». ولا شك أن كلا التكييفين لا يخرجان عن إطار آلية الاجتهاد الشرعي، وفي حدود الموضوعات الجديدة التي ليس فيها نص أو قاعدة فقهية أو أصولية، وكذلك الموضوعات المتغيّرة التي تستدعي حكماً جديداً، أو الموضوعات التي تتسبب الظروف الطارئة في إصدار أحكام ثانوية لها. وهي لا شك مساحات تتسع باطراد، ويتطلب اكتشافها وملؤها جهوداً فقهية استثنائية.

والحقيقة أن سماح الشريعة بوجود هذه المساحات يعدّ أهم عنصر من عناصر المرونة في الشريعة، بل الدليل العقلي الأبرز على خلودها. وتمتد المرونة في الشريعة إلى المساحات التي فيها نص أيضاً، ولكن في إطار القواعد الفقهية التي تنظر إلى «العناوين الثانوية»، وهي عناوين طارئة تؤثر على الأحكام الأولية، أو في إطار المصلحة (الشرعية) التي تستوجب أحكاماً ولائية تتجاوز – في الحالات الضرورية والطارئة – الأحكام الأولية أيضاً. والمهم أن عناصر المرونة هذه، إذا ما أحسن استثمارها، هي الرهان الأساس الذي يحفز الفقه على الاستجابة لكل التطورات الزمكانية ولكل المؤشرات على ظهور واقع جديد.

5 – الفكر الفقهي الاجتماعي يمنح الرؤية الفقهية بعداً شمولياً يستوعب الواقع الاجتماعي والفردي المتشابك، وينفتح على المدلول الاجتماعي للنص والدليل الشرعي، بينما تحجز الرؤية التجزيئية نفسها في زاوية النظرة اللفظية للنص والفهم ذي البعد الواحد للدليل الشرعي، وتؤكد على معالجة واقع الفرد، وتنظر إلى حاجاته وكأنها منفصلة عن مجمل حركة المجتمع الإسلامي، أي أنها لا تنظر إلى الأبعاد الأخرى للموضوع وتأثيراته وشبكة العلاقات التي تربطه بالموضوعات الأخرى، وهو ما اعتاد فقه الأفراد على ممارسته في عملية الاجتهاد. ولا شك أن مشكلة الفرد لا يمكن معالجتها بمعزل عن حل المشكلة الاجتماعية برمّتها، الأمر الذي يستدعي طرح المشكلة الاجتماعية بكل أبعادها على طاولة البحث الفقهي؛ للخروج بمنظومة فقهية اجتماعية تستوعب حاجات الفرد أيضاً، إذ أن معظم الأحكام الفردية – ومن بينها العبادات بالمعنى الأخص – لا يمكن تجريدها من بعدها الاجتماعي.

واستخدام هذه الرؤية الاجتماعية الشمولية يتطلب وعياً تكاملياً لدى الفقهاء يشد كل مجالات الحياة ببعضها كالسياسة والاقتصاد والثقافة وغيرها، وهو ما يعبّر عنه الإمام الصدر بالفهم الاجتماعي للدليل الشرعي. وتضاف إليه ضرورة أخرى تتمثل بتجسير العلاقة بين علم الكلام وعلم الفقه، أو العلاقة بين الشريعة والرؤية الكونية الإسلامية بأبعادها الفلسفية والكلامية والايديولوجية، أو بين أصول العقيدة والأحكام الفقهية، وبالتالي توحيد الرؤية العقيدية والرؤية الفقهية، وهو ما يؤكد عليه – بشكل وآخر – فقه المقاصد ومنهج فلسفة الفقه. فالفكر الفقهي الاجتماعي – إذن – يتحرّك أفقياً من خلال شد عناصر الحياة ببعضها، ويتحرك عمودياً من خلال توحيد الرؤية الكونية الإسلامية والرؤية الفقهية.

6 – يمكن لفقه المقاصد أو مقاصد الشريعة، إذا تم تطويره من الطابع الخطابي وتحويله إلى حقل علمي متكامل ثم توظيفه في القضايا الفقهية، أن يقدم فهماً أشمل للشريعة، ويتجاوز النظرة التجزيئية والفهم الحرفي لها، من خلال تعمقه في معرفة مراد الشارع وقصد الشارع من الحكم أو الدليل، إضافة إلى شد الأحكام ببعضها لاستقراء كليات الشريعة ومقاصدها العامة، في إطار منهج يمزج بين العقل والنقل. ومن ثم يتم عرض كل دليل أو حكم على هذه المقاصد للوقوف على حقيقة تطابقها مع حكمة الشارع ومراده. وهناك مقاصد عامة لكل الشريعة ومقاصد خاصة لكل باب فقهي ومقاصد جزئية لكل حكم، والمقاصد الخاصة والجزئية تلتقي مع بعضها في إطار المقاصد العامة لكل الشريعة.

وقد لاحظ الشيخ إبراهيم الشاطبي، وهو الذي بلور الخطوط العامة لهذا الحقل من خلال استقرائه للشريعة، أنها وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس: الدين، النفس، النسل، المال والعقل(10)، وأن كل الأحكام الفقهية لابد أن تراعي هذه الضروريات، وهو ما قرره الفاضل المقداد السيوري أيضاً (وهو معاصر للشاطبي)(11). وذلك يعني وحدة الموقف بين العقيدة والفقه، وتوقف الحكم الفقهي على استيعاب أصول العقيدة وفلسفتها، وبكلمة أخرى: إرجاع الفروع إلى الأصول، وفهم الأدلة الجزئية وغاياتها على أساس الكليات التشريعية. ولا شك أن مقاصد الشريعة لا تقتصر على الضروريات التي استنبطتها تجربة الشاطبي أو تجربة المقداد، بل تتسع لضروريات أخرى، كما قرر ذلك الفقهاء والأصوليون الذين جاءوا بعدهما، ولا سيما المعاصرين منهم، وأبرزهم الطاهر بن عاشور، الذي ذكر بأن المقاصد العامة للشريعة تتمثل في: حفظ النظام، جلب المصالح، درء المفاسد، إقامة المساواة بين الناس، جعل الشريعة مهابة مطاعة نافذة، جعل الأمة قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال وغيرها(12). أما المقاصد الخاصة للشريعة فتتمثل في: تحقيق مقاصد الناس النافعة وحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة.

وتطرح اليوم مناهج أخرى مكمّلة لفقه المقاصد أو تهدف إلى تطوير فقهي مواكب للتطور الهائل الذي يشهده الواقع، مثل فقه الأولويات وفلسفة الفقه، ففقه الأولويات يعنى بفهم الواقع وتكييفه مع مراد الشارع، أي أنه يجمع بين مقاصد الشريعة وأولويات الواقع عبر فهم وظيفة التديّن وفلسفته، والتفريق بين الدين والتدين. ومنهج فقه الأولويات منهج مركب، أي أنه يجمع بين استثمار بعض القواعد والأمارات الفقهية والأصولية ذات العلاقة (التعارض، التزاحم، التيسير، الضرورات، المصلحة وغيرها) واستثمار العقل ومستقلاته والعرف والخبرة والتجربة العلمية الإنسانية. وتنقسم الأولويات إلى أولويات الفرد وأولويات المجتمع وأولويات الأمة وأولويات الدولة وأولويات البشرية، وهي أولويات واقعية يحددها منهج فقه الأولويات عبر عرضها على فقه المقاصد ليتعرف على رأي الشريعة(13)، وعندها تتم الإجابة في وقت واحد على سؤال: ماذا يريد الواقع وماذا تريد الشريعة؟

أما فلسفة الفقه فهي أحدث فكرة تطرح على صعيد تطوير آليات الاجتهاد والنظام الفقهي إنتاجاً ومنهجاً وأصولاً وأُفقاً، ولا تزال في طور التشكل الذي تتخلله تجاذبات وآراء تنقله من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وبالعكس. ولكن عموماً يمكن لهذا الحقل، بعد تبلوره وتحوّله إلى حقل علمي متكامل، من اكتشاف غايات الفقه ومقاصده ومساحة حركته وعلاقته بتطور الخبرة الإنسانية والعلوم البشرية، وأساليب فهم النص واستظهار الدليل الشرعي، وتأثير الرؤية الكونية والقبليات العقيدية والفلسفية والفكرية والثقافية على هذا الفهم والاستظهار. أي أن فلسفة الفقه تتحرك على ثلاثة محاور: غايات «الفقه» ومصادره ومساحاته، وعي «الفقيه» وثقافته وقبلياته، وتأثير «الواقع» وحاجاته. وهو بذلك يشترك مع فقه المقاصد وفقه الأولويات والفكر الفقهي الاجتماعي في معظم المساحات، ولكنه يعتمد منهجاً آخر يقترب من فلسفة الدين.

الرؤية الإسلامية المستقبلية

تنطوي متطلبات المستقبل على معرفة جملة من الحقائق النسبية، من خلال استطلاع المعطيات التي ستؤدي إليها، واستشراف طبيعة العناصر التي شكلتها. ومن أبرز هذه الحقائق: حقيقة الزمن الذي سنعيشه، أي عالم المستقبل، والتحديات الداخلية التي ستبرز في واقع هذا الزمن، والتحديات الخارجية التي ستواجهنا. ففي الإجابة على تساؤل: «في أي زمن سنعيش؟!» تكمن عملية الاستشراف المستقبلي، التي تكشف لنا عن نوعية الزمن الذي سنعيشه وشكله وضغوطاته وتحدياته. والإجابة على هذا السؤال ستجرنا بصورة طبيعية إلى سؤال آخر هو: «كيف سنعيش؟»، وهذه الكيفية إما نصنعها نحن أو نساهم في صنعها، ويستلزم ذلك ألواناً من التخطيط، أو نكون مسلوبي الإرادة ولا نمتلك أي برنامج وتخطيط لحياتنا.

والحقيقة أن معرفة الزمن الذي سنعيشه، وطبيعة ممارستنا للحياة فيه، يتطلب معرفة دقيقة بالزمن الذي نعيشه الآن، ومعرفة أخرى بآليات التطور ومعادلاته وقوانين الانتقال من الحاضر إلى الغد؛ لأن هذه المعرفة هي القناة التي توصلنا إلى الزمن القادم؛ إذ إن الزمن القادم تصنعه معطيات الحاضر وقراراته وتخطيطه.

وعلى هذا الأساس؛ ستكون المعرفة بالزمن أو العصر شاملة ومتكاملة. في حين ان العجز عن دخول العصر ومعرفته سيؤدي إلى عجز آخر؛ يتمثل في عدم توقع الآتي وكيفية استقباله؛ وبالتالي عجز عن التخطيط له. ويعود هذا إلى عدم قدرة بعض الشعوب على صناعة حاضره؛ بل ولم يساهم في صناعته، لأنه لم يخطط له فيما مضى، وإذا خطط له فهو تخطيط يستبطن ألواناً من الإحباط وعدم الثقة بالنفس والخوف.

 

عملية الاستشراف              التخطيط

أين سنعيش؟      كيف سنعيش؟

في أي زمن نعيش؟                                              =البديل الحضاري المستقبلي

مشاهد المستقبل     مشاهدنا الخاصة

ولا يخفى ما للدراسات المستقبلية (Future Studies)(14) من أهمية متعاظمة في استشراف المستقبل واكتشافه ومحاولة التحكم به والسيطرة على بدائله، في شتى مجالات الحياة، ولا سيما على صعيد التغيير الاجتماعي المنشود، الذي يحقق للبشرية أهدافها في النهوض والسعادة والاستقرار، وصولاً إلى الهدف النهائي من وجود الإنسان على الأرض. والمناهج والأدوات العلمية المستخدمة في عملية الاستشراف المطلوبة، تستبعد جميع الوسائل التي تنظر للمستقبل نظرة خرافية، خاصة وأن التحديات الكبرى التي تواجه البشرية على مستوى الفكر والواقع، وتسارع الأحداث، وتراكم المتغيرات، والطفرات المتلاحقة في مجالات العلم والتكنولوجيا، ورغبة (دعاة التفوق) في مصادرة كل شيء، ستأخذ شكلاً ومضموناً مختلفين خلال العقود التي تتوسط القرن الخامس عشر الميلادي والعقود الأولى من القرن الواحد والعشرين، حتى أن ضغوطها الحادة سوف لن تتجاوز المتخلفين والمتفرجين وحسب، بل ستسحقهم بعجلاتها الرهيبة، أو تمسخ وجودهم وهويتهم، أو تتركهم – في أفضل الحالات – يعيشون ذهولاً مستمراً مما يحدث.

ولم يكن الحكماء والمؤرخون وعلماء الطبيعيات بمعزل عن محاولات اكتشاف مناهج لدراسة المستقبل، وقد انتهت محاولاتهم إلى وضع معادلات ومعايير، تنطلق من معتقداتهم الدينية أو رؤاهم الفلسفية والعلمية، فظهر علم التاريخ، وفلسفة التاريخ، وعلم اجتماع الحضارات، حتى أسفرت هذه المحاولات عن نظريات عصر النهضة الأوروبية والتقدم، وصولاً إلى الدراسات المستقبلية الحديثة. ورغم أن الدراسات المستقبلية التي برزت في «منظومة الشمال» تمسكت في مبادئها النظرية بسنن التاريخ وفلسفة التقدم ومعايير التطور وفقاً لنظرة علمية استراتيجية تهدف إلى اكتشاف المستقبل وتحديد خياراته وبدائله، إلا أن الدافع والغاية النهائية والمحرك يبقى ذاته الذي دفع الإنسان الأول إلى اكتشاف المستقبل؛ والذي تغير إنما هو المناهج والأهداف التفصيلية، على اعتبار أن النهضة الحديثة لمنظومة الشمال حوّلت الحديث عن المستقبل إلى أنساق ومناهج علمية خاضعة لتصورها الكوني الوضعي وغاياتها المادية في الحياة.

وباتت الدراسات المستقبلية رهان الغرب في السيطرة على المستقبل، بل عدّها «آلفن توفلر» ضماناً لاستمرار حياة المجتمعات في المستقبل، وأطلق عليها تسمية «استراتيجية البقاء»(15)، وكأنه يريد القول: إن المجتمع الذي يفتقد التخطيط الاستراتيجي في إطار دراسة المستقبل دراسة علمية معمقة، ومواجهة متغيراته، هو مجتمع لا يريد البقاء، أو أن احتمالات بقائه ستتقلص بشدة، إذ إن موجات التغير السريعة وصدماتها المتلاحقة، ستسحق هذا المجتمع بعجلاتها الرهيبة. وهذا التحذير رغم منطلقه المادي الدنيوي، فإنه تعبير آخر عن سنة كونية قائمة، وكما يقول الإمام علي(ع): «من استقبل الأمور أبصر ومن استدبر الأمور تحَّير»(16). وبالنتيجة، فإن الإنسان الذي يدير ظهره للمستقبل سيكون خارج دائرة القرار، بل لن يجد لنفسه مكاناً حتى في الهامش، لأن البقاء في الهامش سيكون بقرار من دائرة التحكم، التي يمسك بها من استقبل الأمور وأبصرها وعرف الزمان واستعدّ له.

    ولا يمكن للاستعداد للمستقبل أن ينجح بأساليب عفوية ودراسات عشوائية آنية، أو بالوعظ والإرشاد والحديث عن الآمال والأماني، بل بمناهج علمية مستقاة من رؤيتنا الكونية التوحيدية، ومن أصولنا الإسلامية، ومن تاريخ البشرية وخبراتها وتجاربها. وإذا كان الغرب قد ابتكر الدراسات المستقبلية (Future Studies) وفقاً لتصوره وغاياته، فإنه بذلك ينسجم مع تطلعاته وما يريده من المستقبل.

ولا يلتقي واقع المسلمين وخبراتهم في استشراف المستقبل وبنائه مع ما أكدت عليه الأصول الإسلامية بشأن الاستعداد للمستقبل، باعتباره ضمانة لحاضر الأمة ومستقبلها، وصيانة لماضيها المجيد. فمن خلال النصوص والتجربة التاريخية يتبين أن الإسلام سبق جميع النظم والنظريات في الدعوة لاستشراف المستقبل استشرافاً علمياً مدروساً، واستباق أحداثه ومفاجآته، والتخطيط لاحتمالاته والوقوف على بدائله. وبقراءة سريعة لبعض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تؤكد ضرورة اكتشاف السنن الإلهية، والعمل وفقها، على اعتبار أنها توضح جدلية العلاقة الترابطية والتأثير والتأثر المباشرين بين الماضي والحاضر والمستقبل، وضرورة التعرف على المستقبل بهدف بنائه، وتكشف عن بعض الخطوط العامة للحتميات والوعود الإلهية المستقبلية، سنقف على هذه الحقيقة بوضوح (17). ففي مجال السنن – مثلاً – يقول الله تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}(18). {وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا}(19). وفي مجال الاستعداد للمستقبل يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد}(20)، {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوى يرى}(21). أما الوعود الإلهية والحتميات المستقبلية فيقول تعالى فيها: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض}(22)، {إن الساعة آتية لا ريب فيها}(23)، وغيرها.

وفي السياق نفسه؛ جاء في الحديث الشريف ما يفسر هذه الحقائق ويكشف عن المزيد من تفاصيلها: «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(24)، «من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد»(25)، «من لم يعرف لؤم الأيام لم يحترس من سطوات الدهر»(26)، «من استقبل الأمور أبصر ومن استدبر الأمور تحير»(27)، «من لم يحترز من المكائد قبل وقوعها لم ينفعه الأسف عند هجومها»(28). ومجمل ما تفيد به السنن الإلهية ومصادر المعرفة الإسلامية، والخبرة الإنسانية، هو أن الاستسلام للمستقبل والوقوف موقف المتفرج حياله، سيؤدي إلى ألوان بشعة من التراجع والتخلف والانحطاط، وهو ما حصل مع كل الأمم والحضارات التي مارست هذا الدور {فلن تجد لسنة الله تبديلا}(29).

وقد جاء الإسلام ليختم الرؤية الدينية بنعمة التكامل في النظرية والعمل، ويمنح الإنسان منهجية صادقة في التعرف على المستقبل، ويدفعه نحو البناء والتقدم والنهوض، الذي يحقق للإنسان هدفه في الاستخلاف وإعمار الأرض وبناء الدنيا للآخرة والكدح لملاقاة الرب الرحيم {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ}(30). بيد أن المسلمين في عصور التراجع والانكفاء انساقوا بعيداً عن هذا المنهج، وعاشوا حالات الانفعال والاستسلام، التي أدت بهم إلى ألوان بشعة من التنكر للحاضر والمستقبل، والتشبث غير الواعي بالماضي.

والكتابات الإسلامية الرائدة التي تحدثت عن البناء والنهوض، والتي بادر اليها بعض الفقهاء والمفكرين والمثقفين الإسلاميين، بدءاً من نهايات القرن التاسع عشر الميلادي وحتى نهاية السبعينات من القرن الماضي؛ كان هدفها وضع معالجات للواقع الراهن بكل تحدياته الضاغطة، وتحديد المواقف الفكرية والنظرية أو السياسية حياله، وقد تحدثت عن مفاهيم وأفكار ترتبط بالنهوض وشروطه والسنن الإلهية ومقومات النمو والتطور، واستخدم أغلبها خطاباً إرشادياً واستنهاضياً.

ورغم أن هذه البحوث والنظريات والأطروحات أثمرت عن موجات وتيارات نهضوية مهمة في تاريخ المسلمين المعاصر؛ إلّا أنها مثلت ـــ غالباً ـــ ردود أفعال لمواجهة القلق الفكري والاجتماعي الذي عاشته المسلمون، بما ينسجم وظروفهم السياسية والاقتصادية والثقافية المتشابهة، في ظل الاحتلال الأجنبي والاستعمار والأنظمة المرتبطة بالخارج، أي أنها لم تكن كتابات تأسيسية غالباً، أو كانت تواجه بعقبة الواقع السياسي والثقافي الذي يحول تحولها الى مشاريع عمل، كما انها لم تكن تحمل مقومات الدراسة المستقبلية العلمية، لأنها لم تعتمد المناهج العلمية في تحديد زمن المستقبل وصوره وأهدافه وبدائله وأساليب الوصول إليه، فخطاب النهضة ظل يجيب على سؤال «ما يجب أن نكون عليه»، وأحال الإجابة على «كيف؟» للأطر العامة والكليات الإرشادية، وترك الإجابة على تساؤل «متى؟» للزمن المفتوح.

في حين أن الدراسات المستقبلية الحديثة تجيب – وفقاً لمناهجها – على خمسة أسئلة:

  • ماذا سيكون؟ وفي الإجابة عليه تكمن عملية الاكتشاف والتبصر، في إطار عملية الاستشراف، وتحديد الأهداف والموضوع والحقل، وينتج عنه التعرف على صور المستقبل واحتمالاته.
  • ما يجب أن يكون؟ وينتج عنه اختيار النماذج والبدائل المطلوبة في حقل معين أو عدة حقول مترابطة.
  • كيف؟ وفيه تتحدد المناهج والأساليب والأدوات للوصول إلى الهدف والبديل.
  • متى؟ وتتحدد فيه المراحل الزمنية للوصول إلى الأهداف.
  • أين؟ تحديد مكان تحقيق الهدف.

ومن خلال الإجابة على هذه الأسئلة يتم تحديد صور المستقبل واحتمالاته، وموضوع الاستشراف وأهدافه، والنماذج والبدائل المطلوبة، والمناهج والأساليب، والزمان والمكان.

ولعل من العوامل الرئيسة التي ضاعفت تساؤلات الإنسان المسلم المعاصر، وساهمت في زيادة حاجاته، عاملاً تطوّر حركة العصر، وتعاظم حجم المشروع الإسلامي. فكلّما تطوّرت حركة الحياة؛ تراكمت حاجات الإنسان، وكلّما كبُر حجم المشروع الإسلامي وأثمرت حركته في الواقع، كبُرت معه تساؤلات الإنسان، وهي تساؤلات ملحة، وبحاجة إلى من يجيب عليها إجابة منسجمة ومستوى العقل المسلم المعاصر.

وقد جلب العامل الأول معه جملة من الثورات العلمية والاجتماعية الكبرى على مستوى العالم، كثورة الاتصالات، وثورة المواصلات، وثورة المعلومات، والثورة الاقتصادية (الصناعية والتكنولوجيا)، والتحولات السياسية والاجتماعية (تحولات الجغرافية السياسية والخارطة السياسية). وحيال ذلك، وجد الإنسان المسلم نفسه في دوامة من الحاجات المختلفة، وعلى مختلف الصعد، وفي مقدمتها حاجة البحث عن الموقع وسط كل تلك التطورات.

أما العامل الثاني؛ فكان نتيجته الإنجازات التاريخية الكبرى التي حققها المشروع الإسلامي خلال العقدين الأخيرين، ويقف في مقدمتها تأسيس الدولة الإسلامية الحديثة، واقتراب الإسلاميين من مواقع القرار الشعبي أو القرار السياسي في الكثير من البلدان الإسلامية، وانتشار حركة الصحوة الإسلامية، وامتداد الإسلام في أنحاء مختلفة من العالم، فكان الإنسان المسلم ـ ولا يزال ـ يبحث عن إجابات لتساؤلاته، وفي مقدمتها معرفة موقفه ونظريته حيال مختلف المسائل، وعلى رأسها المسائل الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. وفي إطار كل مسألة تبرز مجموعة من العناوين الرئيسة، كالحرية، والحرية الفكرية، وتجديد الفكر الإسلامي، وأسلمة المعرفة، والعقل المسلم، وولاية الأمر، وحركة الدولة الإسلامية في دائرة المنظومة العالمية، وتجديد الأنساق الاجتماعية التقليدية، والتنمية والتخلف، والوحدة الإسلامية.

وما زالت الخبرة الإسلامية وجهود الباحثين المسلمين في مجال الدراسات المستقبلية متواضعة ومحدودة، وهي – عموماً – مبادرات مؤقتة لبعض المعاهد ومراكز الأبحاث، أو جهود حكومية في إطار الخطط الرسمية التنموية والاستراتيجية للدولة. ولعل من المبادرات المهمة في هذا المجال ما صدر في بيروت والقاهرة وطهران والرباط والجزائر واسطنبول وكوالالامبور من دراسات استشرافية علمية، سيحفظ التاريخ لأصحابها دورهم الريادي. وهذه الدراسات العلمية المستقبلية تنتمي في منهجها وفي الاتجاهات والأنماط التي تستخدمها، إلى الدراسات الغربية، أي أنها لا تعتمد منهجاً خاصاً ورؤية مستقلة، تراعي الخصوصيات العقائدية والفقهية والتاريخية للمسلمين وعالمهم، بل تعتمد ما تسميه بالعناصر العلمية التي تطرحها المناهج الغربية المادية.

وهذا الأمر – في الواقع – ينسجم مع الاتجاه الفكري الذي ينتمي إليه أصحاب هذه المحاولات وطبيعة المؤسسات التي صدرت منها. وفي الوقت نفسه يتأتى من خلال عدم دخول الإسلاميين والاتجاهات الإسلامية (الرسمية والشعبية) هذا المعترك، إلا ما ندر، فضلاً عن عدم وجود محاولات لتأسيس رؤية إسلامية لاستشراف المستقبل. فالنقص الذي يعاني منه المسلمون يكمن – أساساً – في عدم بلورتهم وامتلاكهم لمنهج إسلامي في دراسة المستقبل واستشرافه، فكيف – إذن – بالجانب العملي أي الإعداد العملي للمستقبل!

منهجية “المستقبلية الإسلامية”

ليس الحديث عن «المستقبلية الإسلامية»(31) التي نسعى لبنائها كنظرية ومنهج من أجل اكتشاف المستقبل الإسلامي ورسم ملامحه المشرقة؛ ليس حديث أمنيات وآمال، أو حديث توقعات ونبوءات، بل وليس حديث وعظ أو خطاب تثويري، لأن تحقيق هدف «المستقبلية الإسلامية» لا يقتصر على دراسة عناصر القوة في الدين وأتباعه، أو الحتميات التي تؤكد امتلاك مقومات البقاء والاستمرار والنمو والنهوض، أو المراهنة على سقوط الحضارات والمدنيات الأخرى التي سيكون الإسلام بديلاً لها فحسب، بل إن الحديث عن المستقبل الإسلامي هو حديث العلم والمعرفة العلمية المؤطرة بالبعد الإيماني الذي يربط حياة الإنسان الدنيوية بحياته الأخروية، والعمل بالجزاء، والكدح بالثواب، وإعمار الأرض بتحقيق هدف الاستخلاف، وبالتالي سعادة الدارين والحياة الأفضل فيهما.

ويسعى مشروع المستقبلية الإسلامية – ابتداء – إلى تحديد الإطار النظري للمنهج الإسلامي في استشراف المستقبل، فهو في حقيقته لا يبحث في نظرية ولا يسعى – في مراحله الأولى – إلى اكتشاف نظرية، بل إنه يبحث عن إمكانية اكتشاف نظرية، وعن تأسيس حقل دراسي في هذا المجال، يستوعب النظرية والمنهج والوسائل.

ومن خلال ذلك يتضح أن المشروع لا يتشبّه بمناهج الدراسات المستقبلية في الغرب أو يسعى لمجرد أسلمتها، بل إنه يتحدث عما تفرزه النظرة الكونية التوحيدية من رؤية إسلامية شاملة للمستقبل، تنطوي على إبحار في السنن الإلهية، ووقوف على الرؤية الإسلامية لأساسيات علم اجتماع الحضارات وفلسفة التاريخ، فضلاً عن دراسة متأنية لتقنيات ومناهج الدراسات المستقبلية الحديثة. وبالتالي؛ تكون المحصلة مشتملة على رؤية متكاملة لعملية النهوض والبناء والتغيير الإسلامي الشامل.

وتستند منهجية «المستقبلية الإسلامية» الى جملة قواعد، تمثل العناصر التي تجعل المسلمين أقدر على تأسيس منهج علمي فاعل وواقعي لاستشراف المستقبل واكتشافه والإعداد له، وهي: مقاصد الرسالة الخاتمة وأهدافها في الحياة، وعي السنن الإلهية، والتراث الضخم في مجال الإخبار بالمستقبل، وخاصة بعض الحتميات التاريخية الغيبية المستقبلية. وفي الوقت نفسه؛ تستجيب منهجية «المستقبلية الإسلامية» الى الحاجات النظرية والعملية إلى استشراف المستقبل الإسلامي، والمتمثلة في الخصائص الثلاث الماضية:

1 – الخصيصة النظرية:

وهي حاجة ثابتة عبر الزمن، وتؤكد عليها النصوص الإسلامية المقدسة، بل وتأمر بها، كما في قوله تعالى في كتابه الكريم {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة..}(32). {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد}(33). وكما جاء في الحديث الشريف: «من عرف الأيام، لم يغفل عن الاستعداد»(34). «من استقبل الأمور أبصر، ومن استدبر الأمور تحيّر»(35). من لم يتحرز من المكائد قبل وقوعها، لم ينفعه الأسف عند هجومها»(36).

وإذا أضفنا الغيبيات الواردة في الأحاديث والروايات الصحيحة والتي تتضمن الإخبار – على نحو الإجمال – بأحداث ستقع مستقبلاً، والأوامر المقدسة بالإعداد للمستقبل، سنفهم أن الاستعداد لمواجهة المستقبل وحوادثه وطرق التعامل معها، وعدم التزلزل والانحراف إزاءها، هو واجب على الأمة بمختلف قطاعاتها، وخاصة أصحاب الاختصاص والاهتمام والمسؤولية.

2 – الاستجابة للسنن الإلهية:

للسنن الإلهية التاريخية علاقة وثيقة بعملية استشراف المستقبل، فاكتشافها على صعيد المسيرة التاريخية للبشرية أو سنن التاريخ، وفهمها واستثمارها، تعني اكتشاف جزء مهم من المستقبل، وهو الصورة العامة له، فضلاً عن اكتشاف أساليب الإعداد للتعامل مع ذلك الجزء. وسنن الله تعالى ثابتة لا تتبدل ولا تتحول: {فلن تجد لسنّة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً}(37).

واكتشاف السنن والعمل وفقها، ضرورتان لحاضر الإنسان ومستقبله، أكد عليهما القرآن الكريم: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذّبين}(38). والسنن التاريخية هي «القوانين التي تتحكم في المسيرة التاريخية للإنسان»(39) كما يقول السيد محمد باقر الصدر في محاضراته “المدرسة القرآنية”، وهي الرابط بين ماضي مسيرة الإنسان وحاضرها ومستقبلها، كما أنها توضح طبيعة العلاقة والتأثير والتأثر المباشر بين الأزمنة الثلاثة، انطلاقاً من كون المستقبل امتداداً للحاضر والماضي.

ولعل أبرز السنن الإلهية التاريخية(40) التي نستفيدها لاستشراف المستقبل:

أ – السنن المشروطة التي يرتبط فيها جزاء الله بشرط قيام الإنسان بالعمل، كما في قوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}(41). أو قوله تعالى: {إلاّ تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم}(42).

ب – السنن الفعلية الناجزة، تمثّل نوعاً من الحتمية التاريخية، وهي تمثّل إرادة الله تعالى فقط، كعصر الظهور وقيام الساعة. يقول تعالى: {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}(43). وقوله تعالى: {وإن الساعة آتية لا ريب فيها}(44). ويمثّل وعصر الظهور دور العدل من أدوار مسيرة الإنسان على الأرض، كما يحددها القرآن الكريم، وهي دور الحضانة ودور الوحدة (حدثا وانتهيا)، ودور التشتت (لا تزال البشرية تعيشه)، ودور العدل، وهو الدور المستقبلي، وفقاً لتقسيم السيد محمد باقر الصدر(45).

3 – تحولات الواقع الراهن وتحدّياته:

هذه التحولات والتحدّيات التي تشتمل على جميع جوانب الحياة، يعيشها العالم بأجمعه، بشكل أو بآخر، ولكن معظم أمم العالم لها مشاريعها ومخططاتها للتعامل المدروس مع هذا الواقع، لضمان أفضل الخيارات في المستقبل. أما المسلمون، فلا يزال معظمهم يتعاملون مع التحولات والتحدّيات من منطلق ردود الفعل والتعامل مع اللحظة، دون تخطيط مسبق. وإن وجد التخطيط لمواجهة التحدّيات، فإنه تخطيط يستبطن الإحباط، وعدم الثقة بالنفس، والشعور بالهزيمة أمام الآخر. وأبرز هذه التحدّيات هو التحدّي المشترك: الايديولوجي – الاجتماعي – الأخلاقي – الروحي، والذي أدى إلى انهيار بعض الحضارات والمدنيات، كما حدث للحضارة الماركسية – إن صحّ تعبير الحضارة هنا – والسير المتقهقر لحضارات أخرى، كحضارة الغرب، وبحث البشرية عن البديل المناسب مستمر وفي هذا المجال لم يطرح الإسلاميون بديلهم (الحضاري الإسلامي) بصورته الحقيقية، حتى إن القضية انعكست حرجاً على المسلمين أنفسهم.

والتحدي المهم الآخر هو تحدي التطور العلمي والتكنولوجي والاقتصادي الغربي، والذي عمّق الفاصلة الحضارية – في جانبها المادي – بين العالم الإسلامي والغرب. ويستمر الأخير في محاولاته ابتلاع العالم أو احتوائه عبر العلم والتكنولوجيا، في الوقت الذي يراهن على بقاء الواقع الاقتصادي للعالم الإسلامي والعالم الثالث، كما هو، مثقلاً بالفقر والديون والاستهلاك والاعتماد على مورد اقتصادي واحد، وانعدام حالات التضامن والتكافل. وهذه السلطة المعرفية والعلمية والتكنولوجية التي يستحوذ الغرب عليها، تمثل الوجه الآخر لسلطة التفوق العسكري والسياسي، وكلاهما يمثلان عملة واحدة أطلقت عليها الولايات المتحدة الامريكية مفهوم “النظام العالمي الجديد”(46)، والذي يعمل الغربيون على صياغته وتثبيته لمئة عام قادمة، أي حتى أواخر القرن الحادي والعشرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إحالات الفصل الثاني

(1) أنظر: حول نظريات النهايات: فوكوياما، فرانسيس، “نهاية التاريخ وخاتم البشر”،  …..، نهاية لسياسة، ……، “نهاية الايديولوجيا”،

(2)

(3)

(4)

(5) من المفكرين الإسلاميين المعاصرين الذين كتبوا في هذا المجال: الآصفي، الشيخ محمد مهدي، «الوراثة الحضارية»

(6) مصطلح«الاجتهاد الجديد» أسسه الإمام الخميني، ونظّر له في عدد من خطبه. أنظر خطبته في ……….. كما أشار اليه السيد محمد باقر الصدر ضمناً في دراسته: “الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد”.

(7) من رسالة الإمام الخميني الى الحوزرات العلمية في العام 1989.

(8) المصدر السابق.

(9) الصدر، السيد محمد باقر “اقتصادنا”، ص 686

(10) انظر: الشاطبي، الشيخ إبراهيم، “الموافقات”.

(11) انظر: المقداد السيوري، الشيخ……..،”القواعد الفقهية”.

(12) بن عاشور، الشيخ الطاهر، “المقاصد العامة للشريعة”

( 13) أنظر: العلواني، الدكتور طه جابر، “فقه الاولويات”.

(14) حول الدراسات المستقبلية (Future Studies) ومناهجها، أنظر: علي المؤمن،”الفكر الإسلامي المستقبلي”.

(15) آلفن توفلر،

(16)

(17) المسلمون أول من أسس لمنهج السنن التاريخية والسنن الإلهية أو ما عرف بعد «بفلسفة التاريخ»، وأبرز محاولة مكتوبة بلورت هذا المنهج محاولة عبد الرحمن بن خلدون (1332 – 1406م) في مقدمته. وبعد قرون جاءت المحاولات الغربية في هذا المجال، وأهمها المحاولات التأسيسة لأرنولد توينبي (1889 – 1975م)، متأثراً ببعض دراسات اوزولد أشبنغلر (1880 – 1936م). أما على مستوى الفكر الإسلامي المعاصر، فإنه يمكن القول بأن محاضرات السيد محمد باقر الصدر (1935 – 1980م) في سنن التاريخ، في إطار تفسيره الموضوعي للقرآن الكريم، هي من المحاولات التأسيسية في هذا المجال.

( 18) سورة الأنفال، الآية 60.

( 19) سورة الحشر، الآية 18.

(20) سورة

(21) سورة

(22) سورة

(23) سورة

( 24) الكلّيني، الكافي، ج8 ص 23.

( 25) الآمدي، غرر الحكم، ص 266.

( 26) المصدر السابق، ص 294.

(27)

(28)

( 29) سورة فاطر، الآية 43.

( 30) سورة آل عمران، الآية 137.

(31) أنظر: علي المؤمن، “المستقبيلية الإسلامية:………”، و”أسلمة المستقبل:………”

(32) سورة

(33) سورة

(34) ….

(35) ….

(36) ….

(37) سورة

(38) سورة

(39) الشهيد محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، ص 53.

(40) انظر: المصدر السابق.

(41 ) سورة الأعراف، الآية 96.

( 42) سورة التوبة، الآية 39.

( 43) سورة القصص، الآية 5.

(44 ) سورة الحج، الآية 7.

(45) يذكر الإمام الصدر في المدرسة القرآنية الأدوار الثلاثة الأولى، ص 241، ويفضّلها في بحث مسار الخلافة الربانية على الأرض، ضمن كتاب الإسلام يقود الحياة، ص 151 – 156، كما يفصّلها تلميذه السيد كاظم الحائري في بحثه: «سنن التاريخ» المنشور في مجلة الحوار الفكري والسياسي، العدد 30 – 31 آب 1985. أما دور العدل فيذكره السيد كاظم الحائري في القسم الثاني من بحثه المذكور، مجلة الحوار الفكري والسياسي، العدد 32، تشرين الأول 1985، ص 40.

(46) أنظر: علي المؤمن، “النظام العالمي الجديد: التشكل والمستقبل”.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment