العراق في دوامة المنظومة الطائفية

Last Updated: 2024/05/30By

العراق في دوامة ممارسات المنظومة الطائفية

د. علي المؤمن

 

نمطية الوعي الطائفي بالعراق                  

في التاريخ الرسمي؛ من الطبيعي أن يكون الحاكم الطاغية عادلاً، ويُفسّر باطله بأنه الحق المطلق، والمذهب غير الرسمي للسلطة هرطقةً وكفراً، وتكون بطانة الحاكم وأسرته وولاته وقضاته ورجال دين البلاط، هم صفوة الأمة وقادتها. ويعد كل من يعارضهم، وإن كان بالفكر والكلمة، متمرداً يشق صف الأمة، وتصبح صرخة المظلوم خروجاً على الحاكم وعقيدته، أما إنجازات الأمة من علوم ومعارف وتوسع ديني وغيرها فتصادر لحساب الحاكم وأسرته.

هذه الصورة النمطية التي طبعتها سلطة العراق في عقول الناس وضمائرهم، منذ مئات السنين؛ هي التي شكّلت الوعي العربي والإقليمي بالعراق، وهي ما يعرفه المحيط به. هذا الوعي يختزن صورة الأمويين باعتبارهم خلفاء رسول اللَّه؛ الذين بادروا إلى مد رقعة دولتهم الإسلامية القوية وتثبيت دعائمها في العراق؛ وصولاً إلى فتوحات دينية كبرى في الشرق، وليس صورة الأمويين الذين دخلوا الاسلام كرهاً، بهدف ضربه من الداخل أو السيطرة عليه، ولم يؤمنوا به يوما. وحين تحقق لهم ذلك؛ جاهروا بمخططهم، وكانت ممارساتهم متعارضة مع أبسط حقائق الدين، فقتلوا الإمام الحسن والإمام الحسين والإمام السجّاد والإمام الباقر (أحفاد رسول الإسلام) وآلاف من المسلمين، وانتهكوا أعراضهم وسلبوا أموالهم، وأحرقوا القرآن، ورجموا الكعبة بالمنجنيق، واستحلوا حرمة بيوت اللَّه، واقتطعوا لأنفسهم أراضي فتوحاتهم العسكرية، واكتنزوا الأموال، وأحلوا كل المحرمات الدينية في المأكل والمشرب والملبس والسلوك. أما من رفض كل هذا أو جزءا منه؛ فهو خارج على خليفة المسلمين ودولته، وكان معظم هؤلاء الرافضين من أبناء العراق.

وهذه الصورة النمطية عينها؛ تعد السفاح والمنصور والرشيد عظماء، قدموا للإسلام وللعراق أجل الخدمات؛ فتشاد لهم النصب التذكارية وتسمى الأحياء والشوارع بأسمائهم، وليسوا طغاة جبابرة فاقوا الأمويين في انتهاك الحرمات، ويكون هارون الرشيد الخليفة العادل الذي يحج عاماً ويغزو عاماً، وليس الجزار الذي قتل الإمام موسى الكاظم، حفيد رسول الله وإمام المسلمين، وذبح آلاف المسلمين، وأقام حفلات المجون والفجور، وشرب الخمر بجماجم خصومه من العلويين، حتى قال ضحاياهم:

((ألا ليت ظلم بني مروان قد دام لنا    وعدل بني العباس في النار))(1)

وهكذا يصبح صلاح الدين الأيوبي ناصراً للإسلام وحافظاً للعروبة، وليس الحاكم الذي بدأ مجازره بشمال أفريقيا، مرورا بمصر، وصولاً إلى بلاد الشام؛ فأسقط الدولة الفاطمية المسلمة وقتل رعاتها ورعيتها، ثم كافأ أبناء سيف الدولة الحمداني ورعيته؛ حين قتل في يوم واحد أربعين ألف مسلم في مدينة حلب السورية وحدها، وهم الذين قارعوا الصليبيين ودحروهم في بلاد الشام ومنعتهم من اختراق أراضي المسلمين في فلسطين.

لقد ظل العراق محكوماً بسلطة طائفية أو طائفية شوفينية، طيلة ما يقرب من (1350) عاماً، بدءاً بالاحتلال الأموي وانتهاء بصدام حسين، وظلت المعارضة الأساسية تنتمي قهراً إلى الطائفة المختلفة مذهبياً (الشيعة). وأؤكد هنا حقيقتين:

1- إن الطائفة السنية، بمتدينيها وعلمانييها، ليست مسؤولة عن سلوكيات السلطات التي تنتمي إليها بالوراثة، لأن هذه الطائفة ليست مكوّناً تنظيمياً، بل هي عبارة عن شرائح اجتماعية متباينة في مستواها المعيشي والثقافي، ووعيها السياسي والتاريخي، والتزامها الديني والمذهبي، وفي مراتب تعصبها ورؤيتها للآخر، حالها حال أي طائفة أخرى. أي إن انتماء السلطات طائفياً إلى السنة لا يعني أنها سلطات مذهبية، ولا يعني أنها تعمل من أجل المذهب السني وفي إطار أحكامه الشرعية، وذلك لوجود فرق كبير وأساس بين المذهبي والطائفي، لأن المذهبي مفهوم ديني وعقائدي وفقهي، أما الطائفي فهو مفهوم إنساني واجتماعي.

وبما أن السلطات لم تكن تمثل الواقع الاجتماعي والسياسي؛ فإنها ظلت تستغل الطائفة التي تنتمي إليها كحاضنة اجتماعية وسياسية لها، وترفع شعارات مذهبية وطائفية من أجل تحقيق أهدافها الخاصة. وفي هذا السبيل تمعن السلطة في جر الطائفة السنية، طوعاً أو قسراً، لحماية نفسها، وتستخدم فقهاء الطائفة لتغطية مشروعية السلطة وممارساتها من خلال الخطاب الفقهي والعقيدي الذي يبيح للسلطة إنزال كل أنواع العقاب ضد المختلفين معها مذهبيا (الشيعة)، وبدون هذا التركيز على وحدة المسار والمصير مع الطائفة؛ ستنهار السلطة لا محال.

2- إن مشكلة الدولة العراقية مع الشيعة ليست مشكلة فقهية وعقدية غالباً، بل مشكلة اجتماعية سياسية، وحقلها العلمي هو الاجتماع السياسي وليس علم الكلام أو الفقه، أي أن الدولة ظلت تستهدف الشيعة في مجالهم الاجتماعي الديني، أكثر من استهدافها الجانب العقدي والفقهي الشيعي؛ ما يعني إن الصراع التاريخي في العراق لم يكن ـــ غالباً ـــ صراعاً طائفياً مجتمعياً؛ بل كان بين السلطة التي تنتمي طائفياً إلى السنة، وبين المعارضة التي تنتمي طائفياً إلى الشيعة، لأن شرائح المجتمع العراقي ظلت تعبِّر عن انتماءاتها المذهبية والطائفية بالصورة التي تحول دون حصول صراعات طائفية مجتمعية، فضلاً عن أن الاندماج الاجتماعي المتمثل بالمصاهرات والصداقات والمصالح والانتماءات العشائرية المشتركة بين السنة والشيعة؛ ظل السمة الغالبة التي تطبع المجتمع العراقي. ولكن؛ هذا لا يعني عدم وجود نسبة من التوتر الطائفي.

وهنا يكمن دور السلطة؛ فهي من أجل الوصول إلى أهدافها الخاصة، تمارس أبشع أنواع التمييز الطائفي، بدءاً بالإقصاء والتهميش والاضطهاد السياسي، مروراً بالحظر العقائدي والفكري والثقافي، والحرمان الاقتصادي، وصولاً إلى الاعتقال والتشريد والقتل وانتهاك الأعراض. وهنا كانت الطائفة الشيعية تجد نفسها مستهدَفة بكل هذا التمييز، وليس فقط المعارضة التي تنتمي إليها وحسب، وبذلك؛ كانت السلطة تحقق هدفين في آن واحد:

  • تحتمي بالطائفة السنية وتستثير فيها الحس الطائفي في أي صراع مع الشيعة بشكل عام والمعارضة الشيعية بشكل خاص، فضلاً عن محاولة تجميد أي جهد في الوسط السني لمعارضة السلطة، على اعتبار أنها سوف لن تلقى ترحيباً أو دعماً من الوسط السني، وهذا ما كان واضحاً في عهد صدام حسين؛ إذ كانت حركات المعارضة السنية (الدينية والعلمانية) ضعيفة، وكانت محاولاتها في التحرك عسكرياً تبوء بالفشل سريعاً وتتلاشى، لأنها لم تكن تجد حاضناً اجتماعياً يحميها ويدعمها.
  • إبعاد الشيعة عن السلطة وعن أي مفاصل أساسية في الدولة، وهو إجراء احترازي، يدفع خطراً محتملاً، وهذا الإجراء لم يلق يوماً اعتراضاً في شرائح الطائفة الحاضنة للسلطة أو من أي حكومة إقليمية أو عالمية أو جماعة سياسية ودينية، لأن هذه الحاضنة والإقليم الطائفي، يعدان تهميش الشيعة واستمرار الضغط عليهم، إجراءً ضروريا نمطياً تقليدياً.

الدولة العراقية وتعزيز العصبية الطائفية

لم تكن في العراق دولة بالمفهوم النُظُمي الحديث للدولة؛ فخلال حقبة عمرها 1350 عاماً، حكمت فيها سلطات فردية أو أسرية، أطلقت على نفسها اسم الدولة، كالدولة الأموية والدولة العباسية والدولة العثمانية، وصولاً إلى الدولة البعثية، وربما كانت فترة ما بعد عام 1921 وحتى 1958 تعبِّر عن بدايات تأسيس دولة، لكنها كانت محكومة بسلطة الاحتلال، ثم بملوك غير عراقيين، فضلاً عن طبيعة النظام السياسي الطائفي الذي يغيِّب الأكثرية لمصلحة أقلية تتداول سلطة السياسة والمال والعسكر والقانون والتعليم والإعلام.

أما العهد الجمهوري؛ فمثًل شبه انقلاب على شكل الدولة وليس جوهرها الطائفي العنصري، رغم أن عبد الكريم قاسم كان أول حاكم عراقي غير طائفي، لكنه كان محكوماً بالعقيدة الطائفية العنصرية الموروثة للدولة، ولذلك؛ كان أغلب وزرائه وأعضاء مجلس قيادة الثورة وقادة القوات المسلحة ومسؤولي الدولة من السنة، كما بقيت المناهج الدراسية ورموز الدولة كما هي.

وقد كان جميع الأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق، حتى العام 2003؛ أدوات لتطبيق قواعد البناء الطائفي للدولة العراقية الحديثة، وتنفيذ المخطط الاستعماري البريطاني الذي عمل على بلورة هذا القواعد، وظل يرعاها، ولم تكن هذه القواعد من اختراع الإنجليز وتأسيسهم، بل إن الأتراك العثمانيين هم الذين أرسوها في العراق وبلاد الشام والخليج، في مراحل احتلالهم لهذه البلدان، مستفيدين من إرث قديم، ثم أورثوها الإنجليز، الذين بلوروها وقننوها في مرحلة ما بعد الحرب الاستعمارية العالمية الأولى، وكان لون هذه القواعد فاقعاً ومثيراً للاشمئزاز في العراق أكثر من غيره، لأنها خالفت جميع حقائق الجغرافية السكانية وبديهياتها، بعد أن شيدوا عليها صرح الدولة الطائفية القومية التي تحكم الواقع السياسي والاجتماعي العراقي، وظلت معركة الأكثرية السكانية الشيعية مع هذه المعادلة الناشزة قائمة، منذ الاحتلال العثماني للعراق وحتى سقوط الدولة الطائفية العراقية. ويحاول الكثيرون التغطية على هذه المعادلة وآثارها ومخرجاتها، لأسباب طائفية، أو بدافع الحرص على وحدة الموقف الشعبي العراقي وتجنب الإثارات الطائفية. إلا أن هذه التغطية لا تنسجم مع مصلحة البلد والشعب العراق والأُمة، لأنها تتعارض مع المنهج العلمي في البحث التاريخي، لأن آثارها ستبقي فاعلة وقائمة، وتعمل على تكريس مشكلة أساسية تعد أهم عوامل عدم الاستقرار في العراق، وبالنتيجة؛ فإن حديثاً بهذا الاتجاه يكشف عن أسوأ مضامين الطائفية، ويعرّي الجريمة الكبرى التي ارتكبها الإنجليز بحق الأمة في العراق بكل طوائفها وقومياتها، سنّة وشيعة، عرباً وكراداً وفيليين وتركماناً.

والمستهدف في هذا الحديث، هو النظام السياسي أو الدولة، وليس طائفة بعينها، لأن الطائفة التي ينتمي إليها النظام السياسي تاريخياً وليس مذهبياً؛ إذ لا وجود لمشكلة سياسية أو مذهبية بين الطائفتين المسلمتين الكبيرتين السنية والشيعة، ولا بين القوميتين الكبريين العربية والكردية، بل المشكلة تكمن في البنية الطائفية للنظام السياسي والمجتمع السياسي الرسمي، الذين ينتميان إلى مركب طائفي وقومي نسبة 16 بالمائة فقط من عدد السكان، هم السنة العرب، في حين أن الجماعة السكانية المضطهدة، التي لا يمثلها النظام عقدياً وسياسياً وواقعياً، تزيد نسبتها على 81 بالمائة من عدد السكان، بينهم 65 بالمائة شيعة، عرباً وفيليين وكرداً وتركماناً وأصول إيرانية، و16 بالمائة منهم أكراداً وتركماناً سنة(2). وهنا يقول السيد محمد باقر الصدر: ((إن الطاغوت وأوليائه يحاولون أن يوحوا إلى أبنائنا البررة من السنّة بأن المسألة مسألة شيعة وسنّة، وليفصلوا السنّة عن معركتهم الحقيقية ضد العدو المشترك. وأريد أن أقولها لكم يا أبناء «علي» و«الحسين» وأبناء «أبي بكر» و«عمر» إن المعركة ليست بين الشيعة والحكم السني. إن الحكم السني الذي مثلّه الخلفاء الراشدون والذين كان يقوم على أساس الإسلام والعدل، حمل «علي» السيف للدفاع عنه، إذ حارب جندياً في حروب الردة تحت لواء الخليفة الأول «أبي بكر». وكلنا نحارب عن راية الإسلام وتحت راية الإسلام مهما كان لونها المذهبي))(3).

فهناك فرق جذري وأساس بين الدولة الطائفية والدولة المذهبية؛ فالدولة الطائفية هي الدولة اللا دينية التي تتبنى نظاماً سياسياً ينتمي تاريخياً إلى طائفة معينة، أما الدولة المذهبية فهي دولة دينية تخضع لنظام سياسي يتعبد بفقه أحد المذاهب الإسلامية. والحال أن النظام السياسي المطبق بعد قيام الدولة العراقية الحديثة هو الشكل الأول، فهو نظام طائفي قومي، لم يكن يوماً مذهبياً، بل أنه ينتمي إلى مركب الأقلية القومية الطائفية، الأمر الذي يجعله يشعر بالخطر دائماً وعدم الاستقرار والتهديد، فيبقى متحفزاً دائماً للفتك بأي تحرك يرفع صوته للمطالبة بأبسط الحقوق، وإن كانت مطالبة بخفض جرعات التمييز، فيجد صاحب الطلب نفسه ـ ابتداءً ـ أمام تهمتين شنيعتين جاهزتين: طائفي وشعوبي، أو يأخذ طريقه إلى السجن وربما المشنقة، هذا إذا لم ينف في ليلة ظلماء إلى ما وراء الحدود. وقد أصبحت هذه الايديولوجيا جزءاً من البنية العقدية للدولة وقوانينها وسياساتها، بصرف النظر عن طبيعة الحكومات المتعاقبة وايديولوجياتها الخاصة، وإن كانت حكومة حزب البعث العراقي أشد تعبيراً عنها.

لقد حاول الترك العثمانيون طيلة مئات السنين تغيير البنية المذهبية للمجتمع العراقي، إلا أنه فشلوا في هذا الجزء، رغم الفتاوى المضادة والحصار والاضطهاد ونجحوا في جزء آخر، وهو المتمثل في التأسيس لنظام سياسي طائفي في ولايات العراق ينسجم وايديولوجيتهم العليا. ولكن المفارقة المثيرة حدثت بدخول العثمانيين الحرب الاستعمارية الأولى إلى جانب ألمانيا في عام 1914، حينها اتجهت الحركة العربية السنية التي تشاطرهم الانتماء المذهبي وتقر بالولاء السياسي لهم، إلى مناهضة العثمانيين والارتباط بالاستعمار البريطاني، بفعل الوعود المتبادلة بين أمير الحجاز الشريف حسين والإنجليز، وانتهى الأمر إلى إعلان الشريف حسين ما عرف بالثورة العربية، وانضم إليه أغلب الذين كبروا ـ سناً وشأناً ـ مع المناصب السياسية والعسكرية والإدارية التي أسبغتها عليهم الدولة العثمانية، وتحول ولاؤهم من تركيا (الإسلامية) إلى بريطانيا (الصليبية)، وانقلب الهلال ـ فجأة ـ صليباً على صدورهم.

أما الطرف الثاني من المفارقة، فهم شيعة العراق وسوريا ولبنان، الذين واجهوا التحول السياسي والميداني الجديد بالرهان على المبادئ، فدافعوا عن الدولة العثمانية بدمائهم، لأنها تنطوي على الحد الأدنى من تمثيل الإسلام، وتشكل الخيار الأصولي في المعركة مع الاستعمار البريطاني القادم، بعد أن تناسوا بفعل سخونة المبادئ عداء الدولة العثمانية التاريخي لهم، وهو ما يعبِّر عنه السيد الصدر بقوله «إن الحكم السني (العثماني) الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشيعة قبل نصف قرن بوجوب الجهاد من أجله، وخرج الآلاف من الشيعة وبذلوا دمهم رخيصاً من أجل الحفاظ على راية الإسلام، ومن أجل الحكم السني الذي كان يقوم على أساس الإسلام». فقد أعلن فقهاء النجف الأشرف وكربلاء والكاظمية الجهاد ضد بريطانيا، بمجرد دخول قواتها البصرة عام 1914، وقادوا المعارك إلى جانب العثمانيين، وظلوا يقاومون الإنجليز، رغم انسحاب الأتراك المبكر من ساحة المعركة، ثم دخول الإنجليز بغداد عام 1917، وإسدال الستار على النفوذ العثماني في العراق إلى الأبد.

الحكم الملكي والتأسيس للدولة العربية السنية في العراق

حين وضعت الحرب العالمية الاستعمارية الأولى أوزارها في عام 1918، اتجه الإنجليز نحو إقامة نوع من الحكم الذاتي في العراق، فجاءت فتوى فقهاء الشيعة بأن تكون الحكومة مسلمة، فاستمر الصراع مع الاحتلال الإنجليزي، حتى بات الوضع مهدداً بالانفجار. وبالفعل انفجر العراق عام 1920 بثورة شعبية مسلحة بقيادة مرجع الشيعة الشيخ محمد تقي الحائري الشيرازي، تهدف إلى الاستقلال وطرد المحتلين وإقامة حكومة مسلمة. وانتهت الثورة باحتواء الإنجليز للموقف والالتفاف على مطالب الثوار بطريقة مضللة؛ فعملت على إقامة حكم محلي تحت عنوان «الدولة العراقية»، التي تكونت من ثلاث ولايات عثمانية: الموصل وبغداد والبصرة، وفق معاهدة “سايكس ــ بيكو” بين بريطانيا وفرنسا في عام 1916، ثم معاهدة “فرساي” في عام 1919 ومبادئ عصبة الأمم، والقاضية بمنح بريطانيا حق الانتداب على العراق.

وقامت الدولة العراقية الحديثة استجابة شكلية لمطالب المقاومة العراقية وثورة النجف وثورة العشرين، ولكن ـ فجأة ـ وجد الثوار أنفسهم خارج لعبة الدولة والسياسة والسلطة، ووجدوا شخصية سنية غير عراقية مستوردة من الحجاز ملكاً على العراق، وأن النظام السياسي للدولة هو نظام علماني طائفي عنصري، يقوده صنائع الأتراك والإنجليز من الضباط العلمانيين الطائفيين الذين سبق أن خدموا في الجيش التركي وحصلوا على رتبة «الباشوية» من السلطان العثماني، ويحتلون الدولة ويشغلون الأغلبية الساحقة من مناصبها(4). فقد تحول هؤلاء الضباط والسياسيين والمشايخ العثمانيين العراقيين والعرب والمستعربين، خلال الأعوام من 1915 الى 1921، من عملاء لتركيا العثمانية الاستعمارية، وموظفين لديها، الى عملاء لبريطانيا الاستعمارية، وموظفين لديها، لكنهم لم يتخلوا مطلقا عن نهجهم الطائفي الذي ربتهم عليه العثمانيون خلال مئات السنين، والتماهي بطائفية وظلم الدولة التركية العثمانية، بالرغم من رفعهم شعارات الديمقراطية الإنجليزية، كما ظلوا، حتى بعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921؛ عثمانيين دما ولحما؛ إذ بقوا محتفظين بألقاب الباشوية والباكوية والأفندية العثمانية، كما بقيت أصولهم التركية والشركسية والألبانية والقوقازية والسلجوقية وغيرها، موضع تفاخرهم الأسر، طيلة العهد الملكي، بل فصلوا قانون الجنسية في العام 1924 على مقاساتهم؛ فقرروا وفقه أن يكون حامل الجنسية العثمانية هو العراقي الأصيل، وإن كان ينتمي الى أبعد نقطة من أراضي الدولة العثمانية، والذي يحمل الجنسية القاجارية (الإيرانية) هو غير عراقي، وإن كان عراقياً أصيلاً ويسكن أجداده العراق قرون طويلة، وكان المستهدف بذلك؛ المواطن الشيعي، لأن كثيراً منهم كانوا يفضلون الجنسية الإيرانية على العثمانية (يوم لم تكن هناك جنسية عراقية)، لأسباب مذهبية، وكذلك تهرباً من الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش العثماني.

وكان هؤلاء الضباط السنة العثمانيين المنضوون تحت راية ما سمي بالثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين، والد الملك فيصل الأول؛ قد اصطفوا مع جيش الاحتلال البريطاني في مواجهة ثورة العشرين، بل كانت سلوكياتهم وتصريحاتهم أكثر عدوانية وشدة من البريطانيين أنفسهم، كما كانوا جزءاً من القوات البريطانية التي قمعت الحراكات الشعبية المناهضة للاحتلال قبل ثورة العشرين أيضاً، وكانوا يصفونها بالتمردات الشيعية. ثم أصبح هؤلاء بعد ثورة العشرين، وعند تأسيس الدولة العراقية؛ رؤساء وزراء العراق وقادة الدولة العراقية الطائفية وحاشية الملك فيصل، أمثال عبد الرحمن النقيب ونوري السعيد وياسين الهاشمي وجعفر العسكري وعبد المحسن السعدون. ولم يقتصر الأمر على الضباط والسياسيين العثمانيين العراقيين، بل كان المثقفون والشعراء الطائفيون أيضاً منخرطون في المشروع البريطاني ضد المقاومة الشيعية. مثلاً؛ بعد وصول المندوب السامي البريطاني “برسي كوكس” الى بغداد، في العام 1920، استقبله الطائفيون استقبالاً حافلاً، وألقى الشعراء والمثقفون كلمات هجاء وتنكيل وتحريض ضد الثوار والمقاومين، وكان بينهم الشاعر جميل صدقي الزهاوي وغيره.

 

وهذا ما كان يدفع البريطانيين الى تكريس فكرة الحكم السني في العراق، أي حكم الأقلية الطائفية القومية، وإقصاء الأكثرية السكانية الشيعية، وهنا تقول المستشارة الإنجليزية آنذاك: “بيل رتراود”: ((الشيعة، كما بيّنت في مناسبات عديدة من قبل، يكوّنون مشكلة من أعظم المشاكل))(4)، ويعضد كلامها مسؤول بريطاني، قال بعد تسليم الحكم للسنة خلال وزارة عبد الرحمن النقيب 1920، ثم تنصيب الحجازي السني ملكا على العراق: ((إنّ الأجيال اللاحقة من ساسة العراق السنة أن يقدِّروا الجميل الذي يدينون به للبريطانيين في انقاذهم من النجف الشيعية)) (5).

ولعل من السهل تفهم دوافع الإجراء البريطاني في تحويل قواعد النظام السياسي الطائفي إلى بنى وقوانين وهياكل إدارية؛ فليس منطقياً، وفق المنهج البراغماتي في التفكير والعمل، أن تبادر بريطانيا إلى تأسيس نظام سياسي في العراق يعتمد قواعد الديمقراطية والدولة الحديثة التي ستتبع تلقائياً الموقف الاجتماعي والسياسي والمذهبي للأكثرية السكانية الشيعية، وتكافئ ــ بذلك ـــ الشعب الذي حاربها بكل الوسائل طيلة سبع سنوات، وتقدّم له خدمة كبرى. ولذلك؛ كان من الطبيعي أن يعيد الإنجليز تأهيل الشخصيات التي كانت جزءاً من النظام الطائفي التركي، ويبادرون لمكافأتها، بعد أن تنكرت للأتراك، ووقفت إلى جانب الإنجليز.

وحينها حقق الاحتلال البريطاني عدة أهداف بحركة واحدة؛ فمن جهة حافظ على مضمون النظام السياسي الاجتماعي الموروث في العراق، وكافأ النخب العثمانية التي وقفت إلى جانبه، بعد أن استخدمها في إدارة السلطات المحلية وإدارة الجيش وإعادة تشكيل المجتمع السياسي الجديد ــ القديم، بذريعة أن عناصرها يمتلكون ممارسة وخبرة في الإدارة والعمل السياسي والعسكري، وعاقب الأكثرية الشيعية التي وقفت ضده، وحافظ على مصالحه في العراق بصورة دائمة، على اعتبار أنّ دولة الأقلية ستبقي بحاجة إلى الحماية والدعم التي يوفرها لها الاحتلال، كما تخلصت من أعباء حكم الأكثرية، الذي وجدت فيه بريطانيا عدواً شرساً لا يمتلك أدوات المصالحة والمرونة السياسية، ولا يمكن ائتمانه على مصالحها، ولاسيما أن الشيعة محكومون طوعاً بنظام اجتماعي ديني يكون فيه الولاء للنجف وللمرجعية الدينية، والتي وجدها الإنجليز لا تقيم وزناً للسياسة والسلطة والمال، ولقواعدها البراغماتية، وهو ما يجعل حكم الأكثرية الشيعية متعارضاً تعارضاً بنيوياً وتلقائياً مع استقرار المصالح البريطانية في العراق.

ولم تمر سنة على عمر الدولة الجديدة، حتى بادرت الدولة إلى محاربة التيار الإسلامي الشيعي، ومحاصرة قادته ونفوذه السياسي بالكامل، وحيّدت الأكثرية السكانية الشيعية. وكان من بين إجراءات التصفية؛ تسفير قادة المقاومة والثورة من المراجع والفقهاء والزعماء إلى خارج العراق، وتحديداً إلى الهند وإيران، وفي مقدمهم المرجع الأعلى للشيعة في العالم السيد أبي الحسن الموسوي الإصفهاني(6). وحينها أقرّت الأكثرية الشيعية بأنها تعرضت لأكبر عملية استغفال في تاريخها، وأنها الخاسر الأكبر بعد قيام الدولة العراقية، وأنها أضاعت سنين طويلة من النضال من أجل استقلال البلاد وحريتها وإقامة حكم العدل والمساواة الوطني الذي ينسجم مع الشريعة الإسلامية.

ولعل الملك فيصل الأول كان يحس بالحرج جراء هذا التمييز الطائفي الصارخ وغير المعقول، ليس من منطلق إيمانه بإنصاف الشيعة، بل لأنه كان بحاجة الى دعم العشائر الشيعية في الوسط والجنوب؛ فقد كتب في مذكرة خاصة في نهاية عام 1932، يصف فيها أوضاع العراق: ((العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني، وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً أكثريته جاهلة، بينهم أشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتخلي عنها بدعوى إنها ليست من عنصرهم. وأكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصرياً إلى نفس الحكومة، إلّا إن الاضطهادات التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكِّنهم من الاشتراك في الحكم… إنّ الضرائب على الشيعي والموت على الشيعي والمناصب للسني، ما الذي هو للشيعي، حتى أيامه الدينية لا اعتبار لها))(7). وكان الملك في ذلك يرد على التيار العربي السني الحاكم. فعلى سبيل المثال كان (توفيق السويدي) وزير المعارف ّ آنذاك بكتب رسمية يرفض مبدأ توزيع مقاعد الطلبة في الكليات والمعاهد بحسب نسب السكان في الألوية، مشيًرا باستهزاء ((الى أن الملك يريد أن يأتي بشباب من الشيعة من المقاهي والحوانيت لإدخالهم يفي خدمة الدولة))(8).

ويمكن معرفة حجم طائفية النظام الملكي العراقي، وإقصائه للشيعة سياسياً وثقافياً وتعليماً وعسكرياً(9)، من خلال جانب واحد فقط، وهو جانب مناصب الدولة؛ فمن بين (59) وزارة تشكلت في العهد الملكي، كان هناك خمسة رؤساء وزراء شيعة فقط، أي ما نسبته 9 ‎بالمائة من مجموع عدد الوزارات، وهي النسبة نفسها تقريباً بالنسبة للوزراء والمدراء العامين، ولم هناك سفيراً شيعياً واحداً أو قائداً عسكرياً واحداً (حتى العام 1956)، وكانت نسبة الشيعة في الكلية العسكرية حوالي 10 بالمائة، ونسبة السنة الكرد 10 بالمائة ونسبة السنة العرب 80 بالمائة. إلّا أن المفارقة الأكثر غرابة، هو ترشيح نواب سنة عن مناطق شيعية مغلقة، وهم من مناطق أخرى بعيدة، وكان كثير منهم طائفياً ومناطقياً ولا يحب الجنوب وأهله أساساً، ثم يراد تمثيل هذه المناطق. وكان كثير من الوزراء والسياسيين السنة أميين أو خريجي ابتدائية (عدا الضباط)، ونموذجهم رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون الذي كان خريج المدرسة الابتدائية في إسطنبول، ولم يقرأ العربية، في حين كان هناك متعلمون ومثقفون وكتّاب شيعة يتم استبعادهم حتى عن أبسط الوظائف، حتى قال أحد السياسيين السنة، بأن نوري السعيد ((كان يريد أن يجعل من أبناء السنة خريجي جامعات وأبناء الشيعة عمالاً ناجحين))(10).

ربط القومية العربية بالطائفية السنية

التمييز الطائفي المؤدلج الذي استخدمته الدولة العراقية ضد الشيعة، كان بحاجة الى مسوغ دعائي لتمريره ولإسكات لشيعة؛ فكان الاتهام بالطائفية هو المسوغ الجاهز الأول لكل شيعي يرفع صوته معترضاً على الطائفية، والمسوغ الآخر الذي تم استدعاؤه من الموروث الطائفي العنصري الأُموي؛ فهو اتهام شيعة العراق بأنهم إيرانيون أو عملاء لإيران، وبهذه التهمة الذكية، سيتمكنون من تحقيق هدفين: إبعاد الشيعة عن أي نفوذ سياسي ومطالبات بالحقوق، كونهم إيرانيين، ودفع بعض الشيعة (المهزومين) الى شتم ايران وشيعتها، والى التشدق بالعروبة، والابتعاد عن الالتزام الديني المذهبي، لكي يثبت عروبته وعراقيته ووطنيته.

ومن خلال الوقوف على أفكار وسلوكيات نموذجين لمنظري حراك ربط القومية العربية بالطائفية السنية(11)، وهما الشاعر العراقي الكردي معروف الرصافي والمفكر السوري الألباني ساطع الحصري، يمكن التعرف على طبيعة التأسيس لهذه الحراك، والدعم المطلق الذي كانوا يجدونه من الدولة.

يقول معروف الرصافي: ((وآخر ما نقوله كلمة نرفع بها علَم التعجب وننشر بها راية التحير على نشز من أنشاز العروبة المتشيعة؛ فنقول :قد علمنا ولو مجملاً أن مذهب التشيع في الإسلام يمت في أصله إلى أبناء فارس بنسبة لا مرية فيها. وإنه إنما وضع من قبل الفرس لقتل الإسلام دين الوحدة والتوحيد بسلاح منتزع منه، ولهدم العروبة بالمعول الذي هدمت به مجد فارس. فليس من العجيب أن ترى أعجمياً يتمذهب بمذهب التشيع، ولكن العجب كل العجب أن يتمذهب به من يدّعي أنه عربي ولو بالاسم فقط. فلو سألني سائل ما أعجب ما رأيت في هذه الحياة الدنيا لأجبته فوراً دون تردد أو تلعثم إن أعجب ما رأيت في الدنيا شيعي يدعي أنه عربي. لأن بين التشيع والعروبة تناقضاً لا يخفى على أسخف العقول. فإن كان هذا الشيعي عربياً صريحاً كما يدّعي فقد مسخه مذهب التشيع حتى صار بمنزلة الحيوان الأعجم الذي لا يدرك ما هو فيه من حالة من أين تبتدئ وإلى أين تنتهي. وإن لم يكن عربياً وإنما ادعى العربية تقية منه لخوف أو مكيدة، فهو معذور لأن مذهب التشيع يوجب عليه التقية وإن كانت التقية بمعناها الحقيقي هي النفاق))(12).

هذا الكلام يقوله معروف الرصافي بكل صراحة ووضوح في دولة، يبلغ سكانها الشيعة 65 بالمائة من نفوسها، دون إحساس خشية من أية ردود فعل، لأن الدولة كانت وتشجع عليه، ولا تسمح به فقط، لأنه يمثل أيديولوجيا الدولة.

أما ساطع الحصري؛ فيمكن وصفه بمنظر ربط القومية العربية بالطائفية السنية، وجعل المشروع القومي العربي مشروعا طائفيا سنيا، وهذا التنظير يمثل أيديولوجيا أموية كما ذكرنا سابقاً، وقد عبّر الحصري عن ذلك بامتداحه معاوية وآل أُمية، سواء بشكل مباشر أو من خلال المدرسين الذين جلبهم من سوريا، وكانوا يعلنون في مناهجهم الدراسية عن تبجيل معاوية ويزيد وذم الإمام الحسين لأنه خرج على يزيد؛ فأحد هؤلاء المدرسين السوريين كان يدرس طلبته في بغداد منهجاً دراسياً كتبه بنفسه، يقول في جانب منه: ((ولطالما استمسك بنو أمية بعروة الخلافة وبينوا جلالها وأهميتها الدينية، فادعوا أن الله ناصرها ومذل أعدائها، وإن الذين يسعون في الخلافة عليها هم الكفرة الفجرة. ولا غرابة في ذلك فالعاهل الأموي كان خليفة رسول الله، ومن يخرج على الخليفة فإنما يخرج على رسول الله، ومن يخرج على رسول الله فإنما يخرج على الله ومقره جهنم وساءت مصيرا))(13).

وكان الحصري يحمي هذا المدرس ويدافع عنه، حتى قرر الملك فيصل عزله، بسبب الاعتراضات الشيعية الواسعة، لكن الحكومة والملك لم يعترضا على الحصري نفسه، بل استرضياه، وأطلقا يده أكثر من ذي قبل، ثم قام رئيس الوزراء الطائفي الجديد ياسين الهاشمي أعاد المدرس المقال الى التدريس، نكاية بالشيعة، رغم استنفار الشيعة عن بكرة أبيهم. ولنتخيل هنا أنّ هذه النص يُدرّس في المدارس العراقية ذات الأغلبية الشيعية، ولنتخيل أيضاً أنّ كل شيعة العراق، بحوزتهم ومرجعيتهم وسياسييهم وعشائرهم وجماهيرهم، عجزوا عن عزل مدرس سوري شتم أمامهم الحسين ووصفه بأنه من أهل جهنم. وبالتالي؛ لم يكن ساطع الحصري فرداً أو حالة فردية، بل ظل طيلة العهدين الملكي والجمهوري الظاهرة المهيمنة على الواقع الثقافي والتعليمي، والمعبر عن أيديولوجيا الدولة العراقية الطائفية، وأحد مؤسسي الايديولوجيا القومية العربية المعاصرة.

والمفارقة، التي لا تقتصر على الحصري، بل تشمل أغلب القوميين العرب المؤسسين، الذين كانوا عثمانيين متعصبين لتركيا وجنرالات في جيشها، ثم أصبحوا خلال العقد الثاني من القرن العشرين عملاء للإنجليز ودعاة للايديولوجيا القومية العربية، بعد بروز مظاهر انهيار الدولة العثمانية؛ فقد ظل ساطع الحصري حتى كهولته عثمانياً متعصباً، يدعو الى سياسة التتريك وتحويل الشعوب العثمانية الى شعوب تركية، بمن فيها الشعوب العربية، وذلك من خلال تحويل الاحتلال التركي للبلدان العربية، من احتلال الى حضور لغوي وقومي محلي، لضمان استمرار الاحتلال التركي الى الأبد، مستفيداً بذلك من فكرة الفتوحات الإسلامية التي حوّلت الشعوب غير العربية الى ناطقة باللغة العربية، ثم عربية بالانتساب والثقافة.

وقد نجح الإنجليز في أغراء ساطع الحصري بالمناصب والمستقبل السياسي الزاهر، مستغلين خلافه مع قادة حزبه الحاكم في تركيا (الإتحاد والترقي)؛ فتحوّل ولاؤه، من الهلال العثماني الى الصليب الإنجليزي، حاله حال كثير من العثمانيين من ضباط الجيش التركي وموظفي الدولة العثمانية، الذين خانوا أولياء نعمتهم الأتراك في المرحلة نفسها، وتحوّل ولاؤهم الى الإنجليز، أمثال: نوري السعيد (تركماني) وجعفر العسكري وعبد المحسن السعدون وعبد الرحمن الكيلاني (إيراني) وياسين الهاشمي (تركي) وتوفيق السويدي وناجي السويدي وناجي شوكت (داغستاني) وحكمت سليمان(شركسي) وجميل المدفعي وعلي شوكت الأيوبي (كردي) ورشيد عالي الكيلاني (إيراني) وطه الهاشمي (تركي) وحمدي الباججي ومزاحم الباججي وأرشد العمري، وهم العثمانيون الذين ترأسوا الوزارات العراقية طيلة العهد الملكي، الذي حكمته العائلة الأجنبية المستوردة من الحجاز.

ولذلك؛ هرب ساطع الحصري من تاريخه العنصري التركي الى واقع مفارق ومناقض ومعاكس تماماً، وهو ما يكشف عن ذكاء عميق، وقدرة فائقة على استغفال الآخرين؛ فأسس في العراق للايديولوجية العنصرية الطائفية (العربية السنية)، وزرعها في عقل الدولة العراقية (دولة العرب السنة) ومفاصلها، وبالأخص في مناهج التعليم والاجتماع السياسي والثقافي العراقي، وعمل على تحويل العروبة من رابطة نسبية ولغوية كريمة يعتز بها العربي، لأنها لغة القرآن ولغة الرسول ولغة الدين، الى ايديولوجية قومية سياسية طائفية تزدري الآخر القومي والمذهبي وتهمشه، وتدعو الى وحدة الجماعة اللغوية العربية (الناطقين بالعربية) على أساس معيار أفضلية الجنس العربي على القوميات الأخرى. وقد اعتمد ساطع الحصري على الأيديولوجية النازية الألمانية في التأسيس لنازيته العربية، وخاصة أفكار “يوهان فيخته” و”فان دن بروك” و”مارتن هايدغر” و”أوسفالد شبنغلر”. ومن يراجع أقوال الفيلسوف النازي “فان دون بروك”، سيجد أن ساطع الحصري نسخها كما هي، بعد أن رفع كلمة ألمانيا والأمة الألمانية، ووضع مكانها الوطن العربي والأمة العربية.

وتقوم ايديولوجيا ساطع الحصري القومية على احتقار الآخر القومي والمذهبي غير العربي وغير السني، وتعمّد السخرية منه، والتعالي على باقي القوميات غير العربية والطوائف غير السنية، وتعتبر الأوطان التي تسكنها أغلبية ناطقة باللغة العربية هي ملك العرب جميعاً، وتخضع لحكم قوميتهم المتفوقة، كما كانت النازية تعد الجنس الجرماني الآري هو الأفضل والمتفوق.

ورغم الانقلاب السياسي والتحول المتعارض في الولاء الايديولوجي والقومي والوطني لساطع الحصري، إلّا أنه وغيره من العثمانيين السابقين وعملاء الانجليز الجدد، ظلوا أوفياء لطائفيتهم السياسية التي ورثوها من هويتهم العثمانية الطائفية، وحافظوا على نظرتهم الايديولوجية للشيعة، بوصفهم مواطنين من الدرجة الثالثة، وكونهم (عجم) وأعداء للأغلبية العربية والعثمانية السنية؛ فقد عمل ساطع الحصري على ربط الايديولوجية القومية العربية بالمذهب السني، كما كان يربط الايديولوجية العثمانية التركية بالمذهب السني الحنفي، وهو الذي زرع في الاجتماع السياسي والثقافي العراقي مفهوم أن كل شيعي (عجمي) حتى يثبت العكس، كما كان الحصري يشيع بأن الشيعة هم حلفاء اليهود، وهذا الحلف يريد الكيد بالعرب على مر التاريخ، وغيرها من المفاهيم الطائفية والعنصرية التي تلقفها البعثيون فيما بعد، وحوّلوها الى ثقافة سياسية وشعبية.

وكما قال ابن خلدون: ((المغلوب مطبوع على طبيعة الغالب))(14) أو التماهي بالمتسلط وفق بحوث علم النفس الاجتماعي الغربية(15)؛ فلما قام الإنكليز بتأسيس الدولة العراقية الحديثة، وجلبوا لها خريجي المدرسة العثمانية التركية لإدارتها، مارس هؤلاء مع الشيعة نفس السياسة التي مارسها الأتراك ضد العرب. إلّا أن التمييز الذي كان يمارسه الأتراك مع العرب (وكلاهما من السنة)، لا يصل الى واحد بالمائة من التمييز الذي مارسته الأقلية العربية العثمانية السنية الحاكمة ضد الأغلبية العربية الشيعية في العراق، لأن النزعة الطائفية عند السني العربي هي أكبر بكثير من النزعة القومية، فالسني العراقي القومي يعتبر الصومالي العربي السني شقيقه ودمه ولحمه، لكن يعد العراقي العربي الشيعي غريباً، هذا في الواقع والممارسة، رغم تغطيتهم على ذلك بالشعارات التي يريدون بها أن يستعبدوا الشيعي.

ويمكن تلخيص أسباب النكبة التي عاشها الشيعة في العهد المالكي بما يلي:

  • عدم امتلاك شيعة العراق مشروعا للسلطة والحكم، لأنهم غير معتادين على أن يكونوا حكاما، وان الفكرة بعيدة عن رؤوسهم، إلّا ماندر، بل يدخلهم بعضها في متاهات عقدية وفقهية.
  • دور الاحتلال البريطاني في تثبيت حكم الأقلية العربية السنية، انتقاماً من الشيعة، وتخلصاً منهم، لأن الشيعة قاوموا الاحتلال البريطاني للعراق مقاومة مسلحة وسياسية واجتماعية طيلة ست سنوات.
  • دور النخبة الطائفية السنية الحاكمة في إقصاء الشيعة عن مناصب الدولة المدنية والعسكرية، وإقصاء العقيدة والتعاليم الإسلامية الشيعية عن المناهج الدراسية وثقافة الدولة وإعلامها، وتثبيت المذهب السني (الحنفي) مذهباً رسمياً للدولة، وإن كان دون إعلان.
  • انكفاء أغلب الشيعة عن ممارسة العمل السياسي والتنافس على السلطة، ومقاطعة أكثر شرائحهم للدولة ووظائفها، انسجاماً مع اعتراضات المراجع والفقهاء على ارتباط الدولة بالاحتلال البريطاني، وعلى التمييز الطائفي.

نظام البعث وتمثل جوهر الدولة العراقية

لم تكن دولة البعث في العراق طائفية وحسب، بل كان أموية بالمعنى الايديولوجي، وهذا الانتماء وما يترتب عليه من منهجية في التفكير والسلوك؛ أخطر بكثير من المعنى الطائفي المتعارف، لأن حدود سلوك الطائفي هو الحقد والظلم، في حين تنطوي الايديولوجيا الأموية على مشروع ايديولوجي اجتثاثي شامل للآخر العقدي والمذهبي، رغم أن الايديولوجية الأُموية ليست دينية ولا رموزها متدينين، بل لأنها تستشعر الخطر الكبير من مجرد وجود الشيعة، ومن ممارستهم لشعائرهم وعملهم بعقيدتهم وفقهم. ولعل هناك من يقول بأن صدام حسين لم يكن متديناً أساساً لكي يكون طائفياً وأموياً، وهنا تكمن شيفرة الايديولوجية الأموية؛ فمعاوية ويزيد وسلاطين بني أمية لم يكونوا متدينين أصلاً، ويرتكبون كل أنواع المحرمات والموبقات نهاراً جهاراً، لكنهم في الوقت نفسه؛ يمارسون أبشع أنواع الإقصاء والقمع والظلم والاجتثاث ضد أهل البيت وأتباعهم، ليس من منطلق طائفي أو من أجل المحافظة على عروشهم وملكهم وحسب، بل لأن ايديولوجيتهم تنطلق من رفض التعايش مع أية الايديولوجيا الشيعية، ويعملون على فرض أنفسهم على جميع المسلمين بقوة السلاح والمال، أي أن منطلق العقيدة الأموية في اجتثاث الآخر المختلف؛ ليس منطلقاً دينياً؛ بل هو منطلق ايديولوجي مركّب، تتمثل أبرز ركائزه وقواعده فيما يلي:

  • اجتثاث التشيع، عقيدةً وشعائر وطقوس، عبر وسائل القمع والحصار والمنع وفتاوى التكفير، فضلاً عن الدعاية المنظمة المضادة.
  • إقصاء الشيعة عن مراكز القرار في الدولة وسلطاتها المدنية والدينية والعسكرية.
  • تشويه سمعة الرموز الدينية والسياسية والفكرية للشيعة، واتهامهم بشتى التهم، عبر الدعاية المركزة المنظمة، من أجل تمزيق المجتمع الشيعي من داخله أيضاً.
  • خطف المسلمين عقدياً، عبر فرض العقيدة الأموية عليها بكل السبل، وتصوير العقيدة الأموية بأنها العقيدة الإسلامية الصحيحة، وأن حكمها هو حكم الإسلام الشرعي.
  • خطف أهل السنة، وإجبارهم عبر وسائل الشحن الطائفي للسير في ركاب العقيدة الأموية والحاكم الأموي، وإن حافظ المختطفون المغرر بهم أو المجبورون على تبعيتهم للمذاهب السنية، لأن العقيدة الأموية يهمها كثيراً أن تظهر بمظهر الحامي لعقيدة أهل السنة ولجمهور السنة، وأنها هي التي تمثل جماعة المسلمين دون غيرها، وحينها يكون كل مسلم لا يؤمن بعقيدتهم فهو ليس من جماعة المسلمين، وهو أفضع أنواع التكفير الشامل.
  • رفض الشراكة والتعايش والتعددية المذهبية والفكرية والثقافية؛ فالأُموي لا يقبل بالشراكة في أي موقع، ولا التعايش مع الآخر المذهبي والفكري، ولاسيما الشيعي، وإذا قبل بالشراكة أو التعايش مضطراً؛ فإنه يعتبرها مرحلة مؤقتة؛ ريثما تتوافر له فرصة الغدر.
  • العنصرية للعرب، وازدراء واحتقار المسلمين من القوميات الأخرى، وتحديداً القوميات التي اتبعت مذهب أهل البيت؛ فكانوا يسمونهم في أيام الحكم الأموي بالموالي والأعاجم، بينما يطلق عليهم الأمويين المعاصرون تسميات العجم والفرس والمجوس والصفويين.

وللايديولوجيا الأُموية دعامتان، لكل منهما مقوماته الفكرية وثقافته ووسائل تطبيقه وسلوكياته، ويستخدمهما الحاكم بأسلوب منظم ومنهجي وفقاً للحاجة والظرف:

  • دعامة ثيوقراطية دينية سياسية، وتتمظهر في السلطة الدينية للحاكم الأُموي، وهي التي تشرعن للمؤسسة التنفيذية صلاحياتها وفقهها السلطاني وسلوكياتها. وهذه الدعامة تتمثل اليوم في العقيدة الوهابية ونظامها السياسي السعودي، وتفرعاتها، كالقاعدة وداعش والنصرة وطالبان وجيش الصحابة وبوكو حرام وغيرها، وكذا من يحمل أفكارها من سلفيين وغير سلفيين، وهي الجناح اليميني في الأُموية المعاصرة.
  • دعامة علمانية سياسية، والتي تتمظهر في السلطة السياسية العنصرية الدنيوية للحاكم الأموي، وهي يتمثل في حزب البعث العراقي ومن يحمل أفكاره من غير البعثيين، وهو الجناح اليساري للأموية المعاصرة.

ولا تمثل العقيدة البعثية الصدامية النموذج الأموي بدعامتية، بل تمثل الدعامة السياسية العنصرية للعقيدة الأموية المعاصرة، أو اليسار السياسي العنصري الأموي، في مقابل العقيدة الوهابية السعودية التي تمثل الدعامتين معاً، وإن كانت الدعامة اليمينية الدينية أكثر وضوحاً في العقيدة الوهابية، كونها تتبنى القواعد الثيوقراطية في التأسيس لشرعية سلطتها السياسية ــ الدينية، ولذلك؛ هي أقل عنصرية من حزب البعث.

وقد مثّل النظام البعثي حقيقة المنتظم السياسي العراقي الموروث، بكل تفاصيله، ولكن بصورة اكثر تطرفاً وعمقاً وسعة؛ إذ عمل منذ انقلابه في العام 1968 على اضطهاد الشيعة وقمعهم وتشريدهم وقتلهم، ومنعم من ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية، كما عمل على تغيير حقائق الجغرافية السكانية للعراق؛ فأستورد ملايين العرب السنة من الخارج، ولاسيما من مصر، وأسكنهم في المناطق الشيعية، وفي المقابل؛ قرر تهجير ما يقرب من 6 بالمائة من عدد سكان العراق الى ايران، بحجة أُصولهم الإيرانية، وذلك ابتداء من عام 1970، كما قتل عشرات الآلاف من العرب الشيعة والكرد السنة في الحرب مع سكان شمال العراق (الأكراد)، وأضعافهم في الحرب مع الجارة (إيران)، وكان من أهدافه في هاتين الحربين، زرع الأحقاد والتفرقة بين مضطهدي الوسط والجنوب (الشيعة) ومضطهدي (الأكراد)، رغم أن المكونين يشكلان الأغلبية السكانية الساحقة، وكذا زرع الأحقاد بين شيعة العراق وشيعة ايران، على اعتبار أن حوالي 75 بالمائة من جنود الجيش العراقي والمراتب الصغيرة والمتوسطة، الذين كانوا وقود حروب النظام ضد أكراد العراق وضد ايران والكويت، هم من الشيعة.

وكان الخطاب الطائفي للنظام البعثي يتراوح بين التغليف والعلانية، وفق الظروف السياسية الداخلية والخارجية التي كان يعيشها؛ فمثلاً خلال سنوات الحرب ضد ايران (1980ـــ 1988)؛ كان الخطاب الطائفي للنظام وسلوكه ضد الشيعة حادين جداً وعلانيين، عبر ضرب الحوزة العلمية النجفية وتهجير واعتقال وإعدام علمائها، ومنع طباعة ونشر الكتب الشيعية، وإغلاق المساجد والحسينيات، ومنع شعائر وطقوس عزاء أهل البيت والإمام الحسين، وكذلك عبر وسائل الإعلام والفتاوى والمؤتمرات، وخاصة “المؤتمر الإسلامي الشعبي”؛ فقد حاول النظام من خلال خطابه الطائفي تصوير الحرب مع ايران وكأنها بين العراق العربي السني وايران الفارسية الشيعية، وهو يجمع  بين العاملين القومي والطائفي، من أجل كسب تعاطف الأنظمة والشعوب العربية السنية، وقد نجح في ذلك الى حد مطلوب، برغم أن الأغلبية الساحقة من وقود حربه كانوا من الشيعة، بالنظر الى نسبة الجنود والمراتب وصغار الضباط الشيعة في الجيش العراقي، والتي لا تقل عن 75 بالمائة من أفراد الجيش العراقي.

وفي أواسط سنوات الحرب؛ دعا خير الله طلفاح (خال صدام حسين) العشائر العراقية السنّية لحمل السلاح دفاعاً عن المذهب السنّي الذي تريد إيران تدميره في العراق(18)، وكان يردد: ((إنّ الشيعة مجوس ودمهم مباح))(19). كما كان يحث النظام البعثي خلال انتفاضة النجف في صفر من العام 1977، لتدمير النجف، لأنها البؤرة الشيعية التي تؤذي النظام السني. وهو الخطاب نفسه الذي كان يردده رموز النظام الآخرين، ومنهم القائد العسكري الفريق الركن ماهر عبد الرشيد (والد زوجة عدي صدام حسين)، الذي صرح لصحيفة الأهرام (القاهرية): ((نحارب الإيرانيين، لأنهم مجوس تآمروا على محمد وقتلوا علياً والحسين ونحن نثأر لأجدادنا)) (20).

وخلال انتفاضة شعبان (آذار 1991) التي حاول فيها الشعب العراقي إطاحة النظام الحاكم، ارتفع الخطاب الطائفي للنظام، وبرزت ممارساته الطائفي بأوضح صورها؛ إذ دمّرت صواريخ النظام ومدافعه كثيراً من مراقد أئمة آل البيت، وقتلت عشرات الألوف من سكان الوسط والجنوب، ودفنتهم في المقابر الجماعية، تحت الشعار المركزي الذي رفعته آنذاك: ((لا شيعة بعد اليوم)). وبرغم أن الدور الطائفي الخارجي لنظام البعث العراقي قد ضعف كثيراً بعد انتحاره في الكويت، وانهياره السياسي والاقتصادي، وفقدانه معظم حلفائه الطائفين، إلّا أنه ظل يمارس دوره الطائفي في الداخل بنفس القوة؛ إذ جاءت الأحداث بعدها بالشكل الذي يؤكد مخطط النظام المعلن في تغيير هوية العراق، وكان منها احتفالات الزواج الجماعي السنوية التي كان يقيمها النظام خلال العشرة الأولى من شهر محرم الحرام، وخاصة في يوم العاشر من المحرم، وهو يوم مقدس عند الشيعة، وهم الأكثرية السكانية، ويمثل يوم حزن وبكاء، لأن فيه ذكرى استشهاد أمامهم الحسين.

واستطاع نظام البعث تجيير عدد كبير من الموظفين الطائفيين للتعبير عن خطابه، والذين تنوعت عناوينهم وواجباتهم، بحسب اختصاص كل منهم؛ فكان فيهم مفتون ومشايخ وكتّاب وإعلاميون وأكاديميون وسياسيين، وهم ينقسمون إلى: موظفين عراقيين منتسبين إدارياً إلى الحكومة والحزب الحاكم، أو أشخاص انتهازيين يعملون لمصالح مالية، أو أصحاب ميول نفسية وفكرية، سواء كانوا عراقيين أو عراقيين. وقدششششش بدء هؤلاء الموظفون نشاطاتهم الطائفية وأداء وظائفهم، بعد انتصار الثورة الإسلامية في ايران؛ فاستبقوا الاحداث، وراحوا يتحدثون عن (الخطر الشيعي) الذي يستهدف الحكومات السنّية المعتدلة. ثم انتقلوا إلى مراحل أكثر خطورة بعد اندلاع حراك السيد محمد باقر الصدر في العراق، والحرب ضد ايران.

ومن هؤلاء: بشار عواد معروف (الواعظ البعثي العراقي)، الذي استطاع التوفيق بين انتمائه البعثي وعقيدته الدينية السلفية، فيقول: «وما من شك في أن الأمة الإسلامية في هذه الأيام تتعرض لتشويه في عقيدتها تقوم به النحلة الخمينية الفاجرة التي أفتى علماء الأمة الإسلامية، المؤتمنون على عقيدتها، بخروجها من الإسلام»(21). ويغطي بشار عواد هنا على فتواه بتكفير الشيعة بإطلاق توصيف (النحلة الخمينية) عليها، شأنه شأن أغلب الوعاظ والمشايخ الطائفيين، الذين كانوا ولايزالون يحاربون التشيع ويكفرون الشيعة من خلال التستّر بشعارات محاربة (الخمينية). يقول عبد المنعم النمر (وزير الأوقاف المصري الأسبق): «إنّ أهل السنّة، بدءاً من أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى آخر مولود منهم، كفّار عند الخميني؛ فهل بعد ذلك يصح أن نجد بيننا من يسمح له أو لأفكاره الخربة مكاناً في مجتمعاتنا؟»(22).

وكان أحمد بزيع الياسين (الرئيس السابق لبنك التمويل الكويتي) أكثر وضوحاً حين قال:«دولة كبيرة تستغلها طائفة منحرفة لترويج أفكارها المضلّة، باذلة في سبيل ذلك المال والشهرة» (23). وفي الهند أوجب الشيخ أبو الحسن الندوي على من أسماهم بعلماء الإسلام فضح الفكر الشيعي، بقوله:«آن الوقت كي ينهض علماء الإسلام كل بواجبه في البراءة من هذه الضلالات، وكشف تلك الانحرافات، وفضح الغايات الفاسدة للخميني وأتباعه» (24). وكان يثني على موسى الموسوي (ايراني عمل مع نظام البعث وتحول الى التسنن)، لأنه اتهم التشيع بالانحراف والغلو، ودعا الشيعة لتبني الفكر السلفي (25)؛ إذ يقول:«هناك امور نسبتها كتب الغلاة إلى الأئمة وتبناها فقهاء المذهب [الشيعي]، وذكرتها كتب الأخبار الموثوق عندهم مثل: “أصول الكافي” و “الوافي” و”وسائل الشيعة” و “الاستبصار”، ولعل من أهم مواضيع الغلو: العصمة والعلم اللدني، والإلهام، والمعجزات والكرامات والإخبار بالغيب، وتقبيل الأضرحة»(26).

ويقول الشيخ عبدالقادر ازاد (شيخ سلفي باكستاني):«إن الخميني أحدث تغييراً وتبديلاً في ألفاظ الآذان، وجعل المؤذنين ينطقون اسمه، ويقحمونه كلما رفعوا الأذان في صلاة من الصلوات»(27). ويوضح آزاد ما يقصده هنا: «الذي احدثه الخميني حين أقحم اسمه في الأذان وجعلهم يقولون «خميني رهبر» [خميني قائد] بعد «الله اكبر»، عمل محرم قطعاً. وأنا في هذا المجال، أتساءل: ماذا كان من الممكن أن يحدث لو أنّ الإمام علياً قائم بيننا وسمع المؤذن يدخل في نصل الأذان ما ليس منه، ويقول «أشهد أن علياً ولي الله»؟ هذا بالنسبة لاسم الإمام علي، فما بالكم باسم الخميني، الذي أصبحت له شهادة خاصة تعقب شاهدة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، ثم الشهادة الثالثة المبتدعة بأنّ علياً ولي الله»(28) .

هناك من يقول بأن نظام البعث كان عادلاً في ظلمة وأن ظلمه شمل الجميع، وهذه المقولة متهافتة ولا تصمد أمام الحقائق البديعية، صحيح أن ظلم نظام البعث شمل كل الشعب العراقي، لكن ظلمه للشيعة كان طائفياً في أغلبه، أي أنه كان يظلم الشيعة لأنهم شيعة وليس لأنهم معارضين، فثلاثة أرباع ممارسات النظام ضد الشيعية كانت مبادرات اجتثاثية وأعمالاً هجومية واستباقية، ولها علاقة بالجوانب العقدية والفقهية والاجتماعية، ولم يكن لهذه الممارسات أية علاقة بالمعارضة أو الجانب السياسي، بل منطلقه الحقد الطائفي والعداون وهكذا بالنسبة للكرد؛ فقد كان ظلمه لهم عنصريا، ومنطلقه عنصرياً وليس لأنهم معارضين، أما ظلمه لبعض السنة فكانت أسبابه سياسية، ولأن هذا البعض كان معارضاً له، بمن فيهم أعضاء حزبه، ولم يكن منطلق هذا الظلم طائفيا وعنصريا؛ فلم يضطهد نظام البعث أي عالم دين سني أو يعتقله ويقتله لمجرد أنه سني، بينما فعل هذا الشي مع آلاف علماء الدين الشيعة لمجرد أنهم شيعة، ولم يكونوا معارضين ولاعلاقة لهم بالسياسة.

ويمكن إجمال صورة طائفية نظام البعث، من خلال أفكاره وسلوكياته، بما يلي:

1- التمييز الطائفي والعنصري في مناصب الدولة: كان السنة العرب، ونسبتهم من عدد السكان 16 بالمائة فقط، يسيطرون على 90 بالمائة من المسؤوليات الرأسية، كرئاسة الجمهورية ومجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية للحزب والوزارات وقيادات الجيش والقوات المسلحة، وكان المذهب السني الحنفي هو مذهب الدولة الرسمي، دون إعلان. أما الشيعة الذين تشكل نسبتهم السكانية 65 بالمائة؛ فكانوا يشغلون 5 بالمائة فقط من المسؤوليات، ومن يشغلها كانوا مجرد موظفين عند أسيادهم المسؤولين السنة العرب، سواء في الحزب أو الحكومة أو الجيش. وكانت رمزيات الدولة التاريخية والمعاصرة، السياسية والدينية، ومناهجها الدراسية وأدبيات الإعلام والصحافة، والتوجهات الثقافية، كلها سنية طائفية، وموجّهة بالدرجة الأساس ضد الشيعة وهويتهم ومذهبهم.

2- القتل والإعدامات والمقابر الجماعية: قتل نظام البعث خمسة مراجع دين شيعة، و(32) مجتهداً و(870) عالم دين شيعي، وأغلب هؤلاء لم يكن لهم أي موقف سياسي ضد النظام، قتل ما يقرب من (160) ألف رجل وامرأة وصبي وطفل من الشيعة، دفن ضحاياه الشيعة في مقابر جماعية، منها (420) مقبرة مكتشفة.

3- الاعتقال والحبس: بلغ عدد من تعرضوا للاعتقال والسجن بمدد مختلفة، أكثر من ثلاثة ملايين شخص، وذلك بشبهة معارضة نظام البعث أو انتقاده، وأغلب هؤلاء لم يكونوا معارضين ولا علاقة لهم بالسياسة.

4- جرائم التعذيب والتنكيل: وهو أنواع من التعذيب النفسي والجسدي النادر تاريخياً وجغرافياً، إذ تعرض مئات آلاف الرجال والنساء إليه، كما تعرضت مئات النساء الشيعيات المعتقلات الى الاغتصاب، بما في ذلك الاغتصاب أمام أعين ذويهن، لحملهن على الاعتراف أو حمل ذويهن على الاعتراف، كما تعرض مئات الأطفال الى الخنق وتهشيم الجمجمة أمام آبائهم وأُمهاتهم لحملهم على الاعتراف.

5 – جرائم الملاحقة وإسقاط الجنسية والتهجير القسري الى خارج العراق: تسبب نظام البعث وصدام في هجرة أكثر من مليوني عراقي الى الخارج، بسبب ملاحقة من يشتبه بمعارضته، أو للتخلص من مطاحن الحروب، أو بسبب الفقر والمرض وانعدام الخدمات، مع الإشارة الى أن عدد سكان العراق ما يقرب من نصف عدد السكان حالياً، وكذلك تهجير ما يقرب من (500) ألف مواطن عراقي شيعي الى إيران بحجة التبعية، وهم يمتلكون الوثائق العراقية كافة، بعد إسقاط الجنسية عنهم، ومصادرة أموالهم، ونقلهم الى الحدود دون أي سابق إنذار إسقاط الجنسية عن مئات العراقيين ممن يشتبه بمعارضتهم للنظام، بينهم شخصيات شهيرة. وقد أصدر نظام البعث قانون إسقاط الجنسية رقم 666 لسنة 1980، والذي أسقط بموجبه الجنسية العراقية عن مئات آلاف الشيعة العرب والفيلية والمجنسين الإيرانيين.

6- محاربة العقيدة الشيعية ومؤسستها الدينية: قام النظام بمصادرة المدونات العقدية والفقهية والفكرية والثقافية للمذهب الشيعي، ومنع طباعتها واستيرادها، بما فيها كتب الأدعية، ومحاربة المرجعية الدينية والحوزة العلمية، والتنكيل بها ومنعها من ممارسة دورها الديني والتوجيهي، وصولاً الى قتل المراجع وعلماء الدين وحبسهم وتسفيرهم وفرض الإقامة الجبرية عليهم، حتى انخفض عدد منتسبي حوزة النجف في العام 1990 الى 5 بالمائة من عددهم في عام 1968، وكذلك تخريب المدارس الدينية الحوزوية أو إغلاقها، ومنع الشعائر الدينية، وخاصة ذكريات وفيات وولادات أئمة آل البيت، وفي المقدمة مراسيم استشهاد الإمام الحسين، ومن بينها مهاجمة مشاة زيارة الإمام الحسين في ذكرى الأربعين بالدبابات والطيران، واعتقال الخطباء وقتلهم.

التخندق الطائفي بعد العام 2003

لقد أطاح سقوط نظام البعث العراقي في العام 2003 بتاريخ طويل من التمييز الطائفي والإقصاء المذهبي والقتل والاعتقال على الهوية، وهو التغيير التاريخي المفصلي الذي عبرنا عنه بـ “صدمة التاريخ”(29). والحقيقة أن أي تغيير في العراق، يلامس سطح المشكلة، ويعبر على بنية النظام الطائفي القومي للدولة العراقية، يبقى تغييراً مبتوراً ومشوهاً، ويعجز عن حل مشكلة الاستقرار في العراق في مرحلة ما بعد حزب البعث، وهو ما حصل بعد العام 2003؛ فقد تغير حكم البعث ودخل الشيعة والكرد مشاركون في الحكم الى جانب السنة؛ إلّا أن البنية الطائفية للدولة وأدبياتها بقيت قائمة. وهناك شواهد تاريخية تؤكد احتفاظ الدولة العراقية بعقيدتها الطائفية رغم التغيير في رأس السلطة التنفيذية، فمثلاً لم تتغير سياسات الدولة الطائفية حين أصبح السيد محمد الصدر وصالح جبر وفاضل الجمالي رؤساء للوزراء خلال العهد الملكي، ولم تتغير المناهج ولم يمنح أهل الوسط والجنوب حقوقهم في التعليم بالتساوي مع أشقائهم السنة عندما أصبح وزير المعارف شيعياً، وكذا عندما كان رئيس مجلس الأمة شيعياً، بل سيبقى النظام طائفياً سنياً حتى لو جاء رئيس جمهورية شيعياً، لأن البينة الطائفية القومية مترسّخة بقوة ومقننة في السياسة والجغرافية والاقتصاد والثقافة ووسائل الإعلام والمناهج الدراسية وقوانين الأحوال المدنية، وفي كل زاوية من زوايا المجتمع السياسي الرسمي. كما أن هذه الايديولوجيا كانت مترسِّخة في العقل السياسي العراقي قبل العام 2003، فإذا أصبح رئيس وزراء العراق شيعياً؛ فإنه سيفكر بعقل طائفي سني.

ولذلك؛ فرغم التغيير السياسي الكبير الحاصل؛ إلّا أنّ العقيدة الطائفية ظلت متأصلة في أغلب العقول والسلوكيات، بل وظهرت بشكل فاقع لدى كثير من الشخصيات السنية المشاركة في الحكم، وكأنه يعيش مفاهيم التاريخ الطائفي وخطابه وسلوكياته، ويطبقها عملياً ويجاهر بها في خطابه، وهو يضمر رفض مشاركة الشيعة في قرار الدولة وفي الحكم وفي المؤسسة الدينية الرسمية، لأن الطائفي يعد العراق ملكه الحصري وبوابته الشرقية، وأن الشيعة نزلاء مرفوضون، وهذه القضية أخطر من كونها مجرد مشاعر طائفية أو رغبة عاطفية ولاشعورية في إقصاء الشيعي. ولذلك؛ فإن المشكلة بعد انهيار نظام صدام في العام 2003، لم تعد مع عنوان البعث وفكره وحضور عناصره في الدولة، أو في القاعدة وداعش والجماعات التكفيرية، بل أن المشكلة هي في العقيدة الطائفية المستحكمة في عقول وسلوك تلك الشخصيات، وأغلبها علمانية وغير سلفية وغير بعثية.

وظهرت في العراق أنواع من التحالفات الطائفية الغريبة بعد العام 2003، والتي تضم بقايا نظام البعث، ورموز اجتماعية ودينية، ومسؤولين في الدولة الجديدة، والجماعات التكفيرية، أي أنها خليط قومي علماني، وديني سلفي وحركي وتكفيري وتقليدي، واجتماعي عشائري، ويجمعها قاسم مشترك إيديولوجي، هو رفض الشيعة عقدياً وسياسياً، وهو المشترك ذاته الذي جمع هذه التحالفات بالحكومات والجماعات ووسائل الإعلام الطائفية الإقليمية، ولاسيما السعودية والتركية والقطرية والإماراتية، والمدعومة إسرائيلياً وأمريكياً، والتي أخذت تتحدث بصوت عال بعد العام 2005 عن ما أسمته الخطر الشيعي على عروبة العراق والمنطقة، كما بدأت بالعمل بقوة على مواجهة هذا (الخطر)، عبر وسائل المال والإعلام والمخابرات والسياسة والدبلوماسية والاقتصاد. وظلت أهداف هذه التحالفات المحلية ــ الإقليمية تتمحور حول إحداث فتنة طائفية شاملة واقتتال داخلي، ومحاولات لتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب العراقي، وإعادة الزمن الى الوراء؛ ليبقى الشيعي كما كان طيلة 1350 عاما من عمر السلطة العراقية الطائفية.

ولعل أوضح نموذج للخطاب الطائفي بعد التغيير في العراق، هو خطاب القيادي السني الأبرز عدنان الدليمي (رئيس ديوان الوقف السني الأسبق في العراق، ثم رئيس الكتلة السنية الأبرز في البرلمان العراقي حتى العام 2010)؛ إذ ظل معبراً عن خطاب أغلب النخبة الطائفية وناطقاً باسمها؛ فمثلاً؛ في كلمة له أمام مؤتمر نصرة أهل السنة في العراق، المنعقد في اسطنبول في العام 2006، أخذ عدنان الدليمي يستصرخ السنة العرب وغير العرب لنجدة العراق السني وكل بلاد المسلمين من الدخلاء الشيعة الصفويين، بقوله: ((نعم إننا طائفيون..أنتم تدعون في هذا المؤتمر لنصرة العراق.. أي عراق هذا؟ عراق الشيعة؟… سيتحول العراق الى شيعي، وسيمتد الأمر ليشمل البلدان المحيطة بالعراق… الى السعودية.. الى الكويت.. الى الأردن… ناموا؛ إن الحريق سيمتد الى المنطقة، والله إنها خطة منذ أكثر من خمسين سنة لتشييع المنطقة، وإيجاد إمبراطورية فارسية تحت غطاء الشيعة، وتحت غطاء الإسلام، والإسلام بريء منهم))(30)، ثم بدأ بالصراخ وهو يدعوا الى ضرب الشيعة واستذكار هوية بغداد، وكونها سنية: ((بغداد التي ستضيع.. بغداد أبي حنيفة.. بغداد المنصور.. بغداد هارون الرشيد.. بغداد أحمد ابن حنبل، وستصبح بغداد الصفويين.. بغداد البويهيين.. بغداد القرامطة الجدد))(31) .

وفي مقابلة له مع إحدى المجلات الطائفية، قال عدنان الدليمي: ((الشيعة مصممون على التغلغل في جميع البلدان الإسلامية من إندونيسيا الى أعماق أفريقيا، يبذلون في ذلك أموالاً طائلة، وينشرون الكتب التي تسعى الى مذهبهم المنحرف، وينشرون الحسينيات في البلاد السنية، وينشرون مؤسسات ظاهرها خيرية وفي حقيقة أمرها مراكز للتشيع، والحكومات السنية غافلة عن ذلك ومتساهلة، ولا توجد مؤسسات فاعلة لردع هذا التوجه الذي سيقضي على الإسلام الصحيح المتمثل بالمذهب السني المستند على القرآن والسنة وآراء العلماء السنة، ولا ندري الى متى يبقى حكام المسلمين السنة غافلين عن هذا الخطر الذي دهم العراق السني، وإننا لنأسف أشد الأسف لتخلي الدول الإسلامية السنية عن مؤازرة إخواننا في العراق، وهو البوابة الشرقية التي كان من الممكن أن تقف في وجه هذه الهجمة الشيعية الشرسة… رسالتي إلى العالم الإسلامي؛ فلينتبه إلى الخطر الشيعي الذي يداهمه ويساندوا إخوانهم أبناء السنة في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي كل المناطق التي تتعرض إلى الخطر الشيعي، يساندوهم إعلاميا وماديا ومعنويا ويتصلوا بهم من اجل تقويتهم ومن اجل توحيد صفوفهم))(32).

هذا في الوقت الذي ظل فيه عدنان الدليمي يصول ويجول في بغداد وشمال العراق والمناطق السنية، بكل حرية، وهو يحرض العشائر السنية والجماعات السنية على القتال والصمود المسلح، ويستجلب المسلحين والسلاح من البلدان الخليجية وغيرها، ويتواصل مع قيادات داعش والقاعدة، ومع أجهزة مخابرات جوار العراق، وينسق مع الجماعات المسلحة في سوريا، لتوجيه ضربات مشتركة الى الحكومتين العراقية والسورية.

وكان الحدث الطائفي الأهم في العراق بعد العام 2003، كان ظهور دولة داعش في المناطق الغربية والشمالية السنية في العام 2013، والذي مهد له حدث طائفي مهم آخر هو اعتصامات جماهير الأحزاب والجماعات والعشائر السنية في صلاح الدين والأنبار والموصل وكركوك وديالى، بدءاً من العام 2012، والشعارات الطائفية التي اطلقتها، وتهديدها باحتلال بغداد، ومواجهتها القوات المسلحة العراقية، ومنعها من أداء دورها في ملاحقة تنظيم (داعش) الوهابي وغيره من الجماعات الإرهابية التكفيرية والبعثية المسلحة، التي ظلت تختفي وراء منصات الاعتصام وتتمدد في صحراء الأنبار والموصل وصلاح الدين، تحت عناوين ثوار العشائر وعناوين أخرى؛ الأمر الذي جعل تحركها باتجاه احتلال المناطق السنية سهلاً ومتاحاً، وصولاً الى تأسيس ما عرف بالدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام، وعاصمتها مدينة الموصل في شمال العراق.

وكان الوضع الاجتماعي السياسي مهيأ لاحتضان (داعش) أو أية منظمة طائفية مسلحة، بسبب الواقع الطائفي والمعادي للحكومة المركزية في بغداد، والذي خلقته الجماعات القومية العروبية والإسلامية والتكفيرية ورجال الدين التقليديين ومشايخ الطرق الصوفية والأسر ذات الولاءات العثمانية. ورغم التباين الفكري والعقدي والسياسي لهذه الشخصيات والأسر والجماعات؛ إلّا أنها ظلت ترى خيار التمرد على حكومة بغداد هو خيارها الوحيد للتخلص من العراق التعددي ومما تسميه الحكم الشيعي في بغداد، وعودة واقعية الى الجذور. وكانت اجتماعات هذه الجماعات تعقد – غالباً – في إنطاكيا وأنقره واسطنبول. وكانت التحالفات في الموصل وغيرها من المدن السنية، تدخل في إطار حلفين أساسيين متنافسين: التركي ـــ القطري والإماراتي ـــ السعودي، وقد ظل الرهان السعودي على الشخصيات والجماعات ذات الميول الوهابية والسلفية، وعملت على دعمها بكل أشكال الدعم المالي والتسليحي، حتى سيطرت على كثير من مساجد الموصل وجمعياتها ومؤسساتها الدينية، بينما دخل المال القطري لتعزيز النفوذ التركي، الذي كان هو الأقوى.

أما البعثيون في المناطق السنية؛ فكانوا الأكثر حنكة وتجربة وتنظيماً، وظلوا بعد عام 2003 لا يعلنون عن وجودهم وحجمهم، بل يتسترون بعباءة الجماعات والتيارات السياسية العلمانية والإسلامية التي دخلت العملية السياسية، أو قوات الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية والمخابراتية، أو الطرق الصوفية، ولاسيما النقشبندية، ومعظمهم من جناح عزت الدوري.

هذا الواقع الذي تتجاذبه الولاءات الطائفية؛ كان مهيئاً نفسياً وميدانيا لاستقبال أي نور الدين زنكي جديد أو صلاح الدين أيوبي جديد أو أي جزار طائفي جديد، سواء اعتمر العمامة العثمانية أو (اليشماغ) الوهابي أو الزيتوني البعثي أو الهندام الأفغاني. وكان الأقرب الى الواقع هو خيار الهجوم المسلح من الخارج على الموصل، وتحديداً من صحراء الأنبار، قوامه الأساس تنظيم داعش الوهابي التكفيري، بالنظر لعدم إمكانية اي تيار محلي من السيطرة على الموصل، سواء عبر العمل المسلح أو الحراك الانقلابي المحلي أو العمل السياسي الرسمي. وسبق هجوم (داعش) بعدة أشهر، أي في نهايات العام 2013 وبدايات العام 2014؛ عقد سلسلة اجتماعات مخابراتية وسياسية سرية مكثفة في تركيا والسعودية وقطر والإمارات، لمناقشة أربعة أهداف متداخلة ترتبط بالوضع السوري – اللبناني – العراقي، وتنتهي الى ضرب محور الممانعة ضربة موجعة:

  • زعزعة الوضع في العراق بشكل جدي، من خلال ضرب العملية السياسية، وإثارة حرب أهلية طائفية سنية ـ شيعية، وتفكيك التحالف الوطني الشيعي، والحيلولة دون إعادة انتخاب نوري المالكي لرئاسة الوزراء، وصرف أنظار شيعة العراق عن الوضع السوري، وإجبار المقاتلين المتطوعين العراقيين التابعين لبعض الجماعات الشيعية العراقية؛ للعودة الى العراق؛ بعد أن أصبح وجودهم مؤثراً في تكبيد داعش والنصرة والجيش الحر خسائر موجعة.
  • كبح جماح قوات النظام السوري، التي حققت خلال الأشهر الستة انتصارات ميدانية كبيرة، وأنهت أي احتمال لسقوط نظام بشار الأسد، ومحاولة إحداث تهدئة تكتيكية في الحرب الدائرة، وصولا الى إيقاف إطلاق النار، لإعادة تنظيم صفوف الجماعات المسلحة.
  • عزل حزب الله اللبناني عن الوضع السوري، وعن تشكيلة الحكومة اللبنانية الجديدة، وتفرد الجماعات المعادية للمقاومة بمقدرات الدولة اللبنانية، بهدف نزع سلاح حزب الله، عبر كماشة فكها الأول: ضغوطات سعودية إسرائيلية أمريكية فرنسية، وفكها الثاني: ضغوطات الحكومة اللبنانية الجديدة والجماعات المعادية للمقاومة.
  • محاولة كسب ود إيران عبر الزيارات والزيارات المتبادلة والإغراءات ورسائل التطمين الإقليمية والعالمية، لإقناعها بتخفيف دعمها للحكومة العراقية، وإعادة النظر في موقفها من الوضع في لبنان وتخفيف غلواء حزب الله والسماح بتشكيل الحكومة اللبنانية، والمساعدة في إيقاف إطلاق النار في سوريا وإبقاء الوضع على ما هو عليه؛ لمنع قوات النظام السوري من الاستمرار في تقدمها السريع.
  • وعلى الرغم من اختلافهم على الملف المصري وملف جماعة الإخوان المسلمين؛ إلّا أن اجتماعات الأنظمة الإقليمية الطائفية، وبدعم أمريكي؛ أفضت الى نتائج مهمة خلال العامين 2012 و2013، كان أبرزها دفع تنظيم داعش للتحرك بقوة في المحافظات الغربية، بالتزامن مع تصاعد الخطاب الطائفي في منصات الاعتصام، وبذل كل الجهود للسيطرة على الموصل في أوائل العام 2014، تسبقها وتتزامن معها عمليات تكتيكية لدخول سامراء وبعقوبة وتكريت وبيجي وجولاء؛ لدفع الحكومة العراقية لسحب احتياطييها العسكري وقواتها من بغداد نحو المنطقة الغربية والموصل؛ ليكون تلويح داعش بضرب بغداد ودخولها واقعياً، و كذلك التهديد بتدمير مراقد الأئمة في سامراء والكاظمية وكربلاء والنجف. ولكن يبقى إن الموصل هي الهدف الإستراتيجي؛ للإبقاء عليها خارج سيطرة الحكومة المركزية، وتحولها الى خاصرة ضعيفة؛ تنطلق منها حرب الاستنزاف ضد الدولة وضد الشيعة؛ وصولاً الى تأسيس الدولة السنية في محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين وأجزاء من محافظات كركوك وديالى وبغداد (مناطق العرب السنة).

وهكذا تم استنفار الحواضن المسلحة داخل الموصل، والاتفاق بشكل مباشر وغير مباشر مع بعض المسؤولين والقيادات المحلية في الموصل على العملية، وإشاعة قرب الخلاص مما يسمى بـ (حكم الشيعة) بين الأهالي. وحصل تنظيم داعش على فتاوى من مشايخ الوهابيين في السعودية بوجوب ما يسمى بـ ((تحرير أراضي المسلمين في بغداد ونينوى والأنبار وديالى وصلاح الدين من سيطرة الروافض الكفرة))(33). وحينها اكتملت خيوط المؤامرة الطائفية على النحو التالي:

  • قيام حوالي أربعة آلاف مقاتل من تنظيم داعش، وألفين مقاتل من الجيش الإسلامي وكتائب ثورة العشرين وجيش النقشبندية وبعض المجموعات العشائرية، باقتحام الموصل من خارجها في شباط/ فبراير 2014، وهم مسلحون بكل أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة والآليات.
  • انضمام ما يقرب من عشرة آلاف مسلح مدني وعسكري من داخل الموصل؛ من عناصر النظام البعثي السابق (مخابرات وأمن وحرس جمهوري وفدائيو صدام وحزبيين) ومن عناصر الجماعات والمؤسسات الإسلامية وعناصر عشائرية محلية.
  • تواطؤ رسمي من داخل الموصل من قبل قياديين ومسؤولين محليين مدنيين وعسكريين؛ بينهم ضباط كبار في الجيش والشرطة والمخابرات؛ مهّدوا عبر المعلومات والإشاعات والأوامر لدخول المقاتلين الى المدينة.
  • تحضير آلاف الأهالي المنتشرين في أحياء الموصل؛ لاستقبال مقاتلي داعش والترحيب بهم. وهم يمثلون حواضن اجتماعية محلية؛ مثّلت الدعم المعنوي واللوجستي الأهم للمؤامرة.

وهكذا دخل المسلحون الوهابيون الى الموصل بكل سهولة ودون مقاومة، وسيطروا خلال يومين تقريباً على مركز المدينة ومعظم ضواحيها وعلى المؤسسات الحكومية. وأعقب ذلك تمدد تنظيم داعش نحو مدن محافظة نينوى الأُخر، فضلاً عن مدن محافظتي صلاح الدين والأنبار، واستمر ذلك خلال العامين 2014 و2015.

وعلى الجبهة العراقية المقابلة؛ كانت الأمور تتفاعل باتجاه معاكس لقيام دولة داعش والمد الطائفي الكبير في الموصل والمناطق السنية في غرب العراق، وكان من مخرجاتها:

  • إعلان المرجعية الدينية النجفية العليا عن موقفها من الأحداث والخطر المحدق بالبلاد، ولاسيما فتوى الإمام السيستاني بالجهاد الكفائي، التي أعادت الى الأذهان فتاوى الجهاد التي أصدرتها المرجعية الشيعية خلال المئة سنة الماضية. وكان تقدم المرجعية العليا صفوف الجبهة العراقية الوطنية عبر فتوى الجهاد؛ يدلّ دائماً على نوعية الخطر الذي يواجه الدين والمذهب والشعب والوطن والدولة؛ إذ أن إعلان الجهاد لا يتم إلّا في الحالات المصيرية الحرجة جداً. وقد أدى ذلك الى إعلان الفرقاء السياسيين الشيعة؛ ولاسيما الإسلاميين؛ وأيضا الحكومة؛ عن مواقف الطاعة والتبيعة للمرجعية العليا المتمثلة بالإمام السيستاني.
  • التقارب المجتمعي بين شرائح المجتمع العراقي، السني والشيعي، بعد أن أدركت إنها مستهدفة في المؤامرة؛ ولاسيما بعد القرارات التشريعية والتعليمات التكفيرية التي أصدرتها قيادة داعش والمجلس العسكري ومجلس الإفتاء في الموصل. وكذلك بعد سيطرة قوات البيشمركة الكردية على مدينة كركوك ومعظم مدن وأراضي المحافظة.
  • شعور المواطن العراقي السني بأن داعش والبعث والجماعات المسلحة يعششون في مناطقه فقط، ويتسببون في تدمير بناها التحتية واقتصادها وعمرانها، وفي قطع أرزاق الناس، وإشاعة الفوضى والتخريب وعدم الاستقرار، والتأثير على مستقبل أولاده ودراستهم وعيشهم الهادئ.
  • انكشاف حقائق الشركاء السياسيين ومواقفهم وأهدافهم، ولاسيما بعض الشركاء السنة الذين وقفوا سراً أو علانية مع المؤامرة في الموصل ومع مخطط تقسيم العراق، بينما وقف آخرون على الحياد.
  • استشعار أمريكا الخطر الكبير الذي يتهدد مصالحهم في المنطقة من الجماعات التكفيرية، وتحديداً داعش، التي سبق أن أسسوها ومولوها، وأصبح خطاب الغرب يتجه نحو تدمير مسارب القوة لدى الجماعات التكفيرية وتجفيف كثير من منابعها، ومنها الفتاوى التكفيرية التي تصدر من المؤسسة الدينية الرسمية السعودية ومشايخها الوهابيين، وكبح جماح المخططات التركية القطرية والسعودية الإماراتية، الرامية الى الاستفادة التكتيكية والإستراتيجية من الجماعات التكفيرية المسلحة وتحريكها باتجاه مصالحها السياسية الطائفية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 الإحالات

(7) عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث، ج1، ص11.

(8) المصدر السابق.

(9) للمزيد حول التأسيس الايديولوجي للطائفية في عهد الدولة العراقية الملكية: عبد الكريم الأزري، “مذكرات عبد الكريم الأزري”، و”مشكلة الحكم في العراق”، حسن العلوي، “التأثيرات التركية في المشروع القومي العربي”، “الشيعة والدولة القومية في العراق”، إسحاق نقاش، “شيعة العراق”، د. سعيد السامرائي، “الطائفية في العراق: الواقع والحل”.

(10) نقلاً عن كامل الجادرجي في مذكراته

(11) لعل من أفضل من كتب في مجال ربط المشروع القومي العربي بالطائفية السياسية السنية هو الكاتب العراقي حسن العلوي في كتابيه: “الشيعة والدولة القومية” و”التأثيرات التركية في المشروع القومي العربي”.

(12) معروف الرصافي، “المسألة العراقية”، ص 123.

(13) وهو أنيس زكريا النصولي، الذي طبع دروسه في كتاب “الدولة الأُموية في بلاد الشام” في العام 1926، وسبب ردود أفعال كبيرة من قبل الشيعة لأنه تعرض بالإمام الحسين وتبجيل بني أمية وخاصة يزيد بن معاوية.

(14) عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة تاريخ ابن خلدون

(15) أنظر: سيكولوجيا الإنسان المقهور

(16) أُنظر: حنا بطاطو، «العراق»، ج1، ص388. خليل فضل عثمان، «الطائفية في العراق: صناعة الدولة والأُمّة منذ عام 1920»، سعيد السامرائي، «الطائفية في العراق: الواقع والحل». حسن العلوي، «التأثيرات التركية في المشروع القومي العربي»، و«الشيعة والدولة القومية في العراق». علي المؤمن، «حكم المركب الطائفي القومي في العراق»، مجلة دراسات عراقية، 1999، و«سنوات الجمر: مسيرة الحركة الإسلامية في العراق»، و«صدمة التاريخ: العراق من حكم السلطة إلى حكم المعارضة».

(17) أُنظر: سعيد السامرائي، «الطائفية في العراق: الواقع والحل». حسن العلوي، «التأثيرات التركية في المشروع القومي العربي» و«الشيعة والدولة القومية في العراق»، علي المؤمن، «حكم المركب الطائفي القومي في العراق»، مجلة دراسات عراقية، 1999، و«سنوات الجمر: مسيرة الحركة الإسلامية في العراق»، و«صدمة التاريخ: العراق من حكم السلطة إلى حكم المعارضة». صلاح عبد الرزاق، «المرجعية والاحتلال الأجنبي».

(18) أنظر: علي المؤمن، “حكم المركب الطائفي القومي”، مجلة شؤون عراقية، ع 9، السيد مصطفى جمال الدين، “تصورات الشيعة لنظام الحكم في العراق”، سعيد السامرائي، “الطائفية في العراق”، علي بابا خان، “العراق: تهجير الشيعة”، الدكتور عبد الحسين شعبان، “من هو العراقي”؟.

(19) للوقوف على مفهوم الغزو الطائفي، أُنظر: علي المؤمن، “الغزو الطائفي عفي مواجهة المشروع الإسلامي الحضاري”، ص 5 ـــ 7.

(20) حول الاجتماع السياسي الإسلامي، أُنظر: علي المؤمن، “النظام السياسي الإسلامي الحديث”، ص 15 ـــ 16.

(29) وهو عنوان كتابنا “صدمة التاريخ: العراق من حكم السلطة الى حكم المعارضة، الصادر في العام 2010.

(31) عقد المؤتمر في 14 كانون الأول/ ديسمبر 2006، بدعوة من المخابرات التركية، وحضور أغلب قيادات الأحزاب السنية العراقية ورجال الدين السنة، ومسؤولين من دول عربية وإسلامية، إضافة الى قيادات الدولة التركية، وفي مقدمتهم الرئيس أردوغان.

(32) مقابلة مع عدنان الدليمي، مجلة البيان (الإماراتية)، 5/ 12/ 2013.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment