الفقه السياسي الإسلامي الحديث

Last Updated: 2024/05/30By

الفقه السياسي الإسلامي الحديث

د. علي المؤمن

 

تدوين فقه الدولة الإسلامية الحديثة

اتضح مما سبق أن مسيرة الفقه السياسي الإسلامي استغرقت زمناً طويلاً وشهدت تحولات كثيرة لتصل إلى مرحلة تدوين فقه الدولة الإسلامية الحديثة، ويمكن إجمال المراحل التي مرت بها المدرستان بما يلي:

1 – مدرسة الخلافة: تمثلت المرحلة الأولى في الكتابات التي ظهرت في العهد الأموي، ومعظمها عبارة عن أحاديث وروايات وتفسيرات موضوعة، هدفها تسويغ الحكم وممارساته وإضفاء الشرعية عليه من جهة، وتشويه صورة المدرسة المنافسة (الإمامة) من جهة أخرى، ثم ظهرت المؤلفات الأساسية في العصر العباسي، ومعها بدأت المرحلة الثانية التي استمرت حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وحينها دخل الفقه السياسي لمدرسة الخلافة مرحلته الثالثة من خلال النتاجات الجديدة للمفكرين والفقهاء الإصلاحيين، وظل يعيش هذه المرحلة حتى الثلاثينات من القرن العشرين، حين بدأت المرحلة الرابعة والتي ما زالت قائمة، وفيها ظهرت مؤلفات وبحوث مهمة استوعبت جميع جوانب فقه الدولة الإسلامية ونظمها.

2 – مدرسة الإمامة: تمثلت مرحلتها الأولى في الكتابات التي عمّقت مبدأ الإمامة وخصائصها من منظور العقيدة، ثم اتسعت لتشتمل على الجانب الفقهي أيضاً، وقد استوعب هذه المرحلة زمنياً عصر الأئمة الاثني عشر، واستمرت حتى ظهور حركة الاجتهاد ومعها المدوّنات الفقهية، فكانت المرحلة الثانية التي تبلورت خلال القرن الثالت الهجري، وامتدت إلى عصر الدولة الصفوية، حينها بدأت المرحلة الثالثة التي مثلت نقلة في المسار التاريخي للفقه السياسي الإمامي، أما المرحلة الرابعة فقد بدأت في القرن الثالث عشر الهجري مع ظهور بعض الكتابات الفقهية السياسية المهمة. وبظهور بحوث الإمام الخميني في أواخر الستينات من القرن الميلادي العشرين انتهت المرحلة الرابعة، فكانت بحوث الإمام تمثل مرحلة بذاتها، وهي المرحلة الخامسة. ثم بدأت المرحلة السادسة مع نشأة الجمهورية الإسلامية في إيران.

في المرحلة الأخيرة التي ذكرنا أنها شهدت نهضة بحثية في الفقه السياسي لمدرسة الإمامة على المستويين الكمي والنوعي، بلغت المؤلفات والدراسات في هذا المضمار أرقاماً قياسية كمّاً ونوعاً، فمجموع ما صدر خلال السنوات العشر الأولى من عمر الجمهورية الإسلامية الإيرانية (1979 – 1988م) كان أكثر بكثير مما كتب خلال ألف عام سبقتها(1). والأهم من ذلك هو المستوى النوعي لهذه المؤلفات؛ إذ استوعبت معظم موضوعات فقه الدولة الإسلامية الحديثة ونظمها، وهي موضوعات لم يكن كثير منها قد طرح على طاولة البحث الفقهي، أو أنه طرح بصور افتراضية مقتضبة. وكان هذا التطور من ثمار جهود استثنائية قادها الفقهاء والأكاديميون الإسلاميون في الحوزات الدينية والجامعات، في أكثر من بلد إسلامي، ولا سيما إيران ولبنان. ومن أهم ما صدر في هذه المرحلة:

1 – «الإسلام يقود الحياة» للسيد الشهيد محمد باقر الصدر، وهو ست دراسات في فقه الدولة الإسلامية ونظامها السياسي وفكرها الاجتماعي والاقتصادي، صدرت في أوائل عام 1979م. وهي دراسات رائدة كانت ذات تأثير في الأوساط الفقهية والقانونية في الجمهورية الإسلامية، حتى عدّها بعض المهتمين بأنها – وتحديداً لمحته الفقهية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية – كانت أحد المصادر الرئيسة للدستور الذي أقرّه مجلس الخبراء في إيران(2).

2 – «الفقه السياسي» للشيخ عباس علي عميد الزنجاني، وهي موسوعة رائدة (بالفارسية) في خمسة أجزاء كبيرة، يحمل الأول عنوان: القانون الدستوري وأسس دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الثاني: النظام والقيادة في الإسلام، الثالث: القانون الدولي الإسلامي، الرابع: أسس السياسة الخارجية وأساليب الدبلوماسية في الإسلام، والخامس: القواعد الفقهية الحاكمة على الموضوعات السياسية في الإسلام. وقد بدأت بالصدور اعتباراً من عام 1984م.

3 – «دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية» للشيخ حسين علي المنتظري، وهي موسوعة فقهية استدلالية في عدة أجزاء كبيرة، وقد صدر منها أربعة أجزاء حتى الآن، وتتميز بشموليتها لكل موضوعات الدولة الإسلامية الحديثة ونظمها. وقد بدأت في الصدور عام 1986.

4 – «صحيفة النور» وهي خطب الإمام الخميني ورسائله وبياناته، جمعت في أكثر من خمسة وعشرين مجلداً، وتضم مقولات أساسية في فقه الدولة الإسلامية وفكرها السياسي والاجتماعي والأخلاقي ونظمها وسلوكها العملي، ويمكن القول بأنها تمثل النهج العملي والسلوك اليومي الذي ينبغي أن تكون عليه الدولة الإسلامية وحكّامها. كما جمعت هذه الخطب والبيانات والرسائل في موسوعة أخرى محققة بعدة مجلدات عنوانها: «الكوثر».

وقد أخذ مبدأ ولاية الفقيه حقه من التنظير الاستدلالي المعمق، في معظم تفاصيله التي تستوعبها عناوين: شرعية ولاية الفقيه، حاكمية الفقيه ومساحتها، موقع الولي الفقيه، علاقة الفقيه الحاكم بغيره من الفقهاء، علاقة الفقيه الحاكم بالمسلمين خارج الحدود الجغرافية للدولة الإسلامية، نصب الفقيه ومراقبته وعزله وغيرها.

أما على مستوى نظم الدولة الإسلامية، فإنها قامت على أساس النظريات والتشريعات الفقهية التي صاغها الفقهاء والحقوقيون والمتخصصون – غالباً – في إطار مجالس تخصصية.

وقد تناولت هذه المواضيع معظم تفاصيل النظرية والتطبيق واستوعبت حركة الدولة والمجتمع والسلطة على مختلف المسارات الاجتماعية والثقافية والحقوقية والسياسية والإدارية والاقتصادية والعسكرية وغيرها. إلا أن النظام السياسي للدولة سبق النظم الأخرى في النضج والتبلور، وفي زمن قياسي لا يتجاوز السنتين، في حين واجهت الجمهورية الإسلامية صعوبات وإشكاليات كثيرة على مستوى النظم الأخرى، فظلت لسنوات عديدة – وما زالت – تعيش مرحلة الاكتشاف وإعادة الاكتشاف والتأصيل والأسلمة؛ لأنها – في الحقيقة – لم ترث – فقهاً يسد حتى جزءاً من حاجاتها الجديدة.

النظريات الحديثة في الفقه السياسي الإسلامي

في مرحلة تدوين فقه الدولة الإسلامية الحديثة، برزت عدة نظريات وأطروحات فقهية في موضوع الدولة الإسلامية، وهي تنقسم إلى اتجاهين رئيسين:

الأول: لا يؤمن بقيام دولة إسلامية شرعية في عصر الغيبة، استناداً إلى بعض الروايات والمنقولات التي تعد كل راية، قبل المهدي، راية ضلال، وأصرّ هذا الاتجاه على التفسيرات الخاصة التي تحمل رؤى مسبقة. وهو بذلك لا يعبّر عن الظهور الموضوعي أو الفهم الموضوعي للروايات. هذا الاتجاه يرى أن إقامة الحكومة الإسلامية، هو حق خاص بالإمام المعصوم(ع)، فلا ولاية للفقيه على الحكم، ولا شورى للأمة، وإنما هناك ولاية للفقيه في الأمور الحسبية، وهو حق مكفول للأمة أيضاً، ويعدّ واجباً كفائياً تحدده الظروف. إضافة إلى قوله بولايتي الإفتاء والقضاء الخاصتين بالفقيه أيضاً. ويبتعد هذا الاتجاه عن أي جهد عملي في الشأن السياسي، وعن ممارسة أي سلوك سياسي؛ بل يحصر جهوده الفقهية في أبواب الفقه التقليدية.

ولا ينحصر هذا الاتجاه بمدرسة الإمامة، بل إن بعض المفكرين السنة يذهب إلى الرأي نفسه، إلا أن المنطلقات تتباين هنا، فالاتجاه الفقهي الإمامي القائل بهذا الرأي ينطلق من رؤى دينية ويعبّر عن فهم فقهي، في حين ينطلق المفكرون السنة من رؤية دنيوية سياسية، وإن لم تصرح بعلمانيتها، وتتلخص في عدم إيمانها بشمولية الدين لموضوع الدولة وبتناول الشريعة لموضوعات الفقه السياسي، والذي يمكن طرحه في هذا المجال هو دولة المسلمين والتجربة التاريخية لدولة المسلمين وليس الدولة الإسلامية(3).

الثاني: يؤمن بقيام الدولة الإسلامية. هذا الاتجاه يضم النظريات التي تؤمن بشرعية قيام الدولة الإسلامية في عصر الغيبة، لكنها تختلف في عدد من أسسها وأدلتها الشرعية، وتلتقي في معظم الأهداف والنتائج، وفي مقدمتها هدف إقامة الدولة الإسلامية وتحكيم الشريعة، وحماية الدين وتحقيق غاياته والدفاع عن المسلمين ومقدراتهم. أما الأساس الأهم الذي تختلف حوله هذه النظريات، فهو صاحب الولاية في الدولة ومصدر شرعيتها، حتى أصبح هذا الأساس معيار تقسيم نظريات الدولة الإسلامية الحديثة، وأشهرها: نظرية الشورى، ونظرية ولاية الفقيه المنصوب، ونظرية ولاية الفقيه والشورى. ونستعرض هنا أهم معالم النظريات الثلاث، ليس بهدف دراستها، ولكن بهدف دراسة تطور نظرية الدولة في الفقه الإسلامي؛ على اعتبار أن هذه النظريات هي خلاصة لأهم ما توصل إليه الفقهاء المسلمون المعاصرون بوصفه امتداداً لجهود الفقهاء المتقدمين:

الأولى: نظرية الشورى:

يتمسك بهذه النظرية معظم الاتجاهات الفقهية المعاصرة لمدرسة الخلافة، إضافة إلى بعض الاتجاهات الفكرية في مدرسة الإمامة. وتتلخص – في مفهومها للولاية – بحصر حق الولاية بالأمة التي تنتخب من تفوضه في رئاسة الدولة؛ ليكون وكيلاً عنها وليس ولياً عليها في إدارة الدولة وممارسة الحكم. وتستند هذه النظرية إلى قاعدة الشورى في اختيار رئيس الدولة وممارسة السلطة، عبر عدد من الآليات أهمها: الاستناد إلى رأي أكثرية الأمة، فيمكن حينها لجميع أفراد الأمة احتلال موقع رئاسة الدولة الإسلامية من دون اشتراط العلم الشرعي أو الفقاهة. بيد أن هذه النظرية لا تمانع في أن يكون رئيس الدولة فقيهاً، ولكن ليس لأنه فقيه، بل لكونه مواطناً، إذ ليس للتخصص العلمي الشرعي أي مدخلية في الانتخاب والتعيين.

ويذهب مفكرو هذا الاتجاه من الشيعة إلى عدم وجود شكل محدد للنظام السياسي في الإسلام، وعدم وجود ولاية لأحد على أحد من المسلمين، وبذلك تضع هذه النظرية موقع رئاسة الدولة، أو ولاية الحكم، في إطار الشكل وليس المضمون. ويختلف دعاة هذه النظرية حول آيات تنفيذ الشورى، الأمر الذي قسّمها إلى عدة نظريات؛ ولكن على المستوى النظري، فإن آلية انتخاب رئيس الدولة الإسلامية، إما تكون بالانتخاب المباشر وضمن مرحلة واحدة، أي الابتداء بالبيعة، والانتهاء بالتنصيب، أو الانتخاب غير المباشر على مرحلتين، وفيه يتم انتخاب الحاكم الأعلى من قبل أهل الحل والعقد الذين ترتضيهم الأمة، ثم تنتهي عملية التنصيب بالبيعة. وفي كلتا الحالتين، فإن الانتخاب الشعبي هو الذي يمنح الحاكم الأعلى شرعية ممارسة الحكم. وإذا تجاوزنا الجوانب العقيدية والمنطلقات الفكرية في هذه النظرية، وأمعنّا النظر في نظامها السياسي وطبيعة ممارسة السلطة، فسنجدها أقرب إلى الديمقراطيات التقليدية.

وحول أرضية نمو الشورى ونضجها، في إطار مدرسة الخلافة، يمكن القول: إنها أرضية خصبة، ولعلها الخيار الأبرز لمدرسة الخلافة؛ لانسجامها مع المباني العقيدية والفقهية للمدرسة، فضلاً عن مسارها التاريخي. يقول أحد الفقهاء السنّة المعاصرين: «إن طريقة الإسلام الصحيحة عملاً بمبدأ الشورى وفكرة الفروض الكفائية، هي طريقة واحدة، وهي انتخاب أهل الحل والعقد وانضمام رضا الأمة باختياره، أما عدا ذلك فمستنده ضعيف»(4).

ولكن على صعيد مدرسة الإمامة، فإن نظرية الشورى تواجه العديد من العقبات الشرعية، فضلاً عن العقبات النفسية لدى الأمة، وهي لا تمتلك من الأدلة ما تعتدّ به؛ بالنظر لغربتها عن مبدأ الإمامة وامتداداته، وغياب معظم الأبعاد الدينية والروحية لمبدأ الإمامة من مضامين الدولة وأشكالها وفي علاقة القاعدة بالقمة؛ إذ ستكون هذه العلاقة مجرد علاقة سياسية ضعيفة، وعقد اجتماعي هش، من حيث المضامين الدينية التي تؤكد عليها مدرسة أهل البيت(ع).

الثانية: نظرية ولاية الفقيه:

وتستند إلى دعامة النصب الشرعي للفقيه العادل الكفوء ولياً للأمة، بوصفه نائباً عاماً للإمام المهدي(ع)، الأمر الذي يحصر الحق الشرعي في رئاسة الدولة الإسلامية به، بوصفها أحد مظاهر ولايته، من دون أن يكون للشورى مدخلية في منحه شرعية الحكم؛ لأنها شرعية مكتسبة من ولاية الإمام المعصوم، ولكن الشورى يمكن أن تكون معياراً للتفاضل بين الفقهاء الجامعين لشروط القيادة في ما لو تعددوا. أما البيعة فهي مظهر لإعلان الطاعة من جانب الأمة. ويتولى الولي الفقيه من أمور المسلمين ما كان يتولاه النبي(ص) والإمام(ع)؛ لأنه مفوض من قبل الإمام في قيادة المجتمع عند غيبته، كما يقول الإمام الخميني في بحث «الحكومة الإسلامية».

وتأسيس الدولة الإسلامية واجب كفائي على الفقهاء العدول، ولو أقامها أحدهم وجب على الفقهاء الآخرين عدم مزاحمته في مساحة ولايته. وهكذا فالفقيه الحاكم غير ملزم بالشورى في ممارسة الحكم إلا بمقدار الترجيح بين آراء المشيرين، وإن تجاوزت مساحة المشيرين أهل الحل والعقد وأصحاب الاختصاص إلى الأمة. وعدالة الفقيه هي ميزان استمراره في الحكم. والفقيه هو مصدر شرعية الدولة وسلطانها. ويقول بهذا الرأي فقهاء مدرسة الإمامة السلف من الذين يعممون ولاية الفقيه على موضوعة الحكم. أما أبرز من نظر لها من الفقهاء المعاصرين فهو الإمام الخميني، الذي حوّلها إلى واقع عملي. كما أسهم معظم تلامذته، ومعهم أيضاً فقهاء ينتسبون علمياً إلى اتجاهات مرجعية أخرى، في شرحها وتعضيد أدلتها وبلورتها.

والحقيقة أن نظرية ولاية الفقيه المنصوب لا تلتقي – من ناحية مصدر الولاية وإطلاقها – مع اتجاهات مدرسة الخلافة؛ لتقاطعهما في مبدأ شرعية المصدر وحقه في منح الشرعية، وهو أساس عقيدي مهم عنوانه: الإمامة. ولكن من النواحي الأخرى – كما سيأتي – يختفي التقاطع ويأخذ الاختلاف حجمه الطبيعي، بل قد ينعدم كثير من الاختلافات عند تلمس النتائج.

الثالثة: نظرية ولاية الفقيه والشورى:

يطلق على هذه النظرية أيضاً اصطلاح ولاية الفقيه المنتخب، وهي نظرية حديثة تتوسط نظرية ولاية الفقيه، ونظرية الشورى؛ إذ إنها تشترط الفقاهة في ولي الأمر، ولكن اختياره يتم في إطار الشورى التي تمثلها الأمة. وانتخاب الأمة هو الذي يمنحه شرعية ممارسة الحكم، كما أن أساليب إدارة السلطة متروكة للأمة أيضاً من خلال ممثليها. وبذلك تكون للأمة ولاية الحكم، وللفقيه ولاية الرقابة والإشراف والإدارة العليا، بوصفه نائباً للإمام المعصوم، ومظاهرها قيادة الأمة ورئاسة الدولة الإسلامية. وطبقاً لهذه النظرية، فإن الشورى ملزمة للولي الفقيه.

وأول من طرح هذه النظرية وبلورها السيد الشهيد محمد باقر الصدر(5)، الذي يعبّر عن طبيعة هاتين الولايتين وطريقة تكاملهما؛ من خلال تسمية الأولى بـ«خلافة الأمة» باعتبار الخلافة الممنوحة للإنسان على الأرض، والثانية «شهادة الفقيه»؛ باعتبار نيابته العامة للإمام المعصوم. ومن خلال انتخاب الأمة للفقيه سيلتقي خط الخلافة بخط الشهادة، فيكون الفقيه حينها مجسّداً للخطين(6). ويشترط الشهيد الصدر في الولي الفقيه أن يكون مرجعاً دينياً، ومرشحاً من قبل مجلس المرجعية (أهل الحل والعقد)، ومنتخَباً من قبل الأمة (في حال تعدد المرجعيات المتكافئة المرشحة). وتقف هذه النظرية على عدد من الأسس الشرعية:

1 – لا ولاية بالأصل إلا للَّه تعالى.

2 – النيابة العامة عن الإمام المعصوم هي للمجتهد المطلق العادل الكفوء، وهي مصدر الولاية الممنوحة للفقيه، بمعنى القيمومة على تطبيق الشريعة، وحق الإشراف الكامل.

3 – الخلافة العامة للأمة على أساس قاعدة الشورى، هي التي تمنحها حق ممارسة أمورها بنفسها ضمن إطار الإشراف والرقابة الدستورية من قبل نائب الإمام.

4 – فكرة أهل الحل والعقد، التي طبقت في الحياة الإسلامية، والتي تؤدي بتطويرها على النحو الذي ينسجم مع قاعدة الشورى وقاعدة الإشراف الدستوري من قبل نائب الإمام إلى افتراض مجلس يمثل الأمة وينبثق عنه بالانتخاب.

وبناء على ذلك، يخلص الشهيد الصدر إلى أن الإسلام يرفض نظرية القوة والغلبة في تكوين الحكومة ونظرية التفويض الإلهي الإجباري، ونظرية العقد الاجتماعي، ونظرية تطور الدولة عن العائلة. ويذهب إلى أن الدولة ظاهرة نبوية وتصعيد للعمل النبوي. أما من الناحية الوظيفية، فإن وظيفة الدولة – كما يقول – هي تطبيق الشريعة الإسلامية التي وازنت بين الفرد والمجتمع، وتحميه لا بوصفها وجوداً (هيغلياً) مقابلاً للفرد؛ بل بوصفها تعبيراً عن مجموعة الأفراد(7).

وتبنَّى هذه النظرية – في ما بعد – وبحثها بمزيد من التفصيل والاستدلال عدد من الفقهاء، الذين وجدوا عند دراستهم لنظريات الدولة في فقه الإمامة أن القول الظاهر لفقهاء الإمامية السلف يتمحور حول نظرية ولاية الفقيه المنصوب من قبل الإمام المعصوم، وفيها لا يكون لانتخاب الناس أثر في تعيينه. ويجمع هؤلاء الفقهاء بين نظرية ولاية الفقيه ونظرية الشورى بنحو الطولية، باعتبار أنهما غير متقاطعتين، بل تكمل إحداهما الأخرى، ويخلصون إلى القول: إن النصب المباشر للولاية، هو من قبل الله تعالى، كما في حالة النبي(ص) والأئمة الاثني عشر(ع)، ولا تنعقد الإمامة لغير المنصوب إلهياً مع وجوده والتمكن منه. وفي حالة عدم وجوده (غيابه) كان للأمة حق الاختيار، ولكن ليس الاختيار المطلق، بل لمن وجدت فيه الشرائط والمواصفات المعتبرة، وهنا تنعقد الإمامة للفقيه بانتخاب الأمة له. وهناك من فقهاء مدرسة الخلافة المعاصرين، من يتبنى هذه النظرية بنحو أو آخر، كالدكتور محمد مبارك الذي يقول: إن «رئيس الدولة إمام المسلمين وأميرهم هو المرجع الأعلى في شؤون الدولة للاجتهاد في التشريع… مع وجود مبدأ الشورى، ولذلك كان الأصل أن يكون رئيس الدولة الإسلامية بالغاً درجة عالية من فقه الإسلام وفهم مبادئه وحسن تطبيقها، وإن كان ينبغي أن يكون معه من العلماء من يستشيرهم ويأخذ آراءهم تجنباً للاستبداد»(8). فهو يشترط في ولي الأمر أن يكون فقيهاً تفرزه الشورى ويعمل بالشورى.

مقارنة بين نظريتين

إذا حاولنا عقد مقارنة بين النظريتين الأخريين: ولاية الفقيه، وولاية الفقيه والشورى، نجد أن الاختلاف بينهما لا يتجاوز الجانب النظري غالباً، ويكاد ينعدم في الجانب التطبيقي. ويمكن القول: إن نظرية ولاية الفقيه تتمتع بقبول أوسع في أوساط فقهاء الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويطلقون عليها «ولاية الفقيه المطلقة أو العامة» في حين أن نظرية ولاية الفقيه والشورى، والتي يطلق عليها بعضهم ولاية الفقيه المنتخَب أو ولاية الفقيه المقيّدة، بمعنى المقيدة بالدستور، وليس بمعنى الناقصة، فهي النظرية الحاكمة في الواقع السياسي الإيراني القائم، على مستوى الدستور والتطبيق، الأمر الذي يدل على أن النتائج التي تفرزها النظريتان تظل واحدة، ولا سيما في ما يتعلق بمساحة حاكمية الولي الفقيه وصلاحياته وهيكلية النظام السياسي. ويتلخص جذر الاختلاف في زاوية النظر إلى انتخاب ولي الأمر؛ فنظرية ولاية الفقيه تقول: إن انتخاب الخبراء (أهل الحل والعقد) لا يمنح ولي الأمر الشرعية، بل هو كشف وتفاضل. وتقول النظرية الأخرى: إن هذا الانتخاب يمنح الشرعية الدينية والمشروعية القانونية للفقيه لكي يمارس الحكم، على اعتبار أن الحكومة الإسلامية هي عقد شرعي بين الأمة والحاكم المنتخب.

ويقود هذا الاختلاف إلى فروق نظرية أخرى، كدور بيعة الأمة وانتخابها، وموقع الشورى، وعلاقة أجهزة الدولة بالشورى، وعزل الفقيه وغيرها. فمثلاً يتم عزل الفقيه الحاكم في نظرية ولاية الفقيه المنتخَب عبر الخبراء (أهل الحل والعقد) إذا فقد أحد الشروط المطلوبة، وهو عزل شرعي وقانوني، ولكن في نظرية ولاية الفقيه المطلقة، فإن الفقيه الحاكم يُعزل ذاتياً إذا فقد أي شرط، ويكون دور الخبراء هو الكشف عن العزل، أي أن دور الخبراء في نظرية ولاية الفقيه هو «الإخبار عن الحكم»، وفي نظرية ولاية الفقيه والشورى «إنشاء الحكم».

ومما سبق يظهر أن معظم اتجاهات الفقه السياسي الإسلامي المعاصرة لا تحول دون تولي الفقيه العادل الكفوء قيادة المجتمع ورئاسة الحكومة الإسلامية، وملء منطقة الفراغ التشريعية والتنفيذية والقضائية، والإشراف على تطبيق أحكام الإسلام وإقامة حدوده وفرائضه مما لا خلاف فيه بين الفقهاء، ولا يوجد فقيه يحتمل أن تكون هذه الولاية لأحد من أبناء الأمة الإسلامية دونهم… وإنما الاختلاف بحسب الحقيقة في أمرين:

أولاً: في ثبوت هذه الولاية للفقيه على حد ما هو ثابت للإمام(ع) [في ما يرتبط بمساحة الولاية] أو اختصاصها بخصوص الدائرة التي يتوقف عليها حفظ النظام الإسلامي وإدارة المجتمع على أساس الإسلام.

ثانياً: في صحة بعض الأدلة والنصوص التي استدل بها لإثبات هذا المبدأ(9).

وحتى الاتجاه الفقهي الذي يدعو إلى نظرية الشورى، فإنه يوافق على تولي الفقيه للحكم إذا انتخبته الشورى، فالقدر المتيقن لدى الاتجاهات الثلاثة (السنية والشيعية) هو اشتراكها في فتح الأبواب أمام الفقيه لتولي الحكومة الإسلامية، وهو ما يمكن أن يكون قاعدة لتوحيد الركائز العملية أو التطبيقية التي أفرزها الفقه السياسي الإسلامي بمختلف مذاهبه واتجاهاته(10)؛ إذ إنها توافق على قرار أهل الحل والعقد في نصب ولي الأمر وعزله، وكون أهل الحل والعقد هم أهل العلم والخبرة الذين ترتضيهم الأمة، وأن الفقيه العادل الكفوء هو أصلح من يتولى الحكم (حسب نظرية الشورى) أو أن ولاية الحكم محصورة به (حسب النظريتين الأخريين)، وأن صلاحيات ولي الأمر تشتمل على جميع مجالات حركة الدولة أي إنها جمعت بين إمامة الفقيه وشورى الأمة. وقد انبثقت القاعدة المشتركة بعد مراحل طويلة مرّت بها مسيرة الفقه السياسي الإسلامي (انظر أدناه الشكل الذي يبيّن التقاء النظريتين)، آخذين بنظر الاعتبار أن تطبيق هذه القاعدة المشتركة بين الاتجاهات الرئيسية لمدرستي الخلافة والإمامة إنما يصلح لعصر غيبة الإمام(ع) فقط.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات

(1) وضع الباحث عبد الجبار الرفاعي موسوعة من عشرة مجلدات تحت عنوان «النظام الإسلامي»، وخص المجلد الثامن منها بمصادر الإمامة والسياسة، وعند النظر في هذه المصادر، وتحديداً الخاصة بمدرسة أهل البيت، سنجد أن معظمها صدر بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران.

(2) يقول الباحث الأميركي (هرايرد يكمجيان) في دراسته حول الحركات الإسلامية في العالم العربي، بأن آية الله السيد محمد باقر الصدر يعد ّ «أحد الآباء الفكريين لدستور الجمهورية الإسلامية». انظر: علي المؤمن، سنوات الجمر، ص194.

(3) من أبرز دعاة هذا الرأي علي عبد الرّازق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم».

(4) د. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، ج6 ص674.

(5) في بحثيه: لمحة فقهية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية، وخلافة الإنسان وشهادة الأنبياء.

(6) للمزيد انظر: الشهيد الصدر، لمحة فقهية عن مشروع دستور الجمهورية، ضمن الإسلام يقود الحياة، ص13 و14.

(7) انظر: الشهيد الصدر، لمحة فقهية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية، ضمن الإسلام يقود الحياة، ص16ـ 17.

(8) د. محمد المبارك، نظام الحكم: الحكم والدولة، ص44.

(9) السيد محمود الهاشمي (مصدر سابق) ص67.

(10) د. توفيق الشاوي (مصدر سابق)، ص306.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment