الحركة الاستعمارية في بداية القرن العشرين

Last Updated: 2024/05/30By

الحركة الاستعمارية في بداية القرن العشرين

د. علي المؤمن

مضمون الاستعمار

بعيداً عن التعريفات المدرسية للاستعمار ومسمياته الايديولوجية، فإن الذي يهم التوقف عنده هو مضمون الاستعمار وأساليب حركته ونتاجاته الجغرافية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، على اعتبار أن الاستعمار له علاقة بمعظم ما يمت إلى أنماط الحياة بصلة. وقد يخلق هذا التكامل المركب في داخله تعارضاً مع مصطلح الاستعمار نفسه، والذي أبدعته عبقرية القوة الاستعمارية؛ لأن مفهوم الاستعمار يعطي معنى الاستثمار والإعمار، بغض النظر عن وسائله؛ وهو هدف اقتصادي بلباس سياسي وعسكري، والحال أن مضمون الاستعمار أكثر عمقاً وأوسع مساحة.

والحقيقية أن هذه القضية (الخلاف حول المصطلح) ظل مدار جدل وتدارس استمرا أكثر من قرن؛ لأن المصطلح كان يخضع غالباً لمقاييس ايديولوجية؛ إما لتسويغ الحركة الاستعمارية، أو لإثارة الاشمئزاز منها. ولكن بمرور الزمن وانتهاء عصر الاستعمار، لم يبقَ من المفهوم سوى جوانبه السلبية، (وهي الجوانب الحقيقية) التي استنكرتها فيما بعد حتى الدول التي كانت في طليعة الحركة الاستعمارية.

وبشكل عام، يتلخص مفهوم الاستعمار في سيطرة دولة – بالقوة العسكرية والاحتلال – على دولة أخرى، والتحكم بمصير شعبها والتلاعب بمقدراتها واستغلال ثرواتها وصرف توجهها الثقافي والحضاري وزعزعة بناها التحتية على المستويات الاجتماعية (السلوكيات الوافدة) والسياسية (العملاء والنظام السياسي التوفيقي) والاقتصادية (الشركات الاحتكارية) والدينية (البعثات التبشيرية)، لمصلحة الدولة المستعمرة، وبالتالي يكون الهدف النهائي إعادة إنتاج الشعوب المستعمرة.

وينقسم الاستعمار إلى ثلاثة أقسام: قديم أو تقليدي، وقد رافق حركة الاستكشافات الجغرافية وعمليات الغزو المسلح التي بدأت في القرن السادس عشر الميلادي، ورواده: بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال؛ والآخر هو الاستعمار الحديث، وظهر أعقاب الثورة الصناعية في أوربا خلال القرن التاسع عشر الميلادي، وأهدافه أكثر دقة وعمقاً، ويختلف في أسلوب السيطرة عن الاستعمار القديم في الهجرة والاستيطان. والقسم الثالث هو الاستعمار الاستيطاني، وهو أحد أوجه الاستعمار القديم وإن استمرت حركته حتى أواسط القرن العشرين، حيث تقوم مجاميع بشرية غربية (أوربيون بالأساس) باحتلال أراضي الغير بالقوة، والإقامة فيها وطرد سكانها الأصليين بأساليب عنيفة تحت ذريعة التفوق العرقي. (نموذج: الأمريكتين وفلسطين وجنوب إفريقيا). ويطلق الاشتراكيون على الاستعمار الحديث مصطلح «الإمبرياليه»، ويعود إطلاقه إلى الزعيم الشيوعي الروسي «فلاديمير لينين»، الذي وصف الامبريالية بأنها مرحلة تاريخية منتظمة في تطور الرأسمالية ومرحلتها العليا. وفي الميدان الاقتصادي تتجسد هذه المرحلة في الرأسمالية قبل كل شيء، لأن تمركز الرأسمال والانتاج يبلغ درجة من التطور بحيث يصبح معها الدور الحاسم للاحتكارات. وستنمو هذه الاحتكارات على قاعدة التنافس الاقتصادي الذي تتوزع ميادينه على الموارد الأولية للبلدان الأخرى وأسواق تصريف الانتاج وغيرها، ومؤدى هذا التنافس هو الاحتلال والغزو العسكري. وبنمو التناقض في المصالح بين قوى الاحتلال ستنشب الحرب الاستعمارية دون شك. وعدَّ «لينين» الامبريالية المرحلة النهائية للرأسمالية الاحتكارية، أي أنها الجسر الذي تعبر عليه الثورة الاشتراكية.

وأطلق المستعمرون مختلف التسميات على البلدان المستعمرة، كالأطرف والمستعمرات، نسبة إلى الدولة الاستعمارية التي تعبر عن نفسها بالأمة والمركز، وذلك إفرازاً للعقل الغربي المستكبر، الذي تكوّن خلال مراحل طويلة، وأيضاً من منطلق الشعور العميق بالتفوق وفرض الأمر الواقع. وهو الواقع الذي يطلق عليه الفكر الإسلامي صفة «الاستكبار»، المصطلح القرآني الذي أعاد استخدامه الإمام الخميني، مقابل مصطلح «الاستضعاف» أو «المستضعفين» ويراد بهم المستعمرين والمحرومين والمضطهدين.

والحقيقة أن قوى الاستعمار الحديث أثبتت قدرة هائلة على استيعاب تطورات الواقع الدولي، في محاولة لتجنب السلبيات المميتة التي ووقعت فيها قوى الاستعمار التقليدي، الأمر الذي فرض على قوى الاستعمار الفتية التي برزت مع التطور الرأسمالي والصناعي السريع، استخدام عناصر وأساليب جديدة أقل كلفة وأفضل أداءً وأكثر ربحاً، وهو ما نجحت فيه الولايات المتحدة الأمريكية منذ مطلع القرن العشرين، وبصورة تدريجية، حتى باتت منذ خمسينات القرن العشرين الامبراطورية الاستعمارية الأولى في العالم.

الخارطة السياسية الدولية في مطلع القرن

استقبلت شعوب العالم القرن العشرين، مثقلة بإرث استعماري خلفته القوى العظمى خلال القرن التاسع عشر، ولا سيما في النصف الثاني منه، فقد تميز هذا القرن بالحروب الإقليمية بين القوى المستعمرة والصراع، المسلح على مناطق النفوذ والتسابق المحموم للتمدد الجغرافي على حساب الشعوب الفقيرة (المستعمرة)، بهدف نهب ثرواتها والسيطرة على المزيد من المواقع الجغرافية الاستراتيجية كما تميز بحركة التحالفات والتكتل بين دول الاستعمار الأوربي.

وأدى التوازن الظاهري في ميزان القوة العسكرية والاقتصادية ومساحة التمدد الاستعماري بين هذه الكتل، إلى نوع من الاتفاق المصلحي بقي قائماً مدة طويلة، وعرفت هذه المرحلة بـ«مرحلة السلام المسلح» في أوربا، التي بدأت عام 1871 م وانتهت عام 1914م باندلاع الحرب الاستعمارية العالمية الأولى. وأول تحالف ظهر إلى الوجود في هذه المرحلة كتحالف سياسي عسكري استعماري أوربي هو «الاتحاد الثلاثي» (Triple) بين الامبراطوريات الألمانية والنمساوية (المتحدة مع المجر) والإيطالية، وذلك عام 1881م وكانت ألمانيا التي برزت فيها نزعة عسكرية حالمة تهدف إلى مد نفوذها إلى أوربا وجميع العالم، في محاولة لإحداث نوع من التعادل الاستعماري من خلال اللحاق بالدول الكبرى التي سبقتها في التمدد الجغرافي. ورداً على هذا التحالف، بادرت الإمبراطوريتان الروسية والفرنسية في الأعوام 1891 – 1893 إلى عقد تحالف مماثل، في حين وجدت بريطانيا الإمبراطورية الاستعمارية في ألمانيا المنافس الأكثر قوة وخطورة، ولا سيما أن هذه المرحلة كانت تحمل معها مؤشرات تراجع بريطانيا في بعض مناطق العالم، رغم امتلاكها إمبراطورية استعمارية لا مثيل لها في المساحة والقوة العسكرية والثروة. وكانت بريطانيا مثالاً للمستعمر الشرس الذي لا يتردّد عن الذهاب إلى أطراف الدنيا من أجل مصلحته الخاصة، وهو ما كان يحدث بالفعل في أوروبا وآسيا، حيث تعرضت شعوبها لأبشع ألوان القمع والسرقة والإهانة.

ورغم أن مرحلة السلام المسلح لم تشهد حروباً مهمة بين الكتل الاستعمارية، إلا أنها كانت تقلب بأحجامها على نار هادئة، فكأن السلام المسلح عملية استعداد علني لمنازلة كبرى قادمة، إذ بلغ التنافس على التسلح أشده، بما في ذلك تطوير بنية القوات المسلحة وتحديثها كماً ونوعاً وانتشارها على نطاق واسع في أرجاء العالم. وكانت هذه العملية بذاتها تثير الكثير من التناقضات الخطيرة بين هذه القوى؛ فمثلا كانت فرنسا وبريطانيا في صراع شديد على اقتسام وسط وغرب إفريقيا وجزء من شمالها، ولا سيما مصر، وكذلك جنوب شرق آسيا وغيرها، رغم أن الاتفاق غير المعلن حصر شرق ووسط إفريقيا وشرق آسيا والشرق الأوسط كمناطق نفوذ لبريطانيا، فيما كان المغرب العربي وغرب إفريقيا من حصة فرنسا. أما أمريكا اللاتينية فكانت موقعاً للصراع بين بريطانيا والولايات المتحدة (القوة الوليدة).

من جهتها كانت ألمانيا تحث الخطى للتعويض عما فاتها من غنائم في إفريقيا وبعض بلدان آسيا. وفي آسيا الوسطى كان التنافس محموماً بين بريطانيا وروسيا، ويستعر لهيبه بشكل أكبر في إيران. وفي مناطق نفوذ الإمبراطورية العثمانية (معظم بلدان الشرق الأوسط وبعض بلدان أوربا الشرقية) ظل الصراع محتدماً بين العثمانيين والأوربيين، وكان يأخذ بعداً ايديولوجياً مضافاً إلى بعده الاستعماري بغية الضغط على الدولة العثمانية للتخلي عن بعض البلدان التي تسيطر عليها، ومحاولة زعزعة الدولة العثمانية من الداخل وصولاً إلى تدميرها.

وفي الوقت نفسه، فإن بقاء الولايات المتحدة الأمريكية بعيدة – إلى حد كبير – عن اللهاث الأوربي وراء احتلال المزيد من أراضي الغير، واحتفاظها بمواقع استعمارية محددة في أمريكا الوسطى، جعلها بمنأى عن عملية الاستنزاف الشاملة التي كانت تتعرض لها الدول الأوربية، فشهدت بذلك نهضة اقتصادية لافتة للنظر، بدأت بعد انتهاء حرب الاستقلال، وجعلتها في مقدمة البلدان في معدلات النمو الاقتصادي، حتى أصبحت في عام 1894 في مقدمة الدول الرأسمالية في حجم الإنتاج الصناعي، مما جعلها متحفظة إلى حدٍ ما في مدِّ نفوذها خارج الأمريكتين، حرصاً على عدم تفتيت جهدها وإنهاك ميزانيتها، ولكن في الوقت نفسه كانت شرسة مع جميع الأوربيين الذين كانوا يحاولون تجاوزها في أمريكا الوسطى، وهو ما حصل مع إسبانيا، حيث أشعلت معها حرباً استعمارية عام 1898م، نتج عنها استيلاء أمريكا على كوبا. ولم تكتف بذلك، بل وجدت في إسبانيا خطراً على امتدادات أمنها القومي خارج الأمريكتين، فقامت بانتزاع الفلبين منها أيضاً.

وكانت هذه الحروب المحدودة بين القوى الاستعمارية الفتية والقوى الاستعمارية العريقة، دافعاً للقوى الجديدة للاستمرار في محاولاتها لإعادة تقسيم مواقع النفوذ، على حساب الدول الاستعمارية التقليدية، كبريطانيا وفرنسا وهولنده والبرتغال وإسبانيا، على اعتبار أن الأخيرة لم تكن تتنازل عن الأراضي التي تحتلها مهما كانت الأسباب. وفي هذا الاتجاه تحرك طموح الإمبراطورية اليابانية باتجاه كوريا؛ فاحتلتها، وحاولت أيضاً اقتطاع جزء من الإمبراطورية الصينية كما تحركت إيطاليا نحو الحبشة (أثيوبيا) عام 1896 في محاولة فاشلة لاحتلالها.

وهكذا فإن انقسام العالم في مطلع القرن العشرين إلى معسكرين متناقضين، كان من العمق بحيث يندر أن يكون التاريخ الإنساني قد شهد حالة مماثلة قبله، وكان هذا الانقسام على النحو التالي:

الأول: المعسكر الاستعماري الرأسمالي، ويتألف من الدول الكبرى، التي تقع جغرافياً في نصف الكرة الأرضية الغربي من جهة، والشمالي من جهة أخرى. ومن الناحية الاقتصادية فهي دول الشمال (الغنية) مقابل دول الجنوب (الفقيرة)، ومن الناحية السياسية والعسكرية والايديولوجية هي دول الغرب (المستكبرة المحتلة) مقابل دول الشرق (المستضعفة المستعمرة)، ومن الناحية الدينية هي الدول المسيحية مقابل دول الديانات الأخرى، كالإسلام والهندوسية والكنفوشيوسية والبوذية. وأهم رموز هذا المعسكر: بريطانيا، فرنسا، هولنده، إسبانيا، البرتغال (الجناح الاستعماري العريق)، بلجيكا، ألمانيا، الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، روسيا، إيطاليا، النمسا المتحدة مع المجر (الجناح الاستعماري الجديد). والحقيقة أن اليابان ظلت دائماً خارج القاعدة الجغرافية والايديولوجية والدينية؛ لأنها القوة الاستعمارية الوحيدة غير الغربية وغير المسيحية.

الثاني: المعسكر المستعمر والفقير، ويتألف من الدول والشعوب المستضعفة؛ سواء كانت خاضعة للاحتلال المباشر أو غير المباشر أو مصنفة ضمن دول الجنوب الفقيرة، وهي تتوزع على أمريكا اللاتينية (الوسطى والجنوبية) وإفريقيا، آسيا وأقيانوسيا.

وظلت أمريكا اللاتينية مستثناة من القاعدة الجغرافية والايديولوجية والدينية، فدولها تصنف على الغرب الجغرافي والمسيحي، ولكنها – رغم ذلك – دول جنوبية ومستعمرة.

حركة القوى الاستعمارية

ظلت حركة القوى الاستعمارية حتى عام 1914 امتداداً للواقع الذي أوجدته مرحلة السلم المسلح، فكانت جيوش القوى العظمى تجوب العالم طولاً وعرضاً بحثاً عن المزيد من مواقع النفوذ والثروة. فبريطانيا مثلاً بقيت لعقود طويلة الإمبراطورية الاستعمارية الأكبر في العالم، إذ شكلت مساحة المستعمرات البريطانية في مطلع القرن العشرين حوالي (109) أضعاف مساحة بريطانيا نفسها (الوطن الأم – Metropolis)؛ أي أكثر من (33) مليون كيلو متر مربع، بينما بلغ عدد سكان المستعمرات ما يقرب من تسعة أضعاف نفوس بريطانيا؛ أي حوالي (440) مليون نسمة. كما كانت بريطانيا تستولي على حوالي نصف مستعمرات العالم، والنصف الآخر لباقي القوى الاستعمارية مجتمعة.

جاء التحدي الأول للامبراطورية – التي لا تغيب عنها الشمس! – من جنوب أفريقيا، حيث أشعلت حرباً شرسة ضد شعب البور (Boers) استمرت أكثر من ثلاث سنوات (1899 – 1902)، وانتهت بإلحاق دولتي «لورانج» و«ترانسغال» ببريطانيا، وفقاً لمعاهدة الصلح التي فرضتها الأخيرة على البور. واللافت للنظر أن المعاهدة تضمنت مادة تمنع البوير (وهم شعب أوربي أبيض) من التصويت في الانتخابات البرلمانية لصالح السكان الأصليين (السود) الذين منعوا بدورهم من الاختلاط بالبيض في كثير من المواقع. وبذلك بذرت بريطانيا بذرة التمييز العنصري (Apartheid) في جنوب إفريقيا.

ومن أجل تنظيم وضع مستعمراتها والحد من سلبيات الحكم المركزي المباشر، وسَّعت بريطانيا من دائرة دول الكومنولث، بعد أن أحست بالتخمة التي جعلتها تواجه صعوبة فائقة في إدارة الصراع من أجل المحافظة على وضع هذه المستعمرات.

ثم أطلقت مصطلح «الدومنيون» على بعض مستعمراتها التي حصلت على حكمها الذاتي الكامل أو المستقلة وفقاً لمعايير القانون الدولي ولكنها بقيت على ولاءها للتاج البريطاني، وكانت كندا في طليعة هذه الدول، ثم أستراليا عام 1901 وجنوب إفريقيا عام 1910.

ومن جانب آخر، بادرت بريطانيا إلى تقنين صراعها مع القوى الاستعمارية المنافسة، فعقدت في عام 1904 اتفاقية مع فرنسا لتقسيم بعض دوائر النفوذ ولا سيما في إفريقيا، حيث انتهت مصر حصة بريطانية خالصة، وفي المقابل أصبح المغرب العربي دائرة فرنسية. وتحددت تايلند منطقة عازلة بين الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية والاحتلال الفرنسي للهند الصينية كما اتفقت بريطانيا مع روسيا في عام 1907 على تقسيم مناطق النفوذ في إيران (الشمال لروسيا والجنوب لبريطانيا والوسط محمية مشتركة مستقلة).

واستمرت فرنسا كذلك في توسيع مستعمراتها، إذ كانت القوة الاستعمارية الثانية بعد بريطانيا في حجم ونوعية اقتدارها. وفي الوقت الذي استطاعت فرنسا ترتيب أوضاعها مع بريطانيا، فإنها ظلت في صراع بارد خطير مع ألمانيا، كان سيتسبب في حرب شاملة بين الدولتين في عام 1911 عند احتلال فرنسا لبعض مدن المغرب، تم قيام ألمانيا بمحاولة احتلال أحد موانئه (أغادير)، ولكن تدخل الدول الأخرى حال دون نشوب الحرب، ووافق الطرفان على بقاء المغرب محمية فرنسية، وفي المقابل تنازلت فرنسا لألمانيا عن بعض المناطق التي تحتلها في الكونغو (في إفريقيا الوسطى)؛ لذلك توزعت أراضي الكونغو الشاسعة على ألمانيا وفرنسا وبلجيكا (القوة الاستعمارية الصغيرة التي دخلت إفريقيا في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي).

وفي الجزء الشرقي من الكرة الأرضية، بلغت النزعة العسكرية اليابانية ذروة طموحاتها الاستعمارية التوسعية، بعد احتلالها أجزاء واسعة من شمال الصين، تمهيداً لبناء «الإمبراطورية اليابانية الكبرى» التي تبلورت كنظرية استعمارية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، أسوة ببقية القوى العظمى. وكانت اليابان تطمح إلى ضم كوريا وشمال شرق الصين ومنغوليا وشرق سيبيريا إلى إمبراطوريتها، كما كانت تهدف إلى الحد من الأطماع الروسية الرامية إلى التوسع في شمال الصين وكوريا ومنغوليا، مما دفع اليابان إلى عقد تحالف مع أمريكا وبريطانيا عام 1902 ضد روسيا، التي دخلت في حرب مع اليابان عام 1904، واستمرت أكثر من سنة، وكانت ثاني حرب استعمارية بعد الحرب الفرنسية الألمانية، وأدى استمرار اليابان في أطماعها وتوسعها في شرق آسيا، إلى تنافس خطير بينها وبين أمريكا؛ لقرب المنطقة جغرافياً من الولايات المتحدة. ورغم أن الصين كانت مستقلة رسمياً حتى عام 1911، إلا أنها ظلت مسرحاً مكشوفاً لصراع النفوذ الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا وأمريكا واليابان وروسيا وألمانيا. أما أمريكا اللاتينية (المستقلة) فكان النفوذ الاقتصادي الأمريكي مهيمناً عليها، ولا سيما في أمريكا الوسطى، التي لم تعد مكاناً آمناً للحركة الاستعمارية البريطانية.

واستمرت دول أوربا الغربية في محاصرة الدولة العثمانية وقطع يدها في أوربا وإسقاط ايديولوجيتها، على اعتبار أن قاعدتها الايديولوجية الإسلامية تتسبب في إزعاج الايديولوجية الاستعمارية الأوربية الملفعة بغطاء المسيحية، كما كانت عاملاً أساسياً في الحيلولة دون نجاح محاولات الاختراق الأوربي للمنطقة الإسلامية التي كانت تستظل بالمظلة الإسلامية للدولة العثمانية، رغم هشاشة هذه المظلة وطائفيتها وعنصريتها. وبالفعل نجح المخطط الأوربي الرامي إلى قلب الأوضاع في الدولة العثمانية، وأدى إلى سيطرة حزب تركيا الفتاة على السلطة عام 1908، وتحويل نظام الدولة إلى ملكية دستورية. وكانت النتيجة عقد اتفاقية سرية بين روسيا والنمسا، احتلت النمسا جراءها البوسنة والهرسك وسلختهما عن الدولة العثمانية. وتحول هذ العمل إلى أزمه كبيرة بين النمسا وصربيا وروسيا وبريطانيا. وفي الوقت نفسه، بادرت إيطاليا عام 1911 إلى احتلال شمال ليبيا التي كانت حينها ولاية عثمانية، وهو ما كشف حقيقة ضعف العثمانيين، مما انسحب على موقفهم في منطقة البلقان أيضاً؛ ففي عام 1912 شكلت بلغاريا وصربيا واليونان ومونتنغرو اتحاداً فيما بينها تحت اسم «مجمع دول البلقان»، يهدف إلى طرد العثمانيين من منطقة البلقان والحد من نفوذ القوى الكبرى الأخرى.

ثم شنت دول الاتحاد البلقاني هذه حرباً على الدولة العثمانية، تمكنت خلالها من التقدم في عمق الأراضي التركية، حتى وصلت إلى مشارف مضيقي البوسفور والدردنيل، وقد تسبب هذا الحدث – الذي لم يسبق له مثيل طوال عمر الدولة العثمانية – في أزمة حادة في منطقة البلقان، بعد اعتراض النمسا على التسهيلات التي قررت روسيا تقديمها لصربيا في سواحل البحر الأدرياتيكي، مقابل سماح صربيا لروسيا بالوصول إلى المضائق العثمانية. وتم حل الأزمة بأسلوب أكثر تعقيداً؛ فقد قررت إيطاليا وألمانيا خلال مؤتمر لندن الذي عقد عام 1913 لهذا الغرض، تأسيس دولة جديدة هي (ألبانيا) لتكون حائلاً بين صربيا وسواحل الأدرياتيكي، وفي المقابل منحت صربيا بعض الأراضي في مقدونية على حساب بلغاريا، مما دفع الأخيرة بعد حوالي شهر من انتهاء مؤتمر لندن إلى إعلان الحرب ضد صربيا واليونان، وانتهت الحرب بخسارة بلغاريا؛ بسبب الدعم الذي قدمته الدولة العثمانية ورومانيا إلى صربيا واليونان. وكانت هذه الأزمة المسمار الأخير في نعش الاتحاد البلقاني، الذي تحولت دوله إلى أطراف متحاربة مع بعضها، بل إن صربيا تحالفت مع الدولة العثمانية (العدو الأصلي)، لضرب بلغاريا العضو الآخر في الاتحاد، والحال أن جذور الأزمة تعود إلى الخلاف بين دول الاتحاد على اقتسام غنائم حربها الرابحة مع الدولة العثمانية! وبقي الوضع في البلقان متأزماً وينذر بالكارثة، التي وقعت بالفعل بعد عام واحد فقط.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment