الدولة الإسلامية الحديثة وإشكاليات المناهج البحثية المعاصرة

Last Updated: 2024/05/30By

مناهج البحث في الدولة الإسلامية الحديثة

د. علي المؤمن

(مجلة العالم، 1998)

يتمظهر كمال الإسلام في إشكال السلوك الإيماني التي يفرضها على أتباعه، وفي استيعابه حلقات الزمن الثلاث، واستيعاب التنوع المكاني والعرقي، وأخيراً. استيعاب كل قضايا الإنسان كفرد وكعضو في المجتمع. وهكذا تنتظم في الإسلام العبادات بأشكالها الفردية والجمعية، وتنتظم العلاقات الإنسانية بكل أنواعها، وتنتظم أشكال القدرة والسلطة والحكم، بل وكل صور التعامل مع الحيوان والبيئة ومكونات الطبيعة الأخرى.

من هنا، فالشريعة الإسلامية تحتوي على كل ما من شأنه بلورة فقه متكامل كماً وكيفاً، ثم صياغة نظم إسلامية تمثل الوجه التطبيقي للشريعة المتكاملة. لكن جهود الفقهاء والمفكرين الإسلاميين على طول التاريخ كانت تتوقف عند حدود معينة، تفرضها إشكاليات الواقع بمكوناته السياسية والاجتماعية والفكرية. ولعل الفقه السياسي هو المصداق الأكثر بروزاً في هذا المجال، إذ حال ذلك الواقع دون بلورة نظرية سياسية فقهية متكاملة، تتمتع بكل مواصفات الانتماء للإسلام، وصياغة نظام سياسي مبنٍ ـ بناءً حقيقياً ـ على أسس الشريعة الإسلامية.

مناهج إنشاء الدولة الإسلامية

برز من بين ثنايا توقف المسلمين وإخفاقهم في تكوين إنشاء دولة إسلامية حقيقية، منهجان يستندان إلى أرضية فكرية وسياسية، استشرى أمرهما، ولا زالت آثارهما قائمة حتى الآن:

المنهج الأول: يتعامل مع موضوع النظام السياسي الإسلامي بأسلوب معكوس؛ إذ إنه انطلق من الواقع السياسي القائم لبناء النظرية، فاستنبط نظريته السياسية أو فقهه السياسي من الواقع الذي خلفته سيرة الخلفاء والملوك، ولا سيما في العهدين الأموي والعباسي. وبذلك أصبحت مرجعية الفقه السياسي الإسلامي ـ في إطار هذا المنهج ـ هي السيرة والواقع، وليس حقائق الشريعة أو الأصول الإسلامية التي تمثل المرجعية الحقيقية للفقه السياسي والنظام السياسي الإسلامي.

المنهج الثاني: كان له حضوره التاريخي أيضاً، فإنه كان ينطلق من المرجعية الإسلامية الأصيلة في بناء العقيدة والفقه بكل أبوابهما، لكنه سلك أسلوباً خاصاً في معالجة الموضوعات الفقهية وفي تبويبها، أدى إلى عدم ظهور نظرية سياسية متكاملة لديه، فهناك موضوعات توقف عند معالجتها أساساً، وهناك موضوعات تدخل معظم تفاصيلها في إطار الفقه السياسي، كالجهاد والأمر المعروف والنهي عن المنكر والحسبة والخراج وولاية القضاء وولاية الحكم وغيرها، إلا أنه وضعها في أبواب متفرقة (1).

هذان المنهجان المتوازيان خلّفاً ـ خلال مسيرتهما الزمنية ـ تراثاً ضخماً من المؤلفات والدراسات. وإذا أضفنا إليه مؤلفات ودراسات كثيرة أخرى لمفكرين وفلاسفة مسلمين، كانت لهم مناهج مستقلة يدخل معظمها في إطار الفلسفة السياسية، فسنرى أن تراث المسلمين في مجالات السياسة والحكم والدولة، ليس فقيراً من الناحية الكمية، ولكنه من الناحية النوعية كان بحاجة إلى المزيد من الجهود. فما كتبه الماوردي (في الأحكام السلطانية) وابن الفراء (في الأحكام السلطانية أيضاً) والفارابي (في آراء أهل المدينة الفاضلة) ونصير الدين الطوسي (في أخلاق الملوك) وابن مسكويه (في السياسة السلطانية) وغيرهم، مروراً بآراء ابن تيمية والمحقق الكركي، وصولاً إلى كتابات القرون الأخيرة، تعجز عن تمثيل النظرية الإسلامية في الدولة ونظام الحكم تمثيلاً كاملاً. كما أن الأنظمة السياسية التي حكمت باسم الإسلام، ابتداءً بالأمويين والعباسيين، ومروراً بالحمدانيين والفاطميين، وانتهاءً بالصفويين والعثمانيين، لا يمكن القول إن أنظمتهم أفرزتها الشريعة الإسلامية، بعقيدتها وفقهها، بل إنها في الحقيقة أنظمة سياسية تنتمي لقادتها ومؤسسيها، وكانت درجة التزامها بمحددات الفقه السياسي الإسلامي نسبية، وتختلف من نظام لآخر. هذه الإشكاليات التي أفرزتها جهود المسلمين السلف في بناء نظرية الحكم الإسلامي، حين قهرتهم مرجعية الواقع، تلتقي بهم إشكالية كبيرة شبيهة، حرفت جهود المعاصرين أيضاً، حين انطلق معظمهم من مرجعيات أخرى، بعد أن قرروا أن الإسلام يفتقد إلى الكمال في تشريعاته.

وقد سمحت النتائج التي خرج بها الفريقان (القدماء والمعاصرون) لكثير من الباحثين للجزم بأن رفع شعار الدولة الإسلامية ينطوي على غموض وإبهام، بالنظر لعدم وضوح أحكام الشريعة في مجال النظرية السياسية ونظام الحكم(2).

التحول المنهجي في فقه الدولة الإسلامية

بيد أن التحول الذي شهده عقد سبعينات القرن الماضي وما بعده، على مستوى اكتشاف وتأصيل وبلورة النظرية السياسية في الإسلام والفقه السياسي الإسلامي، أدى إلى إضافات نوعية كبرى، بل أساسية، وفي مقدمتها التأسيس المنهجي للفقه السياسي الإسلامي. ففي إطار هذا المنهج جمعت الخطوط العامة والموضوعات النظرية مع بعضها، وتم التأصيل لها في نظرية واحدة، استوعبت موضوعات السيادة والحاكمية، والتشريع، والوجوب والمصلحة في إقامة الدولة الإسلامية، وشرعية الولي الحاكم وشروطه ومصدر ولايته، وأسس الدولة الإسلامية وخصائصها وأهدافها ووظائفها وأركانها وشكلها، وعلاقتها النظرية بالديمقراطية والثيوقراطية، وغيرها. ثم انتقل البحث من الموضوعات النظرية إلى النظم الفرعية والدراسات التطبيقية، كتقسيم السلطات وأساليب عملها، والممارسات الشورية وطبيعة تطبيق الحقوق والحريات وتفعيل إرادة الأمة، وتدوين الدستور وإقراره وعلاقته بالفقه السياسي، وحركة المال والسوق، وأساليب التعامل مع قضايا الثقافة المختلفة، كالإعلام والتعليم، وقضايا السياسة الخارجية وغيرها. ويعود الفضل في ذلك إلى الحوار المعمق والدراسات العلمية والمنابر المفتوحة، وعمليات التأسيس والتأصيل والأسلمة، وما رافقها من تنقية ونقد، والتي عاشت عصرها الذهبي في الثمانينات من القرن الميلادي الحالي، إذ تحول موضوع إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية، من شعار غامض ـ كما يقول بعضهم ـ إلى واقع أصيل عاشته الأمة بكل تفاصيله.

وعلى الرغم من هذه النقلة النوعية على المسارين النظري والتطبيقي، ولا سيما بعد أن أصبح عمر تجربة التطبيق حوالي عقدين من الزمن، إلا أن موضوع الدولة الإسلامية والنظام السياسي الإسلامي، وتحديداً في إطار مدرسة أهل البيت، لا زال عرضة للتشويه والخلط وعدم الفهم، أو الفهم غير الموضوعي، بدوافع وأهداف مختلفة، تنسجم مع المدرسة الفكرية أو السياسية لكل اتجاه، وهي في غالبيتها اتجاهات متأثرة بوعي الغرب لقضايا الإسلام.

وربما يكون هذا الأمر أحد أهم الدوافع لوضع كتابات نوعية معمقة في سياق بحثي متكامل يستوعب كل موضوعات الدولة الإسلامية الحديثة. يضاف إليه دافع آخر، يتمثل في قلة الدراسات الشاملة والمنهجية المكتوبة باللغة العربية في هذا المجال. ولا نقصد بذلك الكتابات الإجمالية التي استجابت لبعض تحديات الفكر والواقع، أو البحوث التي اختصت بموضوع أو أكثر من موضوعات الدولة الإسلامية وفقهها السياسي وقانونها الدستوري.

إن الكتابة المنهجية في هذا الإطار تنطوي على أهمية خاصة، لا سيما وأنها تأخذ مساراً محدداً يستبطن تجربة التطبيق القائمة، والنظريات والمبادئ التي مهدت لها، وهي تجربة ثرية للغاية وفريدة من نوعها على المستويين التاريخي  والجغرافي، إذ إنها أعادت ـ من جهة ـ اكتشاف النظرية الإسلامية في السياسة والدولة والحكم، وبلورتها بصيغة متكاملة، وأضافت ـ من جهة أخرى ـ لمدارس الفقه السياسي الحديث والأنظمة السياسية المعاصرة واتجاهات القانون الدستوري إضافة إلى طرح نموذج الدولة الإسلامية الحديثة، أو نموذج النظام الإسلامي، كما توصل إليه الاجتهاد الفقهي والعقل الإسلامي خلال العقدين الأخيرين، وتناوله من زوايا الفقه السياسي ونظام الحكم والقانون الدستوري. ومما لا شك فيه فإن ما توصل إليه الاجتهاد الفقهي والعقل الإسلامي هنا، ليس ثمرة هذه البرهة الزمنية وحسب، بل هي عملية تراكم للاجتهادات والنظريات الفقهية والأفكار السياسية الإسلامية، التي بدأت بصور محدودة منذ مئات السنين وحتى الآن. وكانت ثمرتها ولادة النظرية السياسية الإسلامية الحديثة التي عرفت بـ«الحكومة الإسلامية» أو «ولادة الفقيه» بعد مخاضات وعمليات توالد ذاتي مستمرة، تعبّر عن ديناميكية الفقه الإسلامي، وهي النظرية الوحيدة التي نجحت في تأسيس الدولة الإسلامية وتنفيذ مشروعها. وإذا ما استثنينا الثوابت والأحكام القطعية ومسائل الإجماع، فإن ما تبقى من موضوعات الفقه السياسي الإسلامي يشكل مناطق فراغ تشريعي(3)، أي إنه يدخل في دائرة الاجتهاد والاستنباط والاكتشاف، وهي ثمرة جهود وإسهامات متواصلة للفقهاء. وعلى مستوى النظام السياسي، أي شكل الحكم الإسلامي وهيكله وسلطاته، فإن مناطق الفراغ تتسع لتفسح المجال للعقل الإسلامي بأن يجتهد لإنتاج معظم تفاصيل النظام. وهكذا الأمر بالنسبة للقانون الدستوري. بديهي فإن هذه الجوانب الاجتهادية والعقلية في تفصيلات الدولة الإسلامية الحديثة، تأخذ بنظر الاعتبار عنصري الزمان والمكان، لوقوعها في دائرة المتغيرات، التي ربما يكون لها في المستقبل صور وأشكال أكثر نضجاً وفاعلية وتأثيراً، وأكثر التصاقاً بمتطلبات العصر. في حين تبقى الثوابت والأحكام الشرعية القطعية هي المرجعية النهائية التي تحرك المتغيرات.

فرضيات البحث في الدولة الإسلامية الحديثة

لتحديد مسارها المنهجي، يجدر بالدراسات الشاملة عن الدولة الإسلامية الحديثة أن تثبّت عدداً من الفرضيات والمقدمات التي تستهدي بها وتنطلق منها:

الفرضية الأولى: إن الدولة الإسلامية الحديثة تتفرد بخصوصية تميّزها عن كل الدول والأنظمة التي حكمت باسم الإسلام، منذ نهاية عهد الخلافة الراشدة وحتى سقوط الدولة العثمانية، الشيعية منها والسنية، لأنها أول تجربة للحكم الإسلامي تعتمد ـ اعتماداً كاملاً ـ نظرية مدرسة الإمامة في الحكم، وتحديداً في عصر غيبة الإمام(4)، وهي نظرية عقائدية ـ فقهية متكاملة، سبق وجودها قيام الدولة الإسلامية الحديثة.

الفرضية الثانية: تشكل الدولة الإسلامية الحديثة تجربة وأطروحة جديدة على مستوى الفكر والفقه السياسي العام، وعلى مستوى النظريات الاجتماعية والاتجاهات القانونية، على مختلف مشاربها وايديولوجياتها، كما تختلف عن الأنظمة التي أفرزتها هذه النظريات، القديمة منها والحديثة.

الفرضية الثالثة: برغم ما يميّز الدولة الإسلامية الحديثة عن الدول والأنظمة الأخرى، إلا أنها استفادت من الإنجازات البشرية والتجارب النافعة التي تمثل نتاجات عقلية محايدة في الأطر العامة المشتركة، المفرغة من الأبعاد الإيديولوجية، وتحديداً في مجال الصياغات الفنية وآليات بعض النظم السياسية والاجتماعية. ولكنها ـ في النهاية ـ استخدمت أشكالاً وصيغاً في ممارسة السلطة تحولت بمجموعها إلى هياكل جديدة مستقلة، لا تشبه أياً من الأنظمة السياسية المعاصرة، لأنها تستند ـ أساساً ـ إلى أصلين مقدسين ثابتين هما القرآن الكريم والسنة الشريفة، ثم إلى أصول أخرى تدخل في إطار الفقه الاجتهادي.

الفرضية الرابعة: الدولة الإسلامية لا تعبّر عن نظام سياسي أو مشروع سياسي وحسب، وإنما هي بناء حضاري مستقل، ونظام اجتماعي متكامل، ومؤسسة تصوغها الشريعة الإسلامية شكلاً ومضموناً، بهدف تنظيم مختلف جوانب الحياة، أو بكلمة الخميني(5). فالدولة الإسلامية ليست هدفاً بذاتها بقدر ما هي وسيلة لتحقيق أهداف السماء في الأرض.

الفرضية الخامسة: الدولة الإسلامية الحديثة ليست نظرية مجردة عن الواقع، بل هي منظومة من النظريات التي اقتحمت الواقع القائم، فاضطرت لأن تأخذ بنظر الاعتبار بعض خصوصياته، وفي مقدمتها خصوصيات الجغرافية السياسية، فكانت لها حدود مادية، فرضت عليها جملة من النظم والضوابط، في إطار ما عرف بالقانون الدولي العام.

الفرضية السادسة: إن المراد من الدولة الإسلامية الحديثة، هو نموذجها القائم حالياً في إيران. أي إن هذا النموذج هو محور البحث، ومحور المقارنة مع الأنظمة الأخرى. كما أن المراد من الفقه السياسي ونظام الحكم والقانون الدستوري، هو ما يتبناه هذا النموذج.

أما المنهج البحثي الذي يجدر بهذه الدراسات اعتماده، فهو منهج شمولي يجمع بين المناهج الوصفية والاستنباطية والمقارنة، إذ إنه ينسجم مع طبيعة الموضوع، ومن شأنه تجنب الأخطاء العلمية والموضوعية الفادحة التي يقع فيها ـ عادة ـ الباحثين الغربيون والمتأثرون بهم عند دراسة موضوع الدولة الإسلامية والنظرية الإسلامية في السياسة والحكم، حين يستخدمون المنهج المعياري، أو منهج المقارنة المعيارية وغيرهما. وبديهي أن استخدام المناهج الغربية الشائعة، أدى إلى إقحام موضوع الدولة الإسلامية في إطار غير إطاره الصحيح، دون الالتفات ـ جهلاً وعمداً ـ إلى الخصوصيات التي تميّزه.

إشكاليات في المناهج البحثية المعاصرة

لعل من أهم الإشكاليات المنهجية التي تبرز في البحوث التي تستخدم مناهج غريبة عن جسم الموضوع، هو خضوعها ـ في التحليل والتقييم ـ لمعايير ومرجعيات غريبة لا تمت بصلة عقائدية وفقهية لحقائق النظرية الإسلامية في السياسة والدولة والحكم، إذ إنها تندفع طوعاً أو تنجر قسراً نحو وضع التجربة الغربية في مجال الحكومات الديمقراطية والثيوقراطية والتوتالتيارية ميزاناً لقياس صحة وخطأ أو استقامة وانحراف النظام الإسلامي ونظريته السياسية. فغالباً ما تصرف المرجعية الغربية الحديثة الأذهان إلى التجربة الثيوقراطية أو حكومة رجال الدين ونموذج النظام التوتاليتاري، عند الحديث عن الدولة الإسلامية الحديثة.

الإشكالية المماثلة الأخرى، تبرز عندما يخضع باحثون آخرون تجربة الدولة الإسلامية الحديثة للمرجعية التاريخية، فيصورون الدولة الإسلامية تصويراً قهقرائياً، وكأنها امتداداً لدولة الحاكم بأمره (الخليفة أو السلطان). في حين أن الدولة المنسوبة للدين، والتي كانت واقعاً تاريخياً في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي، هي دولة وضعية دنيوية في حقيقتها، وهي صورة معقدة من صور العلمانية وفصل الدين عن الدولة، حتى قبل اختراع مفهوم «العلمانية» بصيغته الغربية الصريحة. وفي كلا الإشكاليتين، سيؤدي إقحام المعيار الديمقراطي والنماذج الثيوقراطية والتوتاليتارية والسلطانية في الحكم، إلى اعتقال البحث في زنزانة الأحكام المسبقة والمنمطة، وعدم السماح له باتخاذ مسار حر، في إطار منهج موضوعي علمي، لأن اعتماد مقدمات منهجية خاطئة يقود إلى نتائج خاطئة.

أو بكلمة أخرى؛ فإن تلك الإشكاليات وغيرها تسوق أولئك الباحثين إلى نتائج تعسفية، كانوا قد وضعوها كمقدمات وفرضيات بالأساس. فمثلاً نجدهم يعدون المعايير الوضعية التي أفرزتها الديمقراطية أو أفرزها الواقع الغربي، معايير إنسانية مقبولة لدى كل أبناء البشر، أو لا بد أن تكون هكذا ـ كما يعتقدون ـ حينها سيحتكمون إلى الديمقراطية في قياس عدالة النظام الإسلامي، ويحتكمون إلى الرأسمالية في قياس صحة أداء الاقتصاد الإسلامي، ويحتكمون إلى الليبرالية في قياس الحريات العامة والحقوق السياسية في الدولة الإسلامية. وبذلك سيكتشفون العديد من الثنائيات المتناقضة، أهمها: حاكمية الله والشورى وولاية الفقيه من جهة، وسيادة الشعب وإرادته وحقوقه وحرياته من جهة أخرى، والنصب الشرعي والانتخاب البشري، وقيمومة الشريعة ومجالس تشريع الشعب، أصالة النظام الإسلامي وعصريته، وغيرها من الثنائيات، التي تتلاشى في ميزان الشريعة الإسلامية، بفضل ما تحمله من حكمة إلهية ومقاصد واضحة وتوازن دقيق. كما سيكتشفون ابتعاداً عن موازين العدالة والحرية والمساواة التي سبق أن فصّلها العقل الغربي على مقاسات تجربته وخبرته وبيئته. أي إن التناقض سيدور من خلال عرض قضايا الشريعة والقانون والسياسة في الإسلام على مناهج ومعايير الفكر الوضعي المعاصر، ولا سيما العلماني والديمقراطي والليبرالي، أو ما يسمونه بمعطيات العصر ومعطيات التجربة البشرية الناجحة، والاحتكام إليها. وهنا يكمن الخطأ المنهجي والموضوعي الفادح، حين نزن مبادئ ونظريات ونظماً دينية مستقلة، لها منهجها الخاص في صياغة نفسها، وأساليبها الخاصة في التعبير عن نفسها، وأدائها الخاص في التطبيق، بميزان المفاهيم والنظم الوضعية السائدة.

وهذا لا يعني أن تلك الإشكاليات والثنائيات غير مطروحة على بساط البحث لدى الفقهاء والمفكرين الإسلاميين، ولكن دراستها ومعالجتها لديهم، بل وحتى النظرة إليها، تختلف من زاوية القواعد الفكرية ومنهج البحث عن نظرة الباحثين الغربيين والعلمانيين والمتأثرين بهم.

مفهوم الدولة الإسلامية الحديثة

تتداخل في إطار مصطلح «الدولة الإسلامية»؛ مفاهيم الدولة والحكومة والنظام السياسي، وتبدو وكأنها مفاهيم مترادفة من وجهة نظر الفقه السياسي الإسلامي. فالدولة الإسلامية والحكومة الإسلامية والنظام الإسلامي، تدل جميعها على مضمون واحد، أطلق عليه المسلمون في عصر صدر الإسلام «دولة الرسول»، ثم «دولة الخلافة». وهي بذلك تعبّر عن نظام متكامل يستوعب كل نواحي الحياة، فضلاً عن المجالات الدينية والشرعية المحضة، دون أن يعطي مفهوم الدولة الشمولية أو التوتاليتارية. وقد أطلق على هذه الدولة قبل عقدين اسم «الجمهورية الإسلامية». وهي صيغة فقهية وقانونية تختلف شكلاً ومضموناً عن الدول التي سبق أن أطلقت على نفسها هذه التسمية خلال العقود الخمسة الأخيرة.

أما مفهوم «الحديثة» المقترن بمصطلح الدولة الإسلامية، فهو يتضمن جملة من المعاني المتعاضدة، أهمها: الجديدة والمعاصرة والحاضرة. فالجديدة، المراد منها الدولة الإسلامية التي تأسست حديثاً، في مقابل القديمة، أي إن المنظور هنا هو الزمن ومتغيراته. والمعاصرة، هي التي تتمتع بمواصفات الدولة العصرية، وفي مقدمتها التزامها البديهي بعناصر تكوين الدولة وأحكام القانون الدولي والقانون الدستور، في مقابل التراثية والسلفية، أي أن البعد الفكري السياسي والقانوني هو المنظور هنا. أما الحاضرة فهي التي لا زالت قائمة في رقعة جغرافية معينة، في مقابل الدولة التي مضت واندثرت، والمنظور هنا الواقع والمكان ومتطلباتها.

ويتضح من خلال ذلك أن المقصود بـ«الحديثة» ليست الدولة الحداثية بعناصرها التي تعارف عليها كثير من المفكرين الغربيين والمتأثرين بهم، وأبرزها: العلمانية، الفردانية والعقلانية، وهي التي تقابل الدولة التقليدية ـ كما يذهب كوبر ـ. وقضية السياسة في الدولة الإسلامية يتم التعرف عليها من خلال عدة حقول معرفية تجمع بينها كلمة السياسة أو الحكم، كالفقه السياسي والفكر السياسي والفلسفة السياسية والنظام السياسي أو نظام الحكم. وبين كل من هذه الحقول عموم وخصوص من مطلق وعموم وخصوص من وجه ـ كما يقول المناطقة ـ فالفقه السياسي الإسلامي يستند إلى معطيات الشرع المقدس الذي يحدده القرآن الكريم والسنة الشريفة، إضافة إلى أعمال الاجتهاد في الحالات التي حددها الشرع نفسه. وبذلك يعبّر الفقه عن موقف الشريعة الإسلامية في الأحكام القطعية، وموقف الفقيه في الأحكام الظنية، أي إنه يمثل لعامة المسلمين أنواعاً من الإلزام. في حين يجمع الفكر السياسي بين معطيات المصادر المقدسة (القرآن والسنة) والرؤى والاستنتاجات العقلية، وهو معبّر عن موقف المفكر. أما الفلسفة السياسية فتستند ـ في الغالب ـ إلى معطيات عقلية. ونادراً ما يستخدم اصطلاح الفلسفة السياسية فيما يرتبط بالنظرية السياسية الإسلامية، التي لا تمثل تجربة بشرية أو نتاجاً عقلياً محضاً.

وبناءً على ما سبق، فمن الأحرى بالدراسات التي تتناول موضوعات الدولة الإسلامية الحديثة في سياق بحثي متكامل، أن تأخذ بنظر الاعتبار أيضاً الخصوصيات المنهجية والموضوعية لعلوم السياسة والقانون، فتنظر إلى تلك الموضوعات من ثلاث زوايا، رغم التداخل بينها، الأولى: الفقه السياسي، الثانية: النظام السياسي، والثالثة: القانون الدستوري. وربما ينتج عن ذلك تكرار في طرح بعض الموضوعات في الأقسام الثلاثة، ولكنه تكرار له ضرورة منهجية. مثلاً: موضوع ولاية الفقيه أو قيادة الدولة الإسلامية، يتم بحثه ـ مرة ـ من زاوية الفقه السياسي، أي كما يطرحه الفقهاء في المدونات الفقهية، القديمة والحديثة، ويستدلون عليها من خلال علوم الكلام والفقه والحديث، إضافة إلى الأدلة العقلية. ومرة أخرى يبحث الموضوع من زاوية النظام السياسي أو نظام الحكم، أي التعرف على موقف منهج الأنظمة السياسية من موضوع القيادة في الدولة الإسلامية وموقعها في هيكل النظام السياسي الإسلامي وأسلوب ممارستها لسلطتها. وثالثة يتم بحث الموضوع نفسه من زاوية القانون الدستوري، أي تحليل الموقف الدستوري منها، كما جاء في وثيقة الدستور. وفي النتيجة تتكامل معالجة الموضوع بعد انتهاء دراسة الأقسام من الزوايا الثلاث.

مصادر البحث في الدولة الإسلامية الحديثة

لكي تكون هذه الدراسات بمستوى موضوعها وأهدافها، فلا مناص من بذل الجهد لاستخدام أكبر عدد من المصادر والمراجع، وهي ـ وفقاً لتنوع الموضوعات وزوايا النظر إليها ـ تنقسم إلى ما يلي:

1- مدونات الفقه السياسي الإسلامي لمدرسة الخلافة، القديمة والحديثة، مثلاً: «الأحكام السلطانية» لأبي يعلى الفراء، «الأحكام السلطانية» للماوردي، «السير الكبير» للشيباني، «الحسبة في الإسلام» و«إصلاح الراعي والرعية» لابن تيمية، و«نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور» للمودودي، و«الدولة الإسلامية» للنبهاني، و«نظام الإسلام» لمحمد مبارك، و«فقه الخلافة وتطورها» للسنهوري، و«نظام الإسلام» للزحيلي وغيرها.

2- مدونات الفقه السياسي الإسلامي لمدرسة الإمامة، تحديداً المذهب الجعفري، وفي مقدمتها المدونات التي صدرت خلال القرنين الأخيرين، والتي تشكل أطروحات نوعية في هذا المجال، ومن أبرزها «عوائد الأيام» للنراقي، «العناوين» للمراغي، بحوث «البيع» من كتاب «المكاسب» للشيخ الأنصاري، بحث «الولايات» من كتاب «بلغة الفقيه» للسيد بحر العلوم، «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» للشيخ النائيني وغيرها.

3- مؤلفات الإمام الخميني ذات العلاقة بالفقه السياسي ونظام الحكم، على اعتبار أن الدولة الإسلامية الحديثة هي الوجه التطبيقي لأطروحات الإمام الخميني. وفي مقدمة هذه المؤلفات: الجزء الثاني من كتاب «المكاسب المحرمة»، كتاب «البيع»، و«الحكومة الإسلامية»، إضافة إلى محاضراته وخطبه وبياناته ورسائله، التي جمعت فيما يقرب من خمسة وعشرين مجلداً تحت عنوان «صحيفة النور»، وأخيراً وصيته.

4- المؤلفات الفقهية والفكرية والسياسية الحديثة، التي تدور حول مختلف موضوعات الدولة الإسلامية ونموذجها القائم وأطروحات الإمام الخميني، ومن أبرزها بحوث السي الشهيد محمد باقر الصدر في «الإسلام يقود الحياة». وكتابات تلامذة الإمام الخميني، مثال «الحكومة في الإسلام» للإمام الخامنئي، «دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية» للشيخ حسين علي المنتظري، و«الفقه السياسي» للشيخ عباس علي عميد الزنجاني، ولعل الأخير من أفضل من كتب في مجال الفقه السياسي والنظام السياسي والقانون الدستوري في الدولة الإسلامية الحديثة، و«معالم الحكومة الإسلامية» للشيخ جعفر السبحاني وغيرها. وكذلك ما كتبه عدد من الفقهاء والمفكرين العراقيين واللبنانيين والمصريين، كالسيد كاظم الحائري في أكثر من كتاب ودراسة، ولا سيما «أساس الحكومة الإسلامية» و«ولاية الأمر في عصر الغيبة»، والدكتور توفيق الشاوي في «فقه الحكومة الإسلامية بين السنة والشيعة». ويضاف إلى هذه المصادر وغيرها، الدراسات التي طرحت في دورتين لمؤتمر الفكر الإسلامي بطهران تحت عنوان: «الحكومة الإسلامية» لباحثين من مختلف المذاهب والبلدان الإسلامية.

5- دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والذي يعد الصيغة القانونية لنظام الحكم في الدولة الإسلامية الحديثة. إضافة إلى المؤلفات التي شرحت الدستور، ودرست موضوع القانون الدستوري في الجمهورية الإسلامية، منها: «القانون الدستوري والسلطات السياسية» للدكتور جلال الدين مدني، «القانون الدستوري في الجمهورية الإسلامية الإيرانية» للدكتور محمد هاشمي، «القانون الدستوري والسلطات السياسية» للدكتور أبي الفضل قاضي(6).

وإلى جانب المصادر والمراجع الأساسية المذكورة، هناك مراجع ضرورية ثانوية لمناهج النظم السياسية والقانون الدستوري، وكذلك المؤلفات والدراسات التي تعرض الأفكار والفلسفات والنظريات السياسية والاجتماعية الغربية. إن هذا المدخل ينطوي على استشعار بالفراغ الملحوظ في المكتبة العربية على مستوى البحوث المنهجية الشاملة حول الدولة الإسلامية الحديثة وفقهها السياسي ونظامها السياسي وقانونها الدستوري، قياساً بما تحتويه المكتبة الفارسية، الغنية جداً في هذا المجال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات

(1) وهو ما يمكن ملاحظته في المدونات الحديثية والفقهية لمدرسة أهل البيت، كالمقنعة للشيخ المفيد والمبسوط للشيخ الطوسي وتذكرة الفقهاء للعلامة الحلي وجواهر الكلام للشيخ الجواهري والمكاسب للشيخ الأنصاري.

(2)  كما يقول برهان غليون في نقد السياسة، ص 427.

(3)  ابتكره الإمام الشهيد محمد باقر الصدر، ويقصد بها المناطق التي ترك الشارع للمكلف مسؤولية ملئها.

(4)  غيبة الإمام المهدي المنتظر، التي بدأت سنة 255 هـ.

(5) صحيفة نور، ج21، ص 88.

(6)  وهي باللغة الفارسية. وسيكون مفيداً جداً ترجمة هذه الكتب المنهجية المعمقة إلى اللغات الأخرى، لا سيما العربية، لأنها تكشف بأسلوب علمي واضح طبيعة نظام الحكم في الدولة الإسلامية الحديثة.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment