السؤال المتجدد حول الثابت

Last Updated: 2024/06/13By

السؤال المتجدد حول الثابت:

حول كتاب النظام السياسي الإسلامي الحديث للأستاذ علي المؤمن

بقلم: الدكتور حسن جابر

(مفكر وأكاديمي لبناني)

قد يبدو عنوان الكتاب، للوهلة الأولى، استعادة لمعالجات ضاقت بها المكتبة العربية من علي عبد الرازق في مطلع القرن المنصرم إلى اليوم، وبما أن غالب الكتابات كانت مجرّد استعادات لمقولات باتت معروفة، فإن التحدي الذي يواجه كل من يتناول هذا الموضوع بات أكبر ومهمته غدت أصعب، خصوصاً أن المسألة المبحوث عنها عرضة لاجتهادات متباينة طالما أنها تثير النقاش في مساحة متحرّكة من الفكر الإسلامي، وهذا ديدن كل القضايا التدبيرية التي تختلط فيها التجربة البشرية ومعطاها العلمي مع ثوابت قيمية عليها يلتزمها معتنقو الدين.

فمسألة النظام السياسي الإسلامي، وإن اتسعت مروحة الاجتهادات فيها، غير أنها تبقى محكومة لرؤى منهجية عامة تندرج تحتها كل الآراء والاتجاهات. في هذا الإطار وثمة ثلاثة تصوّرات منهجية يمكن إحالة كل المواقف والرؤى عليها:

  • رأي يذهب إلى اعتبار النص الديني مرجعاً وحيداً في المسألة السياسية تماماً كما هو مرجع في سواها. ويعتقد أصحاب هذا الاتجاه بأن القرآن الكريم لم يترك أمراً إلا وبيّن موقف الشرع منه.
  • رأي آخر يقف في الجهة المقابلة، فينظر إلى النظام السياسي باعتباره معطى تجريبياً إنسانياً ذا طبيعة سيّالة ومتغيّرة، ويغترف أصحاب هذا الرأي من إرث اجتهادي قديم ومتجدد كان لأعلام كبار كالقرافي والطوفي آراء جريئة فيه، خصوصاً في مسألة المساحة التدبيرية أو ما يعرف حديثاً بمنطقة الفراغ.
  • اتجاه يفصل في المسألة بني ما ورد فيه نص قطعي وبين المساحات المتروكة للتجربة البشرية.

وإذا كان المضمون القيمي والإيديولوجي لكل نظام، يعد الفيصل في الاختلافات، فإن منظّري الرأي الأول لا يعدمون الوسيلة لحشد ما تيسّر من نصوص للدفاع عن مدرستهم المنهجية، فيما يلجأ أصحاب الرأي الثاني إلى أعمال العقل وإعطاء البعد العلمي جرعة كبيرة استناداً إلى التجربة الإسلامية في السياسة وتجربة الآخرين. وخيراً فعل الكاتب عندما أشار في مستهل كتابه إلى الاختلاف بين مفهوم النظام الذي يراد به مضمون السلطة ومذهبها السياسي «وبين» (System) الذي يراد به أسلوب محاربة السلطة أو شكل الحكم، فهذا الاختلاف بين المفهومين هو الذي ينفذ منه الفريق الأول لتسويغ منطق خروج الأنظمة السياسية من عباءتها التجريبية الإنسانية وبالتالي التقليل من مفعول الطبيعة السيّالة للممارسة السياسية، فيما لا يرى أصحاب الاتجاه الثاني ضيراً في المصالحة بين المضمون الإيديولوجي والمعطى الإنساني، طالما أن الإيديولوجية نفسها تركن، في النهاية، إلى منظومة قيم لا يتنازع بشأنها أحد، لأنها ذات طبيعة فطرية يسلم بها الجميع.

وما يثير الجدل، بالعمق، في مقولات الإسلاميين، لا يقتصر على المضمون الفكري للنظام السياسي، وإنما يتعداه إلى مسألة مفصلية أخرى، لا تقل أهمية عن الأولى، وهي المتعلقة بمصدر الشرعية السياسية للسلطة، والتي كانت التباساتها جوهرياً في رفض الديمقراطية ودفع الشرعية الشعبية إلى الخلف. فبعضهم، استناداً إلى رؤيته لمصدر الشرعية، لا يرى أي دور للناس في اختيار الحاكم أو التشريعات التي تسنها مؤسساتهم الدستورية.

فالنص الديني، برأي بعضهم، حدد، نوعياً، الحاكم أي وضع صفات وشروطاً لا يجوز الخروج عليها بأي حال من الأحوال، فيما يذهب آخرون، انطلاقاً من مشروعية النص الديني، إلى شروط ومواصفات أخرى تم انتزاعها من التجربة التاريخية، فيحشدون كل صور اختيار الخليفة خلال النصف الأول من القرن الهجري الذي تلا وفاة الرسول ويسبغون الشرعية على ما يتوافق وتلك الصور. وكلا الفريقين يترك للحاكم وحده حرية أن يرى وينظر في المسائل والقضايا وذلك كله وفق اجتهاده الخاص وفهمه للشريعة، وله الحق، حصراً، في إسباغ المشروعية على الآراء التي تصدر من أهل الحل والعقد.

انطلاقاً من هذا التأسيس تتوارى مشروعية الناس وتختفي، فمن جهة لا يجوز للناس اختيار من لا ينطبق عليه التحديد الشرعي، ومن جهة أخرى لا يحق للناس التدخل في التشريعات التي هي من مختصات المجتهدين وعلماء الدين، وإذا كان ثمة دور للناس فلا يعدو اختبار أحد المؤهلين فقهياً لتسنم موقع القيادة. ولهذا رأى الكاتب في المشروعية الشعبية مجرّد مصدر مكمل وهي لا ترقى، في حال من الأحوال، إلى رتبة المصدر الأول أي «حاكمية الشريعة التي تستمد سلطاتها النهائية من اللَّه تعالى». ويذهب فريق ثالث إلى أن السقف القيمي الذي يستبطنه التشريع كاف لرفع القيود عن الناس وإعطائهم فرص أن يختاروا شكل السلطة وأجهزتها فضلاً عن التشريعات القانونية التفصيلية، طالما أنها لا تحيد عن الضوابط والمحددات المنصوص عليها في القانون الأساسي. وبذلك يتحوّل الدستور إلى مصدر محوري للتشريع، ويكون الحاكم سواءً كان خليفة أو فقهياً أو أي شخصية ذي خبرة إلى راعٍ وحامٍ للدستور ليس إلا. وبذلك ترتفع القيود عن حرية الناس فيترك لهم أمر اختيار الهيئات الحاكمة والأجهزة والتشريعات التفصيلية. وهذا الرأي يوفر المصالحة بني الديمقراطية وضوابط الشريعة ويصبح الجميع معنيين بقضايا المجتمع دون خيار الإقصاء الذي يذهب إليه الفريقان السابقان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) المقال منشور في جريدة المستقبل اللبنانية، 2004

 

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment