التفسير العاشورائي للتاريخ

Last Updated: 2024/05/30By

التفسير العاشورائي للتاريخ

د. علي المؤمن

معادلة التفسير العاشورائي للتاريخ

سنن الله تعالى في خلقه، سنن ثابتة لا تتبدل، أفرزت عناصر ومعادلات ومباني محسوسة؛ هي التي يتم التعبير عنها بالتفسير الإسلامي للتاريخ. وهذا التفسير له تجسيدات ومصاديق في تاريخ الإسلام وواقعه. ويقف التفسير العاشورائي للتاريخ في مقدمه هذه التجسيدات؛ إذ بقيت معادلاته تحكم مساحات كبيرة من الواقع الإسلامي، منذ ثورة الإمام الحسين(ع) وحتى الآن.

فبين عاشوراء 61هـ؛ اليوم الذي شهد الفصل الأكثر دموية ومأساوية في نهضة الإمام الحسين، وعاشوراء اليوم الذي نعيشه، ثلاثة عشر قرناً ونصف القرن من الزمن، استمرت خلالها نهضة الحسين بجميع عناصرها ومعادلاتها وأهدافها، على الرغم من تغير الأشخاص واختلاف المشاهد، وكأن ذلك الزمن الطويل يشكل يوماً واحداً. فنهضة الإمام الحسين(ع)، على وفق التفسير العاشورائي للتاريخ، لا تخضع لظروف الزمان والمكان، أي انها عالمية على المستوى الجغرافي، وممتدة على المستوى التاريخي.

لقد تشربت نهضة الحسين الفكر التوحيدى، وجسدته واقعاً عملياً خالداً؛ فأبقت مكة رمزاً للتوحيد، وجعلت من كربلاء مركزاً يحمي التوحيد الخالص، ومركزاً للتضحية من أجله. فعلى مر القرون ظلت كربلاء تضحي، لتزداد مكة شموخاً.

النهضة الحسينية لم تأت بشرعة جديدة أو سنة مبتدعة، وإنما بلورت مفاهيم الصراع التاريخي بين الحق والباطل. هذه الثنائية الممتدة منذ عصر آدم(ع)، بين هابيل وقابيل، بين نوح وقومه، إبراهيم ونمرود، الأنبياء وبني إسرائيل، موسى وفرعون، رسول الله وقريش، علي ومعاوية، وصولاً إلى الحسين ويزيد. فهي – في حقيقة الأمر – سنة الله في خلقه: (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً)(1).

ثوابت المعادلة العاشورائية

تمثل كربلاء البعد المكاني في نهضة الحسين(ع)، فهي الأرض التي نقف عليها، ويمثل عاشوراء البعد الزماني، فهو الزمن الذي نعيشه. أي أن كربلاء هي كل أرض المسلمين على امتداد ثلاث قارات، وكل أرض يوجد فيها المسلمون. إذ ما زالت هذه الأرض تنزف، كل جزء منها ينزف، تنزف دماً ودمعاً ومداداً، دون أن تجف دماؤها أو يجف دمعها ومدادها، منذ ثلاثة عشر قرناً ونصف القرن؛ لأن الدماء والدموع والمداد هي إرث المسلمين من عاشوراء وكربلاء، وهي إرث المقاومة الأكثر تأثيراً في واقع الحياة، حتى يرث المستضعفون الأرض وما عليها.

ولكي نكون أكثر اقتراباً من الواقع، نشير إلى بعض الثوابت الأساسية في المعادلة العاشورائية، لتبرز المصاديق من خلال ذلك بسهولة:

1 – في كل زمان ومكان هناك من يمثل الرمز والمشهد في النهضة الحسينية، سواء تمثل الرمز في شخص أو جماعة أو سلطة، وسواء كان المشهد في بضعة أمتار من الأرض – زنزانة مثلاً – أو في دولة بأكملها.

2 – إن طرفي المعادلة العاشورائية يمثل أحدهما الحق والشرعية، ويمثل الآخر الباطل واللاشرعية، وحولهما يلتف الأتباع والأنصار، وبينهما يقف المتفرجون والمحايدون – سلباً – والمستفيدون.

3 – تقف كربلاء دائماً خارج إطار اللعبة الدولية؛ فلا تصلها – على سبيل المثال – شرعة حقوق الإنسان، ولا كل القوانين التي يتشدق بها بنو البشر، أي انها تعيش حالات المظلومية والمقاومة والاستشهاد بكل أبعادها.

فبقاء كربلاء – أرض المسلمين – نازفة، هو إنجاز توارثته الأنظمة الطاغوتية، المحلية منها والعالمية. فالاستكبار العالمي، ومعه عملاؤه في منطقتنا الإسلامية، يمثلان أحد طرفي المعادلة العاشورائية. أما الطرف الآخر، فهم أتباع محمد(ص).. من موريتانيا إلى اندونيسيا، ومن البوسنة وحتى موزمبيق.

وإذا أردنا أن نعيش قضايانا في هذه المرحلة، ونحللها في ضوء عاشوراء، فسنرى أن الثوابت – التي ذكرناها – حاضرة في تلك القضايا بكل وضوح.

إن الشعارات أو التهم التي يرددها المستكبرون وعملاؤهم في هذه المرحلة هي إنتاج متكرر، أفرزته العقلية الاستكبارية الغربية منذ قرون بعيدة، وبلورته المنظومات الاستشراقية في صيغ معروفة، وأبرزها: إن المسلمين إرهابيون، متوحشون، متمردون، لا عقلانيين، متخلفون، شهوانيون؛ يسعون للحصول على أسلحة الدمار الشامل، ويطمحون لبناء قوة عالمية مستقلة. ومن هنا فلابد من محاصرتهم سياسياً واقتصادياً وتعويق مشاريعهم التنموية، واستلابهم عقائدياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً، وتجويعهم وإذلالهم وإركاعهم، وبث الفرقة والشقاق والنفاق بينهم، وضربهم بقوة، وإعمال السيف فيهم(2) (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)(3).

قاعدة التفسير العاشورائي للتاريخ

أفرزت ثورة الإمام الحسين(ع) مدرسة، وثقافة متكاملة في معالمها ورموزها وعناصرها وأساليبها وأهدافها، وهي ثقافة إسلامية أصيلة، تشكل القاعدة التي يقف عليها التفسير العاشورائي للتاريخ.

يقول الإمام الحسين بن علي(ع):

«إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي، بنا فتح الله وبنا ختم. ويزيد رجلٌ فاسق، شارب للخمر، قاتل النفس المحرّمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله»(4).

بهذا الحزم العقائدي، رد الإمام الحسين(ع) على الوليد بن عتبة، والي يزيد على مكة؛ حين طلب منه مبايعة يزيد بن معاوية على الخلافة، فقد أوضح من خلال كلمته أنه ويزيد مدرستان وثقافتان متضادتان، لا يمكن أن تلتقيا، كما بيّن المعالم الرئيسة لكلتا المدرستين.

فالمدرسة الحسينية أو الثقافة الحسينية – كما ورد في كلمة الإمام الحسين – تتميز بأنها مدرسة:

1 – أهل بيت النبوة.

2 – معدن الرسالة.

3 – مختلف الملائكة.

4 – بها فتح الله وبها ختم.

أما المدرسة اليزيدية فإن أهم معالمها:

1 – الفسق والتجاهر بالفسق.

2 – شرب الخمر.

3 – قتل النفس المحرمة.

فهما – إذن – تياران حضاريان مختلفان ومتضادان، الأول ولد في رحم الرسالة، ونما وترعرع في أحضان النبوة، ثم تجسدت فيه مدرسة الإسلام الأصيل؛ إذ أفرزت المدرسة الحسينية ثقافة عاشوراء التي هي خلاصة لثقافة الإسلام.

أما التيار الثاني، فقد انبثق من بين ركام الكفر والجاهلية، وترعرع في أحضان الانحراف، وتبلور في أبناء الطلقاء ومن أباح الرسول(ص) دماءهم، ويمثل الاتجاه الأكثر عداءَ للإسلام، والأكثر شراسة ضده وضد رموزه، قبل وفاة الرسول(ص) وبعده.

ثم أعطى الإمام الحسين(ع) بقوله: «ومثلي لا يبايع مثله»؛ قاعدة عقائدية وفقهية ثابتة، وهي أن المدرسة الأولى (الحسينية) لا يمكن أن تبايع المدرسة الثانية (اليزيدية) أو تقدم لها فروض الطاعة أو تنصاع لأوامرها، بل تعمل وفق ما تمليه عليها الشريعة الإلهية.

بيد أن المفارقة الكبري تكمن في أن المدرسة اليزيدية استولت على السلطة باسم الإسلام، وعزلت المدرسة الحسينية عن موقعها الشرعي، وصوّرتها بأنها خارجة على الخلافة!.

 

 

الإحالات

(1) سورة الفتح، الآية 23.

(2) انظر: قضايانا في ضوء التفسير العاشورائي للتاريخ، رئيس التحرير، مجلة التوحيد، العدد 76، حزيران 1995.

(3) سورة البقرة، الآية 217.

(4) ابن الأعثم، الفتوح، ج5 ص17.

 

 

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment