السلطة وسياسة فرض الفرق والمذاهب على المسلمين

Last Updated: 2024/05/30By

السلطة وسياسة فرض الفرق والمذاهب على المسلمين

د. علي المؤمن

 

إذا أمعنا النظر في خارطة المذاهب الإسلامية اليوم؛ فسنجد أن تفصيلها قد تم على مقاسات السلطات التي تعاقبت عليها وحكمتها؛ فلولا الدول الأُموية والعباسية والسلجوقية والأوزبكية والغزنوية والعثمانية لما انتشر التسنن وفرقته الأشعرية ومذاهبه الأربعة، حتى بات أتباعها يمثلون الأكثرية العددية المسلمة، رغم أن مذاهب سنية أخرى، كالظاهرية، كانت أعمق علمياً من المذاهب الأربعة.

  • مرحلة الخلافة الراشدة:

خلال خلافة الراشدين الثلاثة؛ كان الوضع الحكومي يدعم اتجاه مدرسة الخلفاء أنفسهم، فيما يتعلق بمنهج تفسير القرآن، وأسلوب الاستفادة من السنة النبوية، وإصدار الحكم الشرعي والولائي والفتوى، وعدم الأخذ بمنهج أهل البيت في هذه المجالات، لأن من شأنه التشويش على المسار الأحادي لحركة الدولة. وتضخم هذا الاتجاه في عهد الخليفة الثالث، بعد سيطرة الأمويين، يتقدمهم صهر الخليفة مروان بن الحكم على مقاليد السلطة، وكان ذلك بداية لظهور العقيدة الأموية وفرضها على المسلمين فيما بعد. ألّا أن خلافة الإمام علي أخرت المشروع العقدي الأموي بضع سنوات؛ فعاش المسلمون خلال حكم الإمام علي حرية عقدية وفقهية، سمحت لكل التيارات المتعارضة بالتعبير عن نفسها.

  • مرحلة الدولة الأُموية:

 

وبسيطرة معاوية على السلطة والخلافة، أخذت العقيدة الأموية بالتبلور، وتحولت الى العقيدة السياسية ــ الدينية الرسمية للدولة(1)، وبات كل من لا يؤمن بها يقف تلقائياً في صف المعارضة العقدية والفقهية، وليس السياسية وحسب، ولذلك؛ كانت مدرسة آل البيت الأكثر عرضة للقمع والإقصاء والتصفية العقدية والفقهية، فضلاً عن التصفية الجسدية لأئمتها وشيعتها.

  • مرحلة الدولة العباسية:

يمكن القول أنّ الدولة الأُموية كانت تختلف في قواعد نظرتها الى نفسها والى الإسلام وآل البيت، مع الدولة العباسية؛ فالأُمويون كان خلافهم مع الإسلام وآل البيت هو خلاف ايديولوجي عقائدي، وفيه إرث كبير من الأحقاد الجاهلية، أي أنها ظلت تمثل عقيدة العودة الى الجاهلية واختطاف الإسلام وحرفه واجتثاث مدرسة آل البيت وشيعتهم، بوصفها ممثلة الإسلام وانعكاس أصالتها وشريعتها وسلوكها، وبالتالي؛ لم يكن الأُمويون ينظرون الى أئمة آل البيت باعتبارهم منافسين على السلطة أو خصوماً سياسيين، بل باعتبارهم يمثلون أصالة الإسلام التي يجب اجتثاثها والتخلص منها، لبلوغ الأهداف النهائية لاختطاف الإسلام وحرفه، وتحويله الى غطاء ديني لإمبراطورية أُسرية تدوم الى الأبد. في حين أن نظرة العباسيين الى آل البيت هي نظرة الحاكم الى من يعتقد أنه منافسه على السلطة وخصمه السياسي، ولم يكن للعباسيين عداءً لأصل الإسلام وعقيدته وشريعته، أو لأصل وجود آل البيت، أو نزعة جاهلية، بل كان هاجسهم الحؤول دون وجود آل البيت كمنافسين سياسيين، ولذلك؛ كانت عملية محاربتهم الأئمة وشيعتهم، وإقصائهم، تستند الى منطلقات سياسية وليست عقدية. ولذلك؛ كان تعامل الأئمة والشيعة مع السلطة العباسية مختلفاً ــ غالباً ــ عن تعاملهم مع السلطة الأموية. وقد حاول بعض الخلفاء العباسيين تقريب أئمة آل البيت وإغرائهم وترغيبهم وترهيبهم، وصولاً الى مصاهرتهم وتوليتهم العهد، لجعلهم فقهاء سلطة ومفتي بلاط، وإضفاء الشرعية الدينية على خلافتهم، لإيمانهم أنّ الخلافة هي حق الأئمة الحصري، كما حدث تحديداً من قبل المأمون، الذي اتهمه خصوم آل البيت بالتشيع(2)،  لكن رفض الأئمة لهذه المحاولات التآمرية، كانت تحمل العباسيين على المحاولة في اتجاهين:

الأول: تصفير تأثير أئمة آل البيت وذراريهم، على المستوى الديني والعلمي والاجتماعي والسياسي، من خلال القتل والسجن والتشريد، ومنع الناس بالقوة من اتّباعهم حتى على المستوى العقدي والفقهي، لأن السلطة العباسية كانت تعرف يقيناً ميل المسلمين دينياً وسياسياً واجتماعياً لأهل البيت، ولو تركوا الأمور للناس وقناعاتهم، لانقلبت الأوضاع على السلطة العباسية على كل المستويات.

الثاني: إيجاد البدائل العلمية والفتوائية لأئمة آل البيت، وإجبار المسلمين على اتباع الفقهاء والمتكلمين البدائل وتقليدهم، لكي يبتعدوا ابتعادا قسرياً عن الأئمة.

وعندما أطاح بنو العباس بسلطة آل أمية سنة 132 ه، تحت شعار الانتقام لآل البيت وإعادة الحق لهم؛ فإنهم أبقوا على السلطة ملكية وراثية خاصة بهم، وفعلوا بآل البيت وأحفاد رسول الله وعلي وفاطمة مثلما فعل آل أمية، وقتلوا أئمة آل البيت وأبنائهم وذراريهم وشيعتهم، ومنعوا انتشار عقيدتهم وفقههم ومنهجهم العلمي النبوي، ثم حصروا المذاهب الإسلامية التي يجب أن يتعبّد بها المسلمون بأربعة مذاهب فقط: الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، وحظروا الأخرى، وبذلك؛ أسسوا لبدعة خطيرة في تاريخ المسلمين؛ حين منعوا المسلمين رسمياً من إتّباع مدرسة آل البيت، والأخذ بعقائدها وفقهها.

وكانت بداية اهتمام الدولة العباسية بتقريب الفقهاء السنة إليها وخلق طبقة من فقهاء السلطة، لاستغلالهم في مواجهة أئمة آل البيت والتشيع، مع محاولات الخلفية العباسي الأول أبو العباس السفاح مع الفقيه ربيعة الرأي التيمي (ت 136 ه)، حين طلب منه أن يكون قاضي الدولة العباسية، كما أرسل له خمسة آلاف درهم ليشتري بها جارية، فامتنع الشيخ ربيعة عن قبول المنصب والجائزة، رفضاً للتعاون مع السلطة، رغم كونه أبرز الفقهاء السنة في المدينة، وأستاذ الإمام مالك بن أنس، ما أدى أُفول نجم ربيعة واندثار مذهبه، وبروز مذهب تلميذه مالك الأقل علماً منه، بسبب ارتباطه بالسلطة، برغم وجود فقهاء سنة كبار، ويشهد لهم الفقهاء الآخرون بأنهم أعلم وأكثر تقوى من الإمام مالك، كربيعة والليث وأبي حنيفة وسفيان الثوري، وكان ربيعة يقول: «أما علمتم أن مثقالاً من دولة، خيرٌ من حِمل علم»(3)، وهي كناية لغلبة أهمية المرتبط بالسلطة على الأعلم، في إشارة واضحة الى الفارق بين وضعه ووضع تلميذه مالك.

أما المنصور الدوانيقي؛ فقد استغل تعارضات الفقهاء الشخصية والعلمية، ليلعب على تناقضين، التناقض القومي والتناقض الطائفي؛ فقد كان في بداية حكمه يدعم أبا حنيفة، بهدف ضرب كبرياء العرب وفقهاء المدينة، لكون أبو حنيفة فارسياً، ولأن العباسيين اعتمدوا أساساً على العنصر الفارسي في التأسيس لدولتهم، وهو ما كان يسخط عرب الحجاز، وكان المنصور يقابلهم بالتصعيد. ولكن؛ حين فشل في استقطاب الإمام أبي حنيفة، كما فشل من قبله السفاح في استقطاب ربيعة الرأي؛ فإنه اتجه الى المحاولة مع الإمام مالك بن أنس؛ فنجح في مسعاه، وصولاً الى تثبيت مذهب مالك بن انس مذهباً رسمياً للدولة، وحصر الإفتاء به، نكاية بمذهب آل البيت الذي كان يتزعمه آنذاك الإمام الصادق، وهو أستاذ الإمام مالك والإمام أبي حنيفة، ودليل هذه النكاية قول المنصور للإمام مالك: «ضع للناس كتابا أحملهم عليه… فما أحد اليوم أعلم منك»، وقوله آخر يطمئن مالكاً: «لئن بقيتُ، لأكتبنّ قولك كما تُكتب المصاحف، ولأبعثنّ به إلى الآفاق فأحملهم عليه)) (4)، فقال له مالك: «إن أهل العراق لا يرضون عِلْمَنَا»، فقال المنصور: «أما أهل العراق فلا أقبل منهم صرفاً ولا عدلاً، فالعلم علم أهل المدينة»، وأضاف يبشر مالكاً بأنه سيفرض فقهه بالسيف على أهل العراق بقوله: «يضرب عليه هامتهم بالسيف، وتقطع عليه ظهورهم بالسياط»(5)، وهذا دليل آخر على حقد المنصور المتراكم على أهل العراق، بسبب تشيعهم لآل البيت، وهو ما ينسجم مع موقف مالك الذي يعلم إن أهل العراق متشيعون ويرفضونه.

ويمكن تلخيص أسباب اختيار المنصور لمالك، في ثلاثة:

  • موقف مالك السلبي من مقام الإمام علي؛ إذ كان يساويه بعامة الناس، وليس بمستوى الخلفاء الثلاث وقدرهم، وعندما كان يسأل عن سبب ذلك يقول: ((ليس من طلب الأمر كمن لم يطلبه»(6)، وفيه تعريض بالإمام علي بأنه كان يطلب الخلافة، بينما لم يطلبها الخلفاء الثلاثة. ويصف بعض العلماء السنة بأن هذا الرأي ((يدل على نزعة أموية)) لدى مالك(7). وكان هذا الرأي يمثل حاجة سياسية ملحة للمنصور وللخلفاء الذين جاءوا من بعده: المهدي والهادي وهارون الرشيد، ليكون ركيزة عقدية في مواجهة العلويين وشيعة العراق وثوراتهم، وخاصة بعد ثورة السيد محمد النفس الزكية الحسني (ت 145 ه)(8)، على عكس فقهاء العراق السنة الآخرين، الذين كانوا يتعاطفون مع العلويين والشيعة، وفي مقدمهم الإمام أبي حنيفة، الذي يقف موقفاً مناصراً للعلويين، وخاصة ثورة زيد بن علي (ت 132) وثورة محمد النفس الزكية. وكان الإمام مالك بن أنس، قبل التحاقه بالسلطة العباسية، قد أفتى بجواز الخروج مع محمد النفس الزكية، فقيل له: ((إن في أعناقنا بيعة للمنصور))، فقال: ((إنما كنتم مكرهين، وليس لمكرَه بيعة)). وكان ذلك سبباً في تعرض مالك الى الضرب من والي المدينة، وأعقبه اعتذار المنصور له، وتقريبه إليه، وانعقاد الحلف بين الطرفين.
  • إعراب الإمام مالك عن استعداده للعمل وظيفياً في إطار الدولة العباسية، وشرعنة عمل الدولة وسلوكياتها، في مواجهة المعارضة، وخاصة الشيعة، وفي المقابل، سيتيح له ذلك نشر مذهبه، بل تحوله الى المذهب الرسمي للدولة، وقد تم له ذلك بالفعل خلال خلافة المنصور والمهدي والهادي والرشيد، فكان بمثابة مفتي البلاط.
  • فتاوى مالك بن أنس بحرمة الخروج على الحاكم الظالم، واعتزال الحراكات الثورية(9).

وبالتزامن مع فرض المنصور تقليد الفقهاء السنة على عامة المسلمين؛ فإن موقفه من الإمام جعفر الصادق كان موقفاً معادياً، بالرغم من عدم قيام الإمام الصادق بأي حراك سياسي مناوئ للسلطة، وعدم دعمه الظاهري للحراك الثوري الشيعي الذي قام بها عمه السيد زيد بن الإمام السجاد، أو ثورات أولاد عمه الحسنيين، ورفضه فيما سبق منصب الخلافة بعد أن عرضه عليه القائد الشيعي أبو مسلم الخراساني، وكذلك أبو سلمة الخلال. ولم يكن رفض الإمام الصادق للخلافة زهداً بها أو عدم إيمانه بأنها حقه، لكنه يعلم أن دعوات العباسيين لآل البيت وتوجهات أبو مسلم وأبو سلمة؛ إنما هي ألاعيب سياسية وأطماع يراد توريط الإمام الصادق بها، ولا تنطلق من إيمان هؤلاء بحق آل البيت، وهو ما يتضح من جواب الإمام الصادق لأبي مسلم الخراساني (10)، ورفضه التقرب من البلاط العباسي، رغم أنهم أبناء عمومته.

وبلغ عداء المنصور الدوانيقي للإمام الصادق ذروته عندما أحرق داره؛ إذ أوعز الى واليه في المدينة بذلك؛ فجاءوا بالحطب الجزل ووضعوه على باب دار الإمام الصادق، وأضرموا فيه النار، وحينما أخذت النار ما في الدهليز، تصايحنَ النساء من عائلة الإمام داخل الدار وارتفعت أصواتهن؛ فخرج الإمام الصادق، وعليه قميص وإزار وفي رجليه نعلان، وجعل يخمد النار ويطفئ الحريق، حتى قضى عليها، وهو يقول: ((أنا ابن أعراق الثرى أنا ابن إبراهيم خليل الله عليه السلام)) (11).

وسار الخلفاء الثلاثة الذين أعقبوا المنصور: المهدي والهادي وهارون الرشيد، على خطى سلفهم، حتى يذكر المؤرخون ((أن هارون الرشيد أراد أن يعلّق الموطّأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه)) (12). ولما أراد الرشيد العودة إلى العراق منطلقاً من المدينة، قال لمالك: «ينبغي أن تخرج معي، فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطّأ كما حمل عثمان الناس على القرآن» (13)، ثم أخذ منادو الرشيد في بغداد والولايات الإسلامية، ينادون: «لا يفتي إلا مالك» (14).

ورغم كل هذا التطرف في فرض مذهب مالك؛ إلّا أن الرشيد فشل في فرضه في العراق، لشدة كراهية العراقيين لمذهبه، بسبب ميولهم للتشيع، ولكونهم يرون في مالك نزعة أموية، كما مر، لذلك اقتنع الرشيد بعد وفاة أبي حنيفة باستمالة أبرز تلاميذه في العراق، وهو الشيخ يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، المعروف بأبي يوسف القاضي، الذي بات قريباً جداً من الرشيد، حتى قال الرشيد لأبي يوسف: «لو جاز لي إدخالك في نسبي ومشاركتك في الخلافة المفضيّة إليَّ لكنت حقيقاً به»(15)، وهو ما سمح لأبي يوسف القاضي العمل بكل قوة على نشر المذهب، وأصبحت تولية رجال القضاء في العراق وخراسان والشام ومصر بإشارة منه، حتى أعلن هارون الرشيد المذهب الحنفي مذهباً رسمياً للدولة. وإضافة الى أبي يوسف القاضي؛ فقد عمل ثلاثة تلاميذ آخرين للإمام أبي حنيفة، هم: محمد بن الحسن الشيباني، وزفر بن الهذيل، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وآخرون جاؤوا من بعدهم، على نشر المذهب الحنفي في جميع مفاصل الدولة العباسية، وكان لهم الدور التاريخي الأهم في صياغة شكل المذهب الحنفي ومحتواه.

وفي الأندلس فرض السلطان الأموي الحكم بن هشام ثم ابنه السلطان عبد الرحمن على الناس اتّباع مذهب مالك وترك مذهب الأوزاعي. وفي هذا الصدد يقول ابن حزم: «مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنّه لما ولّي أبو يوسف القضاء كان لا يولّي إلاّ قاضياً من أصحابه والمنتسبين إلى مذهبه. والثاني مذهب مالك عندنا في الأندلس، فإن يحيى بن يحيى كان مكيناً عند السلطان ومقبولاً في القضاء، فكان لا يولي قاضياً في أقفار الأندلس إلاّ بمشورته واختياره ولا يسير إلاّ بأصحابه»(16)، حتى وصل الأمر أن يصدر ملك الأندلس الأموي الحكم المستنصر مما جاء في الأمر الإداري الذي أرسله إلى الفقيه أبي إبراهيم المالكي: ((من خالف مذهب مالك في الفتوى، وبلغنا خبره، أنزلنا به من النكال ما يستحقه، وجعلناه عبرة لغيره، فقد اختبرت فوجدت مذهب مالك وأصحابه أفضل المذاهب، ولم أر في أصحابه ولا في من تقلد مذهبه غير معتقد للسنة والجماعة، فليتمسك الناس بهذا، ولينهوا الناس أشد النهي عن تركه، ففي العمل بمذهبه جميع النجاة»(17). وكان هذا القرار الأُموي الشديد؛ نكاية بالعلويين الأدراسة الذين أسسوا دولتهم في المغرب العربي، وكادوا يهددون السلطة الأُموية في الأندلس، فكانت هذه السلطة بحاجة الى أراء عقدية وفقهية وتاريخية في مواجهتهم وكبح جماحهم، ولم يجدوا أفضل من مذهب مالك يدعمهم في معركتهم.

وكان القاضي سحنون، والمعز بن باديس، رسولي المذهب المالكي إلى إفريقيا، حيث قدّر لهما نشره في معظم ولاياتها الإسلامية. ولكن حين عين يعقوب بن يوسف والياً على المغرب، فرض على الناس ترك المذهب المالكي، واتباع مذهب داود الظاهري، إلى انقرض هذا المذهب، وعاد مذهب مالك مرة أخرى.

وخلال حكم الدولة الأيوبية لمصر وبلاد الشام، فقد منع المذهب الشيعي منعاً باتاً، وبات يقتل من يتبعه، في مقابل نشر مذهب الإمام الشافعي، بعد أن اختص القضاء والمدارس الدينية به. وقد تخللت عملية انتشاره في مصر نزاعات مع المالكيين، إلاّ إن انتماء بعض أعيان البلاد، كبني عبد الحكم، والربيع بن سليمان، وإسماعيل المزني، والبويطي، إلى المذهب الشافعي، غالباً ما كان يختم النزاع لصالح الشافعية، حتى انتهت له الغلبة في البلاد. وكانت الدولة الأيوبية قد سبقت الخليفة المستعصم بحصر المذاهب الإسلامية في الأربعة المذكورة في مصر وبلاد الشام، حين أعلن الملك الأشرف (ابن شقيق صلاح الدين الأيوبي) في سنة 643 هـ عبر فتوى الشيخ عثمان الشهرزوري عن ((حرمة الخروج عن تقليد المذاهب الأربعة))(18).

وقد تحدث المقريزي عن دور السلطة في انتشار المذهب الأشعري بالقول ((فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعري في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام؛ فلما ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر، كان هو وقاضيه صدر الدين عبدالملك بن عيسى بن درباس الماراني على هذا المذهب، قد نشئا عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألّفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، وصار يحفظها))(19). وفرض صلاح الدين وورثته العقيدة الأشعرية على جميع مسلمي البلدان التي احتلوها، ثم هكذا فعل السلاجقة والمماليك في مصر وتركيا والعراق، وكذلك ملوك الموحدين في بلدان المغرب وشمال أفريقيا.

  • فتنة حصر الاعتقاد والتعبد:

بدأت فتنة حصر العقيدة الرسمية للدولة بالأشعرية، والمذاهب الإسلامية الرسمية بالحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، في عهد الخليفة المستنصر العباسي، الذي خصص الدراسة في المدرسة المستنصرية التي أنشأها سنة 625 هـ لهذه المذاهب فقط، وقسّم قبلة الصلاة فيها إلى أربعة أقسام، لكل مذهب قسم. بيد أن قرار الخليفة العباسي المستعصم بحصر المذاهب الإسلامية بالأربعة المذكورة سنة 645 ه، ومعاقبة من يتمذهب بغيرها؛ يعد التاريخ الرسمي لحصر المذاهب الإسلامية، وكان هذا القرار هو السبب الأهم في اندثار المذاهب السنية الأُخرى، التي سميت بالمتروكة، بل كانت الفرق الأخرى غير الفرقة الأشعرية، والمذاهب الأخرى غير الأربعة المذكورة، تواجه بالقوة والاتهام بالبدعة والخروج عن الدين من قبل السلطة؛ إذ يقول الشيخ أبو زرعة: «من خرج عن ذلك (المذاهب الأربعة) لم ينله شيء، وحرم ولاية القضاء، وامتنع الناس عن استفتائه، ونسب إلى البدعة»(20).

واستمر هذا الأمر بعد سقوط الدولة العباسية، وهو ما حدث بعد احتلال المماليك الأتراك مصر، إذ يقول المقريزي: «فلما كان سلطة الظاهر بيبرس البندقداري، ولي بمصر أربعة قضاة، وهم: شافعي، ومالكي، وحنفي، وحنبلي، فاستمر ذلك من سنة 665 هـ، حتى لم يبق من مجموعة أمصار الإسلام مذهب يعرف مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة… وعودي من تمذهب بغيرها وأنكر عليه ولم يولّ قاضياً، ولا قُبلت شهادة أحد، ولا قُدّم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب، وأفتى فقهاء الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها»(21).

ويرى المؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون، بأن سبب عدم انتشار المذهب الحنبلي وقلة مقلديه، يعود إلى «بعد مذهبه عن الاجتهاد، وأصالته في معاضدة الرواية والأخبار بعضها ببعض»(22)، ولكن لا أعتقد أن هذا السبب كاف، بل السبب الأهم يعود الى عدم وجود دولة تدعمه وتتباه، وعدم وجود طائفة تحميه وتحتمي به، والدليل أن مفصلين غيّرا في واقعه، الأول تولي عبدالله الحجازي القضاء سنة 738 هـ، وكذلك مساعي ابن تيمية وابن قيم الجوزية في مجال إعادة تأسيس الطائفة الحنبلية على قواعد العصبية المذهبية والعقدية والضبط المجتمعي. أما المفصل الثاني فهو الذي صنعه التحالف السياسي ــ الديني بين محمد عبد الوهاب وأل سعود في نجد، ليعود المذهب الحنبلي، بنسخته التيمية، الى عصر الظهور والازدهار، بسبب وجود سلطة وقوة عسكرية ومؤسسة دينية كبيرة وطائفة عصبوية تنشره وتحميه.

ولم يكن ممكناً بقاء مذاهب كالإباضية، لولا حماية وتبني الدولة العمانية، والزيدية بحماية وتبني الدولة اليمنية، والدروز لولا سلاح الإمارات الدرزية في جبل لبنان وجبل سوريا. كما كان تبني الدولة العثمانية المذهب الحنفي، وإعلانه مذهباً رسمياً للدولة، سبباً في تعزيز حضور المذهب الحنفي في الولايات العثمانية كافة. ويعود اختيار الدولة العثمانية المذهب الحنفي مذهباً رسمياً، الى عدم اشتراط المذهب الحنفي في خليفة المسلمين أن يكون قرشياً، وهذا الاختيار المصلحي السياسي، تعبير آخر عن الاستثمار السيئ الذي يقوم به بعض الحكام للمذاهب، من أجل تمرير مصالحهم، دون أن تكون لديهم قناعة بهذا المذهب وذلك، بل ربما بالإسلام برمته. وقد ظل السلاطين العثمانيون يقومون بالأفعال نفسها التي كان يقوم بها الأمويون والعباسيون والأيوبيون من قتل ومطاردة وتشريد وسجن ونفي واستباحة المدن وهتك الأعراض ومصادرة الأموال ضد أتباع أل البيت، حتى كانت فترة حكم السلطان سليم الأول تتساوى في دمويتها وقسوتها مع فترة حكم الأمويين والعباسيين والأيوبيين والسلاجقة والمماليك.

  • انتشار التشيع ودور السلطة:

كان التشيع، عقيدة ومذهباً؛ يتحمل ضغطاً مركباً، فهو ممنوع علمياً بوصفه مذهباً آخر غير المذاهب الأربعة، ومقموع سياسياً بوصفه معارضاً للدولة، ولولا وجود أئمة آل البيت ومقاومة الشيعة وثوراتهم، وتأسيس دول شيعية خلال القرون الرابع والخامس السادس داخل الدولة العباسية (الحمدانية في شمال العراق وبلاد الشام، والإدريسية في شمال أفريقيا، والفاطمية في شمال أفريقيا ومصر، والبويهية في العراق وايران)؛ لاندثرت المذاهب الشيعية أيضاً، بل كاد الشيعة خلال عهود الدول الشيعية المتزامنة والمتعاقبة، أن يتحولوا الى أغلبية سكانية في كل العالم الإسلامي، لولا سقوط هذه الدول بالتدريج، بفعل صراعاتها الداخلية والبينية من جهة، والغزوات العسكرية العكسية للقوى السنية غير العربية النامية الجديدة، وخاصة القوى العسكرية السلجوقية والزنكية التركيتين، والأيوبية الكردية، فإذ قضت القوة العسكرية الزنكية على الشيعة في شمال العراق وجزء من بلاد الشام، والقوة السلجوقية على كثير من في الشيعة وأجزاء من العراق؛ فإن سلطة القهر الأيوبية بقيادة صلاح الدين الأيوبي وأبنائه، كان لها الدور التاريخي الأكبر في القضاء على الشيعة قضاء تاماً في شمال أفريقيا وبلاد الشام، ولولا الأيوبي لكان الشيعة اليوم يشكلون الأغلبية السكانية الساحقة في جميع المغرب العربي وشمال أفريقيا ومصر وسوريا والأُردن وفلسطين ولبنان.

أما في إيران والهند؛ فلولا الدولة الصفوية لدخل العثمانيون بلاد فارس وقضوا على الأغلبية الشيعية في إيران والعراق، ولولا ضعف الدولة الصفوية وسقوطها لاستمر تمدد التشيع في شبه القارة الهندية وشرق آسيا، وأصبح مذهب الأكثرية المسلمة هناك، بل لولا السلطات الشيعية المتعاقبة في إيران، لتبخر التشيع في آسيا، ولبقي الشيعة مجرد جيوب متناثرة حالهم حال الدروز والصابئة والآشوريين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات

(1) حول نشوء العقيدة الأموية وأسسها الفكرية والسياسية، راجع: علي المؤمن، “المنظومة الطائفية”، الفصل الأول.

(2) وهو ما أراه أيضاً، ولا يقدح في انتمائه الشيعي قتله الإمام الرضا، لأن عقم الملك دفع المأمون الى قتل أخيه الأمين من أجل السلطة، بل أنّ أغلب السلاطين مستعدون لقتل آبائهم وأولادهم، حتى لو لم يكونوا منافسين لسلطتهم، كإجراء احترازي، وهو ما نجد مئات النماذج منه في دول المسلمين، الشيعية منها والسنية، كالعباسية والعثمانية والصفوية. وبالتالي؛ فكون المأمون الحاكم شيعياً لا يمنعه من قتل إمام زمانه الذي كان يعترف بإمامته، كما المستفاد من بعض الروايات

(3) أبو إسحاق، “طبقات الفقهاء”، ص54، والخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج 8 ص 424

(4) ترتيب المدارك، ج 1 ص 192.

(5) تذكرة الحفاظ، ج 1 ص 190.

(6) ترتيب المدارك، ج 1 ص 45.

(7) محمد أبو زهرة، “مالك”، ص 207.

(8) أنظر: ابن كثير، “البداية والنهاية”، ج 10 ص 84.

(9) محمد أبو زهرة، “مالك: حياته وعصرهـ ــ آراؤه وفقهه”، ص 208 ـــ 211.

  • أنظر: أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة.
  • الكليني، الكافي، ج ١ ص ٤٧٤

(14) كشف الظنون، ج 2 ص 198

(15) مفتاح السعادة، ج2 ص 87

(16) المعيار، ج 12 ص 26.

(17) لشيخ محمد مصطفى المراغي، “بحث في التشريع الإسلامي”، عن كتاب “تأريخ حصر الاجتهاد” للشيخ أغا بزرگ الطهراني، ص 108.

(19) المقريزي، الخطط.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment