الامام الخميني والنجف الاشرف

Last Updated: 2024/05/30By

الإمام الخميني في النجف الأشرف

د. علي المؤمن

الوضع السياسي في العراق

عندما وصل الإمام الخميني الى العراق؛ كانت أوضاع السلطة قد استقرت بشكل نهائي لعبد السلام عارف، والذي كان يظهر نوعاً من الالتزام الشكلي بالإسلام، محاولاً بذلك جلب عواطف الشعب في مقابل إلحاد الحزب الشيوعي وعلمانية (البعث)، إلاّ أنه في الحقيقة رفع لواء الطائفية والتمييز المذهبي؛ فأخذ يبرز هذا المنحى على ومختلف المستويات، حتى بلغ الدوائر الحكومية الواطئة. وتعرض الشيعة لحملة عنصرية واسعة. وجاهر عبد السلام بعدائه للتشيع واتّهمه بالشعوبية والفارسية(*)، وكان هدفه من كل ذلك كسر شوكة المرجعية الدينية وتهميش دور الإسلاميين الشيعة في أحداث البلاد.

وفي محاولة عبد السلام عارف لإرضاء المرجعية وإسكاتها، بعد أن استنكرت الأوضاع الجارية، فقد أوفد مجموعة من كبار رموز السلطة برئاسة طاهر يحيى إليها لهذا الغرض، إلاّ أن السيد محسن الحكيم لم ينظر إلى الأمور نظرة طائفية بحتة، على الرغم من تأثره من التمييز المذهبي، وكان يرى في طائفية الحكم إحدى مفردات عدم شرعية تسلطه على مقدرات العراق، إلى جانب شعاري الاشتراكية والقومية، اللذين حاول فيهما التأسي باتجاه جمال عبد الناصر الفكري وخطه السياسي. ويبدوا أن هذه الاتجاهات العلمانية الثلاثة (الطائفية، القومية والاشتراكية) ليست فيها أية مراعاة لحقائق الجغرافية السكانية في العراق، فالشيعة يشكلون حوالي (64%) من سكان العراق، والأكراد (18%)، وهذان المؤشران هما نقض طبيعي للطائفية والقومية، أمّا الاشتراكية(**) فهي مفهوم لم يهضمه المجتمع العراقي. ومجمل هذه القضايا وضعها السيد محسن الحكيم أمام الوفد عندما طلب منه طاهر يحيى أن يوضع رأيه ورغبته فيما يتعلق بطبيعة الوضع، حيث لم يركز المرجع الأعلى على طائفية النظام فقط. وممّا قاله للوفد:

“أنا لا أرغب أن اذكر لكم إلاّ ما فيه صلاحي وصلاح شعبي على اختلاف ما عندهم(*)، ولا فرق عندي بين عربي وكردي وتركي، فكلهم أخواني وأولادي، أرغب في إسعادهم والمحافظة عليهم بكل ما أوتيت من قوة”(2).

وفي أعقاب رجوع الوفد (صفر اليدين)، حاول عبد السلام بنفسه ولأكثر من مرة أن يزور السيد الحكيم، إلاّ أن الأخير كان يرفض ذلك، ويشترط أن يلغي عبد السلام قانون الأحوال الشخصية والقوانين الاشتراكية أولاً، ثم يوافق على الزيارة.

هذه الأحداث تسببت في سخط حكومة عبد السلام عارف على الشيعة ومرجعيتهم الدينية بشكل أكبر، فاتبعت جراء ذلك أساليب إرهابية لردع المرجعية والحركة الإسلامية والشعب، فزجت بالكثير من الإسلاميين في السجون وضيقت على ممثلي المرجعية، حيث أخرج بعضهم من بغداد ـ بشكل مؤقت ـ كآية الله السيد إسماعيل الصدر(**)، كما اعتقل آخرون كالسيد هادي الحكيم.

وعلى أثر ذلك ـ وبالتحديد بعد الإعلان عن تطبيق القوانين الاشتراكية على لسان طاهر يحيى ـ دعت المرجعية علماء الدين في النجف الأشرف إلى اجتماع جماهيري في مرقد الإمام علي(ع)، عبأت له الحركة الإسلامية الكثير من طاقتها، بالشكل الذي أنجح التجمع في الوصول إلى أهدافه.

وعبّر عن السلام عارف بممارساته تلك عن تنكره لجهود المرجعية والحركة الإسلامية في وقوفها بوجه حكومة عبد الكريم قاسم، حتى تهيأت له ظروف إسقاطها، وكذلك مواجهة الإسلاميين للمد الشيوعي ولسلطة البعث خلال الأشهر التسعة التي أعقبت انقلاب 8 شباط / فبراير.

الإمام الخميني في النجف الأشرف

بعد سلسلة الأحداث الدموية التي بدأت عام 1963 في إيران، أقدمت السلطات البهلوية على إبعاد الإمام الخميني(*) إلى تركيا، ومن ثم إلى العراق، حيث عاش في النجف الأشرف ما يقرب من 15 سنة.

السبب الرئيسي الذي حمل الحكومة الإيرانية على هذا العمل هو طبيعة الوضع الذي يسيطر على النجف، والذي اعتقدت ـ الحكومة الإيرانية ـ أن من شأنه الحد من حركة الإمام، فالحوزة العلمية هناك تضم العديد من مراجع التقليد، ومن الممكن أن يضيع الإمام في زحمة تلك الأسماء الكبيرة، أضف إلى ذلك هيكنة تيار الابتعاد عن السياسة والتفرغ للشؤون الدينية التقليدية على معظم مرافق الجامعة، حيث يبقى الإمام ـ وفقاً لذلك ـ صوتاً منفرداً وغير طبيعي إلى حدٍّ ما، مما يضطرّه إلى السكوت وترك التحرك المضاد لبهلوي، في حين خطط الأخير لعملائه ـ من المحسوبين على الحوزة ـ ليلعبوا دوراً متميزاً في الوقوف بوجه الإمام والتأثير على بعض الجهلاء والبسطاء، بغية إبراز العداء له.

هذا ما تصورته حكومة الشاه وخططت له، في حين أن الإمام الذي كان يحمل في صدره هموم الإسلام ومشروع الثورة الشاملة، لم يعبأ بما يبيته له أعداؤه، ولم يهدأ له بال طوال فترة إبعاده.

وفي 5 أيلول / سبتمبر 1964 وصل الإمام الخميني إلى بغداد، وانتشر الخبر بسرعة كبيرة في أنحاء العراق، حيث استقبلته حشود العلماء والشخصيات الإسلامية والجماهير في جميع المدن التي زارها. ففي كربلاء رفعت لافتات كبيرة ترحب بالإمام، كتب على إحداها (راية الإسلام ترفرف بيد آية الله الخميني).

وعندما توجه إلى النجف الأشرف كانت جماهير المدينة قد استعدت لاستقباله ابتداءً من ناحية الحيدرية(*). وخيّم على النجف جو غير اعتيادي في هذا اليوم، حيث رفعت الأعلام واللافتات في مداخل المدينة وواجهاتها الرئيسية، كتب على بعضها (مدينة النجف الأشرف ترحب بمقدم البطل الإسلامي المجاهد الإمام الخميني). و(جماهير النجف المسلمة تبدي سرورها بمقدم الإمام الخميني رمز التضحية والجهاد).

وفي الصحن العلوي الشريف جرى للإمام استقبال شعبي وعلمائي حاشد، وأقيمت الاحتفالات الكبيرة بهذه المناسبة في المساجد والمدارس الدينية، وعبّر كبار مراجع الدين في النجف الأشرف كالسيد الحكيم والسيد الخوئي والسيد الشاهرودي والسيد عبد الله الشيرازي وغيرهم عن سرورهم لمجيء الإمام، وقاموا بزيارته وتهنئته على سلامة الوصول(3).

والحركة الإسلامية العراقية التي واكبت مسيرة الإمام الخميني، كانت قريبة من معظم الأحداث التي جرت في إيران، ولها موقفها الثابت منها والمتمثل بالمبدئية والشرعية، فتذكر أدبيات (الدعوة) أن تنظيمها ساهم في دعم انتفاضة (15 خرداد) 1963 سياسياً وإعلامياً، ومنه قيامه بتوزيع خطابات الإمام وبيانات الانتفاضة في إيران وبعض الدول العربية والأوروبية.

وعندما حل الإمام الخميني في مدينة الكاظمية، أقامت الحركة الإسلامية حفلاً جماهيرياً كبيراً للترحيب به. كما التقى به وفدان من حزب الدعوة(*)، عرضا عليه خلال اللقاء وضع إمكانات الحركة وطاقاتها تحت تصرفه.

وبعكس ما كان متصوراً، فقد أعطى وجود الإمام الخميني في النجف الأشرف زخماً كبيراً للحركة الإسلامية العراقية، وهيّأ الكثير من أوساط الحوزة لتقبّل أية حالة من حالات المواجهة الشاملة مع السلطة، وأشعر الإسلاميين العراقيين بنوع من القوة؛ نتيجة اتجاه الإمام ومواقفه التي شكّلت حماية لهم في مواجهة السلطات، ودعماً كبيراً لفكرهم وأسلوبهم في العمل.

أما السلطات العراقية فإنها حاولت التقرب إلى الإمام الخميني في إطار التنافس على جلب تأييد مراجع الدين، فعرضت عليه إجراء المقابلات في الصحف والإذاعة والتلفزيون، إلاّ أن الإمام رفض عروض النظام بكل هدوء وذكاء، وفضّل عدم التعامل معه، في حين كان مبعوثو عبد السلام عارف وكبار مسؤولي الدولة يتقاطرون عليه لعرض خدماتهم والسؤال عن وضعه

والاطمئنان عليه. ومزايدة حكومة عارف على الإمام تأتي تزامناً مع التوتر الذي شهدته العلاقات العراقية ـ الإيرانية، فترة أواسط الستينات؛ بسبب المواقف السلبية لمحمد رضا بهلوي من القضايا العربية والعداء المحتدم بينه وبين جمال عبد الناصر، إضافة إلى التوتر بين الحكومة العراقية والمرجعية النجفية.

مخلفات نكسة حزيران

قد تكون الحركة الإسلامية في العراق أول من سعى ـ فكرياً وعملياً ـ إلى إخراج القضية الفلسطينية من محتواها الإقليمي والقومي وإدخالها إلى الحيز الإسلامي العام، وهذا ما تزخر الأدبيات السياسية للمرجعية الدينية في النجف، إضافة إلى جماعة الأخوان المسلمين وحزب الدعوة الإسلامية وتحركاتهم في هذا المضمار. وفضلاً عن أنها خصّيصة تعتز بها الحركة الإسلامية في العراق، فهي ـ في نفس الوقت ـ تبرز الاهتمام الكبير الذي توليه لقضايا المسلمين عموماً والقضية الفلسطينية خصوصاً.

ولم تكن الآثار السلبية التي خلفتها نكسة حزيران / يونيو عام 1967 وقفاً على بلد إسلامي دون آخر، بل طفحت على مجمل البلدان العربية والإسلامية، وعلى وجه الخصوص البلدان ذات التماس المباشر مع الأحداث، كمصر وسوريا والأردن ولبنان، فضلاً عن الأرض المحتلة نفسها.

وعلى صعيد الوضع الإسلامي والسياسي والاجتماعي في العراق، فقد أفرزت حرب الأيام الستة وما أعقبها عدة دلائل وحقائق، أصبح لها وقعها العميق في تاريخ العراق الحديث، حيث أظهرت بشكل عملي تبني الحركة الإسلامية في العراق للقضية الإسلامية في فلسطين، من خلال المساعي الكبيرة التي بذلتها على مختلف الأصعدة لدعمها مادياً وسياسياً وإعلامياً، ففي البرقية الجوابية التي أرسلها إلى عبد الرحمن عارف ـ وأعادت بثها إذاعة بغداد عدة مرات ـ طالب المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم زعماء البلدان الإسلامية رعاية المصالح العليا للأمة ونبذ الخلافات، وأكد على وحدة جميع المسلمين من أجل مواجهة الصهاينة. كما تلقى الحكيم برقية من جمال عبد الناصر تتعلق بالموضوع نفسه. واصدر الإمام الخميني بياناً هاماً ـ أحاطته وسائل الإعلام العراقية بالمزيد من الاهتمام ـ حول الحرب والواجب الملقى على عاتق المسلمين تجاهها، وذلك في أعقاب البرقية التي بعثها عبد الرحمن عارف إليه. وأبرق المرجع الديني السيد أبو القاسم الخوئي إلى رئيس الوزراء أمير عباس هويدا يطالبه فيها بقطع علاقات إيران مع الكيان الصهيوني، وضرورة مساندة البلدان الإسلامية المدافعة عن مقدسات المسلمين في فلسطين، وبعث المرجع الديني السيد عبد الله الشيرازي برقية شديدة اللهجة إلى “هويدا” أيضاً، تتعلق بالعلاقات الرسمية المخزية بين إيران والصهاينة. وأعقبها ببيان يشرح فيه واقع القضية، ويحث المسلمين على دعم إخوانهم الذين يقاتلون المعتدين اليهود.

كما أقام مراجع الدين والحوزة العلمية في النجف الأشرف المجالس التأبينية على أرواح شهداء الحرب، وأقيمت مجالس مشابهة في كربلاء والبصرة ومدن عراقية أخرى. وفي بغداد بادرت جماعة العلماء إلى إرسال بيانات الاستنكار إلى المنظمات والهيئات الدولية، ومن بينها الأمم المتحدة، ونداءات الاستغاثة إلى المسلمين لشحذ هممهم واستنهاضهم. وقد أذيعت هذه البيانات من أجهزة الإذاعة والتلفزيون العراقية.

الهلع الاستعماري

بعد أن لمست الدوائر الاستعمارية ـ عن قرب ـ حقيقة الموقف الإسلامي في العراق، والقوة التي تتمتع بها الحركة الإسلامية، وضعف النظام وعجزه عن مواجهتها؛ بات على تلك الدوائر ـ التي يهمها أمر العراق ـ التحضير لطبخة جديدة، للحد من حصول مفاجآت على صعيد السلطة، والتي لم يكن من الصعب جداً على الإسلاميين نيلها.

وتؤكد مصادر الحركة الإسلامية على أن الإنجليز شعروا بصفّارة الإنذار نتيجة الإنجازات التي حققها الإسلاميون على مختلف الأصعدة. ففي أعقاب الحفل الكبير الذي أقامته جماعة العلماء في بغداد عام 1967 بمناسبة المولد النبوي الشريف، التقى أحد السياسيين المعروفين بولائهم للإنجليز بسياسي آخر، ونقل هذا الأخير مضمون الحديث الذي جرى بين الاثنين إلى عدنان سلمان (أحد كوادر حزب الدعوة الإسلامية)، وخلاصته: “أن التيار الإسلامي أصبح خطراً في العراق، وأن هذه الجماعة ستضرب بعنف”. ثم علّق السياسي ـ الناقل ـ قائلاً إلى عدنان سلمان: “أن المخابرات البريطانية ستضربكم، فقد أصبحتم أقوياء تخوّفون”(8). الأمر الذي يدعم حقيقة التخطيط البريطاني المكثف لضرب الحركة الإسلامية، والبحث عن نظام جديد تتصدى له إحدى المجموعات الموالية للإنجليز، والتي طالما بقيت كاحتياطي مهم يستثمرونه عند الحاجة.

وفي زحمة الصراع الاستعماري الخفي على العراق، شعر الأمريكان ـ أيضاً ـ بالخطر على مصير النظام الحاكم الذي تبنّوه، بعد أن فقدوا الأمل بقدرته على حماية نفسه وضمان استمراره، فضلاً عن خوفهم من احتمالات وصول حكام على ارتباط كامل بالبريطانيين.

هذا الهم الكبير حمله السفير الأمريكي في بغداد إلى النجف الأشرف، لطرح خطوطه العريضة على السيد الحكيم، والوقوف على حقيقة موقفة. وبالفعل التقى بالمرجع العلى الذي فوجئ بالسفير في بيته، بمعية جمع من كبار مسؤولي السفارة. ووجه السفير الأمريكي للسيد الحكيم: “ماذا تريدون من الحكومة القائمة؟ ولم تعارضونها؟” ثم أطال السفير في الحديث عن النظام القائم، وأراد الخروج بنتيجة يقنع بها المرجع الأعلى “هذا الوضع هو أفضل صورة للوضع السياسي في العراق”، فما كان من السيد الحكيم ـ الذي ركن إلى الصمت خلال الحديث ـ إلا أن سلم السفير الأمريكي كتاب “منهاج الصالحين”(*) قائلاً له: “هذا ما نريد……”.

وتصور المبعوث الأمريكي أنه وجد ضالته، إلا أن بعض مرافقيه قالوا له ـ بعد خروجهم ـ : “إن هذه رسالة فقهية.. والمقصود منها المطالبة بتطبيق أحكام الإسلام”.

هذا الأمر جعل أنظار الكثير من السياسيين العراقيين التقليديين تتجه صوب الحركة الإسلامية، فأجرى عبد الرحمن البزاز (رئيس الوزراء في عهد عبد الرحمن عارف) وعدد من رفاقه محادثات مع بعض أطراف المرجعية، بغية تشكيل حكومة “وطنية” تحظى برضى الحكيم، وتعمل على إقامة نظام عادل في البلاد، ومنح الحريات للمواطنين. وفي هذا الصدد يقول السيد مهدي الحكيم بأننا ـ وبأمر من السيد محسن الحكيم ـ أبلغنا عبد الرحمن البزاز بأن موت عبد السلام عارف هو فرصة لتحويل الحكم العسكري إلى مدني، وتشكيل مجلس قيادة من ثلاثة أشخاص، إلا أن البزاز لم يقبل العرض(9).

والتفكير بالوصول إلى السلطة لم يستثن منه بعض ضباط الجيش العراقي من الشيعة، ففي أواخر الحكم العارفي جاء لفيف من الضباط الشيعة إلى الإمام الحكيم، وعرضوا عليه قدرتهم على قلب النظام وتشكيل حكومة بإشرافه ورعايته. إلا أن المرجع الأعلى رفض العرض بشكل قاطع، لأسباب أساسية، منها: عدم إيمانه بنوايا العسكر، وخشية إراقة الدماء، وعدم استمرار الحكم، إضافة الى تقديره بأن الجماهير الإسلامية لا تستطيع إدارة الدولة، أو أنها لا تثبت وتستمر، وبالتالي ستكون نتائج الانقلاب ـ حسب رأيه ـ عكسية.

وهنا يقف المراقب السياسي متأملاً حقيقة نوايا هؤلاء الضباط ومشاعرهم، فقد يكون تفكيرهم طائفياً مشفوعاً بشيء من الصحوة، نتيجة لشعورهم بالاضطهاد والحرمان اللذين تعرض لهما الشيعة على مدى تاريخ العراق، فأرادوا بذلك استغلال الفرصة المؤاتية وتجربة نصيبهم في الحكم، من أجل رفع الحيف ـ الواقعي ـ عن الشيعة. ولعلهم كانوا من طلاب السلطة، فأرادوا

ركوب الموجة والصعود إلى سدة الحكم على أكتاف المرجعية والحركة الإسلامية. فالذي شجعهم ودفع للتفكير بقلب النظام ـ بغض النظر عن حقيقة نواياهم ـ هو المد الإسلامي وضعف السلطة القائمة(*)، فضلاً عن الحريّة النسبية وسهولة تحركهم داخل الجيش.

ومن جانب آخر، لعبت طبيعة تفكير الإمام الحكيم ومنهجه في العمل واجتهاده، دوراً أساسياً في الحيلولة دون موافقته. وهذا ما يدعو للفصل بين منهجي السيد محسن الحكيم والإمام الخميني ـ كمرجعين دينيين عامين معاصرين ـ في العمل؛ فالسيد الحكيم يؤمن بعملية الإصلاح والمقاومة السلمية، وفقاً للظروف المحيطة به، ولم يكن في نيته استلام السلطة، في حين يؤمن الإمام الخميني بالتغيير الشامل وإقامة الحكومة الإسلامية، ويرى أن القوة غالباً ما تكون السبيل الوحيد لمواجهة الطغاة، كما أنه يحمل تصوراً دقيقاً وكاملاً عن شكل الحكومة الإسلامية والسبيل إلى إقامتها.

ويبرز هذان الاتجاهان بشكل واضح من خلال الحديث الذي جرى في 19 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1965 بين السيد الحكيم والإمام الخميني أثناء لقائهما في النجف الأشرف(**). فبعد أن يشرح الإمام للسيد الحكيم طبيعة الوضع في إيران؛ يطلب منه السفر إلى هناك للوقوف عن قرب على حقيقة الأحداث الجارية فيه، فيجيبه السيد الحكيم :

(( وما الذي يمكننا عمله، وما تأثير ذلك؟

الإمام: له أثر قطعاً فنحن بهذه الانتفاضة ( انتفاضة  خرداد 1963) أوقفنا المخططات الخطيرة للحكومة؛ كيف لا أثر له؟! إذا اتحد العلماء فسيكون ذلك مؤثراً!

السيد الحكيم: إن كان فيه احتمال عقلائي. ولا بأس بالتحرك بطريقة عقلائية.

الإمام: له أثر قطعاً، كما رأينا ذلك. وما نريده من التحرك هنا فهو التحرك العقلائي، وليس للتحرك غير العقلائي مجال في حديثنا أصلاً. فالقصد هو تحرك العلماء وعقلاء الأمة.

السيد الحكيم: الناس لا يطيعوننا لو تحركنا بعنف، الناس يكذبون، أنهم عبيد الشهوات، ولا يفتحون صدورهم للدين.

الإمام: كيف يكذب الناس؟! هؤلاء الناس ضحوا بأرواحهم وتحملوا الاضطهاد والمعاناة، وقد سُجنوا وأبعدوا عن ديارهم، وسلبت أموالهم. كيف أن الناس ـ كالبقال والعطار ـ الذين يواجهون الرصاص بصدورهم، يمكن أن يكونوا كذابين؟!

السيد الحكيم: لا يطيعون، طلاب شهوات وأمور مادية.

الإمام: لقد قلت.. أن الناس في الخامس عشر من خرداد عبروا عن شجاعتهم وصدقهم.

السيد الحكيم: إذا أعلنا الثورة وسال الدم من أنف أحد فسيحدث لغط واسع، وسيتكلم الناس عنا بشكل غير لائق.

الإمام: نحن عندما انتفضنا، لم نر من أحد سوى المزيد من الاحترام والتحيات وتقبيل اليد. وكل من تخاذل فقد سمع كلاماً نابياً وأصبح محل عدم احترام الناس. في تركيا ذهبت إلى القرى، فقال لي أهلها.. عندما انهمك أتاتورك بأعماله المعادية للدين، اجتمع علماء تركيا وانبروا يواجهون مخططاته، فحاصر أتاتورك ـ هذه ـ القرية، وقتل أربعين من علماء تركيا. لقد خجلت، وفكرت مع نفسي بأن هؤلاء من السنة. وعندما شعروا بالخطر يتهدد الإسلام، انتفضوا وقدموا أربعين شهيداً. أما علماء الشيعة فإنهم وفي خضم هذا الخطر العظيم الذي يتهدد ديننا… لم يسل الدم من أنوفنا (لا من أنفي ولا من انفك ولا أحد آخر). إن هذا مخجل حقاً.

السيد الحكيم: وما الذي يمكننا عمله؟ يجب أن نضع في الاحتمال الأثر الذي يترتب على التضحيات والقتل.

الإمام: … يجب التضحية، دع التأريخ يسجل بأن الدين عندما تعرض للخطر والهجوم، فإن مجموعة من علماء الشيعة نهضوا وقتل قسم منهم.

السيد الحكيم: وما فائدة التأريخ؟ يجب أن تكون التضحية ذات تأثير.

الإمام: كيف لا فائدة فيه؟! ألم تقدم ثورة الحسين بن علي(ع) خدمة مؤثرة للتاريخ؟

السيد الحكيم: وماذا تقولون عن الإمام الحسن إنه لم لم ينهض(*).

الإمام: لو كان للإمام الحسن أنصار بالقدر الذي لك لانتفض. لقد ثار في البداية ووجد أن أنصاره قد تم شراؤهم. ولذا فإنه لم يستمر. أما أنتم فلكم مقلدون وأنصار في جميع البلدان الإسلامية.

السيد الحكيم: وأنا أرى أن عندي من يطيعني فيما لو أعلنا الثورة.

الإمام: تحركوا أنتم وأعلنوا الثورة، وسأكون أول من يتبعكم.

السيد الحكيم: يبتسم ويصمت”(10).

السؤال الذي يفرض نفسه هنا: كيف أن السيد الحكيم لا يملك الثقة بالجماهير إلى هذا الحد؟ وهي التي لم تتردد يوماً في تقديم فروض الطاعة له، وكانت أحد أهم مصادر قوته وهيبته في مقابل السلطة؟ فلعل قناعة السيد محسن الحكيم ـ هذه ـ قد فرضتها ظروف وخلفيات معينة ترتبط برؤيته لطبيعة الشعب العراقي وتاريخه ومستوى التزامه الديني وتكوينه الاجتماعي. وهذه القناعة قد يختلف فيها بعض العلماء والمتخصصين مع السيد الحكيم، في وقت يوافقه آخرون. وهي عموماً تعبر عن نهجه ـ كما أسلفنا ـ وهو ما هيمن على تحركه منذ بدايات تصديه للمرجعية وحتى وفاته.

أما الدوائر الاستعمارية فإنها لم تعبأ بقناعات الإسلاميين ونوايا المرجعية، بل راحت تبحث بذكاء وسرعة عن البديل المناسب. فالذي يدعوها للمزيد من الاهتمام والإسراع بتنفيذ مخططها هو خطر انعكاس قوة التيار الإسلامي على بعض ضباط الشيعة أو أصحاب الميول الإسلامية، والذي سيؤدي بدوره إلى فوران الشعور الطائفي، الأمر الذي يجعل خطر الانقلاب العسكري محدقاً، فتحركت للحيلولة دون انفلات زمام الأمور من يدها .. ولو لبعض الوقت.

حزب البعث: البديل

استفاد حزب البعث ـ هو الآخر ـ من الجو المفتوح الذي سيطر على عهد عبد الرحمن عارف، فأخذ ينمو بشكل يسمح للدولة الاستعمارية التي تخشى على مصالحها في العراق بالاعتماد عليه. ولم تجد هذه الأخيرة فئة تصلح للمرحلة المقبلة أكثر من حزب البعث، وذلك لعدة أسباب:

1 ـ أن حزب البعث في العراق هو تنظيم علماني يناصب الدين العداء، ويحمل استعداداً لممارسة الإرهاب(*)، فيمكن لهذه الأجهزة أن تقضي ـ بواسطته ـ على التحرك الإسلامي المتصاعد، وهو أحد أهم الأسباب الأساسية من عملية البحث عن البديل.

2 ـ النمو الذي حظي به حزب البعث كان يوفر له مهمة السيطرة على مقاليد السلطة، بعد أن أعاد تنظيمه العسكري في السنتين الأخيرتين وأصبح يضم في صفوفه عدداً من كبار ضباط الجيش العراقي.

3 ـ يتميز حزب البعث في العراق بالإخلاص لأسياده، وهذا ما يطمئن المستعمرين على مستقبلهم في العراق.

4 ـ إن المرجعية والحركة الإسلامية عموماً لم تكونا مدركتين بشكل كامل خطر البعثيين، بل اعتبرتا الشيوعية هي الخطر الذي يتهدد البلاد، وهو اعتقاد لعله أقرب إلى الواقع حينها. وبذلك تستطيع الدوائر الاستعمارية ضمان استقرار حكم البعث في أيله الأولى ـ على الأقل ـ . وعلى الرغم من أن ممارسات البعثيين عام 1963 لم تمح من الذاكرة العراقية، إلا أن الكراهية التي يكنها العراقيون للشيوعيين يندر مثيلها، أضف إلى ذلك أن حجم حزب البعث الضئيل قياساً بحجم الحزب الشيوعي، جعل الكثيرين يتجاهلون الخطر البعثي. وفي الوقت الذي ينصب الاهتمام على إيصال “البعث” إلى السلطة، فإن حزب البعث نفسه كان ـ ومنذ أكثر من سنتين ـ يعد نفسه للانقضاض على مقاليد الأمور.

بداية المواجهة :الشد والتراخي

    عبأ حزب البعث – منذ استيلائه على السلطة- إمكاناته لحرب الحركة الإسلامية في العراق. ومقابل ذلك قرّر الإسلاميون مجابهة الحدث المستجدّ، والدخول في مواجهة غير متكافئة مع السلطة.

وكحقيقة تاريخية فان المعركة بين الطرفين بدأت بمبادرة سريعة من حزب البعث أهلته للانقضاض على دفة الصراع والإمساك بزمام الأمور. في حين ركن الإسلاميون-ابتداءً- إلى الصمت وفضلوا التريث، بغية الوقوف على معالم العدو الجديد ومكامن القوة والضعف فيه، على بينّة من أمرهم. ولكن الذي حدث هو أنهم عجزوا طويلا عن التعامل مع حكم البعث بالمثل، حتى بعد أن أصبح الدمّ هو الفاصل بين الاثنين. وقد فسح هذا الموقف المجال للنظام ليثبت أقدامه بقوة في البلاد، ويبدأ بتنفيذ مخططه بهدوء.

صدر القرار الرسمي بالقضاء على الإسلامية و الوجود الديني في العراق في 4 نيسان/ابريل 1969 عن القيادتين القومية والقطرية لحزب البعث، ونصّ على (ضرورة القضاء على الرجعيّة الدينية باعتبارها العقبة الكبرى في مسيرة الحزب (الحاكم)(1). والرجعيّة الدينية هنا كناية عن الحركة الإسلامية و المرجعية وعلماء الدين. وحيال ذلك فقد اسقط في يد البعث ما كان يحاول التحفّظ عليه وإخفاءه، فقد أصبحت المواجه رسمية و مقننة.

أما التحرش العملي فقد بدأ بمصادرة السلطات للأموال المرصودة لجامعة الكوفة (الخيرية الأهلية) – قيد الإنشاء- والتي تبلغ (4،530،000) دينار(2)، وسحب إجازتها. وتم ذلك تحت ستار القانون الذي أصدرته الحكومة بتأميم جميع المدارس الإسلامية. مع التأكيد على الكلّيات و المعاهد والمدارس الإسلامية.

وقد احتج الإمام الحكيم على إلغاء مشروع جامعة الكوفة و مصادرة أموالها، إذ قابل نجله السيد مهدي الحكيم أحمد حسن البكر (رئيس الجمهورية) وأبلغه احتجاج والده(*).

وحين اشتعلت الخلافات بين حكومتي البعث في العراق و(بهلوي) في إيران شعر النظام العراقي بأنه وجد مبرراً أكثر إقناعاً في ضربه للإسلاميين، و المرجعيّة على وجه الخصوص. فقام أحمد حسن البكر بزيارة مفاجئة إلى أية الله السيد محسن الحكيم في بيته دون موعد مسبق ،وطلب منه التوسط لدى حكومة الشاه،من أجل تسوية الخلاف بين النظامين. وأراد النظام البعثي بذلك القول بأن علاقة الشاه مع السيد الحكيم جيدة و متميزة، بحيث يمكنه التوسط لديه، ولكن السيد الحكيم رفض التدخل في الموضوع ابتداء”.

وبادرت طهران رسميا في 27نيسان/ابريل1969-بعد تصاعد خلافاتها مع بغداد- إلى إلغاء معاهدة 1937 الحدودية بين العراق وإيران. وبذلك وصل التضارب في المصالح بين الولايات المتّحدة الأميركيّة وبريطانيا قمته في هذين البلدين.

واستغل النظام العراقي هذه الأجواء الحادة ليقوم بحملة قاسية و شاملة ضد العراقيين من ذوي الأصول الإيرانية و الإيرانيين المقيمين في العراق، فبدأ في بغداد والكاظمية بحملة التهجير المجتمعية الأولى في أواخر نيسان/ابريل1969، ثم شملت النجف الأشرف (5أيار/ مايو من نفس السنة) وسامراء وكربلاء وعدداً آخر من المدن. وقد قررت القيادة البعثية تهجير أكثر من نصف مليون نسمة أي 6% من نفوس العراق إلى إيران، و يشمل ذلك أعدادا” كبيرة من العلماء و الشخصيات الإسلامية.

وصادف حملات التهجير أيام أربعين الإمام الحسين (ع) ووجود آية الله الحكيم في كربلاء، الذي احتج بشدة على ممارسة السلطة وأقفل زيارته للمدينة راجعاً إلى النجف الأشرف. وحاولت السلطة احتواء أي رد فعل جماهيري وديني،من خلال تهدئة المرجعية و علماء الإسلام، فالتقى حردان التكريتي بالسيد أبي القاسم الخوئي وكبار المراجع و العلماء في النجف الأشراف،باستثناء الإمام الخميني، الذي لم يدع للاجتماع بناءً على رغبة الأطراف المعنية.

وأعاد النظام من خلال مبعوثه قضية وساطة السيد الحكيم بين الحكومتين العراقية و الإيرانية، على أساس انسحاب إيران من مياه الضفة الغربية لشط العرب، والعودجة إلى اتفاقية1937، مقابل إيقاف التفسيرات والإفراج عن المعتقلين. وفي هذا الصدد يقول حردان التكريتي:

“وقد جرت بيننا محادثات دامت أكثر من ساعتين ونصف الساعة، شعرت بعدها أن الشيخ الحكيم قوي وذكي إلى درجة كبيرة، و انه يؤمن باستمرار ولاء الشعب العراقي له أكثر من اللازم”.

وفي نهاية الاجتماع- يقول التكريتي- وافق السيد محسن الحكيم على الوساطة “بشرط واحد هو:أن تطلب الحكومة العراقية هذا الأمر منه رسمياً وبتوقيع شخص رئيس الجمهورية حتى يحق له التدخل في القضية…. بالإضافة إلى الكف عن عمليات الإرهاب والاعتقال، والإفراج عن المساجين الذين كان عددهم آنذاك خمسة وعشرين ألف سجين، وإنني أفكر الآن ان ذلك كان نابع من ذكاء الشيخ الحكيم الذي عرض علينا شروطاً تعجيزية حتى يتهرب من الوساطة”(3).

وكان المسؤولون في النجف الأشرف قد اجتمعوا بالإمام الخميني في 29 نيسان/ابريل1969 وبحثوا معه القضية ذاتها، الإمام بالاستنكار الشديد لممارسات السلطات الوحشية، وواجهم بالحقائق والأرقام الدامغة. ونتيجة لموقفه الصارم من الحكومة البعثية، فإن الأخيرة طلبت منه ترك العراق خلال أيام،ولكنها تراجعت عن قرارها خوفاً من حدوث ما لا يحمد عقباه.

وكثيراً ما خشي الإمام الخميني من تمكن البعثيين من تمرير لعبتهم، المتمثلة في إظهار السيد محسن الحكيم بمظهر المتعاطف مع إيران، وان معارضته لحكمهم هي بسبب الخلافات بين البلدين ووقوف المرجع الأعلى إلى جانب إيران. وعبّر الإمام عن ذلك من خلال الرسالة الشفوية التي أرسلها للسيد الحكيم بواسطة نجله الكبير السيد مصطفى. ويبدو أن السيد الحكيم وقف في الوساطة حيال هذه القضية، إذ لم يسمح بتمرير اللعبة.. كما لم ينسفها من الأساس.

وفي هذه الفترة حاول صدام حسين- من خلال العديد من الوسطات-زيارة الإمام الحكيم، الإمام الحكيم، إلا أنه لم ينجح في ذلك، حيث كان المرجع الأعلى يرى أن صداماً لا يحمل صفقة رسمية في الدولة، بل إن منصبه حزبي ولا يصح أن تلتقي المرجعية رسمياً بحزب البعث.ثم صلب أن يأتي السيد مهدي (نجل الإمام الحكيم) لمقابلته في القصر الجمهوري، فطلب السيد مهدي أن يأتي صدام نفسه لمقابلته. وفي المحاولة الرابعة طلب صدام حسين عقد اجتماع ثلاثي يضمه مع السيد مهدي الحكيم وأحمد حسن البكر، فقال السيد مهدي لمبعوث صدام: “أنا لست مستعداً لذلك، يأتي إلينا أهلاً وسهلاً..لا يأتي في أمان الله“(4).

وفي غمرة الأحداث أقيم في مرقد الإمام علي(ع) في النجف الأشراف مؤتمر جماهيري حاشد ذو طابع احتجاجي، بدعوة من الإمام الحكيم الذي حضرة شخصيا”، إلى جانب جمع غفير من المراجع وعلماء الدين، كالسيد الخوئي والشيخ مرتضى آل ياسين والسيد عبد الله الشيرازي والسيد محمد باقر الصدر. وألقى السيد مهدي الحكيم كلمة في المؤتمر نيابة عن والدة، تضمنت نقداً حاداً للنظام الحاكم، و تطرق فيها إلى مجمل القضايا التي شغلت الشارع العراقي طوال فترة الحكم الجديد، كمطاردة الإسلاميين و حملات التهجير ومصادرة الحريات والتضييق على الحوزة العلمية وعلماء الدين. وعبّرت الكلمة عن الموقف الإسلامي تجاه الأحداث الجارية في البلاد بشكل عام وموقف المؤتمرين بشكل خاص(*).

لقد مثل مؤتمر28 صفر(14آيار/مايو1969) ـ المذكور ـ آخر رد فعل قوي من جانب الإسلاميين في عهد مرجعية آية الله الحكيم. فبعد أن وقف الحزب الحاكم على النتائج الايجابية لاستفزازاته للإسلاميين، وامتص الحسم في مواقفهم، فإنه قرر وضع حد للمناورات وأساليب الخداع التي سبق له ممارستها،وبدأ بتنفيذ مخططاته بكل علانية ووضوح، تقديراً منه بأنه بات يمسك بقوى بزمام الأمور، متخطياً كل المخاطر و المشاكل التي تتهدده جراء معاركه مع القوى الداخلية و الخارجية، كالاتجاهات السياسية المختلفة و المرجعية الدينية والإسلاميين في الداخل، وإيران وما تمثله من ثقل في المنطقة وامتدادات في المجتمع العراقي وبعض الدول المجاورة في الخارج. ويمكن القول بأن رفض المرجعية الدينية لطلب النظام بحل خلافاته مع إيران الشاه، ومؤتمر28 صفر الإسلامي الأخرى، هي التي حملت النظام على الشروع بردّه العلني والحاسم هذا.

لم تمض بضعة أيام على المؤتمر حتى شنت السلطة حملة اعتقالات جديدة في 18آيار/مايو1969، شملت عدداً من علماء الدين، بينهم عالم الدين السني والقيادي في جماعة الاخوان المسلمين الشيخ عبد العزيز البدري في بغداد(*) وعامل الدين الشيعي السيد حسن الشيرازي في كربلاء. وتعرض هؤلاء لصنوف التعذيب في زنزانات قصر النهاية الرهيب، من أجل حملهم على الاعترافات بالتجسس و العمالة، و جراء ذلك قتل الشيخ البدري تحت التعذيب(بعد تهشيم جمجمته) في15تموز /يوليو1969، رموا بجثته المجزرة قرب داره.

أما السيد حسن الشيرازي فقد عرضت عليه السلطات قائمة بأسماء (300) شخصية إسلامية بارزة، بينهم عدد من المراجع وعلماء الدين، كالسيد محسن الحكيم والإمام الخميني و السيد موسى الصدر، وحاولوا تحت مختلف الضغوط وصنوف التعذيب إجباره على الظهور في وسائل الإعلام و الإقرار بأن هؤلاء جواسيس وعملاء لجهات أجنبية، إلا أنه رفض(5).

وقد سبقهما إلى معتقلات قصر النهاية  الشيخ محمد علي التسخيري(*) وهو أول كادر في حزب الدعوة يتم اعتقاله في العراق، وذلك في 24 آذار/مارس 1969، وقد عرّضته السلطة لأشد صنوف التعذيب خلال شهرين تقريباً، بهدف الحصول على اعترافات منه حول طبيعة علاقته بالإمام الحكيم و نشاطه الإسلامي وارتباطاته التنظيمية، ولكنها لم تحصل منه على أية معلومة.

واحتجاجاً على ما يجري في البلاد عموماً وما يتعرض له الإسلاميون خصوصاً، فقد أرسلت جماعة علماء بغداد والكاظمية في 7حزيران/يونيو1969 مذكرة إلى أحمد حسن البكر، طالبت فيها بإفساح المجال أمام الفكر الإسلامي وحقه في استثمار وسائل الإعلام ـ بما فيها الصحف ـ وإيقاف حملات الاعتقال ومطاردة المؤمنين، وفك الحصار عن الحوزات العلمية الدينية، ووضع حد للتيار الطائفي في البلاد كنتيجة طبيعية لممارسة السلطة.

موقف المرجعية

كرد منطقي على المؤشرات الأولى لتنفيذ النظام الحاكم قراره العلني بالقضاء على الإسلام و التشيع في العراق، فقد رأى الإسلاميون أن تسعى المرجعية الدينية من أجل الإمساك بزمام المبادرة، في محاولة جادة للالتفاف على مخططات السلطة. واتخاذ حزب الدعوة- بطلب من السيد محمد باقر الصدر و السيد مرتضى العسكري وبعض قادة الحزب-موقفاً انطلاقاً من قراءة واقعية للساحة، محاولاً تجاوز بعض الحواجز(التنظيمية والحزبية) التي- ربما- تحول دون بدء الصراع، يبقى بحاجة إلى قرار المرجع الأعلى . فبالإضافة إلى الضرورات الموضوعية المتعلقة بظروف المتعلقة بظروف حزب الدعوة المرحلية، كما كانت تؤكد قيادته، فإنه لم ينقطع عن التفكير في إحداث موقف موحد مع المرجعية الدينية.

وفي نفس السياق عقد(70) عالماً في بغداد اجتماعاً استشارياً بطلب من الإمام الحكيم، لبحث الوضع عموماً و الموقف الذي يجب اتخاذه، وانتخب المجتمعون عشرة علماء لعرض ما توصلوا إليه على الإمام الحكيم، وكان بينهم: السيد مرتضى العسكري والشيخ علي الصغير والسيد محمد الخلاني والسيد هادي الحكيم. واستقر الرأي بشكل نهائي على أن يتجه سماحته إلى بغداد كإيحاء بالاحتجاج. وعندما سافر السيد الحكيم بدأت الوفود بالتقاطر على محل إقامته، مما أشعر السلطة بخطورة هذه الخطوة، فأعادت ترتيب أوراقها بالشكل الذي يتلاءم مع التطور العائد عليها بجملة من السلبيات.

وفي أعقاب ذلك مباشرة، أي في حزيران/يونيو1969 اجتمع وفد رباعي يمثل قيادة حزب الدعوة الإسلامية مع السيد محسن الحكيم في مدينة الكاظمية لبحث الموقف المستجد، وضم الوفد كلا” من عبد الصاحب دخيل و السيد حسن شبّر والسيد فخر الدين العسكري ومهدي السبيتي، بحضور السيد مهدي الحكيم و السيد باقر الحكيم، وأعلن الحزب في هذا اللقاء عن استعداده للمساهمة في مواجهة السلطة كخط أمامي للمرجعية الدينية، أن يضطر الحزب للإعلان عن اسمه صراحة. وعرض الوفد على المرجع الأعلى قيام الدعوة بتحريك الجماهير وغلق الأسواق وإقامة التظاهرات و تصعيد الموقف ضد النظام الحاكم، كخطوة أولى في عملية الصراع؛ للحيلولة دون قيام السلطة بعمل كبير معاد للمرجعية و الحوزة العلمية و الحركة الإسلامية، فإن المبادرة بمثل هذه الإعمال على حد قول الوفود ستكبح جماح النظام. إلا أن الإمام الحكيم عبّر في رده على ما عرضه ممثلو حزب الدعوة و سلامته و استمرار حركته حين أكد على ضرورة بقائه بعيداً عن أعين السلطة و سطوتها لئلا يكشف ويضرب، ومما قاله: “لا أريد ذلك ينبغي أن يكون هذا الحزب مخيفا”(6).وتعبر نتائج هذا اللقاء عن رؤية آية الله السيد الحكيم لقضية المواجه مع السلطة البعثية في هذه الفترة، بعد أن كرر تأكيداته على عدم توافر الظروف الموضوعية والإمكانات اللازمة لها، هذا من جانب، ومن جانب أخر فإن اللقاء أوضح موقف الإسلاميين من الأحداث، وأكد ارتباطهم العضوي بالمرجعية الدينية.

وفي أيام مكوثه القليلة في بغداد زار السيد الحكيم جمع من رجال السلطة و مسؤوليها، كخير الله طفاح (محافظة بغداد)وحامد العاني (مدير الأمن العام) كمبعوثين شخصيين لرئيس الجمهورية وحماد شهاب (وزير الدفاع) وعبد الحسين ودّاي وزير الزراعة(*).

ودارت مجمل مطاليب هؤلاء حول محور واحد، يتمثل في إقناع المرجع الأعلى بتحسين موقفه من النظام والكف عن معارضته له. فواجههم السيد الحكيم بالشكل الذي زاد من حقنهم وحقدهم، إذ طالبهم في المقابل بالكف عن ملاحقة العلماء واعتقالهم و مطاردة الأبرياء، إضافة إلى إطلاق سراح المعتقلين.

هذه الأمور أثارت النظام وفي مقدمته أحمد حسن البكر، ودفعته للإقدام الفوري على تنفيذ الفصل الحاسم والهام من مخطط حزب البعث القاضي بإنهاء وجود المرجعية الشيعية وامتداداتها  إنهاء كاملاً، ليس في العراق فحسب، بل في جميع أنحاء العالم. وقد كشف ذلك حردان التكريتي، حيث يقول بأن البكر “دعانا إلى الاجتماع به، حيث كلّف لجنة مؤلفة من طه الجزراوي وناظم كزار وعبد الوهاب كريم وشبلي العيسمي وصالح مهدي عماش، بوضع خطة لذلك، وذكر: أن نجاحنا في ضرب المرجعية الشيعية سيمكننا من التحرك كما نريد لأنه سيصفي لنا الجو بالتخلص من أكبر قدرة لا مصلحة لها في التقرب من الحاكم- كما ظهر الآن- وهي قدرة تتمتع بسلطة كبيرة على الشعب، ولا تبالي بالموت. وثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني أكبر دليل على ذلك.

ثم أخرج… رسالة جوابية من عفلق، حيث يظهر أنها كانت بشأن المرجعية الشيعية التي بدأت تقلق بال الحكومة، وتثير في وجهها بعض الصعوبات، وقد قرأ الرسالة التي ذكر فيها عفلق أنه سيصل إلى بغداد قريباً، ليبحث الموضوع من كافة الجوانب”

ثم تم الاتفاق على الخطوات التالية:

1- استمرار الحماة ضد رجال الدين، واعتقال أكبر عدد ممكن منهم، و الإعلان عنهم كجواسيس يعملون لحساب إيران بدل إسرائيل، لأن عمالة رجال الدين لإسرائيل أمر لا يمكن تصديقه، ولكن ما دامت إيران دولة شيعية فإن من المحتمل تصديقه، ولكن ما دامت إيران دولة شيعية فإن من المحتمل تصديق عمالتهم لإيران.

2- التسلل إلى صفوف رجال الدين الشيعة في محاولة لاحتوائهم، وضرب بعضهم ببعض.

3- اختلاف مجموعة رجال الدين المزورين، وفرضهم على الشعب

4- القيام باغتيالات فردية في صفوف رجال الدين القاطنين في إيران، لبنان،الهند،باكستان وأفغانستان.

5 – تقليص نشاطات رجال الدين وحصرها في إقامة الصلوات وإعطاء المسائل الشرعية. وذلك بإلغاء إجازات مدارسهم ومستثنياتهم ومكتباتهم العامة ومصادرة أموالها أو تجميد أرصدتها(7).

وبغض النظر عن الطريقة الخاصة التي يسلكها حردان التكريتي- في المذكرات المنسوبة إليه- خلال عرضه لهذه الحقائق، والتركيز على بعضها وإهمال أخرى، فإن حديثة يمثل أيضاً جانباً أساسياً من طبيعة المواجهة بين حزب البعث الحاكم و الإسلاميين، وضخامة هذه المواجهة وعمقها. وتكفي ملاحظة كل ذلك لتقويم موقف الإسلاميين وردود فعلهم  تجاه مخطط السلطة الكبير.

وبعد ساعات من إحتماع ممثلي “الدعوة” بالإمام الحكيم في 9 حزيران/يونيو1969، ظهر مدحت الحاج سري(*) على شاشة التلفزيون ليكشف عن (المؤامرة)  التي يقف على رأسها للإطاحة بالنظام الحاكم، بمساعدة إيران وأميركا والصهيونية!، وليتّهم السيد مهدي الحكيم بالعمل لحساب إيران والملا مصطفى البرزاني. وبهذا توجه السلطة ضربة مباشرة تماماً لشخص المرجع  الأعلى، لأن المتهم هو نجله ومعتمده(*)، ورافق ذلك حملات اعتقال واسعة في صفوف علماء الدين.

وفي اليوم التالي(10 حزيران/ يونيو1969) اقتحمت قوات السلطة مقر إقامة آية الله الحكيم في بغداد، من أجل إلقاء القبض على نجله السيد مهدي، الذي تمكن من ترك العراق بعد فترة من التخفي. ثم أخذت السلطات السيد الحكيم عنوة بسيارة حكومية وأرسلته إلى مقره في الكوفة، ثم وضعته تحت الإقامة الجبرية المشددة، وقطعت عنه الماء و الكهرباء و الهاتف.

ومن هذه الحادثة بالذات بدأت مرحلة الهستريا البعثية، وأخذت بالتصاعد يوماً بعد آخر، وإحدى مفرداتها خروج مجموعة من البعثيين بزعامة عبد الحسين الرفيعي(مسؤول تنظيم حزب البعث في النجف) على مظاهرة مسلحة صاخبة، حاولت الهجوم على بيت السيد الحكيم في النجف الأشرف، ورمته بالحجارة ودنّست جدرانه وبابه بالطين والغائط.

جدير بالذكر أن الذين قاموا بهذه الفعلة هم من أبناء النجف الأشرف نفسها من الذين تفاعلوا مع المرحلة و تمكنوا خلالها من التعبير عن طبيعة علاقتهم المريرة بمجتمعهم الديني والعثور ذواتهم بعد أن عجزوا عن إيجاد مكان لهم فيه، وحينها لم يتأخروا عن الانتقام واستثمار الفرصة التي حانت لهم. وفي هذه الفترة سافر آية الله إلى لبنان لتصعيد الموقف من الخارج. وهناك حرّك المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى لتبني القضية، فقام السيد موسى الصدر بالبراق إلى جميع رؤساء وملوك العربية والإسلامية، يشرح لهم المأساة ويدعمهم للتدخل، وقد أجابه على ذلك عدد منهم، كجمال عبد الناصر و الملك فيصل و الرئيس اليمني. ويذكر أيضاً أن الشيخ أبا الأعلى المودودي (زعيم الجماعة لإسلامية في باكستان)وجملة من السياسيين السنة استنكروا الموضوع وأعلنوا تأييدهم للنجف الأشرف(8).

إن حالة الإرهاب التي أوجدها النظام، أدت إلى نوع من الرعب غير الطبيعي في معظم أوساط المحيطين بالسيد الحكيم، فلم يتجرأ معظم قطاعات الجامعة العلمية على عمل شيء مؤثر من شأنه فك الحصار عن المرجع الأعلى.. أو حتى زيارة في مقر إقامته – على الأقل-. والذين زاروا السيد محسن الحكيم- وهو تحت الحصار- لم يتعدوا عدد من الذين باعو أنسهم لله وتحدوا قرارات السلطة، كالإمام الخميني وآية الله الخوئي والشيخ أحمد الطرفي والسيد مصطفى الخميني(9).

وعزلة السيد الحكيم والضربات التي تعرض لها- كمرجع أعلى- تثير الكثير من التساؤلات، حول الحالة التي وصلت إليها المرجعية في بدايات عهد البعثيين!، المرجعية التي كانت إذا غضبت يغضب معها عشرات الملايين من المسلمين الشيعة في أنحاء العالم، وتخضع لإرادتها جميع القوى و الاتجاهات الإسلامية السياسية و الاجتماعية. وقد يعتبر بعض المحللين أن ذلك مصداق واقعي لصواب منهج السيد الحكيم في التحرك، ورأيه في الجماهير و الشعب العراقي..

ولكن الصمت الذي ركنت إليه قطاعات واسعة من الأمة، قابلته قطاعات  أخرى بموجة من الغضب و العنيف. ومدينة البصرة مصداق واضح لهذه الحقيقة. فتنظيم حزب الدعوة في البصرة – وهو من أقوى وأوسع تنظيمات الدعوة في العراق- اتخذ قراراً فورياً بالتحرك، فاشتعلت المدينة بالتظاهرات ثلاثة أيام متوالية، وكان بين المتظاهرين آلاف المسلحين من أبناء العشائر وغيرهم، واعتبرت مدينة البصرة (ثاني مدن العراق) خارجة من يد السلطة، حتى إن بعض قادة الجيش و الشرطة كانوا يتصلون سراً بمن يعتقدون أنه من قيادات الانتفاضة لترتيب موقف موحد وإعلان استعدادهم لدعمها، فيما لو كان في نية الإسلاميين القيام بثورة شعبية مسلحة للإطاحة بالنظام. وكانت الجماهير تنتظر موقفاً من وكيل الإمام الحكيم في البصرة لتأخذ الانتفاضة طابعاً آخر، إلا أنه أشار عليهم بالهدوء وضبط النفس (لعدم وجود أوامر من النجف). وكانت الانتفاضة مرشحة لتجتاح الجنوب و الوسط، حيث خرجت بالفعل تظاهرات مسلحة كبيرة في الناصرية والميثة والفاو والحي وغيرها، الأمر الذي شجع تنظيم “الدعوة” في البصرة على طرح فكرة عصيان مدني في كل العراق. إلا أن الظروف العامة و الإمكانات و طبيعة المرحلة التي يمر بها الحزب، لم تسمح لقيادته العليا و الإمكانات و طبيعة المرحلة التي يمر بها الحزب، لم تسمح لقيادته العليا بالاستجابة للفكرة وتنفيذها.

وفي النجف الشرف حاولت مجموعة من العلماء وطلبة الجامعة العلمية زيارة السيد محسن الحكيم على شكل وفد كبير في مقر إقامته في الكوفة، إلا أن السلطة فرقتهم باستعمال القوة و حاولت دون تحقيق هدفهم.

وامتلأ الشارع العراقي بالشائعات حول ما آل إلية وضع السيد الحكيم، وقراره باعتزال المجتمع و الناس، وعدم خروجه من مقر إقامته.فاجتمع به الإمام الخميني في 15حزيران/يونيو1969، وعرض عليه رأيه بضرورة كسر هذهٍ العزلة التي ليست فيها أية مصلحة للإسلام والمسلمين، وإن المرجع أو القائد يجب أن يكون بين الجماهير دائماً، كما طلب منه الانتقال إلى بيته في النجف الأشراف و فتح بابه للناسٍ ونزل السيد الحكيم عند رأي الإمام، وأخذ يتردد على النجف الأشراف كل يوم جمعة لزيارة مرقد الإمام أمير المؤمنين(ع)، حتى أصبح تواجده الأسبوعي ومقالته مع العلماء والطلبة والمؤمنين في الصحن العلوي شيئاً طبيعياً، بعد أن كان الكثيرون حتى من الاقتراب منه (10).

ويشير أحد المصادر إلى أن حكومة البعث عندما رفض السيد الحكيم القاطع للوساطة بينهما، لجأت إلى أساليب أكثر تأثيراً، فسعى محافظ كربلاء شبيب المالكي إلى توسيط السيد الخوئي لدى السيد الحكيم، في محاولة لحملة على تجنب معارضة الحكومة البعثية، في مقابل إغلاق ملف لاتهام نجله السيد مهدي الحكيم، بالجاسوسية، وإطلاق سراح طبيبة الخاص الدكتور كاظم شبر وعدد من العلماء و الشخصيات الإسلامية. ولم يجن النظام من محاولاته المتكررة مع السيد الحكيم سوى المزيد من الرفض والاستنكار.

وفي خضم هذه الأجواء الخانقة أرتفع صوت الإمام الخميني بكل قوة وجرأة، محطماً الصمت و العرف اللذين فرضهما(علماء الحيض والنفاس)- كما يصفهم هو- كناية عن العلماء القاعدين وغير العاملين، فقد بادر الإمام الخميني- ابتداءً من 21 كانون الثاني/يناير1970- إلى طرق باب في غاية الأهمية من أبواب الفقه الإسلامي على طاولة البحث والدرس، هو باب الحكومة الإسلامية أو “ولاية الفقيه” مؤكداً في محاضراته التي ألقاها على طلبة الدراسات العليا (البحث الخارج) في الحوزة العلمية في النجف الأشرف على مسألة ضرورة تأسيس الحكومة الإسلامية وبناء أجهزتها، ووجوب رعاية علماء الدين الأمة رعاية حقيقية، ورئاستهم للدولة. ودعاهم إلى الجهاد و مقارعة الحكومات الفاسدة و الظالمة، كما فضح الأنظمة السياسية الوضعية و الدول الاستعمارية. وأشار من طرف آخر إلى حقيقة أن “الإسلام دين عبادته سياسة وسياسته عبادة“(12)، مما أحدث ضجة واسعة في النجف الأشرف، وأثر على الوضع الخاص للحوزة العلمية والوضع السياسي العام. ولم يهدأ ضجيج بعض الحوزويين و صيحاتهم نتيجة المدخل الخطر الذي دخله الإمام! كما لم تهدأ المؤتمرات التي حكيت ضده من قبل الأوساط المتضررة بذلك، وخاصة النظامين الحاكمين في بغداد وصهران، وعملاءهما المعششين في زوايا الجامعة العلمية، والذين عملوا بكل دأب على إثارة حفيظة بعض البسطاء و غير الواعين ضد الإمام.

أما حركة الإسلامية العراقية فإنها عبرت عن تفاعلاتها مع أراء الإمام الخميني، فقد تبنى الشيخ محمد مهدي الآصفي مراجعة الترجمة الطلابية لتلك المحاضرات وتصحيحها، بعد أن دأب على حضور دروس البحث الخارج (الدراسات العليا) للإمام الخميني طوال سنتين. كما طرح السيد طاهر أبو رغيف موضوعها في كتابه (أدب الدعاء)، وأكد عليها. وتبنى بعض التنظيمات الإسلامية تدريسها في اجتماعاتها. وعلى العموم فإن علماء الحركة الإسلامية و قيادتها اعتبروا مبادرة الإمام الخميني نصراً لهم في مواجهة بعض الأوسط التي تستنكر أي وجه من أوجه العمل السياسي.

وفاة الإمام الحكيم

هدأت حدة التسفيرات (إلى إيران) أشهراً معدودة، ثم استأنفتها السلطة من جديد بشكل واسع، حتى وصلت ذروتها خلال الأيام الأخيرة من عام 1970 وكانون الثاني/يناير1971، واستمرت حتى عام 1975، حيث هجّر خلال هذه الفترة أكثر من (100) ألف مواطن (من المسلمين الشيعة) إلى إيران، من مختلف الأوساط و الطبقات(*)، و بحجج و دوافع مختلفة، أهمها انتماء المهجرين إلى أصول إيرانية.

وظروف التهجير كانت أكثر من قاسية؛ فقد أعطيت العوائل مهلة قصيرة لا تتجاوز الستة أيام، لتنهي كل ارتباط لها بوطنها و أهلها، و تغادر إلى بلد لا تعرفه كثيراً، وذنبها أنها تعيش في العراق يحكم “البعث”.

رحلت تلك الآلاف مودعة ترابها عن طريق الحدود الصحراوية الشرقية للبلاد سيراً على الأقدام، مجتازة الهضاب و الجبال و الوديان الموحشة، في الشتاء كانون الثاني القارس، وتحت رحمة الثلوج والبرد، مما أدى إلى موت أعداد من الأطفال و النساء و الشيوخ، كما أجهضت الكثيرات من الحوامل أو وضعن في الطريق. وشملت حملات التهجير أيضاً العديد من العلماء والطلبة الدينيين في النجف الأشرف وكربلاء والكاظمية وسامراء، بالشكل الذي أربك الوضع في الحوزات العلمية.

ووجدت المرجعية الدينية نفسها في موقف الدفاع عن هؤلاء البؤساء، وهو موقف تفرضه الشريعة والإنسانية، إلاّ أن حاول من خلال هذا الموقف أن يحصد – في النهاية- ما يزرعه السيد الحكيم من مناهضه شديدة له.

ويرى قسم من المطلعين و الباحثين أن الحزب الحاكم استطاع أن يبني حاجزاً بين السيد الحكيم وبين قطاعات واسعة من الجماهير.بينما يرى آخرون العكس تماماً، وهو يؤكده السيد الحكيم نفسه. فعندما ذهب المرجع الأعلى إلى لندن للعلاج بعد إصابته بالسرطان، سأله نجله السيد مهدي عن نتيجة إلى لندن للعلاج بعد إصابته بالسرطان، سأله نجله السيد مهدي عن نتيجة معارضته و محاربته للبعثيين، فأجاب قائلاً: أنا أرى أنني إن لم أجن من محاربتي  أي شيء، يكفي إني وضعت حاجزاً بينهم وبين الناس.

انتظر الحزب الحاكم موت الإمام الحكيم بفارغ الصبر؛ للفتك بالحركة الإسلامية وعلى وجه التحديد بعد حملة الاعتقالات العشوائية الأولى في الفصائل الإسلامية، واكتشاف السلطة لبعض خطوطها التنظيمية، نظراً لما يمثله آية الله الحكيم من حماية وقوة للوجود الإسلامي في العراق حتى في مرحلة اشتداد المحنة.

وعاد السيد من لندن بعد أن فقد الأطباء كل أمل في شفائه ليرقد مرة أخرى في مستشفى إبن  سينا في بغداد، وما هي إلا أيام حتى ودّع  المرجع الأعلى للطائفة الشيعية في العالم دار الدنيا في 2 أيار/مايو 1970، وقلبه مفعم بالحزن و الشكوى، نتيجة لما أصاب الإسلام و التشيع في العراق جراء ممارسات البعث الحاكم.

ومن بغداد بدأ تشييع جثمان المرجع الراحل، وشارك فيه العديد من مسؤولين الحكومة، وفي مقدمتهم أحمد حسن البكر، وتحول التشيع إلى مظاهرة سياسية إسلامية ضخمة ضد السلطة، قوامها أكثر من نصف مليون شخص- على حد تقدير إذاعة لندن- وحاولت الجماهير الحزينة الغاضبة الانقضاض على رئيس الجمهورية و أعوانه،لولا أنهم فرّوا هاربين بعيداً عن مسيرة التشيع، فأعلنت حالة الإنذار القصوى(ج) في القوات المسلحة العراقية في معظم مدن العراق، لأي حدث طارئ جراء خروج الجماهير والعشائر المسلحة معزية بوفاة إمامها الفقيد، كما عززت ومؤسسات الدولة بالحراسة المشددة. ثم شيع الجثمان في كربلاء، ونقل إلى النجف الأشرف، حيث استقبله أبناؤها من على عشرات الكيلو مترات مشياً على الإقدام..

بالبكاء، وانقلبت المدينة- الموشّحة بالسواد- رأساً على عقب وهي تستقبل ابنها وزعيمها الفقيد، ثم دفن في مثواه الأخير(*).

ان أهم قضية شغلت عالم التشيع عموماً و الساحة الإسلامية في العراق خصوصاً بعد وفاة السيد محسن الحكيم هي قضية اختيار المرجع الأعلى الجديد للطائفة، إذ بقيت الأطرف ذات العلاقة المباشرة بصنع القرار تبحث في الموضوع لفترة ليست بالقصيرة، وأبرزها: الحوزة العلمية الكبرى و زعماء التشيع في النجف الأشرف، الحوزة العلمية في قم وعلماء إيران، علماء الشيعة في الهند و باكستان، المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، و الحركة الإسلامية العراقية. إضافة إلى الأطراف الأخرى الداخلية التي مدّت يدها لتساهم في تعقيد القضية، كالنظامين الحاكمين في بغداد و طهران.

تجدر الإشارة إلى أن الحركة الإسلامية واجهت المسألة بتريث وحذر، ولم تحشر نفسها في زاوية ضيقة، فلم تفرض على أعضائها و السائرين في فلكها مرجعاً معيناً، فهي تعتبر التقليد- عموماً- مسألة شخصية خاضعة للمقاييس الشرعية، ولكن تنظيماتها الكبيرة ، كالدعوة، التي تضم في صفوفها عدداً من الفقهاء، فإنها طرحت للدعاة- في بيان داخلي- وللأمة خمسة من مراجع الدين، لتقليد أحدهم، وهم: الإمام الخميني، السيد الخوئي، السيد محمود الشاهرودي، الشيخ مرتضى آل ياسين و السيد عبد الله الشيرازي. كما ساهم علماء الدين الحركيين- بصفتهم العلمية- بصنع القرار داخل الحوزة العلمية. وقد أعلن البيان المذكور عن أن “الدعوة” تنتظر اختيار النجف الأشرف لمرجعها؛ لكي تطرحه على الجمهور.

فالقرار النهائي يتبلور- عادة- في النجف الأشرف(*)، التي تراوح الرأي فيها بين أكبر مرجعين، هما السيد محمود الشاهرودي والسيد أبو القاسم الخوئي، ثم ما لبثت الكفة ان مالت إلى الأخير،الذي تصدى- بعد وفاة السيد الشاهرودي  عام 1974- وبشكل كامل للمسؤولية الشرعية الأولى في العالم الإسلامي الشيعي. وكانت مرجعية السيد الخوئي أقرب  للمرجعيات التقليدية منها إلى المرجعيات المتصدية للعمل السياسي و الاجتماعي. وقد فرضت الأوضاع الصعبة على هذه المرجعية – التي أفرزتها الكفاءة العلمية- أن تعيش في أجواء الواقع الجديد الذي شهدته الحكة الإسلامية في مرحلة ما بعد المرجعية السابقة، وهو الواقع الذي ارتضاه اجتهاد المرجعية المنتخبة.

لقد أعادت وفاة السيد الحكيم للواقع.. المفهوم الذي ساد في المرحلة القلقة، بأن مرجع التقليد شيء و القيادة الإسلامية المتصدية شيء آخر، في حين لم تكن هذه المسألة مطروحة في عهد قيادة الشيخ محمد تقي الشيرازي و السيد محسن الحكيم.

وعلى الرغم من أن أبوّة المرجع تشمل جميع الشيعة في العالم، إلاّ أن ارتباطه بوضع العراق وأحداثه، له طبيعة متميزة و خاصة جداً؛ لكونه يمثل موقع الإشراف- المباشر أو غير المباشر- على قيادة الحركة الإسلامية في العراق، وله تأثير أساسي على واقعها و دورها المستقبلي وضعفها و قوتها- كما مر في أحداث الفصول السابقة.

إن من أبرز سمات هذه المرحلة الباردة.. استتباب الوضع لصالح النظام الحاكم، وتماديه في ممارساته ضد الإسلاميين دون رادع، يرافقه التشتت و الركود الظاهري في الأوساط الإسلامية عموماً. كما تعززت حالة الركود في أوساط الحوزة العلمية في النجف الأشرف، حيث عانت منها كاستمرار تراجعي للفترة التي أعقبت انزواء السيد الحكيم، وتفرّغ معظم العلماء إلى الشؤون العلمية المجردة، ظناً منهم بأن ذلك سيبقى على ما بقي من الجامعة الشيعية الكبرى، سالماً من التصدع و الانهيار، جراء ما تعرضت له الحوزة العلمية من ضربات عنيفة، وظناً منهم أيضاً بأن تدخلهم في شؤون الأمة يعني الوقوع في مطبات السياسة.

وزاد انتشار هذه الآراء من معاناة الإسلاميين الحركيين كثيراً، فبدا و كأنهم وحدهم في الساحة.. في مواجهة ممارسات السلطة، وفي مواجهة النتائج السلبية لهذه الممارسات، إلى الحد الذي اضطرت فيه بعض أوساط “الدعوة” إلى طرح مفهوم “يتحمل قيادة الساحة من يتصدى لها”(*) إذ تتصدى “الدعوة” لقيادته المواجهة، في حالة عدم تصدي المرجعية لها. وقد استمرت هذه المرحلة حتى بروز مرجعية الأمام السيد باقر الصدر في أواخر السبعينات.

مخطط التصفية

توزعت بنود المخطط و آفاق تنفيذه في هذه المرحلة على ثلاثة أصعدة، أفرزتها ممارسات النظام الحاكم:

أولاً: المرجعية والحوزة العلمية:

على الرغم من الجوانب  المخطط الذي وضعه الحزب الحاكم للقضاء على المرجعية الدينية و الجامعة العلمية، إلا أنه استمر في تنفيذ الحد الأدنى من المخطط المذكور، باعتبار أن القضية معركة حاسمة.. تحتمل الفشل و النجاح، فعمد النظام إلى ما يلي:

1 – منع استمرار الكثير من الطلبة المسلمين- غير عراقيين- في الحوزات العلمية، ومنع التحاق الطلبة الجدد بها.

2- الحد من التحاق الطلبة العراقيين بالحوزة بمختلف الوسائل، كإلصاق التهم بهم و مطاردتهم واعتقالهم، ورفض إعطائهم أي تأجيل أو إعفاء من الخدمة العسكرية الإلزامية أسوة بطلبة الثانويات و الكليات.

3 – إصدار قانون منع بموجبه تسجيل الطلبة في المؤسسات الحوزة التي لا تمتلك ترخيصاً رسمياً، والحال أن الحوزة العلمية الشيعية مستقلة تماماً منذ مئات السنين ولا تخضع لاعتراف السلطة الرسمي.

4- غلق معظم منافذ الإمداد المالي الشرعي – كالزكاة والخمس وغيرهما- من الوصول إلى مراجع المسلمين من مقلديهم في الخارج العرق، في حين أن هذا الإمداد المالي الجماهيري هو الذي حفظ للعلماء الشيعة استقلالهم لمئات السنين. وبهذه الطريقة سيتمكن النظام من إيقاف استمرار الدراسة في الجامعات العلمية، والالتفاف حول الأوسط العلمائية، في محاولة لإخضاعها لسيطرة النظام.

5- القيام بحملة تهجير و تشريد واسعة النطاق، شملت الكثير من أساتذة الجامعة وطلبتها وبعض الفقهاء، بعد إسقاط الجنسية العراقية أو الإقامة القانونية عنهم.

6 – التضييق المشدد على من تبقى من العلماء، ومنع بعضهم من اللقاء محاضراته ودروسه، و حصرهم في زاوية ضيقة جداً. إضافة  إلى اعتقال وإخضاع قسم منهم للتعذيب النفسي والجسدي.

7 – ممارسة مختلف الضغوط على مؤسسات الجامعة لغرض ربطها بالأخيرة الحكومية وإخضاعها لسياسة الحزب الحاكم.

8 – إدخال ما يقرب من 150 بعثياً في الجامعة  الدينية، في محاولة لحرفها وتخريبها من الداخل.

9- إيجاد مجموعة من المعممين المزيفين المرتبطين بالسلطة، ودعمهم بمختلف الوسائل، وفرضهم على الجماهير كممثلين عن المرجعية والجامعة العلمية.

10 – محاولة النفوذ إلى أجهزة مرجع الدين وبيوتاتهم ومكاتبهم الخاصة، وإيجاد مجموعات ضغط حكومية تحيط بهم.

11 – إنشاء أو دعم بعض المؤسسات الدينية الحكومية التي تمارس التجسس  والخداع لصالح الحكومة باسم الإسلام، كـ”جمعية النهضة” في كربلاء، و”جمعية التوجيه الديني” و”جامعة علي كاشف الغطاء” في النجف الأشرف، وغيرها. وكذلك محاولة احتواء المؤسسات الأخرى التي تمتلك باعاً طويلاً في العمل الإسلامي (العلمي والاجتماعي والأدبي)

12 – وضع العتبات المقدسة – التي تمارس فيها الجامعة بعض نشاطاتها- تحت الإدارة الحكومية المباشرة، و الاستيلاء على ثرواتها وأموالها كافة، ومصادرة نفاءسها الفريدة من المخطوطات والكتب والهدايا.

13 – مصادرة الكثير من المكتبات الإسلامية العامة وما تحويه من نوادر المخطوطات العلمية و الأدبية، وشمل ذلك الأجراء بعض المكتبات الخاصة بالعلماء أيضاً.

14 – تشويه صورة مراجع الدين وعلماء المسلمين (المتقدمين والمتأخرين) في أذهان الأمة، من خلال مختلف وسائل الإعلام.

15 – محاولة زج العلماء في منزلقات خطيرة وتحمياهم مواقف هم بعيدون عنها، على غرار طلب البعثيين من السيد محسن الحكيم تأييداً علنياً لحركتهم الانقلابية، والطلب إليه إصدار فتوى بجواز القتال ضد الأكراد، وكذلك طلب فتوى بوجوب القضاء على الشيوعيين من السيد محمد باقر الصدر(*).

16 – الحد من اتصال أبناء الأمة بعلمائهم ومراجعهم، والحيلولة دون تأثير هؤلاء العلماء على الجماهير، حتى على المستويات البسيطة.

17 – بث إشاعة مفادها أن الحوزة العلمية في النجف الأسرف هي حوزة حزبية، وتخضع لسيطرة “الدعوة”؛ من أجل إرهاب الطلبة وإبعادهم عن الحوزة، وخصوصاً بعد أن قامت السلطة باعتقال ومطاردة العاملين في صفوف”الدعوة”، مما أضطر بعض العلماء إلى التأكيد على فصل العمل الإسلامي السياسي أو الحزبي عن الحوزة العلمية_ كما سنرى فيما بعد-.

ثانياً: تنظيمات الحركة الإسلامية :

وقد تلخص الموقف منها بما يلي:

1- حرمانها من أي تحرك أو نشاط علني من خلال منافذها الطبيعية، كالمساجد والحسينيات والمؤسسات الدينية، ومنعها من الظهور على المسرح الاجتماعي والسياسي العام، فضلاً عن حرمانها من استثمار أية وسيلة من وسائل النشر و الإعلام.

2- منعها من إيصال فكرها الإسلامي إلى الأمة، والسماح لمختلف الأفكار الوضعية بالظهور ومخاطبة الجمهور، إيغالاً في حرفه.

رجالاتها، ومحاولة عزلها عن الأمة وعن الوسط التقليدي.

3 – إلصاق مختلف التهم والشبهات بها، وإثارة الشكوك حول تأريخها وتاريخ رجالاتها، ومحاولة عزلها عن الأمة وعن الوسط التقليدي.

4- القيام بحملات اعتقال وملاحقة وتشريد واسعة ضدها، وإصدار الأحكام المختلفة، كالإعدام والسجن المؤبد ضد أبنائها دون أية محاكمة حقيقية.

5- إحكام الحصار الثقافي و الاجتماعي عليها، ومنع أبنائها من دخول بعض الكليات، ومنها الكليات العسكرية والتربوية.

6- القيام بحملات تشتيت ضد أبنائها، كإبعادهم إلى وظائف حكومية خارج مناطق سكناهم، وفي المناطق النائية بالذات، وعزلهم عن عوائلهم ومجتمعاتهم، وحرمانهم من الامتيازات المعاشية والاجتماعية الأخرى.

7- بث فكرة أن العمل التنظيمي أو الحزبي لا يجوز في الإسلام، وتجنيد عدد من عملاء المخابرات من المعممين البعثيين لنشرها في صفوف الأمة(*).

ثالثاً: الصعيد الثقافي والاجتماعي:

1-إغلاق الصحف و المجلات ووسائل الإعلام الإسلامية، ومنع دخول الصادر منها في الخارج.

2- الحد من انتشار الكتاب الإسلامية ومحاربته، وذلك بمنع طبعه و استيراده وتوزيعه وبيعه و تداوله.

3- شن حملات الاعتقال والتنكيل بحق الكتّاب والمفكرين الإسلاميين.

4- إغلاق جميع المؤسسات الإسلامية للتربية والتعليم، كالمدارس والثانويات والكليات والجمعيات الخيرية وغيرها.

5- منع بث الشعائر الإسلامية وصلاة الجمعة والمراسيم الدينية، من خلال الإذاعة والتلفزيون.

6- منع إقامة الكثير من الشعائر الإسلامية، كالاحتفالات والمسيرات ومجالس العزاء الحسيني.

7- محاولة ربط أئمة المساجد وخطباء المنبر الحسيني بأجهزة السلطة من خلال فرض رواتب شهرية عليهم، ومن ثم تحديد الموضوعات التي يتحدثون فيها، وإعدادها من قبل دوائر الأمن العاملة تحت اسم (وزارة الأوقاف).

8- نشر مختلف الأفكار الوضعية، كالبعثية والقومية والشيوعية والإلحادية والغربية بشكل مكثف.

9- احتكار جميع وسائل الإعلام بشكل كامل، بما فيها الإذاعة والتلفزيون والصحف المجلات ودور النشر و السينما والمسرح.

10- احتكار وسائل التربية والتعليم، والسيطرة على برامج المدارس والجامعات

11- محاولة محو الثقافة الإسلامية والشعور الديني لدى الكبار وعموم أبناء الشعب، من خلال حملة (محو الأمية) وغيرها.

12- القيام بحملة إفساد واسعة تستهدف كل مبادئ وتقاليد وأعراف المجتمع العراقي المسلم، كنشر وتشجيع الأفلام والتمثيليات والبرامج الخليعة والفاسدة والمضللة، وبرامج الترفيه والحفلات الليلية وفرق الرقص المحلي والعربي والأجنبي.

13- زيادة الطاقة الإنتاجية لمعامل الخمور و البيرة ومضاعفة استيراد من التخرج، والتشجيع على فتح حانات الخمور والبارات والملاهي وأماكن أرذيلة والجون، ومساعدتها بمختلف الإمكانات المادية والمعنوية.

14- إنشاء مراكز واتحادات الشباب ومنظمات “الطلائع” و”الفتوة” المختلطة، وجعلها بؤراً لانتزاع دين وعقيدة الأحداث و الشباب من الجنسين، وسلب كل ما لديهم من التزامات خلقية وعرفية.

15- التركيز الكامل على القرى و الأرياف والعشائر(وبالأخص الشيعة منها) في محاولة مدروسة لتحويلها إلى مجتمع منحرف لا يؤمن بأبسط المبادئ والالتزامات الدينية والعرفية، من خلال إفسادها وإشاعة مختلف الممارسات اللاأخلاقية فيها.

16- الضغط على كل من يتمسك بالممارسات العبادية والدينية، واتهامه بمختلف الاتهامات كالرجعية والتخلف والتحجر، وتشويه سمعته والتشهير والاستهزاء به.

17- إصدار قوانين (مدنية) منافية للشريعة الإسلامية في المجال الاجتماعي، كقانون الأحوال الشخصية، ومسائل الإرث والزواج وغيرها، مما يضر الجمهور إلى ترك الالتزام بقوانين الشريعة.

18- محاربة الحجاب الإسلامي في المدرسة و الجامعة والشارع ومعظم مرافق الدولة، وتشجيع ودعم السفور والخلافة والابتذال.

19- ممارسة سياسة إذلالية للشعب، من خلال عدم توفير أبسط ضروراته الأساسية كالسلع الاستهلاكية والمواد الغذائية وغيرها، وافتعال الأزمات على مختلف الأصعدة  والمجالات الاقتصادية والحياتية(13) .

تنفيذ المخطط

بعد سعي متواصل وبحث طويل عن خطوط الحركة الإسلامية وفصالها ورموزها دامت أكثر من ثلاثة سنوات، باشر الحزب الحاكم في أيلول/سبتمبر1971 بتنفيذ مخططه الشامل وقراره الحاسم بضربها ضربة مهلكة مباشرة، في أعقاب دراسة مستفيضة ومركّزة، مستعيناً بخبرات و معلومات دوائر المخابرات الغربية(الأمريكية والبريطانية).

ويذكر احد المصادر المطلعة بأن “جورج ريمنغتون” سلّم صدام حسين تقريراً مفصلاً- يمثل عصارة خبرة البريطانيين في العراق – يضم معلومات دقيقة عن حركة المجتمع العراقي، وكانت النقطة الجوهرية فيه أن الخط الإسلامي من اخطر ما يواجه الحكم. واقتنع ناظم كراز (مدير الأمن العام) بشكل كامل بتقرير “ريمنغتون” في حين لم يكن صدام يفكر في أن الخطر ما زال يكمن في الحركة الإسلامية. ولكن تطورات عام 1971 اثبت لصدام حسين بأن الحركة الإسلامية تهدد كيان النظام بالفعل، فأمر بوضع مخطط عملي لإبادتها بالكامل، “ووكّل بالأمر عشرة من الخبراء من أقطار مختلفة:5 من بريطانيا و3 من السافاك (الإيراني) و2 من مصر(14).

بلغ الهجوم الكبير  ذروته في 28 أيلول/سبتمبر1971، حين داهمت السلطات مكتب عبد الصاحب دخيل(*) (عضو القيادة العامة لحزب الدعوة والرجل الأول فيه) واقتادوه إلى أقبية الأمن العام. وحول اعتقال “دخيل” تقول مصادر الحركة الإسلامية بأن “الذي وشى به أحد ضباط الأمن، والذي كان يراقب عمله وتحركه… ويظهر الود والصداقة له”، في حين تؤكد مصادر أخرى بأن اعتقاله جاء نتيجة اعتراف مسؤول أحد الخطوط التنظيمية لحزب الدعوة في النجف الأشرف (محمد صالح الظالمي) بعد انهياره، جراء أساليب التعذيب الشديدة التي تعرض لها في مديرية أمن الديوانية.

وسبق ذلك اعتقال الدكتور داود العطار (**) (من كوادر حزب الدعوة في بغداد) والمهندس عبد الأمير إدريس (من قادة  التنظيم الطلابي في  حزب الدعوة)، وقد تعرض الاثنان لأبشع صنوف التعذيب في معتقل قصر النهاية ببغداد؛ بهدف حملها على الاعتراف وكشف خطوط الدعوة المرتبطة بهما.

ومورست مع عبد الصاحب دخيّل أعنف صنوف التعذيب تحت الأشرف المباشر لمدير الأمن العام (ناظم كزار)، من أجل حمله على الاعتراف وكشف أسرار التنظيم ، إلا أنه صمد صموداً أسطورياً- كما يقول شهود عيان- متحدياً كل أساليب السلطة النفسية والجسدية في التعذيب، آخر ما قاله لناظم كزار: (أنا “الدعوة” وأنا المسؤول الأول فيها…”الدعوة” هنا- مشيراً إلى صدره- وأتحداك أن تخرج كلمة واحدة منه.ز وهذا جسدي افعلوا به ما شئتم، أما روحي  فليس لكم سلطة، فأصيب مدير الأمن العام- جراء ذلك – بحالة هسترية واضطراب شديد. وفي أعقاب ذلك أمر ناظم كزار بتعليق عبد الصاحب دخيل في سقف إحدى غرف التعذيب الخاصة، وتحته حوض مملوء بحامض النتريك (التيزاب)، ثم قاموا بإنزاله ببطء في الحوض- وهو حي- بحضور مدير الأمن وجمع من مسؤولي السلطة. وبعد أن فقدوا الأمل من حمله على الاعتراف قذفوا بجسده في الحامض؛ ليذوب بالتدريج إذا اختفى جسده ولم يسلم لعائلته أي شيء، سوى أن السلطة أخبرتهم بموته في المعتقل. وبهذا أصبح عبد الصاحب دخيل أول ضحية قيادية يقدمها حزب الدعوة في العراق، خلال معركته مع النظام الحاكم. ولو كانت السلطة قد تمكنت من حمل عبد الصاحب دخيل على الاعتراف لانهار حزب الدعوة بالكامل، ودخل كل قادته و كوادره المعتقلات؛ لأن كل تنظيمات الحزب في العراق كانت من مسؤوليه، فضلاً عن إطلاعه الواسع على كل تفاصيل تنظيمات الحزب في الدول الأخرى.

وفي تشرين الأول 1971 أعتقل المحامي حسن شبّر (أحد الكوادر المتقدمة في حزب الدعوة الإسلامية) مع مجموعة أخرى، وفشلت دوائر الأمن والمخابرات أيضاً في حملهم على الاعتراف أو كشف ارتباطاتهم وتنظيماتهم، فأطلق سراح حسن شبّر بعد أربعة أشهر من التعذيب المتواصل(15).

وفي عام 1971 أيضاً شن النظام العراقي حملة اعتقالات واسعة في صفوف جماعة الأخوان المسلمين وواجهته الحزب الاسلامي، وإعدام مجموعة من قادتهم، أبرزهم المهندس عبد الغني شنداله والعميد محمد فرج جاسم الشيخلي. تجدر الإشارة إلى أن الجماعة تعرضت في هذه الفترة إلى انشقاق في صفوفها برزت جذوره في عام 1968، حينما اشتركت الجماعة وواجهتها الحزب الاسلامي في حكومة الانقلابيين في 17 تموز/ ايلول 1968، فقد تم تعيين عبد الكريم زيدان المراقب العام للجماعة وزيراً للأوقاف، وناصر الحاني وزيرا للخارجية. حينها برز تيار في الجماعة يقوده محمد فرج  الشيخلي يعارض توجهات زيدان. وكانت نتيجة هذا الوضع انكشاف التنظيم للسلطة وتعرضه لضربات قاتلة في الأعوام 69-1972 أدت إلى انهيار معظمه. وسبق ذلك اقالة زيدان والحاني من الوزارة، ثم قتل الحاني وهروب زيدان. وقد أدى هذا الوضع الى انهيار تنظيم جماعة الاخوان والحزب الاسلامي بالكامل، وتوزع أعضاءه الى قسمين؛ الاول بقي داخل العراق واعتزل العمل السياسي الاسلامي ، ودخل في أجهزة الدولة، والثاني هاجر خارج العراق، ولاسيما الى اوربا والدول الخليجية، وقد اعتزل المهاجرون الى الخليج العمل السياسي ايضا، وعملوا في وظايف دينية وتربوية ومدنية داخل الاجهزة الحكومية لهذه الدول. اما المهاجرون الى اوربا؛ فقد فضل معظمهم تجميد عمله وترقب الوضع؛ وإن بقي محافظا على نوع من الالتزام بالجماعة .

وبعد حملة الاعتقالات الأولى في صفوف الاسلاميين الشيعة؛ قامت السلطة بحملة واسعة أخرى في عام 1972، اعتقلت فيها الأمام السيد باقر الصدر أيضاً، إلا أن السلطات أطلقت سراحه لتدهور حالته الصحية، في الوقت الذي حكمت على مجموعة من كوادر الحركة بالسجن لمدة تتراوح بين سنة وخمس سنوات. وكان بين المعتقلين قائد منظمة المسلمين العقائديين عز الدين الجزائري ومجموعة من كوادر المنظمة وأعضائها، وضبطت السلطات كميات من الأسلحة كانوا يخبئونها في النجف الأشرف.

ونتج عن الأزمة الجديدة أنواع من الخلل التنظيمي في فصائل الحركة الإسلامية، ولا سيما في بعض خطوط حزب الدعوة، نتيجة الاعتقالات عام 1972، ولا سيما في لجنة تنظيم النجف التي هرب مسؤولها الشيخ محمد مهدي الآصفي إلى الخارج، وكذلك لجان تنظيمات كربلاء والديوانية والناصرية والحلة والسماوة. وكان بين المعتقلين محمد صالح الأديب (أحد مؤسسي الحزب) وعلي الأديب وحسين الديواني وحمزة الزبيدي وكاظم عنبر وعبد الغني الشمري وكامل الركابي. وبين المعتقلين أيضاً الدكتور حسن أبو طحين (من مسؤولي تنظيم الفرات الأوسط)، الذي أدت اعترافاته تحت التعذيب إلى اعتقال العشرات من الكوادر  والمسؤولين في لجان الحلة  والسماوة والديوانية والناصرية.

كما تم اعتقال الشيخ عارف البصري (الرجل الثالث في الحزب، والذي أصبح الرجل الأول في القيادة داخل العراق بعد إعدام عبد الصاحب دخيل وسفر القيادي الأول محمد هادي السبيتي إلى لبنان). واللافت للنظر أن السلطة توصلت إلى علاقة السبيتي بالحزب، واقتحمت داره لإلقاء القبض عليه، ولكن من حسن حظه أنه كان خارج العراق. وأطلق سراح الشيخ عارف البري بعد فشل السلطة في الحصول على اعتراف منه أو ضده.

وتمت على أثر ذلك ترتيبات جديدة للتنظيم وإعادة لبناء الهيكل التنظيمي للحزب، في أعقاب لقاءات واجتماعات بين قادة حزب الدعوة الإسلامية وكوادره المتقدمة، جرت في لبنان والعراق والكويت وإيران. كما ضاعفت من الأزمة الاعتقالات العشوائية في عام 1973، التي ألقي فيها القبض على عضوين في قيادة تنظيم البصرة، هما :هاشم الموسوي وعبد الأمير المنصوري، فيما هرب العضو الثالث كاظم التميمي إلى الكويت. وكذلك الاعتقالات في بدايات 1974 إلا أن لجان الحزب الخاصة كانت تعمل على تحديد حالات الارتباك التي تسود بعض مناطق العمل. وقد تحمّل الشيخ عارف البصري(*) (ممثل المرجع الأعلى في بغداد وعضو القيادة العامة لحزب الدعوة) بعد إطلاق سراحه مسؤولية أساسية في هذا العمل. وقد تشكلت- للمرة الأولى في تاريخ الحزب- قيادتان، إحداهما خاصة بالعراق، مكونة من أربعة قياديين، هم: الشيخ عارف البصري (المسؤول الأول) وهادي شحتور (المسؤول الثاني) وحسين جلوخان ونوري طعمه، هي أول قيادة أعضاؤها من العراقيين فقط. والقيادة الثانية في الخارج، ويتصدرها محمد هادي السبيتي (لبناني) وآخرون من العراق ولبنان وإيران.

ومن جانب آخر فقد شهدت فترة ما قبل الأزمة الكبيرة (1969-1970) اكتمال البناء الفكري الداخلي للدعوة، الأمر الذي ساعدها على معالجة الكثير من الجوانب الأزمة.

وفي نفس الوقت أثرت تلك الأحداث العصيبة على وحدة الصف الداخلي للحركة الإسلامية في العراق، فبعد الاعتقالات التي تعرض لها «الأخوان المسلمون» وإعدام بعض قادتهم عام 1971، حدثت انشقاقات خطيرة في صفوف «الجماعة»، حيث رفضت بعض قياداتها ـ كما ذكرنا ـ فكرة التصدي للسلطة، في حين كان البعض الآخر يرى العكس تماماً.

كما شهد تنظيم حزب الدعوة في منطقة الكرادة الشرقية ببغداد، حالة انسحاب جماعي وفردي عام 1969، يقوده السيد سامي البدري الذي بدأت علاقته بالتوتر مع قيادة الحزب في بغداد منذ عام 1966، وأصبح لهؤلاء المنقطعين علاقة تعاون وتنسيق مع تنظيم «الحركة الإسلامية»(*). وحدثت نفس الحالة في صفوف حزب التحرير عامي 1973 ـ 1974، بعد الاعتقالات التي طالت أعضاءه وأنصاره. وقد أدت الاعتقالات والانشقاقات ـ إضافة إلى انغلاق الحزب ـ إلى حل تنظيماته، وتحوله إلى تيار فكري محدود. ومع أن جماعة الأخوان تعرضت لنفس الظروف إلاّ أنها لم تكن تياراً محدوداً، بل تياراً واسعاً نسبياً ينقصه التنظيم ووحدة القيادة.

إعدام «قبضة الهدى»

مرة أخرى يستنفر النظام قواه وإمكاناته، ويصعِّد من حملته ضد الحركة الإسلامية، ولكن بشكل يختلف كثيراً عما سبق. ففي تموز/يوليو 1974، اعتقل الإمام السيد محمد باقر الصدر والشيخ عارف البصري مع أكثر من سبعين قيادياً وكادراً في حزب الدعوة الإسلامية، بينهم عدد كبير من علماء الدين وأساتذة الحوزة العلمية والجامعة، كالسيد محمد محمد صادق الصدر والشيخ عبد المجيد الصيمري والسيد عبد الرحيم الشوكي والسيد عماد الدين الطباطبائي والسيد عز الدين القبانجي وغيرهم. كما تم اعتقال أعداد كبيرة من علماء بغداد وكربلاء والنجف الأشرف ـ ممن لم يكونوا على ارتباط بالتنظيم ـ بدعوى الانتماء لحزب الدعوة، كالسيد محمود الهاشمي الذي تعرّض لتعذيب شديد، لحمله على الاعتراف بالانضمام لحزب الدعوة؛ لتصل السلطة بذلك إلى السيد محمد باقر الصدر، وهو هدفها الأساس؛ لكون السيد محمود الهاشمي أحد المقربين إليه. وعلى الرغم من إطلاق سراح الإمام الصدر، غلاّ أن الدلائل كانت تشير إلى أنه أهم المستهدفين في هذه الحملة الشرسة؛ نتيجة إحساس الدوائر المخابراتية ببروز موقعه الفكري ومرجعيته الدينية، واحتلال اسمه موقعاً متميزاً جداً في الساحة الإسلامية محلياً وعالمياً، وإحساس النظام الحاكم بخطورته البالغة عليه، ومن هنا فقد كان الكثير من المعتقلين من وكلائه وتلاميذه ومريديه، أو ممن عملوا معه وتحت إشرافه في صفوف الحركة الإسلامية. وقد أدركت الحركة هذه القضية مبكراً، فعممت توصياتها المشددة على المعتقلين ـ من خلال الشيخ عارف البصري ـ بضرورة عدم وصول السلطة على أية معلومة واعتراف ضد السيد الصدر؛ للحيلولة دون الإيقاع به أو تصفيته؛ لن الصدر ـ على حد تعبير الشيخ عارف البصري ـ هو أمل الإسلام ورمزه، والمساس به يعني هدم كيان المرجعية الرشيدة وتمكين السلطة من الإسلام. كما أوصى الشيخ البصري أخوته المعتقلين قائلاً: «إن لم تستطيعوا الصمود وأرادت النفس أن تستكين فعليكم بأي منا دون السيد الصدر»(16).

ويذكر أن أوساط الحركة الإسلامية شهدت نقاشاً في هذه الفترة حول مقترح خروج آية الله السيد محمد باقر الصدر من العراق؛ للحفاظ عليه والحيلولة دون محاولات قتله وتصفيته.

ثم قامت أجهزة الأمن بحملة اعتقالات جديدة في آب/أغسطس لقادة وكوادر تنظيم البصرة، كان بينهم مسؤول التنظيم العسكري في البصرة. وبعد حوالي شهر أيضاً تم اعتقال حسين جلوخان وهادي شحتور، وبذلك تكون قيادة حزب الدعوة في العراق قد دخلت المعتقل بأكملها، وذلك إثر انهيار بعض المعتقلين واعترافهم تحت التعذيب.

وأصدرت قيادة الدعوة ـ بطلب من الشيخ عارف البصري ـ قراراً هاماً إلى «الدعاة المعتقلين، يقضي ـ في حالة الاضرار القصوى وثبوت الانتماء للدعوة لدى السلطة ـ بالاعتراف على بعض ممن غادر العراق، للتشويش على أجهزة المن وإرباكها، كالشيخ محمد مهدي الآصفي والدكتور فخر الدين مشكور والسيد فخر الدين العسكري… على أنهم كل شيء في «الدعوة». ولذا تركزت معظم الاعترافات ضدهم، واستطاع كثير من «الدعاة» الحيلولة دون ما كانت أجهزة الأمن تحاول الحصول عليه، وتم المحافظة ـ جرّاء ذلك ـ على كثير من تنظيمات الحزب من الانكشاف للسلطة.

وبعد أكثر من خمسة أشهر من التعذيب المتواصل في معتقلات أمن النجف وأمن الديوانية ومعتقلات الفضيلة وأبي غريب مديرية المن العام في بغداد، قدّم المعتقلون في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1974 إلى محكمة الثورة ـ الصورية ـ برئاسة جار الله العلاف. واستمرت جلسات المحكمة مدة عشرين دقيقة فقط لأكثر من عشرين متهماً، أي بمعدل دقيقة واحدة لكل متهم.

وواجه رئيس المحكمة المعتقلين بتهمهم:

«أنتم متهمون بالانتماء إلى حزب الدعوة الإسلامية، ونشر أفكار هدامة ضد الثورة والمساهمة في الإخلال بالأمن».

ورد عليه الشيخ عارف البصري ممثلاً المتهمين”

«أنفي أن أكون وأخوتي مخلين بالأمن أو نشر أفكار هدامة وأؤكد أننا مسلمون ودعاة للإسلام الذي هو رسالة رب العالمين لكل جيل، والطريق الذي اختاره الله لإسعاد الأمة، وأتحدى: أن تكون محاكمتنا علنية، لكي يطلع الشعب على الحقيقة كما هي».

وبيّن الشيخ البصري ـ خلال رده ـ رأيه في حزب البعث، معتبراً ذلك موقفاً شرعياً، بقوله: «لو كان إصبعي ـ هذا ـ بعثياً لقطعته»(17).

وصدرت الأحكام المعدة سلفاً في مجلس قيادة الثورة ضد سبعة عشر قيادياً وكادراً متقدماً في حزب الدعوة الإسلامية، على النحو التالي:

أولاً ـ الإعدام شنقاً لكل من: الشيخ عارف البصري (رئيس لجنة قيادة الحزب في العراق) السيد عز الدين القبانجي والسيد عماد الدين الطباطبائي (من علماء الدين في النجف الأشرف)، والسيد نوري طعمة والسيد حسين جلوخان (عضوي قيادة الحزب في العراق) وهم الشهداء الخمسة الذين يطلق عليهم الإسلاميون اسم «قبضة الهدى» أو «الكوكبة الأولى».

ثانياً ـ السجن المؤبد لستة، من بينهم هادي شحتور (عضو قيادة الحزب في العراق)، قاسم عبود (ابرز أعضاء قيادة تنظيم البصرة)، الشيخ عبد مجيد الصيمري (أحد الخطباء العراقيين ومن الكادر المتقدم) والسيد عبد الرحيم الشوكي (ممثل المرجع الديني الأعلى في منطقة بغداد الجديدة ومن الكادر المتقدم)، محمد جواد الأسدي (مسؤول التنظيم العسكري في البصرة).

ثالثاً ـ أحكام بالسجن لمدة عشر سنوات لثلاثة بينهم السيد حسين الشامي (أحد ممثلي الإمام الصدر ومن الكادر المتقدم)، ورحمن حجار (رئيس جمعية الشعراء الشعبيين العراقيين ومن كوادر الحزب).

رابعاً ـ أحكام بالسجن لمدة ست سنوات على ثلاثة آخرين.

وعند الانتهاء من تلاوة الأحكام، وقف الشيخ عارف البصري مستبشراً وهو يرمق الحكام بعين السخرية، قائلاً:

«بسم الله الرحمن الرحيم: الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل(18). إن الشعب العراقي كله محكوم بالإعدام مع وقف التنفيذ… إلاّ أنها آجال».

ثم أردف قائلاً لرئيس المحكمة:

«أبالموت تهددوننا، إن الطغاة أيضاً سيموتون، وسيجمع الله بيننا ويحكم بيننا وبينكم»(19).

وبعد صدور الأحكام حدثت ردود فعل واسعة في الأوساط العلمية والإسلامية في العراق وخارجه، وحدثت اتصالات مكثفة ولقاءات بين قيادة الحركة الإسلامية ومراجع الدين وعلماء النجف الأشرف وبغداد والموصل، إضافة إلى اتصالات بعض الأطراف والشخصيات الإسلامية مع السلطة لحملها على التراجع عن الحكام أو تخفيفها. وتجاه تلك الاحتجاجات والضغوط أكدت قيادة حزب السلطة بأن الحكام شكلية وتأديبية، وأنها لن تنفذ مطلقاً. ويذكر بأن السلطة أخرت «تصديق أحكام الإعدام وتنفيذها أربعة أسابيع وسمحت بزيارة المعتقلين واستعملت أسلوب الخداع لكي تتمكن من تطويق ردود الفعل من داخل العراق وخارجه، وأرسلت المبعوثين من أعضاء القيادة القومية [لحزب البعث الحاكم] وأعضاء مجلس قيادة الثورة والمسؤولين المحليين إلى علماء النجف وعلماء لبنان وغيرهم مؤكدين أشد التأكيد أن أحكام الإعدام لن تنفذ، حتى صدّق كثير من الناس هذه التأكيدات الرسمية»(20).

وفي نفس الوقت الذي بادرت السلطة إلى هذا التأكيد، من أجل تمييع القضية واحتواء ردود الفعل، فإنها حاولت أيضاً استثمار الوقت للمساومة مع «قبضة الهدى» وجرّهم إلى إعلان ولائهم للنظام حتى قبل ساعات من تنفيذ حكم الإعدام، فقد أرسل مجلس قيادة الثورة العراقي موفداً خاصاً إلى معتقل «أبي غريب» لإبلاغ الشيخ عارف البصري رغبة السلطة بإطلاق سراحه وسراح أخوته مقابل جملة شروط، منها أن يظهر هو نفسه على شاشة التلفزيون ويعلن تأييده للحزب الحاكم، وأسفه عمّا عمله في الماضي، والتعاون مع السلطة سرّاً مع الإبقاء عليه على رأس «الدعوة»، غلاّ أن الشيخ عارف رفض العرض بشدة قائلاً لمبعوث السلطة:

«إنّ حكمتم عليّ بالإعدام لأني أدعو إلى الإسلام فهو شرف من الله لي، وأزيدك وضوحاً أن الله لوفقني لحج بيته الحرام عام 1971، فدعوته وأنا متعلق بأستار الكعبة بأن يرزقني الشهادة، وهاآنذا أحصل على هذه الشرف وعلى يد أرذل خلق الله، فلا يمكن التنازل عنها. إني ارفض أن أبيع ديني لكم، معاذ الله أن أبيع ديني للمجرمين، لا أسمح لأحد أن يرفع تاج الشهادة عن رأسي مقابل متاع الدنيا الزائلة»(21).

وحصل الشيء نفسه مع السيد عماد الدين الطباطبائي والسيد حسين جلوخان، وكان الرفض جوابهم الوحيد.

ثم جرى التصديق على الأحكام من قبل نائب الرئيس (صدام حسين) (*)، وتم تعيين فجر الخامس من كانون الأول/ ديسمبر 1974 موعداً للتنفيذ.

وضع حبل المشنفة حول رقبة الشيخ عارف البصري ـ وهو آخر من أعدم ـ حينما كبّر وهتف بصوت عال بحياة الحركة الإسلامية وبالنصر للإسلام، ثم دفن الشهداء عند منتصف الليل دون حضور أحد ودون أية مراسم. وهنا يروي أحد العلماء ـ وهو الشاهد الوحيد ـ عملية دفن نوري طعمه:

بعد رفع الغطاء عن جثة السيد نوري طعمه «نظرتُ بتمعّن ودهشة.. كان الموقف فريباً، فوجدت قطعة من دم لا جثّة، أوصال لحم قد أحيطت بقطع النايلون والبلاستيك لجمعها حول عظامها.. رأيت آثار الشقوق قصيرة وطويلة، بعضها عميق جداً وكأنها ضربات سكين حادة، وتجسّدت في ذهني حينها صورة جسد الحسين(ع) وأجساد أصحابه(ع) بالصورة التي رويت عنهم.. مقطعين إرباً إرباً»(22).

وأصدرت السلطة أوامرها بمنع البكاء وإقامة مجالس الفاتحة على أرواحهم،وعدم استقبال أي شخص من ذويهم. وهذا هو ديدنها بعد كل عملية إعدام لمعارضيها وخاصة الإسلاميين.

أما ردود الفعل والمواقف تجاه أول عملية إعدام من نوعها في تاريخ العراق الحديث لثلة من علماء الدين والشخصيات الإسلامية، فقد تباينت بشكل كبير وتمثلت في ثلاثة اتجاهات رئيسية:

الاتجاه الأول: السلطة الحاكمة وعملاؤها.

الاتجاه الثاني: المستسلمون.

الاتجاه الثالث: الإسلاميون.

إعلام النظام الرسمي تجاهل الحدث تماماً ولم يشر إليه من قريب أو بعيد، ولكنه صعّد من حملته الموجهة للرأي العام العراقي، بهدف إظهار منجزات السلطة ومكاسبها ومخططاتها المستقبلية، إضافة إلى تلاحم الجماهير مع الحزب الحاكم. ومن جانب آخر فقد أشاع رجال الأمن والمخابرات بأن الشيخ عارف وجماعته هم عملاء لحكومة إيران. وتزامن ذلك مع هجوم بعض عملاء السلطة من المتلبسين بزي رجال الدين من على المنابر وفي التجمعات الشعبية على «هذه الجماعة المسماة بـ«الدعوة» التي تستغل الدين وتروج أفكاراً مناهضة للحزب والثورة، وتهدف إلى تقويض منجزات الحكومة!».

والتصريح الرسمي الوحيد للسلطة، هو الذي صدر عن بدن فاضل عريبي (أحد مسؤولي الحزب الحاكم)، حين أعلن في مقابلة صحفية معه في إحدى دول الخليج بأن «الشيخ عارف وجماعته هم أعضاء في حزب الدعوة الإسلامية ولذلك أعدمناهم»(23).

وساهم الإعلام العالمي في التعتيم على الإعدامات، حيث لم يسجل تاريخ هذه الفترة أية إشارة للعملية في مجلة أو جريدة، أو أية وسيلة إعلامية أخرى، عربية كانت أم عالمية، باستثناء مجلة المواقف (البحرينية)، التي بادرت إلى نشر الخبر مع صور الشهداء الخمسة؛ بدافع انتماء رئيس تحريرها عبد الله المدني (عضو البرلمان البحريني) الى حزب الدعوة.

وشمل ذلك الصمت جميع منظمات حقوق الإنسان والعفو الدولية، فضلاً عن الرأي العام العالمي. وتجدر الإشارة إلى أن عملية إعدام خمسة من ثوّار «الباسك» على يد الدكتاتور الأسباني «فرانكو» ـ والتي تزامنت مع إعدام «قبضة الهدى» ـ قد دفعت وسائل الإعلام والمنظمات العالمية لإحداث ضجة كبيرة اعتراضاً على ما يجري في أسبانيا من انتهاك صارخ لحقوق الإنسان. وهذه ـ لا شك ـ مفردة صغيرة من مفردات التعتيم التي تواجه الحركة الإسلامية منذ بداية صراعها مع الحاكمين في العراق.

والمستسلمون زادت العملية من رعبهم وخضوعهم للأمر الواقع، ولم يكن لهم رد فعل يذكر، سوى أن بعضهم أنحى باللائمة على الحركة الإسلامية والشهداء الخمسة، لأنهم ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة، وبأنهم أثاروا الحكومة ضد الحوزة العلمية والمتدينين. ويرى المراقبون أن هؤلاء ـ الذين شملهم القمع فيما بعد ـ قد فاتهم الهدف الذي جيء من أجله بحزب البعث إلى السلطة في العراق.

أما مواقف الإسلاميين فإنها التقت عند الاستنكار الشديد والقيام ببعض ردود الفعل ضد النظام وتجاوزاته. فتذكر بعض المصادر أن المرجعين الدينيين السيد الخوئي والإمام الخميني استثمرا مناسبة وفاة زوجة رئيس الجمهورية، فأرسلا وفدين للمشاركة في مجلس الفاتحة، ثم سلّم الوفد رسالة من السيد الخوئي إلى البكر تتضمن طلباً بإلغاء أحكام الإعدام الصادرة بحق الشيخ عارف وصحبه. كما نقل السيد مصطفى نجل الإمام الخميني إلى البكر طلب والده بضرورة إلغاء أحكام الإعدام، ووعد البكرُ الوفدين خيراً.

وفي أعقاب عملية الإعدام أبدى زعيم الحوزة العلمية استياءه الشديد وأُعلن الحداد العام وتعطيل الدراسة في الجامعة. وفي المقابل تنفي مصادر أخرى هذا الأمر، وتفيد بأن السيد الخوئي لم يبد رد فعل علني تجاه الأحداث ولكن المؤكد هو استنكار السيد الخوئي الشديد للإعدامات. وقد صرح إلى وفد نساء المعتقلين الذي زاره: «والله لقد تمنيت لو أني أعدمت معهم» ثم انفجر بالبكاء.

وأرسل المرجع السيد عبد الله الشيرازي برقية إلى رئيس الجمهورية في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر من نفس العام، أعلن فيها عن بالغ استيائه والمحافل العلمية للأحكام الصادرة ومطالبته بإلغائها.

وبذل الإمام الخميني ـ في محاولة أخرى ـ جهوداً حثيثة من أجل إنقاذ الشهداء الخمسة، فأبرق إلى أحمد حسن البكر مستنكراً وطالباً إلغاء الأحكام. ونقل السيد محمد تقي الطباطبائي (شقيق السيد عماد الدين أحد المعدومين) إلى فائمقام النجف الأشرف طلب الإمام المتمثل بالاتصال الهاتفي برئيس الجمهورية حول الموضوع، ومما قاله ـ ووصل مضمونه إلى مسامع السلطة ـ : «هل تريد الحكومة العراقية أن تنتحر بإعدام هؤلاء». وعند تنفيذ الأحكام أرسل الإمام برقية احتجاجية مسهبة إلى السلطة حذرها فيها وأنذرها باليوم الموعودة، ثم ألغى جميع برامجه اليومية المعتادة، وأمر بإغلاق أبواب الجامعة العلمية في النجف الأشرف يومين. ولما لم يجد الإمام حلاً آخر فإنه أخذ يحث الشركة الإسلامية وشبابها على ضرورة إعداد أنفسهم للتصدي للسلطة بقوة السلاح، لأن «البعثيين لا يفهمون لغة الكلام» على حد قوله.

ويبقى موقف الإمام الصدر متميزاً ومعبراً عن أبوته ورعاته للحركة الإسلامية، فقد بذل ما بوسعه من أجل إنقاذ أولاده ـ كما يسميهم ـ من حبل المشنقة، وهو الذي سهر على تربيتهم ورعايتهم. ففي بادئ الأمر أحضر السيد الصدر عضو القيادة القومية للحزب الحاكم زيد حيدر، لاستيضاحه وإبلاغه شديد استنكاره واستنكار الأوساط العلمية، وحذره من مغبة إقدام السلطة على هذه الفعلة، وبعد وصول نبأ الإعدامات أصيب السيد الصدر بحالة شبيهة بالغيبوبة، وعطّل الدراسة واعتزل الناس لبضعة أيام، وكان يردد باستمرار وبألم شديد «عارف.. عارف.. عارف» (ويقصد الشيخ عارف البصري).

وشهد يوم استلام جثث «قبضة الهدى» تظاهرة حاشدة أمام مبنى الطب العدلي في بغداد قام بها طلبة وأساتذة  جامعة بغداد(*)، أدت إلى حدوث صدامات مع رجال السلطة تخللها إطلاق نار واعتقالات، فأرجأت السلطة تسليم الجثث إلى منتصف الليل، تجنباً لحدوث أعمال عنف واستمرار التظاهرات.

ووزعت الحركة الإسلامية منشورات في بغداد حول العملية.. أدانتها وأعلنت استنكار الشعب العراقي لها. كما أصدرت في الذكرى السنوية الأولى كتاباً تحت عنوان «شهداء بغداد» يتحدث عن سيرة «قبضة الهدى» وأبعاد عملية إعدامهم، وزّعته سراً في داخل العراق وخارجه.

وفي كثير من البلدان الإسلامية، كلبنان والهند وباكستان وأفغانستان وإيران والكويت والبحرين إضافة إلى بعض الدول الأوروبية، أقيمت مجالس الفاتحة ومراسم التأبين، رافقها قيام الجماهير المسلمة بتظاهرات حاشدة أمام السفارات العراقية ف قسم من هذه الدول.

كما أدانت العملية مختلف الأوساط والشخصيات الإسلامية، وعطلت الدراسة في معظم الحوزات الدينية ـ خارج العراق ـ، ومنها الحوزة العلمية في قم بإيران، التي أغلقت أبوابها وأعلنت الحداد ثلاثة أيام، حيث اعتبر الجميع ذلك اعتداءً سافراً على كل علماء الإسلام وأبنائه.

الدفاع عن النفس

بعد إعدامات واعتقالات عام 1974، تصوّر النظام الحاكم بأنه قضى وبشكل كامل على الحركة الإسلامية، غلاّ أن الذي حدث هو العكس فقد اتسعت دائرة الحركة الإسلامية كماً ونوعاً، مما حمل صدام حسين على القول في الاجتماع الطارئ للقيادة القطرية لحزب البعث:

«إن هؤلاء [أي الإسلاميين] مثل النمل من جهة خرج عليك من جهة أخرى، فعلينا أن نحرقهم جميعاً، علينا أن نصب الزيت ونحرق الأخضر واليابس، وأن لا نتراجع عن ذلك»(24).

كان هجوم النظام العنيف على الحركة الإسلامية والحوزة العلمية يأخذ أبعاداً جديدة أكثر اتساعاً وأهمية بمرور الزمن مستثمراً عدم اصطدامه طوال هذه الفترة بأية عقبة أو رادع مؤثرين.

والذريعة التي اتخذها النظام في حربه مع الحركة الإسلامية ـ خلال هذه الفترة ـ تتلخص في أن هذه الحركة هي تنظيم ديني رجعي مخرب يعمل لصالح الأجنبي. أما الذريعة الأخرى التي كمّ بها أفواه الكثير من الخائفين في محاولاته للقضاء على الحوزة العلمية الكبرى في النجف الأشرف، فهي أن هذه الحوزة هي حوزة حزبية يهيمن عليها التنظيم المذكور.

وتحت مختلف الضغوط استمرت أفواج الطلبة غير العراقيين في تركها الدراسة وهجرتها. أما الطلبة العراقيون فقد أجبر الكثير منهم على الابتعاد عن الحوزة أيضاً ونزع اللباس الديني. ووجد علماء الإسلام أن الجامعة النجفية، وبعد مرور ما يقارب من الألف عام على تأسيسها، تكاد تتصدع وتنهار وتسارع إلى الزوال في مثل هذه الأوضاع، وهو ما عبّر عنه المرجع الديني السيد عبد الله الشيرازي في برقيته إلى أحمد حسن البكر في 21 آذار/مارس 1974 بقوله: «من المؤلم حقاً أن مناراً شامخاً كالنجف، ودرعاً كالحوزة العلمية تضمحل وتزول في عهدكم».

واستمراراً لإجراءاتها ألقت السلطة القبض على أكثر من مائة طالب وأستاذ في الجامعة العلمية النجفية، في الأول من حزيران/ يونيو 1975، وصدر أمر مهم بترحيلهم بعد شهر واحد فقط. وجاء ذلك على الرغم من كل الوعود التي أعطاها حسن علي العامري (عضو مجلس قيادة الثورة ووزير التجارة) إلى بعض القيادات الإسلامية والزعامات العلمية في النجف الأشرف، خلال لقائه بهم في 10 كانون الثاني/يناير 1975، ومن بينهم آية الله عبد الله الشيرازي النجفي الذي قال لمبعوث السلطة:

«إن أقل مدة يمكن فيها للطالب الديني أن يحصل على أدنى قدر من العلوم الإسلامية والعربية هي خمسة عشر عاماً، وأن العدد الذي ينبغي تواجده في المجامع العلمية الدينية في النجف الأشرف وبقية العتبات المقدسة [في العراق] هو خمسة آلاف طالب في كل دور من الأدوار»(26).

وفي 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 1975 (أي في يوم واحد فقط) اعتقلت أجهزة النظام أعداداً كبيرة أخرى من العلماء والأساتذة والطلبة في النجف الأشرف وكربلاء والكاظمية وسامراء، بلغت (1150) شخصاً، وقامت بنفي الكثير منهم عبد فترة من الاعتقال وهم من بلدان مختلفة، كلبنان وإيران وباكستان وأفغانستان والهند والسعودية والبحرين، إضافة إلى العراق نفسه. أما الذين استثنتهم إجراءات التهجير فقد ظلوا رهن الاعتقال لفترات طويلة تجاوز بعضها الثلاث سنوات تقريباً.

كما تم وقت مقارب اعتقال (215) من كوادر وأعضاء الفصائل الإسلامية، وبعد ثلاثة أعوام ونصف من السجن والتعذيب المتواصل أفرع عنهم، وما لبثت السلطة أن ألقت القبض عليهم مرة أخرى بعد بضعة أسابيع، وانتهوا بين الإعدام والسجن المؤبد أو السجن لمدد طويلة.

إرهاب السلطة والأزمة الخانقة التي بدأت تشتد منذ عام 1970 أجبرت العديد من قادة الحركة الإسلامية وكوادرها على الهجرة خارج العراق، تجنباً لبطش السلطة بعد إصدار قرارات إلقاء القبض عليهم، وكذلك لبدء مرحلة جديدة من العمل في أرض المهجر وتحريك الساحة من الخارج. وقد انتشروا في الكثير من بلدان العالم، كالكويت وإيران والإمارات العربية المتحدة ولبنان وأوروبا. وفي أعقاب ذلك صدرت أحكام الإعدام ضد الكثير منهم.

أما أبرز الشخصيات المهاجرة فهو المرجع الديني السيد عبد الله الشيرازي الذي أقنعته الأحداث ـ المتصاعدة بشكل غريب ـ في العراق بترك وطنه والهجرة إلى إيران، وهي حادثة نادرة في تأريخ الجامعة العلمية في النجف الأشرف، حيث لم يحدث ـ قبل عهد البعثيين ـ ان هجر مرجع ديني كبير ـ كالسيد عبد الله ـ أرض العراق بفعل الضغوط السياسية، أو بفعل ضغوط أخرى.

تجدر الإشارة إلى أن الحدث المباشر الذي تسبب في رحيل الشيرازي هو وضع النظام صورة ميشيل عفلق (مؤسس حزب البعث) داخل حرم الإمام أمير المؤمنين علي(ع)، إمعاناً في انتهاك حرمات المسلمين وجرحهم، ومن ثم قيام السيد عبد الله الشيرازي بنفسه بكسر الصورة بعصاه وإنزالها من على الحائط.

وقد أثار إعلان آية الله الشيرازي عن نبأ هجرته ردود فعل مختلفة، فالنظام العراقي حاول بشتى الطرق الحيلولة دون خروجه من البلاد تحسباً لأي تحرك جماهيري، ورفض إعطاءه تأشيرة الخروج. إلا أن المرجع الشيرازي هدد الحكومة العراقية بالعيش على الحدود ولو تحت خيمة، بعد أن ضاقت به مساحة الوطن بأكملها جرّاء ممارسات السلطة، ولكي يطلع الرأي العام العالمي على ما يجري في العراق. وتم إخبار سفارات الدول الإسلامية في بغداد بذلك. وتحت الضغط الداخلي والخارجي منحته السلطات تأشيرة الخروج مع عائلته.

ولم تكن المجامع العلمية وزعامات الحوزة في النجف الأشرف ـ هي الأخرى ـ موافقة على رحيل الشيرازي، فقد عقد الإمام الخميني والسيد الخوئي اجتماعاً مشتركاً معه لعدة ساعات، كما اجتمع به السيد محمد باقر الصدر.

وبعد مباحثات مطولة طلبوا منه العدول عن رأيه، غلا أنه أصر على ذلك موضحاً لهم أن هجرته من بلده ستتيح للعالم الإطلاع على ما يجري في العراق، ولكي يسمع العالم صوت الشعب العراقي المظلوم، وأن بقاءه في النجف الأشرف يحول دون أدائه لدوره العلمي والجهادي في ظل ممارسات السلطة الحاكمة.

وفي أوائل كانون الأول/ ديسمبر 1975 رحل السيد عبد الله الشيرازي عن النجف الأشرف إلى الأبد (وله من العمر 75 عاماً)، وسط توديع العلماء وأوساط الحوزة العلمية وجماهير المدينة. وخاطب المرجع مودعه: إن رحيلي وهجرتي من العراق لن تكون إلا بجسمي، وإني أترك قلبي وشعوري وعواطفي في النجف، وسأعيش قضيتي العراقية بكل أبعادها وجوانبها(27).

وكان الإمام الصدر قد منح الانتفاضة النجفية الصفرية 1977 مباركته وتأييده منذ بداية انطلاقتها، وتابع تطوراتها وجزئياتها وشملها برعايته. كما واق على ذهاب السيد محمد باقر الحكيم إلى ساحة الانتفاضة لإعلان دعم السيد الصدر لزعمائها ومحاولة إقناعهم بعدم إعطاء السلطة مبرراً لقمعهم، وضرورة أن تكون شعاراتهم حسينية، وتجنب التعرض المباشر للنظام، بعد أن وصلت السيد الصدر معلومات سرية مفادها أن السلطة تنوي إبادة المنتفضين(*).

أما موقف آية الله السيد الخوئي المؤيد للانتفاضة، فقد اكتنفه بعض الملابسات، وساهمت السلطة في تطويقه وتغليفه. ففي أعقاب الأحداث مباشرة، وتحت ضغط وتقديرات مختلفة، أرسل السيد الخوئي وفداً برئاسة نجله الأكبر (السيد جمال) لمقابلة أحمد حسن البكر. ونقل الوفد رغبة السيد الخوئي بالإفراج عن المعتقلين والتوسط لحل المشكلة؛ من أجل قطع الطريق أمام السلطة؛ كي لا تقدم على عمل إرهابي ضد الآلاف من المعتقلين ـ بشكل عام ـ والحوزة العلمية في النجف الأشرف ـ بشكل خاص ـ.

إلا أن النظام قلب الحقائق رأساً على عقب، واستثمر القضية إلى أقصى حد بحيث ذكرت وسائل إعلامه الخبر بشكل يسيء كثيراً إلى المرجعية والسيد الخوئي، بما مضمونه:

«بعث سماحة آية الله العظمى الخوئي مرجع الشيعة الأعلى وفداً إلى رئيس الجمهورية للإعلان عن استيائه واستنكاره للأعمال التخريبية التي قامت بها حفنة من الجواسيس والمخربين في طريق النجف ـ كربلاء»!

وفي نفس الوقت لم تسمح السلطة للسيد الخوئي بنشر تكذيب للخبر المذكور، إمعاناً في إحراجه وفي إثارة البلبلة في أوساط الإسلاميين، الذين سببت لهم تلك الملابسات الكثير من الألم والإحراج أيضاً.

وإلى جانب ذلك أبرز الإمام الخميني دعمه وتأييده للانتفاضة بعد أن وقف على طبيعتها وحيثياتها، وكذلك الحال مع آية الله السيد عبد الله الشيرازي، الذي أبرق إلى النجف الأشرف من المهجر (إيران) معلناً تأييده الكامل.

تأثرات الثورة الإسلامية الإيرانية على الداخل العراقي

لم تكن الثورة الإسلامية في إيران حدثاً محلياً أو إقليمياً عادياً على المستويين الجغرافي والتاريخي، بل إن لها من الأبعاد العميقة ما يجعلها نقطة تحوّل في التاريخ الانساني الحديث، ولاسيما تأثيرها في واقع المسلمين، والشيعة منهم على وجه التحديد. وتنسجم هذه الأبعاد مع طبيعة قيادة الثورة المتمثلة بالإمام الخميني، والتي يشكّل وجودها ـ وفقاً لمبدإ ولاية الفقيه ـ امتداداً شرعياً لقيادة الرسول(ص) وأئمة المسلمين(ع) . ولنقل بأن الجانب القيادي هذا هو الذي سمح للثورة الإيرانية باختراق الحدود السياسية والجغرافية. فضلاً عن امتداداتها الإنسانية والتحررية .

وكان من الطبيعي أن يكون العراق الأكثر تأثيراً بهذا الحدث والتغيير الكبيرين، لعوامل عديدة يمكن إيجازها بما يلي:

1 ـ جغرافيا: يشترك العراق وإيران بحدود يبلغ طولها (1280) كلم. كما أنهما يشكّلان وحدة جغرافية واحدة تقريباً، حتى من ناحية الجغرافيا السكانية ووجود القوميات واللغات نفسها وكثير من العادات والتقاليد.

2 ـ تاريخياً: ارتبط اسماهما بأحداث كبرى، تسبق ظهور الإسلام، وأيسرها أن عاصمة الإمبراطورية الفارسية الساسانية كانت في المدائن (40 كلم عن بغداد قبل تأسيسها)، ثم اندمج البلدان في واقع واحد مع الفتح الإسلامي للعراق قبل ما يقرب من 1400 عام، حتى أصبحت بلاد فارس جزءاً من الدولة الإسلامية، حين كانت عاصمتها المدينة أو الكوفة أو الشام أو بغداد أو خراسان، كما الحق العراق بإيران لفترات زمنية غير قصيرة، أو حكمته أسر فارسية كما في العهدين البويهي والصفوي.

3 ـ سكانياً: تبلغ نسبة المسلمين في العراق حوالي 96% من عدد السكان، وفي إيران 98%. كما يشكل الشيعة أكثر من 64% في العراق، و93% في إيران، أي أنهم الأغلبية الساحقة في كلا البلدين، وهو أحد الجوانب المهمة في عملية التأثير والتأثير. أي ان الاغلبية الشيعية في العراق، والتي عانت من الاضطهاد والتهميش طيلة مئات من السنين، احست ان الثورة في ايران ستكون داعما لها في تحركها ضد النظام. هذا التأثير السياسي يضاف ايضا الى التاثير الاجتماعي؛ فهناك علاقات اجتماعية وعائلية متشابكة بين الشعبين، تتمثل في وجود مئات الأسر والعشائر العربية والكردية والفارسية التي يعيش قسم منها في إيران والقسم الآخر في العراق.

4 ـ عقائدياً: يرتبط الشيعة في كلا البلدين بعتبات مقدسة ومؤسسات ومرجعيات دينية مشتركة، نورد للدلالة عليها بعض الأمثلة:

أ ـ مراقد الأئمة وأهل البيت(ع) منتشرة في كلا البلدين، والتي يقدسها ويزورها الشعبان.

ب ـ الحوزات العلمية الدينية وخاصة النجف الأشرف وقم، والتي يتعلم فيها علماء البلدين علوم الشريعة الاسلامية.

ج ـ المرجعيات الدينية العليا التي يجمع الشعبان على الولاء لها. وكمصاديق معاصرة نذكر مرجعية السيد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني (الإيراني الأصل) في النجف الأشرف، ومرجعية السيد حسين البروجردي (الإيراني) في قم، ومرجعية السيد محسن الحكيم (العراقي) في النجف الأشرف.

وجدير بالإشارة أن السلطة الروحية لمراجع الدين ظلّت تمكنهم من تحريك الساحة في البلد الآخر وهم في البلدان التي يقيمون فيها، فمثلاً الإمام محمد حسن الشيرازي فجّر “انتفاضة التنباك” في إيران من داخل العراق، والشيخ محمد تقي الحائري الشيرازي قاد ثورة العشرين في العراق وهو إيراني الأصل. وهكذا تتكرر الحالة باستمرار، حيث يتضح بأن الأوضاع في إيران والعراق تشترك في معظم الوجوه وأن الرابطة الدينية بين البلدين هي أقوى بكثير من الرابطة القومية.

5 ـ موضوعياً: يتمتع العراق بوجود المرجعية الدينية الثائرة المتمثلة بالإمام السيد محمد باقر الصدر، والتي تسير باتجاه واحد مع مرجعية الإمام الخميني وتحمل أفكارها. إضافة إلى وجود حركة إسلامية كبيرة تتمتع بالقوة والتنظيم والشمول، والخلفية الدينية للشعب العراقي. إذ يعتقد بعض المراقبين بأن الحركة الدينية التي فجرت الكثير من الأحداث الكبيرة في العراق منذ أوائل القرن الحالي، كان بإمكانها ـ عند توفر بعض الظروف ـ أن تتحول إلى دولة إسلامية قبل حدوث تجربة إيران.

ويشتمل التأثر بالثورة الإسلامية الإيرانية على الخارطة السياسية في العراق بأجمعها سلباً وإيجاباً. ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا بأن النظام العراقي هو أكثر الأنظمة التي تأثرت سلباً بالثورة الإسلامية في إيران، وهو نفس الوقت أكثر الأنظمة عداءً وإساءة لها. وهذا العداء يمتد إلى بضع سنين سبقت اندلاع الثورة، ويمكن تحديدها بالفترة التي أعقبت اتفاقية الجزائر عام 1975 بين النظامين العراقي والإيراني. وهناك عاملان أساسيان لعبا دورهما في سعي النظام العراقي لتطويق الثورة الإسلامية في إيران منذ بداياتها، والمساعدة على محاولات إحباطها، وهما:

أولاً: الالتزام ببنود اتفاقية 1975، والبروتوكول الأمني بين البلدين، والقاضي يتبادل المعارضين والحد من نشاطهم. وقد مارست أجهزة الشاه ـ من جانبها ـ أساليب إرهابية بحق بعض رجالات الحركة الإسلامية العراقية المهاجرين إلى إيران. وكمثال على ذلك ملاحقة السافاك الإيراني للشيخ محمد مهدي الآصفي ـ خلال سفره إلى إيران ـ واحتجازه في نهاية عام 1975، لقيامه بنشاطات غير مرغوب بها وتمس أمن البلدين، واتصالاته بشخصيات المعارضة الدينية في إيران، مما أدى إلى عودة الشيخ مرة أخرى إلى الكويت تحت الضغط.

وفي العراق لم يتأخر النظام عن القيام بإجراءات أكثر تشدداً، حيث قدم مختلف أشكال الدعم لأجهزة الشاه، بغية ضرب القيادة الإسلامية المتمثلة بالإمام الخميني والحركة الإسلامية الإيرانية، فضلاً عن مباشرة أجهزة البعث العراقي نفسها لعملية التضييق على الإمام وجماعته في النجف الأشرف. وبلغ التنسيق بين النظامين ذروته بعملية قتل آية الله السيد مصطفى الخميني ـ نجل الإمام ـ عام 1978.

وفي السياق نفسه تدخل عملية حمل الإمام على ترك العراق بعد الضغط الشديد عليه، حيث وضع النظام البعثي أمام الإمام الخميني خيارين لا ثالث لهما: أما التخلي عن جميع نشاطاته السياسية وهذا يعني قتل الثورة في المهد، أو مغادرة العراق فوراً. ولم يجد الإمام الخميني خياراً سوى الهجرة من العراق بعد خمسة عشر عاماً من الإقامة فيه، للخلاص من الطوق الذي ضربه البعثيون حوله.

ولم يشأ النظام العراقي إخفاء هذه الحقيقة، إذ صرح صدام حسين قائلاً: “لسنا على استعداد لأن نخون الشاه في هذه اللحظات الحاسمة”. ثم يعود للقول بانفعال شديد: “ان الشاه باق باق”(1).

ثانياً: الخوف من امتداد لهيب الثورة الإسلامية إلى العراق وانفجاره بثورة مشابهة، وهو العامل الرئيسي؛ فالمد الثوري بات يهدد معظم انظمة دول المنطقة. ولعوامل موضوعية عديدة وجد النظام العراقي نفسه أنه المرشح القادم للانهيار الكامل أمام الحركة الإسلامية.

هذا الواقع المرعب أرّق نظام البعث، وجعله يبذل المستحيل للحيلولة دون انتصار الثورة الإسلامية في إيران وامتداد تأثيراتها. إلاّ أن ثورة الإمام الخميني استعر لهيبها بشكل كبير بعد هجرته وإقامته في باريس.

وبالنيابة عن النجف الأشرف والمرجعية والشعب العراقي، أرسل الإمام محمد باقر الصدر رسالة مسهبة إلى الإمام الخميني في باريس، بعد أيام من إقامته المؤقتة فيها، أعلن من خلالها عن تأييده الكامل للثورة، وأشاد بجهاد الشعب الإيراني والتزامه والتفافه حول قيادته المرجعية. وقد دبّج مقدمتها بقوله:

“إننا في النجف الأشرف إذ نعيش مع الشعب الإيراني بكل قلوبنا ونشارك آلامه وآماله، نؤمن أن تاريخ هذا الشعب العظيم، أثبت أنه كان ولا يزال شعباً أبياً شجاعاً وقادراً على التضحية والصمود من أجل القضية التي يؤمن فيها هدفه وكرامته”.

كما التقى الشيخ محمد الآصفي (أحد أبرز قادة حزب الدعوة) بالإمام الخميني في باريس، وجدد تأييد حزب الدعوة له، وبيّن استعداد الإسلاميين العراقيين لوضع إمكاناتهم بين يديه.

وأخذ اهتمام المسلمين في العراق يتزايد ويكبر كلما اشتدت مخاضات الثورة في إيران، فتابعوا أحداثها بتفاعل، وأصبحت حديث منتدياتهم ومجالسهم الخاصة والعامة. كما تابع الشعب العراقي رحلة الإمام الخميني من باريس إلى طهران. وبعد انتصار الثورة  في 11 شباط / فبراير 1979؛ تحول العراق إلى وجه آخر للانتصار؛ فمنذ أن طرق أسماع جماهير العراق نبأ سقوط نظام الشاه؛ حتى تبادلت البشرى بحرارة.

وأعلن السيد الصدر عن تعطيل الدراسة في الجامعة النجفية مدة ثلاثة أيام ابتهاجاً بالانتصار. وخرجت في نفس اليوم (11 ـ شباط / فبراير) تظاهرة سلمية من مسجد الخضراء في النجف الأشرف بعد صلاتي المغرب والعشاء، تأييداً للثورة(*)، حمل فيها المتظاهرون صورتي الإمام الخميني والإمام الصدر، فتصدت لهم السلطات المحلية واعتقلت العديد منهم. وتعد هذه التظاهرة أول مجابهة معلنة بين الحركة الإسلامية العراقية والنظام البعثي بعد انتصار الثورة الإسلامية. وتقرر في اليوم التالي أن تخرج تظاهرة مشابهة واسعة، إلاّ أن قوى الأمن والمخابرات بإشراف سعدون شاكر (وزير الداخلية) وفاضل البراك (مدير الأمن العام) حاصرت مسجد الخضراء وأغلقت أبوابه وهجمت على المصلين وضربتهم بعنف.

وفور الإعلان عن قيام الحكم الإسلامي في إيران؛ بايع السيد الصدر الإمام الخميني مرجعا قائداً للأمة؛ نيابة عن الجامعة العلمية الكبرى في النجف الشرف والحركة الإسلامية والشعب العراقي. وجاء في جانب من برقية البيعة:

” وأنا إذ نتطلع إلى المزيد من انتصاراتكم الحاسمة نضع وجودنا في خدمة وجودكم الكبير، ونبتهل إلى المولى سبحانه وتعالى أن يديم ظلكم ويحقق أملنا في ظل مرجعيتكم وقيادتكم”.

ويعني هذا أن الإمام الصدر وضع وجوده وكيانه القيادي والمرجعي بين يدي الإمام الخميني، وهو شيء نادر بين  مراجع الدين، ولم يألفه العرف الحوزوي، فالمرجع الديني يحفظ ـ عادة ـ بكيانه وولايته على مقلديه، وربما يؤيد القيادة الإسلامية والمرجعية العليا ويدعمها، ولكن قلما يحدث أن يبايع مبايعة مطلقة ـ كما في حالة السيد الصدرـ . حيث يعتقد السيد الصدر بأن ولاية الفقيه (الحاكم) المتصدي تشمل جميع المسلمين، بمن فيهم المراجع، لأنها ولاية المعصوم (النبي والأئمة) نفسها، سوى ما يتعلق بالعصمة والارتباط بالله تعالى، بالشكل الذي يقول الإمام الخميني في محاضراته عن الحكومة الإسلامية:

“إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فانه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي(ص) منهم ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا. ويملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول(ص) وأمير المؤمنين(ع)”(2).

ويذكر السيد الصدر في هذا الصدد بأن “المرجعية الرشيدة هي المعبّر الشرعي عن الإسلام، والمرجع هو النائب العام عن الإمام (المعصوم) من الناحية الشرعية”(3). وما ذهب إليه الإمام السيد محمد باقر الصدر ـ انسجاماً مع تشخيصه لواجبه الشرعي ـ يدل على إدراك للمسؤولية ولوضع الأمة التي هي أحوج إلى المرجع القائد الواحد منها إلى المرجعيات المتعددة، ويدل أيضاً على نكران للذات يندر مثيله.

وبعد إبراق المرجع السيد أبي القاسم الخوئي الفوري إلى الإمام الخميني مقدماً التهاني بالمناسبة، فإن العراق يكون بحركته وقيادته الإسلامية وزعاماته العلمية والدينية وجماهيره أول من أيد الثورة الإسلامية في إيران وبايع قائدها. ولم يأت هذا التأييد والتعاطف جزافاً، وإنما بني على أسس ومنطلقات موضوعية، تمثلت بالمستويات التالية:

أولاً ـ الشيعة: بايعت قياداتهم وحركاتهم الإسلامية وطبقاتهم المثقفة والواعية الإمام الخميني والثورة على أساس عقائدي(*). أما الأكثرية “الشيعة” فقد انطلقوا في ذلك من منطلق مذهبي، يغلب عليه الطابع الوجداني العاطفين فضلا عن الجانب التقليدي في التبعية للمرجعية الدينية المتصدية للتحرك السياسي.

ثانياً ـ أهل السنة: الحركة الإسلامية والواعون من أبنائهم أيدوا الثورة على أساس عقائدي إسلامي، أما الأكثرية منهم أيضاً على أساس عاطفي إسلامي.

ثالثاً ـ الاتجاهات الأخرى: كالحركات الكردية والعلمانية والتقدميين (خارج إطار النظام)، تعاطفوا مع الثورة والإمام من منطلق ثوري تحرري.

لقد كانت عملية قيام دولة إسلامية في أي بقعة من بقاع العالم الإسلامي حلماً يداعب خيال الإسلاميين العراقيين، إلى الحد الذي قال فيه كوادرهم بداية السبعينات: “إن جيلنا القادم هو الذي سينعم بظلال الدولة الإسلامية”. وبالفعل فقد كان القتل على يد النظام البعثي هو نصيب أولائك الرواد، في حين عاش أبناؤهم والأجيال الحركية اللاحقة قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وهو ما تنبأ به أيضاً الشيخ عارف البصري ـ قبل إعدامه ـ بقوله: “الثمانينات سني الإسلام”.

وبعد أن طرح الإمام الخميني مشروع دستور الجمهورية الإسلامية على طاولة البحث في إيران، بادر الإمام الصدر إلى المساهمة في إثراء هذا المشروع بآثاره ونظرياته، من خلال الدراسة التي قدّمها إلى الإمام الخميني قبل طرح مسودة المشروع، تحت عنوان “لمحة تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران”(*).

وقد وردت كثير من أفكار السيد الصدر في الدستور الإسلامي الإيراني، بعد ان اعتمدها مجلس الخبراء كأحد مصادره الأساسية في بناء الهيكل العام للدستور، إذ تقول دراسة أمريكية متخصصة بأن آية الله الصدر يعد “أحد الآباء الفكريين لدستور الجمهورية الإسلامية”(4)، وان آراء الفكرية والسياسية “عملت بشدة على فتوية موقع آية الله الخميني فيما يتعلق بمنصبه كفقيه للحكومة الإسلامية”(5). ثم كتب السيد الصدر (خلال شهري شباط /فبراير وآذار /مايس 1979) خمس دراسات أخرى عن الدولة الإسلامية(**)، كجهد فكري تمهيدي في سبيل خدمة النظام الإسلامي.

ردود فعل النظام

من السهل على المراقب ملاحظة العديد من الظواهر التي أفرزتها ثورة إيران في الشارع العراقي، فقد أوجدت وعياً دينياً وسياسياً وجهادياً في الأمة، كما أنضجت الوعي الموجود، بشكل اجتاحت معه العراق موجة تديّن واسعة للغاية، وأصبح الحجاب غالبا في صفوف النساء، وعلى وجه الخصوص في الجامعات، في حين أخذت ظاهرة السفور تتضاءل، واكتظت المساجد بالمصلين والعبّاد، وانتشرت ظاهرة الالتزام الديني بين الشباب خاصة، يرافقها نزوع شديد نحو التنظيم والعمل الحركي الإسلامي. وانتهت الحالة بتطلع الشعب العراقي المسلم إلى ثورة ونظام شبيهين بإيران الإسلامية. وامتدت حركة التديّن والوعي الإسلامي إلى قواعد حزب البعث نفسه، تلك القواعد المغرر بأكثرها، أو التي وجدت نفسها فجأة في صفوف حزب البعث لا يمت إلى مجتمعها وبيئتها ووجدانها بصلة، حتى اتجهت إلى قطع ارتباطها به، والعودة إلى الذات(*). وتقفز في هذا المجال حقيقتان متباينتان:

الحقيقة الأولى: إن الظاهرة الدينية التي أوجدتها إيران الإسلامية في الشارع العراقي تضاهي ما أنجزته الحركة الإسلامية في العراق طوال الأعوام العشرين الماضية، على الشمول والامتداد(**).

الحقيقة الثانية: إن هذه الظاهرة ليست بمستوى العمق والجذرية، بحيث ترقى ما أنجزته الحركة الإسلامية في العراق في مجال الكيف التغييري.

والذي لاشك فيه أن الثورة في الجارة إيران حطمت معظم طموحات النظام العراقي وجهوده المبذول خلال الأعوام العشرة الماضية لتحويل العراق إلى بلد لا ديني، يسوده الانحراف الفكري والاجتماعي، ويسبّح بحمد عفلق والبعث والعنصرية القومية. وبالمقدار نفسه أيضاً أربكت معادلاته في المجالات الأخرى، كاجتياح الخليج وعموم المنطقة سياسياً وحزبياً، ولعب دور قيادي على مستوى العالم العربي أجمع، وبالتحديد عقب انهيار مكانة مصر بصلح أنور السادات مع الكيان الصهيوني.

ومن هنا فمن الطبيعي أن يتعاظم عداء البعث العراقي للثورة الإسلامية، وهو الصراع الحضاري والآيديولجي بين الطرفين، والذي أدى إلى فتح النظام العراقي لجبهتين واسعتين من أجل احتواء هذا الصراع، إحداهما في الداخل ضد الشعب العراقي والثانية في مواجهة الثورة الإسلامية مباشرة.

على جبهة الداخل مارس النظام أساليب متنوعة تهدف في مجموعها إلى سلب تأثير الثورة على الشعب العراقي؛ فأخذ يتودد إلى العشائر والعمال والفلاحين، ويمنحهم الهبات والامتيازات والوعود، ويهتم بالحديث عنهم في وسائل الإعلام. كما صعّد من حركة البناء والعمران، حتى فاق عدد المدارس والمستشفيات والفنادق والأبنية العامة والخدماتية التي شيدت بعد انتصار الثورة الإسلامية (1979 ـ 1980) جميع ما شيده النظام خلال أعوام حكمه الماضية (1968 ـ 1978). وينسحب ذلك أيضاً على الجانب التجاري والأعمال العامة؛ فقد شهد السوق العراقي حركة اقتصادية غير طبيعية، تدخل في إطار حملة الإلهاء وصرف النظر عما يجري في إيران، وبرزت ـ لأول مرة في تاريخ العراق ـ ظاهرة شحة اليد العاملة، يرافقها تحسن مطرد في دخل الفرد. كما عادت السلطة إلى ممارسة سياستها القديمة التي تدخرها لوقت الحاجة، فأظهرت نوعاً من العواطف الدينية والاحترام القشري للشعائر الإسلامية، فبين عشية وضحاها أصبح النظام يهتم بالمساجد وأضرحة أئمة المسلمين وأوليائهم، وتكررت زيارات المسؤولين لها، وخاصة رئيس النظام، عقب اعراض متعمد دام عشر سنوات. وفضلاً عن ذلك فقد بعث النظام الروح في بعض الجمعيات الدينية التابعة لمخابراته(*)، في محاولة للالتفاف حول الصحوة الجديدة.

ورافق هذا التمسح بالدين عملية إفساد اجتماعي مدهشة، لم يشهدها بمناسبة وبدونها، وتزايد بيوت الدعارة والبغاء وعلب الليل، بعد السماح لها بالعمل علناً وتخصيص قسم منها لعناصر السلطة نفسها. وكذلك المساعدة على إنشاء المزيد من البارات وحانات الخمر وأماكن اللهو والفن الساقط، ودعم القائم منها. ولم تكتف السلطة بهذا المقدار، بل عمدت إلى إنشاء واجهات رسمية شبيهة، تحت عنوان: “مؤسسات سياحية” وغيرها من العناوين، ويشتمل ذلك أيضاً على المتنزهات والحدائق العامة وغيرها. ونوفر على أنفسنا عناء البحث عندما نشير إلى بعض شوارع بغداد وجزرها السياحية وفنادقها الجديدة، ومثيلاتها في البصرة والموصل، ومنطقة بحيرة الرزازة في كربلاء، والمدينة السياحية في الحبانية، ومصايف صلاح الدين وشقلاوة، وعشرات المناطق الموبوءة على طول العراق وعرضه. ولعل المراقب الغربي أو المتغرب لا يعير هذا الجانب اهتماماً، لأنه يعتبره حالة طبيعية ومؤشر تطور، ولكن في الواقع ان هذا التوجه الذي سعت إليه الحكومة العراقية، غريب تماماً عن عرف المجتمع العراقي وشرعه المقدس، ولا تتحمله أصالة العراق الدينية.

كما رافق ذلك محاربة عنيفة للحجاب، ومنعه في الجامعات والكثير من المؤسسات الرسمية، ومراقبة المساجد، وملاحقة الشباب المتدين، وبات إطلاق الشاب للحيته جريمة يستحق عليها الاعتقال.

وعلى هذا الأساس فقد برزت ظاهرة أخرى تقابل حالة العودة إلى الدين التي أفرزتها الثورة الإسلامية، وهي ظاهرة التهتك والانحطاط الخلقي، وهي من صنع النظام.

وفي إطار الجبهة الداخلية أيضاً، قام صدام بجولات موسعة إلى المناطق العراقية الريفية والنائية، بدأها في 8 شباط /فبراير 1979 ـ أي قبل أيام قلائل من انتصار الثورة ـ بزيارة مناطق الجنوب والأهوار ـ التي أظهرت تعاطفاً عميقاً مع الإمام الخميني وثورته ـ  مرتدياً الكوفية والعباءة العربية بشكل ملفت للنظر، ورافق الزيارة ضجة إعلامية غير اعتيادية، من أبرز مفرداتها التغطية التلفزيونية المثيرة وكذلك الصحيفة، ومنها التحقيق الصحفي المطول الذي نشرته مجلة “ألف باء” تحت عنوان: “100 ساعة مع صدام حسين”(6). كما نشط صدام في زيارة الأحياء الشعبية ومؤسسات الدولة في بغداد، وتوزيعه الأموال والسيارات واللوازم المنزلية بالمجان على كثير من العوائل، إذ أراد (نائب الرئيس) بذلك تحقيق هدفين في آن واحد، هما: صرف النظر عن الثورة الإسلامية وكسب ود العراقيين واستمالتهم لحكم البعث، وتهيئة الشعب نفسياً لعملية الانقلاب على حكم أحمد حسن البكر وتنصيب نفسه رئيساً للجمهورية.

أما على مستوى جبهة المواجهة المباشرة مع الإسلامية الإيرانية، فقد عمد النظام العراقي إلى الخطوات التالية:

أولاً ـ احتضن رموز النظام الشاهنشاهي الايراني، أمثال: الجنرال “أويسي” و “شاهبور بختيار” وغيرهم، ووضع الإمكانات كافة بين أيديهم، بما فيها وسائل الإعلام والمعسكرات.

ثانياً ـ عقد اجتماعاً سرياً للكادر الحزبي المتقدم، في أعقاب زيارة “جورج بروان” (وزير الخارجية البريطاني الأسبق) للعراق واجتماعه الخاص بصدام حسين، بحضور طارق عزيز فقط. وقد طرح صدام في الاجتماع الحزبي الملاحظات التالية عن الثورة الإسلامية:

1 ـ إن السيد الخميني استفاد من النقمة الشعبية لضرب الشاه، وحولها لصالحه، ولكن ليس هذا تأييداً للخميني.

2 ـ إن سقوط الشاه كان بسبب عدة أخطاء فنية، هي كما يلي:

أ ـ إن الشاه تساهل جداً مع التظاهرة الحاسمة التي حدثت في يوم الجمعة، والتي كان في مقدمتها جميع القيادات الرأسية، فكان يجب على الشاه أن يصفّي القيادات في مقدمة المظاهرة حتى تتشتت، وعند ذاك يحاكم السافاك ويقتلهم بحجة أنهم هم الذين كانوا مسؤولين عن ضرب المظاهرة، وبهذا يتخلص من السافاك ويقضي على القيادات الرأسية، كما تصبح المعارضة في عملية أخذ ورد.

ج ـ هروب الشاه وعدم إقامة السلطة واستمرارها في الجزء الحي والجزء الحي هي الأجزاء التي لم تصلها الثورة، كان على الشاه أن يستمر في الأجزاء الحية من إيران ويقيم سلطته هناك، تماماً كما فعل “جاي كاي جك”، حينما وقف أمام 650 مليون صيني بقيادة ماو، وأقام له دولة استمرت حتى هذه الساعة(*)، فلماذا هرب الشاه؟ ولم يقم دولة في عربستان أو في أصفهان أو في مناطق محاذية إلى باكستان، وحين ذاك يدعم من الدولة المجاورة.

د ـ أخطأ الشاه حين سلم بلداً كاملاً للخميني، وكان المفروض أن يدمر المؤسسات الحيوية، ويشغل الثورة والمعارضة في بناء نفسها، في الوقت الذي يقيم سلطته على جزء آخر من إيران. فتصبح هناك سلطتان، سلطة بيده وسلطة أخرى بيد الثورة، وقد ضرب مؤسساتها وانعدمت فيها الحياة تماماً، كما حصل في بيروت الشرقية والغربية(7).

والحقيقة أن صداماً بملاحظاته ـ سالفه الذكر ـ أراد أن يوحي لكوادر حزبه المتقدمة بأن نظامه سيتجنب كل الأخطاء التي وقع بها الشاه، في حالة قيام ثورة إسلامية مشابهة، إذ سيعمد إلى تخفيف حدة النقمة واستمالة الشعب بالترهيب والترغيب، وتقوية أجهزة الأمن والمخابرات ومليشيا الحزب، وقطع رؤوس الثورة المعارضة بلا رحمة، والبقاء داخل العراق حتى لو انتصرت الثورة، وإقامة سلطة له في أية منطقة من العراق.. كتكريت أو هيت أو أي جزء من المنطقة الغربية؛ ليكون في حالة صراع دائم مع حكومة الثورة الجديدة. وفي الوقت نفسه سيفجر جميع منشآت البلاد الحيوية، وتحويل العراق إلى ركام وحطام قبل رحيله إلى مركز السلطة الجديد، إمعاناً في إرباك الثورة وخنقها قبل ان تثبت أقدامها في الأرض.

ثالثاً ـ أصدر تعميماً على الكوادر البعثية، باسم القيادة القومية للحزب الحاكم، تتضمن خمس توصيات هامة، هي كالآتي:

“1ـ أشيعوا بين الناس ان الثورة القائمة حالياً في إيران ما هي إلاّ رد فعل الخميني على مقتل ابنه مصطفى، فبعد أن قتل أراد الانتقام من الشاه، لذلك فهي ثورة ليست لها أبعاد سياسية، وإنما هي ثورة مزاجية تعتبر رد فعل على عمل قام به السافاك (الأمن الإيراني).

2 ـ عليكم بمراقبة اتصال الشباب المتدين برجال الدين المعممين، وحاولوا ـ بكل الوسائل ـ فصلهم عن رجال الدين ومن الالتقاء بهم والتحدث إليهم.

3 ـ راقبوا الجوامع جيداً، وراقبوا ما يجري فيها، وسجلوا تحركات الأشخاص ولا تدعوهم يلعبون أدواراً في أي منطقة كانت.

4 ـ أشيعوا بين الناس ان الشعب الإيراني لا يبالي ولا يخضع للقوانين والأنظمة، ولا يزال على تقاليده الرجعية البالية، ومازال في خضوعه للقيادات الدينية الرجعية.

5 ـ أشيعوا بين الناس أن الشعب الإيراني شعب همجي وغير مثقف وليس له أي أساس ذي قاعدة فكرية ينطلق منها، فلذلك لا يفهم غير مفهوم القوة في التعامل، وان هذه الثورة ليست إسلامية وإنما ثورة شعب تعوّد على الفتن والاضطرابات، ثورة شعب يعيش حياة قرون سابقة، ثورة شعب لا يتعامل بغير القوة، ولا يريد الخضوع لأي قانون أو دستور”(8).

وتدل هذه التوصيات على هلع النظام وإحساسه بالخطر الحقيقي من امتداد لهيب الثورة الذي بدأت طلائعه تلوح في الأفق.

رابعاً ـ سعى النظام العراقي لإثارة الفتن والنعرات العرقية والطائفية في مناطق إيران، وعلى وجه التحديد في كردستان وخوزستان. ففي خوزستان تدخّل النظام بشكل سافر في محاولة لإيجاد موطئ قدم له في أراضي الجمهورية الإسلامية الفتية، وخاصرة ضعيفة للثورة يمكنه الضغط عليها متى شاء، فحرّك عدداً من واجهاته القومية لضرب الحكم الإسلامي، مثل “جبهة تحرير عربستان” و “الجبهة الشعبية لتحرير الأحواز”، وهما تخضعان مباشرة لتنظيم حزب البعث في البصرة، وقد قامتا بالعديد من أعمال الشغب والعنف، كالتفجير والقتل، خصوصاً في خرمشهر.

وأدى هذا التخريب العلني إلى إثارة سخط الشعب العراقي، مما دفع الإمام السيد محمد باقر الصدر لإرسال خطاب ودي إلى العرب في خوزستان، جاء في جانب منه:

” إني أخاطبكم باسم الإسلام وادعوكم وسائر الشعوب الإيرانية العظيمة لتجسيد روح الأخوة الإسلامية التي ضربت في التاريخ مثلاً أعلى في التعاضد والتلاحم في مجتمع المتّقين، الذي لا فضل فيه لمسلم على مسلم إلاّ بالتقوى.. فلتتوحد القلوب ولتنصهر كل الطاقات في إطار القيادة الحكيمة للإمام الخميني، وفي طريق بناء المجتمع الإسلامي العظيم، الذي يحمله مشعل القرآن الكريم إلى عالم كله”.

خامساً ـ أعلن الحرب الإعلامية ضد الثورة الإسلامية منذ الشهر الخامس بعد انتصارها(9)، فبدأت حملات التشكيك والتشويه والسخرية، والاتهام بالرجعية والعمالة والطائفية والعنصرية والشعوبية وآخرها “المجوسية”.

وأخذ النظام ـ كجزء من الحرب الإعلامية ـ يتجه بشكل معاكس للخط الذي رسمته الثورة الإسلامية على المستويين الاجتماعي والأخلاقي، في محاولة لإثبات رجعية الحكم الإسلامي وعدم صلاحيته في العصر الراهن وملاءمته للحاجات الحضارية للإنسان المعاصر!. فعندما “أذاعت لندن ان الإمام الخميني قرر تحريم الموسيقى: التاث التلفزيون والراديو العراقي بالموسيقى ونزلت الشعارات التي تكاد تقرر ان العربي يمكن ان يتهاون في عرضه ولا يتهاون في قرار جائر يحرمه من الموسيقى. وأقيم “المؤتمر الدولي للموسيقى العربية” في بغداد بضجة وبذخ لم تعهدها من قبل. ولم ينقطع برنامج المنوعات الخاص بالأغنيات الأجنبية عن ولائه لجوجوش (المغنية الإيرانية) وبث أغانيها مع رقصاتها الماجنة في وقت كان يحرم رفع صورة للإمام الخميني، بل في وقت بدأت فيه نغمة بث العداء والكراهية للشعب الإيراني بدعوى أنه “فارسي مجوسي”… ولكن صورة جوجوش مرفوعة بحرية كاملة في الدكاكين وعلى السيارات، أما صورة الإمام الخميني فكان مقابلها طلقة رصاصة أو كوباً مسموماً من اللبن(10).

سادساً ـ تحرش عسكرياً بشكل مباشر وفي وقت مبكر بالثورة الإسلامية، إذ صدرت عن إيران أول مذكرة احتجاج بتاريخ 4 نيسان /أبريل 1979، أي بعد أربعة وخمسين يوماً فقط عن انتصار الثورة، وهي تتعلق بخرق طائرة هليكوبتر عراقية لحرمة المجال الجوي الإيراني في منطقة مهران(11). وتصاعدت التحرشات العراقية، حتى تحولت إلى تبادل لإطلاق النار في عمق الأراضي الإيرانية، وذلك ابتداءً من حزيران /يونيو 1979(12).

وتأتي هذه الاعتداءات المتكررة ضمن حالة عدم الاحترام العميقة التي يكنها النظام العراقي للوضع الجديد في إيران، نتيجة اعتقاده الجازم بأن عدم الاستقرار والثبات في “دولة الثورة” لم يعد يسمح لإيران بالرد على عملية التعدي اللامحدودة التي يمارسها ضدها، وقد برزت نتائج ذلك خلال الإحداث الساخنة اللاحقة.

ومن هنا فحقيقة الموقف العراقي هي ما ذكرناه، أما الذي أعلنه النظام في الأيام الأولى لانتصار الثورة الإسلامية، بعد إبراق أحمد حسن البكر مهنئاً مهدي بازركان (رئيس أول حكومة مؤقتة في إيران) بالانتصار وتأسيس الحكومة الجديدة، فهو محاولة للتغطية على حجم الشر الذي كان النظام العراقي يبيته لثورة إيران.

 

(*)من جملة القضايا التي استغلها عبد السلام عارف في حملته، انتساب بعض قيادات الحزب الشيوعي العراقي إلى المذهب الشيعي، إضافة إلى أصولهم الفارسية، أمثال: قائد الحزب ورئيس لجنته المركزية حسين أحمد الرضوي (سلام عادل).

(**) ركّز الدستور المؤقت الصادر في 3 أيار / مايو 1964 بشكل ملحوظ على مفهوم الاشتراكية وغيرها من المفاهيم والرؤى العلمانية التي تمت صياغتها في مواد الدستور.

(*) المراد: على اختلاف مذاهبهم وقومياتهم.

(*) ان الخلاف الذي جرى في صحن الكاظمين(ع) بين جماعة الشيخ الخاصي والسيد إسماعيل، كانت سبباً في إخراجه من بغداد أيضاً.

(*)ولد الإمام روح الله الموسوي الخميني في مدينة خمين الإيرانية عام 1902 (1320هـ)، من عائلة علمية مجاهدة، فأبوه آية الله السيد مصطفى كان من المجتهدين البارزين في النجف الأشرف، وقد اغتالته سلطات “الشاه” في إيران بعد أن أصبح الزعيم الديني لمدينة خمين. بدأ السيد روح الله دراسته الدينية في الخامسة عشرة من عمره، وتتلمذ على كبار مراجع الدين كالشيخ عبد الكريم الحائري (مؤسس الحوزة العلمية في قم)، وحصل على درجة الاجتهاد قبل بلوغه الثلاثين عاماً من عمره (عام 1930)؛ دخل في صراع مع حكومة رضا خان وابنه محمد رضا منذ السنوات الأولى لحكم عائلة بهلوي، وانتهى هذا الصراع بتفجير انتفاضة (15 خرداد) في إيران عام 1963، وبروز الإمام الخميني رمزاً وقائداً لجهاد الشعب الإيراني المسلم.

(*) المعروفة بـ(خان النص)، وتبعد حوالي 35 كم عن مدينة النجف الأشرف.

(*) ترأس الوفد الأول محمد هادي السبيتي، وضم القيادات والكوادر المقيمة في بغداد كالسيد فخر الدين العسكري وعبد الصاحب دخيل وحسن شبّر والسيد إبراهيم المراياتي ومهدي السبيتي، فيما ترأس الوفد الثاني الشيخ محمد مهدي الآصفي وضمّ في عضويته عدداً من علماء ومنتسبي الحوزة العلمية في النجف الأشرف.

(*) الرسالة الفقهية العلمية للسيد الحكيم التي تحوي فتاواه الشرعية.

(*) رغم أن السلطة كانت ضعيفة، إلا أن حكمها كان عسكرياً بمعنى الكلمة.

(**) هذا اللقاء حضره إلى جانب الإمام الحكيم والإمام الخميني خمسة أشخاص، أحدهم الشيخ الغروي الذي قام بتسجيل محضر اللقاء، وأرسل نسخة منه إلى أحد مراجع الدين في إيران، والنسخة الأصلية محفوظة لدى الأجهزة الايرانية. وقد جاء اللقاء ضمن سلسلة اللقاءات التي عقدها الإمام الخميني في نفس اليوم مع المراجع: السيد محسن الحكيم، السيد محمود الشاهرودي والسيد أبو القاسم الخوئي، لتدارس الموقف الإسلامي وشؤون الحوزة العلمية في النجف الأشرف، والمؤامرات التي تحاك ضد الإسلام وعلماء الأمة، ولا سيما مؤامرات النظام البهلوي الإيراني.

(*) أراد السيد الحكيم بذلك الإشارة إلى النهج السلمي للإمام الحسن(ع)، وهو النهج الذي يرى أن أتباعه مناسب في مثل هذه الظروف.

(*) برز ذلك خلال فترة التسعة أشهر التي أعقبت انقلاب 8 شباط الدموي.

(*) التقى السيد مهدي الحكم بأحمد حسن البكر مرة أخرى، وأبلغه احتجاج والده على عدم استثناء طلبة العلوم الدينية من التجنيد الإجباري.

(*) الكلمة كتبها آية الله الصدر بطلب من الإمام الحكيم. انظر: نصها في الملاحق.

(*) ولد الشيخ عبد العزيز البدري في مدينة سامراء عام 1930، ودرس في جمعية الهداية الإسلامية على عدد من كبار علماء السنّة، ثم عمل إماماً وخطيباً في المساجد منذ عام 1949. وحين انتقل إلى بغداد يهاجم السياسة اللاإسلامية للسلطات الملكية والجمهورية، فاعتقل عدة مرات خلال العهدين. انتسب إلى حزب التحرير، ثم انسحب منه في مطلع الستينات وانتمى إلى جماعة الأخوان المسلمين. ودخل في صراع مع الحكومة البعثية منذ الأشهر الأولى لاستلامها السلطة عام 1968. وبعد قتل السلطة للشيخ البدري رفضت دفنه في سامراء (مسقط رأسه)، خشية ردود فعل الجماهير، ودفعته في بغداد بمقبرة الأعظمية.

(*) ولد في عام 1944 في النجف الأشرف، جمع بين الدراستين الدينية والأكاديمية، إذ درس في كلية الفقه كما درس على كبار علماء الدين في النجف الأشرف، كالسيد محمد باقر الصدر والسيد أبي القاسم الخوئي، وهو باحث ومفكر وشاعر. انتظم في حزب الدعوة في عام 1964، وكان من مسؤولي التنظيم  الحوزوي والطلابي في النجف الأشرف. وقد اعتقلته السلطة إثر اشتراكه في قيادة انتفاضة النجف في ليلة العاشر من محرم (1969).

ثم أبعد إلى إيران عام 1970. ويذكر الشيخ عبد الحليم الزهيري أن السيد محمد باقر الصدر كلّفه بنقل رسالة شفوية إلى الشيخ التسخيري وهو على وشك السفر، يطلب منه البقاء في النجف؛ على اعتبار أن حملات الإبعاد إلى إيران قد توقفت، غلا أن الشيخ التسخيري كان يرى في بقائه في النجف خطورة أكيدة على حياته وهو ما حصل بالفعل، إذ حكمت عليه السلطات العراقية بالإعدام غيابياً بعد عدة سنوات.

(*) ينقل السيد مهدي الحكيم ـ في خطاب ألقاه في نهاية عام 1987 بطهران ـ بعض ما دار في هذا اللقاء بقوله: قال عبد الحسين وداي للإمام الحكيم: إن أبا هيثم (أحمد حسن البكر) يقول أ السيد (محسن الحكيم) حفظه الله مثل عمي، وأنا أتبرك بالتراب الذي تدوسه أقدامه، فلماذا هو يصر على مواجهتنا، نحن بصدد المعتقلين الذي يجري الآن معهم تحقيق وبشكل طبيعي… فأجابه الإمام الحكيم: بلّغ البكر انه بلغ كره الناس للبعثيين درجة بحيث أنهم لو ظفروا بهم فسوف لا يقتلونهم بالرصاص، لأنهم لا يستحقون قيمة الرصاص أيضاً، بل سوف يقتلونهم بأسنانهم.

(*) أعدم العميد مدحت الحاج سري في أوائل عام 1970 ضمن مجموعة اللواء رشيد مصلح (وزير داخلية عبد الرحمن)، بتهمة العمل لصالح المخابرات الأميركية والتعاون مع الصهيونية العالمية؛ من أجل قلب نظام الحكم البعثي في بغداد.

(*) من الصعب فهم الكيفية التي أراد بها النظام إقناع الشعب بهذه التهمة، في حين أن مسؤوليه أنفسهم غير مقتنعين بها، إذ يذكر المرجع الديني السيد عبد الله الشيرازي في إحدى برقياته الاستنكارية إلى السلطة البعثية في 27/2/1977 حول هذا الموضوع قائلاً: «وقد تذاكرنا في نفس الوقت مع كبار المسؤولين فأقروا ببطلان التهمة».

(*) بعد فترة قصيرة من وفاة السيد الحكيم أصدر السيد أبو القاسم الخوئي حكماً فقهياً بعدم سفر علماء وطلبة الحوزة خارج العراق، وذلك بتأثير وإصرار من قبل السيد محمد باقر الصدر، مما أدى إلى امتناع المئات عن السفر، وقد فكّر السيد الصدر بالقيام بعمل احتجاجي على شكل مظاهرة كبيرة يتصدرها بنفسه.

(*) لم يشهد تاريخ العراق ـ عموماً ـ والنجف ـ خصوصاً ـ تشييعاً مثيلاً له، إذ بلغ طول موكب التشييع ما يقارب من 5 كم، وهي قضية لها بعد سياسي واضح.

(*) جرت هذه العادة منذ ألف سنة تقريباً.

(*) أو (من يبقى فيها)حسب تعبير آخر. وهو قول منسوب إلى اثنين من قادة حزب الدعوة هما محمد هادي السبيتي وعبد الصاحب دخيل.

(*) رفض المرجعان إصدار مثل هذه الفتاوى. وكان رفض السيد الصدر نابعاً من اعتقاده بأن طلب البعثيين إليه إصدار مثل هذه الفتوى إنما هو لعبة سياسية يهدف النظام من خلالها تصفية خصومه جسدياً بحجّة الانتماء إلى الحزب الشيوعي.

(*) يُذكر أن أحد كبار علماء البصرة ناقش محافظ المدينة حول سبب اعتقال الشباب المتديّن، فأجابه المحافظ بأن هؤلاء حزبيون.. ولا يجوز العمل الحزبي في الإسلام، فرد عليه العالم: «وهل يجوز لكم العمل الحزبي ولا يجوز للإسلاميون؟!».

(*) ولد في النجف الأشرف عام 1930، درس في الجامعة العلمية حتى وصل إلى مرحلة البحث الخارج (الدراسات العليا)، انضم إلى حزب الدعوة الإسلامية بعد أشهر من تأسيسه، وأصبح عضواً في قيادته العامة، ثم المسؤول التنظيمي الأول في قيادة العراق عام 1963.

(**) ولد في بغداد عام 1934، من الكوادر المتقدمة في حزب الدعوة، انتظم فيه في وقت مبكر، وهو شاعر وباحث، حصل على شهادة الدكتوراه في القانون من جماعة القاهرة.

(*) أحد كبار علماء بغداد وأستاذ مادة النظام الإسلامي في كلية أصول الدين، ماجستير في الشريعة من جامعة بغداد، ولد في البصرة عام 1937، وانتسب إلى حزب الدعوة في نهاية عام 1958، ثم انتقل إلى النجف الأشرف عام 1959، ودرس في جامعتها الدينية إلى جانب دراسته الأكاديمية في كلية الفقه. وبعد إعدام عبد الصاحب دخيل أصبح الرجل الأول في قيادة حزب الدعوة في داخل العراق.

(*) تأسيس هذا التنظيم عام 1966 على يد مجموعة من كوادر منظمة العقائديين المسلمين (في بغداد)، الذين انفصلوا عن المنظمة نتيجة خلافات داخلية. وقد تطورت العلاقة بين هذه المجموعة ومجموعة السيد سامي البدري إلى تنظيم موحد لا يحمل اسماً استمر حتى 1979، وهي السنة التي انحل فيها، وتأسست على أنقاضه «حركة جند الإمام».

(*) صدّق صدام على الأحكام نيابة عن «البكر»، بسبب تذرّع الأخير بالمرض.

(*) عرفت فيما بعد بـ«انتفاضة الطلبة»، إذ تذكر بعض المصادر أن أكثر من (800) طالب وأستاذ اشتركوا فيها، إضافة إلى قطاعات جماهيرية أخرى.

(*) حصل في أعقاب ذلك خلاف بين محافظ النجف من جهة ومسؤولي الأمن والحزب من جهة أخرى، ففي حين كان المحافظ على علم بحقيقة مهمة السيد محمد باقر الحكيم، فإن مسؤولي الأمن والحزب صوروا لقياداتهم في بغداد أن الحكيم يقود الانتفاضة بأمر من السيد الصدر، حيث اعتقلا نتيجة ذلك فيما بعد.

(*) الصلاة في مسجد الخضراء تقام بإمامة آية الله الخوئي.

(*) ظل الإسلاميون العراقيون مغرمين بالإمام الخميني ، وهو موقف رسمته لهم متبنياتهم العقائدية ومعاناتهم التاريخية واندفاعهم العاطفي، وعبروا عن حبهم للإمام الخميني في سجون النظام العراقي وفي بلدان المهجر وفي خنادق القتال، كما عبّر عنه قائدهم الإمام محمد باقر الصدر في وصيته لهم: «ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الاسلام».

(*) الدراسة هي جواب السيد الصدر إلى علماء لبنان حول استيضاحهم الفقهي عن مشروع الدستور المذكور.

(**) هي صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء، منابع القدرة في الدولة الإسلامية، الأسس العامة للبنك في المجتمع الإسلامي.

(*) إذعان النظام الحاكم نفسه لهذه الحقيقة في تقرير المؤتمر التاسع لحزب البعث (الظاهرة الديني).

(**) ليس المقصود هنا مجال التنظيمات الداخلية للحركة الإسلامية، وإنما عموم الأمة.

(*) وردت أسماء بعض هذه الجمعيات في الفصل الثالث.

(*)يقصد بها دولة الصين الوطنية (تايوان).

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment