الامجد

Last Updated: 2024/06/13By

التجديد الفكري الإسلامي في رؤية علي المؤمن

د. محمد سعيد الأمجد

(باحث من العراق)

 

لم تنفك الرؤى تتناسل وتتظافر لإبراز قدرة الاسلام على مواجهة الحياة ومواكبة التطور، ولم يزل الوعاة من مثقفي الامة الاسلامية وباحثيها منهمكين في حلّ إشكاليات التجديد المعاصرة، وصولاً الى فهم عميق للفكر والواقع، وايماناً من هؤلاء الدعاة الواعين بأن للاسلام روحاً تتماشى مع الزمان والمكان، وفكراً يتماشى مع الحاجات والمستجدات، شريطة أن يتاح لهما الخبير المختص والمثقف الموسوعي والمفكر الحصيف؛ لكي يكتشف نواة التجديد وعناصر التطوير.

والكتاب الذي بين أيدينا “الإسلام والتجديد: رؤى في الفكر الإسلامي المعاصر” هو لواحد من الباحثين الأكفاء في مجال تجديد الفكر الإسلامي؛ فمؤلفه الأستاذ الباحث علي المؤمن وضع فيه خلاصة آرائه وأفكاره ورؤاه، وهي طيف تشكل عبر مخاض فكري عسير خاضه المؤلف خلال ست سنوات (1990ـ 1996)، وهي فترة ترؤسه تحرير “مجلة التوحيد” البحثية الفكرية؛ ما يؤهله للحديث بمنهجية عن قدرة الإسلام على التجديد.
يتألف الكتاب من ثمانية فصول تتقدمها “كلمة في البدء” تركز الحديث حول التحديات التي تواجه الفكر الاسلامي المعاصر بعد تجاوز الإصلاحيين عقبة “الإحياء”، والتي تتطلب بروز مرحلتين ومسارين: (( يتّجه الأول نحو التأسيس وملء الفراغات بانتاج جديد، فيما يتجه الثاني لاكتشاف الأساليب العملية التي تُخضع الواقع للنظرية)) كما يقول علي المؤمن.

وهذا المسار الاخير يتطلب جهداً شاقا مزدوجاً بين النظرية والواقع (( ليكون المنتج فكراً للحركة والتطبيق))، وهو ما حاولت الفصول الثمانية للكتاب أن تقاربه أو تقارب بعض مفاصله الهامة.

إشكاليات التجديد 

عالج السيد المؤمن في الفصل الاول موضوع التجديد في الفكر الاسلامي، وحقيقته ودواعيه ومساحاته وتياراته وثوابته ومتغيراته، والتأكيد على سعة المصطلح والفهم المختلف له، والمرجعية التي من شأنها تحديد مستويات خضوعه للأصول.

ويتجلى مفهوم التجديد في هذا الفصل بصورة بلورية ناصعة تتقاذف الاشكاليات من حولها فهو حسب الأستاذ المؤمن: (( ليس نسخاً لفكر قائم، ولا تاسيساً لفكر جديد، ولا إحياءً لفكر قديم، ولا انسجاماً مع فكر آخر، ولا درءاً لشبهات تقليدية؛ بل هو عملية تفاعل حيوي داخل فكر قائم، و هو معلول حاجات عملية. وهكذا فإن صياغة الفكر الإسلامي في إطار خطاب جديد يعبر عن المشروع الإسلامي المعاصر؛ سيحول دون اضطرار الإنسان المسلم الى التشبث بالأفكار والايديولوجيات الوضعية التي تسعى لاعطاء تصور كوني عصري أو فهم عصري للحياة متحرر من أية ضوابط إلهية. فلا مناص حيئذٍ من فهم التجديد على هذا الاساس الذي يتفاعل فيه الفكر مع عناصر الزمن المتحركة)).

أما دواعي هذا التجديد؛ فينطلق الأستاذ المؤمن في تحديدها من قوة الشريعة ومرونتها التي تأبى أن تحصر مضامينها في زاوية العجز والعزلة عن التطورات الهائلة لعالم اليوم، وتدعو الى فتح باب الاجتهاد للعلماء عملاً بالمروي عن الرسول (ص): (( إن الله يبعث لهذه الامة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)).

والاجتهاد ليس عملاً طوباوياً ينشأ عن رغبة نفسية أو وازع شخصي أو حاجة زمنية محددة، بل هو عمل يحتاج الى عقلية متحررة تعي عناصر زمنها، وتنقذ المجتمع من الجمود والتخلف والتقليد عبر تحريك رشيق للفكر الاسلامي، وتوسيع دوائره لتشمل كل قضايا الانسان المعاصر. وتلك العقلية و إن كانت متحررة؛ لكنها ذات مرجعية متكاملة ومحددة بمصادر الفكر الاسلامي نفسه، وهي ـ كما يذكر المؤلف في هذا الفصل ـ على ثلاثة انواع:

الأول: الاصول المقدسة: القران الكريم والسنة المطهرة (الصحيحة)، ويعبّر عنها علي المؤمن: بأنها ((سلطة مرجعية عليا ثابتة))

الثاني: أدوات فهم الاصول المقدسة وآلياته، كالعقل والاجماع وغيرهما.

الثالث: التراث الكلامي والفكري والفقهي لعلماء الاسلام، وهو حصيلة فهمهم للنصوص والواقع، والاخير يعبر عنه بأنه: لا يشكل مرجعية قاهرة بقدر ما هو مرجعية محركة للتكامل(ص 31).

فإذا كانت مرجعية المصدر الأول عليا وثابتة، ومرجعية الاخير محركة نحو التكامل بدون قهرية، فما هي نوعية السلطة المرجعية للعقل والاجماع؛ مما يسميها السيد المؤمن بالادوات والآليات التي تعين على فهم الاصول المقدسة؟ وهو مع هذا ـ فإن المؤمن يرجع ليعيد تقييم أدوار ووظائف كل من هذه المصادر الثلاثة، ويذكر مميزات الفكر الاسلامي الباعثة على التجديد، ويلخصها بـ (( المرجعية ووحدة الفكر والشمولية والأصالة والتوازن.)).

ويتضح بعد ذلك رأي المؤلف بمساحات التجديد، حيث يمثل الفكر الاسلامي في كتلتين رئيسيتين: الأولى هي الاصول والاسس الثابتة المتمثلة بالقران والسنة، والثانية في التراث الفقهي والكلامي والفكري، ويختص هذا التراث بالتجديد، فهو المساحة القاتلة للتحديد أو المتغير في الفكر الاسلامي، وبكلمة أخرى فأن ((القابل للتغيير يشتمل على مساحتين:
الأولى: المختلف في فهم الأمور المكتشفة في القران والسنة، وتفسيرها وقراءتها من قبل العلماء (أصحاب الإختصاص)

والثانية: الاكتشاف الجديد في القران والسنة، مع الاخذ بنظر الاعتبار قوانين التجديد والتغيير في مجال الاستنباط )) (ص 35(

وبين هاتين الكتلتين: الثابت والمتغير؛ علاقة منتجة؛ فالمتغير ـ والكلام للمؤلف ـ في الفكر الاسلامي يُخضع الواقع الجديد للثابت؛ فتتم ـ هنا ـ عمليتان:

((الأولى: تحطم الجمود على الوعي بالثابت؛ لئلا تشلّ فاعليته ويقطع صلته بالحياة؛ لكنها لا تحطم الثابت نفسه.

والثانية: تجدّد الوعي بالثابت وفق متطلبات الحياة الحاضرة((

وأسجل ـ هنا ـ منقبةٌ للأستاذ علي المؤمن، فعلى الرغم من انه صاحب مشروع يعنى بالمستقبل (المركز الإسلامي للدراسات المستقبلية)، فإنه توقف في فقه المستقبل وفكره، وتركه لأبنائه القادمين الذين يعون عناصر تجديده القادمة، ولم يسحب رؤيته الاختصاصية على موضوعة بحثه؛ وعياً منه أن الفكر الاسلامي حلقات متواصلة وليس تنظيراً عاماً ثابتاً حادّ المزاج قطعي الرؤية.

ثم يتطرق المؤلف في ذات الفصل الى تيارات التجديد التي تشهدها الساحة الاسلامية والعربية اليوم من السلفية والحداثية والتوفيقية ، والاختلاف الحاصل في فهم الثوابت بين المذاهب الاسلامية ، ودور العلماء اصحاب الاختصاص والمؤهلات في دفع عجلة التجديد وإبراز رؤية الاسلام المعاصرة للحياة والمجتمع.

حرية الفكر بين الإسلام وعصر التنوير 

يبحث علي المؤمن الاشكاليات التي يطرحها موضوع حرية الفكر في الاسلام، وفي مقدمتها حدود هذه الحرية وتطبيقاتها والتيارات الاسلامية الفكرية التي تمتلك رؤية خاصة في هذا المجال. ففي الفصل الثاني يبدو حديث السيد المؤمن تنظيرياً خطابياً مجانياً للواقع في بعض مفاصله؛ فموضوع الحرية الذي بحثه المتكلمون هو حرية الفعل الانساني ومدى علاقته بخالق الوجود وفعله، أما الحرية التي أرخ لها مفكرو “عصر التنوير” في أوروبا؛ لم يبحثها علماء المسلمين بحثاً ضافياً جدلياً مقارناً؛ خصوصاً ما طرحه العقل الغربي حول الحريات الأربع: السياسية والاقتصادية والمدنية والدينية؛ عدا ما ناقشه وحلله وقارنه السيد الشهيد محمد باقر الصدر في كتبه المعروفة.

فنحن بحاجة الى مناقشة واسعة مقارنة ودقيقة وشاملة لموضوع الحرية، يعالج إشكاليات التغريب وحرية التعبير عن الرأي بما يقنع الآخر، ويقنع المسلم المتغرّب. فيما جاءت معالجات السيد المؤمن على شكل خطابات قرانية وفتاوى فقهية !

أقول أن هذه الخطابات والفتاوى هو ما نعتقده نحن ونؤمن به، وليس هو المشكلة؛ بل المشكلة تكمن في كيفية ابرازها بما يتلائم مع فهم الاخر ووعي العصر وثقافيته المعقدة. ثم ما هي المساحة التي شملها التطبيق في ساحتنا الاسلامية حول حرية التفكير والاعتقاد التي تحدث عنها السيد المؤمن في الشق الأول؟ وحرية التعبير عن الفكر والمعتقد في الشق الثاني؟ وما هي استفادتنا من الوسائل والاساليب المتاحة للتعبير في عصرنا الحاضر؟

نعم؛ توجد في الاسلام حرية، ويوجد لها حدود، ولكن هل يكفي أن تحددها كلمة ((المصلحة)) التي أشار لها الباحث المؤمن؟

وفي تعليقه على كلام أحد المفكرين الاسلاميين حول ضرورة اعطاء الفكر الاخر فرصته وحريته لسببين: الأول: الحق، والثاني: الحيلولة دون حصول الفكر الاخر على العطف في الوسط الفكري والثقافي الشعبي، لأن الفكر الاخر إذا يقمع سيوحي للناس بأنه فكر مضطهد ومالك للقوة الذاتية المخيفة للفكر الحق؛ فإن علي المؤمن يضع ثلاثة ضوابط:
1- أن يمتلك الفكر الحق وسائل التعبير المتكافئة من الناحيتين ؛ الكمية والكيفية لتحقيق التوازن.

2- أن يعبر الفكر الاخر عن نفسه ضمن ثوابت اسلوبية.

3- أن لا يمثل الفكر الآخر في نفسه أرتداداً صريحاً عن الاسلام (ص 48(

وعي التراث والعصر لدى الفقيه والمثقف

اهتم الأستاذ علي المؤمن بتحديد مفاهيم المثقف والفقيه والمفكر والتراث والعصر والاجتهاد الجديد والتفقّه والانتلجنتسيا الاسلامية وعلاقة الفقيه بالعصر، والتحديات التي يفرزها ضعف هذه العلاقة. ثم علاقة المثقف المسلم بالتراث، وما يواجه الفكر والواقع الاسلاميين من تحديات في حالة ضعف هذه العلاقة، وموضوع التكامل وأطره بعد استقراء لأدوار الفقيه والمفكر والمثقف ومهامهم. ففي الفصل الرابع عمد الى تحديد مصطلح الفقيه وفرزه عن المفكر والمثقف بما يحتاج الى نظر من حيث التقليل من دور المثقف ووصفه بأنه لا يمتلك رأياً فقهياً أو فكرياً ابداعياً خاصاً به تمييزاً له عن الفقيه والمفكر، بل أنه يحمل الافكار ويستهلكها وينشرها ويشرحها في هذين المجالين! لكنه يبدع في تحديد انطلاقة الفقيه ضمن التحوّل في عملية الاجتهاد، من نقطة وعي العصر وثقافاته وحقائقه وتحوّلاته؛ بل يعتبر السيد المؤمن أساس الاجتهاد والتنظير الفقهي في مجال الحاجات الاجتماعية الجديدة، يقول: ومن خلاله يمكن للفقيه فهم موضوعات الاحكام المختلفة فهماً واقعياً وميدانياً وحسياً ، مقدمة لاصدار الحكم الشرعي الاكثر الصاقاً بالحقيقة (الدين) (ص 94(.

كما اهتم الأستاذ المؤمن بالتراث ووعيه المتحرك من قبل الفقهاء القائمين على عملية الاجتهاد والمعنيين بعملية التجديد، وتسلل من خلال ذلك ليشرك المثقف والمفكر في الاندكاك الواعي ببنية التراث؛ ذلك الشيء الثمين الذي لا يمكن أن تحدث انطلاقة أو نهضة دون صياغة محكمة معاصرة لمحتوياته ليساهم في رسم ملامح التجديد المنشود. ومن هنا ذيّل السيد المؤمن موضوعه هذا بمعايير مصداقية عديدة مستلّة من الواقع كالاستقامة على الدين والانسجام مع الموقع والدور ومواجهة تحديات العصر وإشكالياته ومواجهة محاولات الالغاء. ومرجع هنا ليكفّر عما سبق بالدفاع عن المثقف إزاء المحاولات التي تلغي حركته وتصادر رأيه، بل لم ّ شتات المصطلحات الثلاثة في حلقة أساس هي عملية التغيير الاجتماعي والاصلاح الديني حيث يحصل التكامل الوظيفي المثمر.

ويقوم الباحث المؤمن بعملية فرز دقيق بين دور المثقف في المنظور الغربي والاسلامي؛ فالاول يحصر المثقف بين خيارين؛ الانتماء للسطلة أو اللا انتماء، أما المثقف الاسلامي فله أدوار ومهام عدّة، منها الصعيد الفردي حيث بناء النفس والعقل، والصعيد النظري حيث التخطيط والفقد والمواجهة، والصعيد العلمي حيث تبنّي قضايا المجتمع وممارسة التغيير.

الأدب: أداة أم مساحة للتجديد

من القضايا التي قاربها الباحث قضية الأدب والأدب الإسلامي، وعلاقتها بهاجس التجديد الفكري، وموقع الأديب المسلم بين أنتمائه الإسلامي وانفتاحه على المدارس الأدبية العالمية، ومساحة حركته بين الانتماء والانفتاح. وهي مقاربة ثقافية لموضوعه الأدب جاءت انسياقاً ضمنياً، وليست دراسة نقدية تحليلية لراهن الأدب أو رؤية لأكتشاف وتقييم الأسس المكونة لإبداع الأدب الحديث. تبدأ بتحديد مفهوم الأديب الاسلامي، ثم تصورات عن ماهية الأدب الاسلامي حيث كونه ناتجاً عن أديب إسلامي وحاوياً على تعبيرات ومظاهر إسلامية وأهداف إسلامية .

يعارض السيد المؤمن مقولة الأدب للأدب أو الفن للفن، ويدعو ـ كما هو التصور الغالب لدى الإسلاميين ـ الى ربط الادب بالحياة والثقافة والمجتمع والتغيير، وهو ما يسمى بنظرية الالتزام. و قد جاء البحث هنا على الطريقة السائدة في الساحة الاسلامية من تناول موضوعة الأدب من منظور المضمون والبعد والمعنى والفكر، ولم يمس جوهر العمل الادبي المتمثل بالشكل والصورة والفكرة والاسلوب، فلا خلاف بين كل المؤمنين بنظرية الالتزام أن الادب فعالية يراد لها ان تشارك في صنع الواقع وتصحيح مساره وتوجيه انسانه، ولكن الاشكالية الكبرى التي تواجهها فرضية (الأدب الاسلامي) أن الادب فعالية لغوية بالدرجة الاساس، لا ثقافية فحسب، وهذا يستدعي أن ننتج أدباً فيه إبداع ورؤية فنية عبر تراكم نصوصي يحاور المدرسة الادبية الحديثة التي تؤمن بالابداع والأصالة ، والتي تحاول صياغة هموم العصر بلغته، فاين هذه البحوث المنهمك فيها الاسلاميون من هذه الاشكالية؟

الثقافة والثقافة المضادة 

درس الباحث علي المؤمن قضية الثقافة المضادة للثقافة الاسلامية، والغزو الثقافي الذي يستهدف المجتمعات المسلمة، وحقيقته واهدافه وعوامله المحركة وستراتيجيات المواجهة. و قد بدء بحثه في الفصل السادس بالقول: ان هناك ثقافتين: ثقافة الانبياء وثقافة المشركين، وهما متضادتان في صراع مستمر ممتد لحد الان باسلوب مختلف، وتهدف الثقافة الاسلامية الى إعادة بناء الانسان والمجتمع وتحصينهما ضد الانحراف والتخريب والتبعية للشرق أو الغرب. لكن يمكن للباحث أن يستنتج أهداف الثقافة المضادة والمتمثلة في مهاجمة كل ما يمت للاسلام بصلة وإضعاف أرتباط الأمة بقيادتها وبالدولة الاسلامية والتنظير للفساد الاجتماعي وخلق حالة من التبعية .

ثم يحدد السيد المؤمن مقدمات مواجهة الغزو الثقافي وستراتيجية البناء الثقافي الاسلامي ليتم ربط الفصل بموضوعة التجديد، وهي ستراتيجية ( تنفذها ايدي الامة المتعاضدة؛ يد تهدم الموروث الثقافي المتراكم عن العهود المتخلفة، و أخرى تتصدى للهجمات الثقافية المستمرة، وثالثة تبني الصرح الشامخ للثقافة الإسلامية الأصيلة، ورابعة تبشر الانسانية بهذه الثقافة خلال تنفيذ ستراتيجية البناء الثقافي (ص 151(.

ويختم الفصل بنموذج تحليلي للخطاب الثقافي الاسلامي المعاصر، وهو نموذج خطاب الامام الخميني؛ حيث يعطي الإمام للثقافة بعداً آيديولوجياً، ويرى أنها عملية هادفة، بل وسيلة لتحقيق الأهداف، ويعبر عنها بـ (المصنع). فيما يؤكد الانثروبولوجيون على أصالة الثقافة ومنحها بعداً معرفياً مجرداً ، الأمر الذي يجعلها عرضةً للتسخير بأتجاه المصالح والسياسات والأهداف الشريرة، أو يدعها معلقة جوفاء لا قيمة لها في الحياة الاجتماعية.

السلوك التغريبي في مجتمعات المسلمين 

السلوك التغريبي في مجتمعات المسلمين، وتحوله الى ظاهرة طاغية شديدة الوضوح، والعوامل التي تقف وراءه، وأنماطه وصوره، وذرائع دعاته هي من القضايا التي ركز عليها السيد المؤمن في بحثه. فيقول في الفصل السابع بأن السلوك الذي يعبّر عن ثقافة الانسان ومبادئه، سواء كان فردياً أو اجتماعياً؛ يمثل إرادة الانسان القادر على الفعل والترك من وجهة نظر الاسلام، ولهذا يمثل السلوك التغريبي ـ عند المؤلف ـ إنسحاقاً وهزيمة للذات أمام الآخر. ويميز المؤمن بينه وبين عن الإحتكاك الثقافي الموضوعي مع حضارة الغرب أو التفاعل الفكري، وهو تشبه بالغرب للإستفادة من تقنياته الحديثة؛ بينما يعد السلوك التغريبي وسيلة لدى الغرب لمواجهة النهوض الإسلامي المعاصر.

وهنالك عوامل خارجية تعمق حضور السلوك التغريبي، أبرزها: ممارسات الاستعمار، ومنتجاته الفكرية والسياسية المحلية، والتطور التكنولوجي في الغرب، وانتقال النتاج الغربي المتطور الى مجتمعات المسلمين. أما العوامل الداخلية فيتمثل أبرزها في ممارسات الأنظمة الحاكمة في البلدان الإسلامية، والهزيمة الداخلية لكثير من شرائح وطبقات المجتمعات المسلمة أمام الغرب.

ويقول الأستاذ المؤمن بأن الأنماط الثقافية الغربية المتطورة شكلاً ومضموناً هي عوامل مؤثرة في السلوك التغريبي، وهي في الوقت نفسه ذرائع يتوسل بها دعاة التغريب في المجتمعات المسلمة عند الحديث عن التحديث الثقافي وتطوير أساليب الحياة وعصرنة العلاقات الاجتماعية وعقلنة العواطف (ص 165 ـ 169(.

ويحدد المؤلف الاطار الذي يجمع في داخله مظاهر السلوك التغريبي في المجتمعات المسلمة وهو التناقض والتضاد في المظاهر والسلوكيات الاجتماعية القائمة، ويقول: ((الانزواء والرهبنة ـ مثلاً ـ يقابلهما الانفتاح المطلق، والازدواجية بين الفكر والمعتقد والادعاء وبين التطبيق والممارسة والسلوك العملي)) (ص 170(.

ثم يشير الى التيارات التوفيقية بين الفكر الغربي العلماني والفكر الإسلامي، ويقارن بين السلوك الغربي المتأثر باخلاقيات الإسلام وافكاره، وبين السلوك التغريبي المسافر نحو الغرب وكل شيء، والذي يعني الانهيار النهائي وحدوث الكارثة، ويعزز تحذيره هذا بآراء كثير من الفلاسفة والمؤرخين الغربيين (في القرن العشرين) أمثال “شبنغلر” و”اسفيتسر” و “تويبني” و”دوبو” حول سقوط الحضارات أو تفسخ الحضارة الغربية، حيث نرى عدوى الكثير من الشواهد والمظاهر التي يستدلون بها على احتمالات انهيار الحضارة الغربية، لا زالت تنتقل الى مجتمعات المسلمين انتقالاً سريعا (ص 176(.

وعي العقل الغربي الإستشراقي بالفكر الإسلامي

ويكرس الباحث المؤمن حديثه عن وعي العقل الغربي بالصحوة الاسلامية وبالاسلام تحديداً، حيث درس فيه بدايات الاهتمام الغربي والاستشراقي بالاسلام، والذي أوجد ردة فعل واعية لدى بعض المفكرين فأهتم ببنية فكرية أطلق عليها ((الاستغراب )) في مقابل الاستشراق. ثم تحدث في الفصل الثامن عن اتجاهات وعي الغرب للاسلام وتياراته ونظراته المتفاوتة الى الاسلام، والتي تحاول ان تدرس وتفهم الاسلام من خلال المسلمين والظواهر الخارجية لمجتمعاتهم وليس العكس، وتقويم الصحوة الاسلامية من خلال الرؤية الغربية ذاتها، واقتطاعها من سياقها التاريخي .

بل اكثر من هذا؛ فالغرب يحاول ترويج رؤيته المادية والوضعية ومقولاته لملء منطقة الفراغ في المجتمعات الاسلامية وتطبيقها عندهم في الحكم وآليات، وأثبات اخفاق النماذج الاسلامية المعاصرة وقصورها سياسياً وثقافياً واجتماعياً عن حل مشكلات الانسان المعاصر.

ويدرس علي المؤمن قضية استغلال المصطلحات وإطلاقها بما يتلائم والذوق الغربي قبولا ورفضاً ليستكمل بها مشروع التغريب والتشويه لصورة الاسلام، كما يدرس مستقبل الصحوة الاسلامية عبر مجموعة من الرؤى؛ رؤية الغربيين ورؤية العلمانيين ورؤية الاسلاميين؛ تختلف فيما بينها في الاسس والمناهج ويقوم بتحليل كل رؤية متوسماً ربطها وربط ايحاءاتها بموضوعية التجديد. وبهذا تتم الفصول الثمانية للكتاب .

لا نزال في المنهج .. 

وبرغم افتقاره الى أهم مفصلين من مفاصل التجديد في الفكر الاسلامي وهما الفقه والكلام؛ فإن كتاب الأستاذ علي المؤمن يعد من الكتب القيمة التي تتحدث عن رؤى وأفكار جدية وموضوعية في تجديد رؤية الاسلام للمجتمع والحياة، والتعامل مع موضوعة التجديد بوعي شمولي ومنهجية أصلية.

وبكلمة: الكتاب يبرز رؤية المثقف الواعي الملتزم لموضوعة التجديد ليساهم في ملء منطقة الفراغ التي تخلفها الكتابات العلمية التخصصية في حقول المعرفة المختلفة ويضع لبنةً في بناء التجديد المعاصر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)  كتب الباحث العراقي المرحوم الدكتور محمد سعيد الأمجد هذا المقال بعد صدور الطبعة الأولى من كتاب “الإسلام والتجديد” في العام 2000، ونشره في العدد الثالث من مجلة المستقبلية، بيروت، 2001.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment